Critique of al-Darimi on al-Marisi - Edited by Al-Alma'i
نقض الدارمي على المريسي - ت الألمعي
তদারক
رشيد بن حسن الألمعي
প্রকাশক
مكتبة الرشد للنشر والتوزيع
সংস্করণের সংখ্যা
الطبعة الأولى ١٤١٨هـ
প্রকাশনার বছর
١٩٩٨م
জনগুলি
المجلد الأول
مُقَدمَات:
مُقَدّمَة المشرف على التَّحْقِيق:
إِن الْحَمد لله نحمده، ونستعينه، وَنَسْتَغْفِرهُ، ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وَمن سيئات أَعمالنَا، من يهده الله فَلَا مضل لَهُ، وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ، وَأشْهد أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شريك لَهُ، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، سيد الْأَوَّلين والآخرين، قدوتنا وإمامنا صلى الله وَسلم وَبَارك عَلَيْهِ وعَلى آله وَأَصْحَابه وَأَتْبَاعه وأعوانه.
أما بعد:
فَإِن الله تَعَالَى تولى حفظ كِتَابه بِنَفسِهِ الْكَرِيمَة، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون﴾ وَلم يكل ذَلِك إِلَى غَيره، فَهُوَ مَحْفُوظ بحفط الله تَعَالَى.
وَحفظ الله تَعَالَى لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم حفظ لهَذَا الدَّين، الَّذِي أَصله وأساسه الْإِيمَان بِاللَّه وبربوبيته وأسمائه وَصِفَاته وأفعاله، وتوحيد الله وإخلاص الدَّين لَهُ، وَصرف الْعباد بِجَمِيعِ أَنْوَاعهَا لله، وَالْإِيمَان بِالْيَوْمِ الآخر والبعث بعد الْمَوْت، والحساب وَالْجَزَاء وَالْجنَّة وَالنَّار، والايمان بِقدر الله خَيره وشره.
وَمن حفظ الله تَعَالَى لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم حفظه للسّنة المطهرة، فَإِن السّنة
1 / 1
الْوَحْي الثَّانِي.. ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ حَيْثُ أَمر الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن الْكَرِيم بِالْأَخْذِ بِالسنةِ، فَقَالَ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواُ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِين﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم﴾ .
فَالله تَعَالَى حفظ دينه بِحِفْظ كِتَابه وَسنة نبيه مُحَمَّدٍ ﷺ، فَهَيَّأَ الله الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم وقيضهم ووفقهم وهداهم لنصر دين الله، فحفظوا كتاب الله وَسنة نبيه، وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله لإعلاء كلمة الله، ففتحوا الْبلدَانِ، وكسروا ملك كسْرَى، وَقصرُوا ملك قَيْصر، ثمَّ نزحوا إِلَى الْبِلَاد الْمَفْتُوحَة، وانتقلوا إِلَيْهَا فَعَلمُوا النَّاس دين الله، ونشروا الْإِسْلَام فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا، ثمَّ تَبِعَهُمْ على ذَلِك التابعون وأتباعهم، وَمن بعدهمْ من الْأَئِمَّة وَالْعُلَمَاء، يحيون مَا اندثر من الْإِسْلَام، ويجدون لهَذِهِ الْأمة دينهَا، وينصرون النَّاس بِالْحَقِّ، ويردون الْبدع والشبه والضلالات، ويكشفون للنَّاس زيفها وزيغها ولبسها الْحق بِالْبَاطِلِ.
كَمَا قَالَ الإِمَام أَحْمد ﵀ فِي خطْبَة كِتَابه الرَّد على الْجَهْمِية والزنادقة: "الْحَمد لله الَّذِي جعل فِي كل زمَان فَتْرَة من الرُّسُل بقايا من أهل الْعلم، يدعونَ من ضل إِلَى الْهدى، ويصبرون مِنْهُم على الْأَذَى، يحيون بِكِتَاب الله الْمَوْتَى، ويبصرون بِنور الله أهل الْعَمى، فكم من قَتِيل لإبليس قد أحيوه، وَكم من ضال تائه قد هدوه، فَمَا أحسن أَثَرهم على
1 / 2
النَّاس، وأقبح النَّاس عَلَيْهِم، ينفون عَن كتاب الله تَحْرِيف الغالين، وانتحال المبطلين، وَتَأْويل الْجَاهِلين، الَّذين عقدوا ألوية الْبدع، وأطلقوا عقال الْفِتْنَة، فهم مُخْتَلفُونَ فِي الْكتاب، مخالفون للْكتاب، مجمعون على مُقَارنَة الْكتاب، يَقُول على الله وَفِي الله وَفِي كتاب الله بِغَيْر علم، يَتَكَلَّمُونَ بالمتشابه من الْكَلَام، ويخدعون جهال النَّاس بِمَا يشبهون عَلَيْهِم، فنعوذ بِاللَّه من فتن الضَّالّين" ا. هـ.
وَمن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة وَالْعُلَمَاء الأفذاذ الَّذين حفظ الله بهم العقيدة السلفية المستمدة من الْكتاب وَالسّنة الإِمَام الْحَافِظ النَّاقِد، وَأحد الْأَعْلَام الثِّقَات الْأَثْبَات: أَبُو سعيد عُثْمَان بن سعيد التَّمِيمِي الدَّارمِيّ السجسْتانِي: من عُلَمَاء الْقرن الثَّالِث الهجري، قَالَ عَنهُ الذَّهَبِيّ: "كَانَ لهجًا بِالسنةِ بَصيرًا بالمناظرة جذعًا فِي أعين المبتدعة" ا. هـ.
وَكتابه هَذَا -الَّذِي بَين أَيْدِينَا- الْمُسَمّى: بِالرَّدِّ على بشر المريسي، أَو نَقْضُ الْإِمَامِ أَبِي سَعِيدٍ، عُثْمَانَ بن سعيد، على المريسي الجهمي العنيد، فِيمَا افترى عَلَى اللَّهِ ﷿ مَنْ التَّوْحِيد- يعْتَبر هَذَا الْكتاب بأجزائه الثَّلَاثَة من أهم الْكتب المصنفة فِي العقيدة على مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، فَهُوَ يسْتَدلّ بِالْآيَاتِ القرآنية، وبالأحاديث النَّبَوِيَّة، وبالآثار السلفية، وبالآدلة الْعَقْلِيَّة فِي بَيَان المعتقد الْحق، وَفِي رد شبه المبتدعة، ودحض أباطيلهم.
وَيعْتَبر هَذ الْكتاب من الْكتب الحديثية، بِالْإِضَافَة إِلَى بَيَان العقيدة السلفية، حَيْثُ إِن الْمُؤلف يروي الاحاديث والْآثَار بِالْأَسَانِيدِ.
وَهَذَا الْكتاب يرد فِيهِ الْمُؤلف على بشر المريسي، وعَلى ابْن الثَّلْجِي، وعَلى الْمعَارض الَّذِي ينْقل أَقْوَاله المبتدعة، وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة جهمية،
1 / 3
فالكتاب رد على الْجَهْمِية والمبتدعة، مثل كِتَابه الآخر: الرَّد على الْجَهْمِية، وَقد أثنى الْعلمَاء على هذَيْن الْكِتَابَيْنِ، ونقلوا عَنْهُمَا، واستشهدوا بِمَا فيهمَا، كَمَا قَالَ الْعَلامَة ابْن قيم الجوزية رَحمَه الله تَعَالَى: "كتابا الدَّارمِيّ: النَّقْض على بشر المريسي، وَالرَّدّ عَليّ الْجَهْمِية، من أجل الْكتب المصنفة فِي السّنة وعلومها، وَيَنْبَغِي لكل طَالب سنة مُرَاده الْوُقُوف على مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَة والتابعون وَالْأَئِمَّة أَن يقْرَأ الْكِتَابَيْنِ كِتَابيه، وَكَانَ شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية ﵀ يُوصي بِهَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ أَشد الْوَصِيَّة، ويعظمهما جدًّا، وفيهَا من تَقْرِير التَّوْحِيد والأسماء وَالصِّفَات بِالْعقلِ وَالنَّقْل مَا لَيْسَ فِي غَيرهمَا" ا. هـ.
وَكَانَ شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية ﵀ ينْقل من هَذَا الْكتاب الصفحات فِي مؤلفات وردوده، كَمَا فِي كِتَابه الَّذِي لَا نَظِير لَهُ فِي بَاب: "اجْتِمَاع الْعقل وَالنَّقْل"، وكما نقل عَنهُ الْعَلامَة ابْن الْقيم فِي كِتَابه: "اجْتِمَاع الجيوش الإسلامية على غَزْو المعطلة والجهمية"، وكما نقل غيرههما من أهل الْعلم.
وَقد قَامَ الباحث: الشَّيْخ الدكتور/ رشيد بن حسن بن مُحَمَّد الألمعي/ بتحقيق هَذَا الْكتاب تَحْقِيقا علميًّا، نَالَ بِهِ دَرَجَة علمية من كُلية أصُول الدَّين بالرياض التابعة لجامعة الإِمَام مُحَمَّد بن سعود الإسلامية.
وَقد بذل الباحث فِي هَذَا الْكتاب جهدًا يشْكر عَلَيْهِ، حَيْثُ حقق نَص الْكتاب، وَذَلِكَ بِمُقَابلَة مخطوطات الْكتاب ومطبوعاته، وعلق على من يحْتَاج إِلَى تَعْلِيق، وَترْجم للرواة والأعلام، ومعظمهم من رجال الْكتب السِّتَّة؛ لِأَن الْمُؤلف يروي الْأَحَادِيث بِالْأَسَانِيدِ- وَخرج الْأَحَادِيث،
1 / 4
وَعَزاهَا إِلَى مصادرها، وَنقل حكم الْعلمَاء عَلَيْهَا، وَإِذا لم يجد حكما للْعُلَمَاء، فَإِنَّهُ يدرس السَّنَد والمتن، ويتبعه بالشواهد والمتابعات، ثمَّ على الحَدِيث بِبَيَان دَرَجَته بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِسْنَاده وَمَتنه، وَقَامَ بِوَضْع خَاتِمَة موجزة ضمنهَا بعض الاقتراحات والملحوظات، ثمَّ فِي النِّهَايَة ختم الْكتاب بفهارس عديدة.
وَهَذَا الْكتاب كتاب عَظِيم، وطلاب الْعلم بحاجة ماسة إِلَيْهِ، وَقد نفد من الْأَسْوَاق، وَكثر السُّؤَال عَنهُ من كثير من طلبة الْعلم، وَهُوَ الْآن بطبع لأوّل مرّة محققًا تَحْقِيقا علميًّا، فأسال الله أَن ينفع بِهِ، وَأَن يُبَارك فِي الجهود، وَأَن يَجْعَل الْأَعْمَال خَالِصَة لوجهه الْكَرِيم، وَأَن يرزقنا الْعلم النافع وَالْعَمَل الصَّالح، وَالْإِخْلَاص فِي الْعَمَل، والصدق فِي القَوْل، وَأَن يخْتم لنا بِخَير، وَأَن يجعلنا هداة مهتدين، إِنَّه ولي ذَلِك والقادر عَلَيْهِ، وَصلى الله وَسلم على عَبده وَرَسُوله نَبينَا مُحَمَّد وعَلى آله وَأَصْحَابه وَأَتْبَاعه بِإِحْسَان.
المشرف على تَحْقِيق الْكتاب
عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الراجحي
عُضْو هَيْئَة التدريس بجامعة الإِمَام مُحَمَّد بن سعود الإسلامية
١٩/ ٦/ ١٤١٨هـ
1 / 5
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
مُقَدّمَة الْكتاب:
وَإِن الْحَمد لله، نحمده، ونستعينه، وَنَسْتَغْفِرهُ ونستهديه، ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وَمن سيئات أَعمالنَا من يهده الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ، وَبعد:
لقد كَانَ من فضل الله وتوفيقه أَن حظيت بِالْقبُولِ لمواصلة الدراسات الْعليا بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة فِي كُلية أصُول الدَّين وأنهيت المرحلة التمهيدية بنجاح وَللَّه الْحَمد، وَكَانَ عَليّ بعد هَذَا أَن أتقدم بمخطط لرسالة أستكمل بهَا الْجُزْء المتبقي من هَذِه المرحلة.
وجال فِي ذهني جملَة من الموضوعات الْمُخْتَلفَة الَّتِي تعالج جَوَانِب العقيدة والمذاهب المعاصرة لَعَلَّ من أبرزها "القبوريون عقيدتهم وَحكم الْإِسْلَام فيهم" فَلَقَد أردْت أَن أَقف من خلال هَذَا الْمَوْضُوع على ضلال هَذِه الطوائف وشبهاتهم وَمَا يتعلقون بِهِ من أَوْهَام، وَمَا يعتقدونه من خرافات ضَالَّة مَا زَالَت حَتَّى يَوْمنَا هَذَا فِي كثير من الْبلدَانِ الإسلامية.
كَمَا بدا لي أَن أطرق مَوْضُوع "الحكم بِغَيْر مَا أنزل الله"؛ لأقف على مدى مَا يتْركهُ هَذَا الْمنْهَج السائد فِي كثير من الدول الإسلامية وَغير الإسلامية من أثر سيئ. كَمَا جال فِي ذهني غير هَذَا وَذَاكَ مِمَّا لَهُ صلَة بالعقيدة والمذاهب المعاصرة.
1 / 7
وتجولت فِي جنبات المكتبات الجامعية وَغير الجامعية، وتأملت كثيرا مَا المخطوطات الَّتِي تزخر بهَا جامعاتنا وَللَّه الْحَمد، ووقفت على عدد من الْمَشَايِخ الأفاضل فِي الجامعة وَدَار الْإِفْتَاء لاستشارتهم والإفادة من توجيهاتهم، وَكَانَ لرحابة الصَّدْر لَدَى كثير مِنْهُم أثر جلي أَجِدهُ فِي نَفسِي وَلَا أنساه.
وَمن جملَة مَا حظيت بِهِ من توجيهات وآراء عقدت الْعَزْم على أَن يكون مَوْضُوع رسالتي تَحْقِيقا لمخطوط أعيش من خلاله على جهد علم من أَعْلَام الْمُسلمين الجهابذة، وَهُوَ ينافح عَن معتقده وَدينه فِي مُوَاجهَة المبتدعة.
وَلَا شكّ أَن إحْيَاء التراث الإسلامي الَّذِي يتَضَمَّن الْفَهم الصَّحِيح للعقيدة الإسلامية ضَرُورَة ملحة وخاصة فِي وقتنا هَذَا الَّذِي نلمس فِيهِ -وَللَّه الْحَمد- معالم يقظة إسلامية فِي شَتَّى أنحاء الْبِلَاد الإسلامية.
وَعَلِيهِ فَلَا بُد لهَذِهِ الْأمة من مفاهيم سليمَة ومعالم صَحِيحَة فِي طَرِيق عودتها إِلَى الله تبين لَهَا الْمنْهَج السَّلِيم فِي فهم الأَصْل الَّذِي تنبي عَلَيْهِ جَمِيع الْأَعْمَال وَالْقَاعِدَة الأساسية لبِنَاء الْمُجْتَمع الإسلامي السَّلِيم أَلا وَهِي العقيدة الصَّحِيحَة.
وَنحن نعتقد اعتقادًا جَازِمًا أَن الْمنْهَج السَّلِيم والاعتقاد الصَّحِيح الَّذِي يجب أَن نقدمه للْأمة، هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أهل السّنة وَالْجَمَاعَة من الِاعْتِقَاد الصَّحِيح المستمد من الْفَهم الصَّحِيح لكتاب الله وَسنة رَسُوله.
ونعتقد أَيْضا أَنه لم ينل هَذِه الْأمة مَا نالها إِلَّا نتيجة انحرافها وعدولها عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ سلف هَذِه الْأمة من طَهَارَة الْقلب ونقاء السريرة وَصفاء الِاعْتِقَاد.
1 / 8
فَلَقَد كَانَ للمخلفات الوثنية والمناهج الفلسفية، وانضواء عدد من المغرضين الَّذين اندسوا فِي صُفُوف الْمُسلمين وَالْإِسْلَام مِنْهُم برَاء، كَانَ لهَذَا وَلغيره الْأَثر الْبَالِغ على الآمة الإسلامية مُنْذُ فجر التَّارِيخ الإسلامي.
وَقد قيض الله الْأمة على فترات من الزَّمن من أبنائها المخلصين من يذود عَن حمى الْإِسْلَام وحرماته جهادًا بِالسَّيْفِ والقلم وَاللِّسَان مُنْذُ فجر الْإِسْلَام إِلَى الْيَوْم وَإِلَى أَن تقوم السَّاعَة بِمَشِيئَة الله.
وَقد كَانَ الإِمَام عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارَمِيُّ ﵀ أحد هَؤُلَاءِ الأفذاذ الَّذين حفظ الله بهم عقيدة هَذِه الْأمة، وَكتابه هَذَا يعد فِي أَوَائِل المصنفات الَّتِي صنفت فِي بَيَان حَقِيقَة مَا كَانَ عَلَيْهِ سلف هَذِه الْأمة من سَلامَة الِاعْتِقَاد، مَعَ مَا اشْتَمَل من الْآيَات القرآنية وَالْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة الشَّرِيفَة وآثار السّلف مُضَافا إِلَيْهِ الا ستدالال الْعقلِيّ فِي رد شبه الْمُخَالفين لأهل السّنة وَالْجَمَاعَة ودحض أباطيلهم، وَلِهَذَا كَانَ على قدر كَبِير من الأهمية والنفع اللَّذين شهد بهما لَهُ المنصفون.
وَقد وَقع اخْتِيَاري على هَذَا الْكتاب لأَقوم بتحقيقه وَالتَّعْلِيق عَلَيْهِ بأجزائه الثَّلَاثَة ليَكُون مَوْضُوعا لرسالتي لنيل دَرَجَة التخصص فِي العقيدة" الماجستير" فِي كُلية أصُول الدَّين بالرياض.
وَقد قسمت الْعَمَل فِي تَحْقِيق هَذَا الْكتاب إِلَى قسمَيْنِ:
الْقسم الأول: وَقد اشْتَمَل على بَابَيْنِ:
الْبَاب الأول: عرفت فِيهِ بالمؤلف وخصميه المريسي وَابْن الثَّلْجِي:
وَيَقَع فِي ثَلَاثَة فُصُول:
الْفَصْل الأول: عرفت فِيهِ بالمؤلف فِي مبحثين:
1 / 9
المبحث الأول: عصره السياسي والعملي.
المبحث الثَّانِي: حَيَاته:
تناولت فِيهِ التَّعْرِيف باسم الْمُؤلف وكنيته، وَنسبه ومولده، وَطَلَبه للْعلم، وشيوخه، وتلاميذه، وَمَا نقل عَنهُ من الْفَوَائِد والغرائب، واعتزازه بمكانته فِي الْعلم، والعلوم الَّتِي برز فِيهَا، وثناء الْعلمَاء عَلَيْهِ، وموقفه من المبتدعة، ثمَّ وَفَاته، وآثاره.
الْفَصْل الثَّانِي: عرفت فِيهِ بالمريسي فِي مبحثين:
المبحث الأول: عصر المريسي السياسي والعلمي.
المبحث الثَّانِي: حَيَاته:
تناولت فِيهِ التَّعْرِيف باسمه، وَنسبه، وكنيته، ومولده، ونشأته، وَصفته، وَطَلَبه للْعلم، وشيوخه، ومناظراته، وعقيدته، وموقف الْعلمَاء مِنْهُ، ووفاته واستبشار النَّاس بِمَوْتِهِ، وآثاره،
الْفَصْل الثَّالِث: عرفت فِيهِ بِابْن الثَّلْجِي فِي مبحثين:
المبحث الأول: عصر ابْن الثَّلْجِي السياسي والعملي.
المبحث الثَّانِي: حَيَاته:
وتناولت فِيهِ التَّعْرِيف باسمه، وكنيته، وَنسبه، ومولده، وَطَلَبه للْعلم وشيوخه، وتلاميذه، وَبَعض مَا نسب إِلَيْهِ من الرِّوَايَات، وعقيدته، وموقفه من الْعلمَاء، ثمَّ فَاتَهُ وآثاره.
الْبَاب الثَّانِي: عرفت فِيهِ بِالْكتاب المخطوطة فِي فصلين:
الْفَصْل الأول: التَّعْرِيف بِالْكتاب:
1 / 10
وَقد تضمن: اسْم الْكتاب، ونسبته إِلَى الْمُؤلف، وموضوعه، وَسبب التَّأْلِيف، وتاريخ تأليفه، ومنهج الْمُؤلف فِي هَذَا الْكتاب، وَقِيمَته العلمية.
الْفَصْل الثَّانِي: التَّعْرِيف بالمخطوطة:
ويتضمن: عدد نسخ المخطوطة، والتعريف بالنسخ، وتاريخ النّسخ وَالنُّسْخَة الأَصْل وَسبب اخْتِيَارهَا، والسماعات على النّسخ، ونماذج من المخطوطات.
الْقسم الثَّانِي: "الْكتاب محققًا".
والمنهج الَّذِي اتبعته فِي تَحْقِيقه وَالتَّعْلِيق عَلَيْهِ مَا يَلِي:
١- عزو الْآيَات إِلَى موَاضعهَا فِي كتاب الله الْكَرِيم.
٢- تَخْرِيج الْأَحَادِيث والْآثَار:
فقد أورد الْمُؤلف كثيرا مِنْهُ فِي كِتَابه هَذَا بأسانيدها، وَلم يذكر مخرجيها مِمَّا اضطرني إِلَى الْبَحْث عَنْهَا فِي مظان وجودهَا وَقد وقفت على أَكْثَرهَا وَللَّه الْحَمد وَاتَّبَعت فِي تخريخها وَالْحكم عَلَيْهَا مَا يَلِي:
أ- إِذا كَانَ الحَدِيث مخرجا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَو أَحدهمَا اكتفيت بالعزو إِلَيْهِ فِي مَكَان وجوده مُبينًا اللَّفْظ الَّذِي ورد بِهِ إِن كَانَ فِيهِ اخْتِلَاف وَلَا أطيل بعد هَذَا فِي الْإِشَارَة إِلَى أَمَاكِن وجوده فِي غَيرهمَا.
ب- إِذا كَانَ فِي غَيرهمَا فِي كتب الصِّحَاح وَالْمَسَانِيد والجوامع والمستدركات وَنَحْوهَا، فَإِنِّي أُشير إِلَى مَكَان وجوده فِيهَا مستفيدًا من ذكر الحكم عَلَيْهِ من بعض الْمُحدثين كالترمذي وَالْحَاكِم وَغَيرهمَا.
1 / 11
ج- إِذا لم أَقف لأحد من الْمُحدثين على حكم الحَدِيث أَو الْأَثر فَإِنِّي أبين دَرَجَته بِالنّظرِ إِلَى إِسْنَاده وَمَتنه، ثمَّ أتبعه بِمَا أَقف عَلَيْهِ من الشواهد والمتابعات الَّتِي تعضده وتقوي مَعْنَاهُ إِن وجدت.
٣- شرح الْكَلِمَات الغريبة وَبَيَان مدلولاتها من خلال كتب اللُّغَة.
٤- التَّعْرِيف بالأماكن والبلدان الْوَارِدَة فِي الْكتاب.
٥- تَرْجَمَة الْأَعْلَام.
فقد أورد الْمُؤلف فِي كِتَابه هَذَا مئات الْأَشْخَاص ترجمت للكثرة الكاثرة مِنْهُم، وَلم يفتني إِلَّا النزر الْيَسِير جدًّا، وَلَا أَدعِي أَنِّي قد أصبت فِي كل الَّذين ترجمت لَهُم وحسبي أَنِّي بذلت الْجهد فِي ذَلِك.
وَلما كَانَ مُعظم المترجم لَهُم فِي هَذَا الْكتاب فِي تعريفهم عَمَدت إِلَى تقريب السِّتَّة، وَكنت بحاجة إِلَى الِاخْتِصَار فِي تعريفهم عَمَدت إِلَى تقريب التَّهْذِيب لِابْنِ حجر كمصدر أساسي للتَّرْجَمَة، إِذْ هُوَ من أَجود المختصرات النافعة فِي تراجم الرِّجَال خَاصَّة، وَهُوَ يُعْطي المراجع عصارة الْأَقْوَال فِي الشَّخْص المترجم لَهُ من حَيْثُ الْجرْح وَالتَّعْدِيل.
وَقد سرت على الِاصْطِلَاح الَّذِي اتبعهُ ابْن حجر فِي كِتَابه التَّقْرِيب من اسْتِعْمَال الرموز الدَّالَّة على الْأَلْفَاظ، وَهِي:
"خَ" للْبُخَارِيّ، فَإِن كَانَ الحَدِيث عِنْده مُعَلّقا"خت"، وللبخاري فِي الْأَدَب الْمُفْرد"بخ"، وَفِي خلق أَفعَال الْعباد"عخ" وَفِي جُزْء الْقِرَاءَة "ز"، فِي رفع الْيَدَيْنِ "ي"، وَلمُسلم "م"، وَلأبي دَاوُد "د"، وَفِي الْمَرَاسِيل "مد"، وَفِي فَضَائِل الْأَنْصَار "صد" وَفِي النَّاسِخ "خد"، وَفِي الْقدر
1 / 12
"قد"، وَفِي التفرد "ف"، وَفِي الْمسَائِل "ل"، وَفِي مُسْند مَالك "كد"، وللترمذي "ت"، وَفِي الشَّمَائِل لَهُ "تمّ"، وللنسائي "س"، وَفِي مُسْند عَليّ لَهُ "عس" وَفِي التَّفْسِير لَهُ "فق ".
كَمَا أَنه اسْتعْمل الرَّمْز "ع"‘ إِذا أخرج لَهُ أَصْحَاب الْكتب السِّتَّة، وَالرَّمْز "ع" إِذا أخرج لَهُ الْأَرْبَعَة، وَلما كَانَ هَذَا الرَّمْز كِتَابَته بالآلة الكاتبة فقد صرحت فِيهِ بِذكر لفظ "الْأَرْبَعَة".
ثمَّ قَالَ: وَمن لَيست لَهُ عِنْدهم رِوَايَة مرقوم عَلَيْهِ "تَمْيِيز".
كَمَا أَنه سَار فِي الطَّبَقَات على اعْتِبَار أَن من كَانَ من الأولى وَالثَّانيَِة فهم قبل الْمِائَة، وَإِن كَانَ من الثَّالِثَة إِلَى آخر الثَّامِنَة فهم بعد الْمِائَة، وَإِن كَانَ من التَّاسِعَة إِلَى آخر الطَّبَقَات فهم بعد الْمِائَتَيْنِ وَمن ندر عَن ذَلِك بَينه.
وَقد سرت فِي تَحْدِيد الْوَفَاة لأغلب التراجم على اصْطِلَاح ابْن حجر هَذَا وَرُبمَا أثبت أَحْيَانًا سنة الْوَفَاة حسب مَدْلُول الِاصْطِلَاح.
وَلم أقتصر على تقريب ابْن حجر، فكثيرًا مَا أستعين بالمطولات فِي بَابه وبغيرها من كتب التراجم الْمُخْتَلفَة.
وَإِذا ترجمت لشخص أَو عرفت براو، وتكرر اسْمه مرّة أخري، أَشرت إِلَى مَوضِع تَقْدِيمه فِي الْكتاب.
٦- تناولت بالتعريف الْملَل والنحل وَالْفرق والأديان الَّتِي وَردت فِي الْكتاب.
٧- الْمُقَابلَة: وَاتَّبَعت فِيهَا مَا يَلِي:
أ- اعتمدت إِحْدَى النّسخ أصلا وَذكرت الفروق الَّتِي فِي النّسخ
1 / 13
الْأُخْرَى فِي الْحَاشِيَة، وَإِذا كَانَ مَا فِي النّسخ الْأُخْرَى هُوَ الْأَقْرَب للصَّوَاب أَو بِهِ يَتَّضِح الْمَعْنى ذكرت ذَلِك.
ب- إِذا كَانَ مَا فِي الأَصْل مِمَّا لَا يحْتَمل الصَّوَاب كَمَا لَو كَانَ خطأ فِي أَيَّة قرآنية أَو خطأ نحويًّا أَو نَحْو ذَلِك، فَإِنِّي أثبت الصَّوَاب وأشير إِلَى خطأ نُسْخَة الأَصْل فِي الْحَاشِيَة، وَإِن كَانَ مِمَّا يحْتَمل التَّوْجِيه أثْبته فِي الأَصْل وَذكرت تَوْجِيه ذَلِك فِي الْحَاشِيَة، وَقد أترك التَّوْجِيه فِي بعض الفروق لفظته الْقَارئ.
ج- عمد نَاسخ الأَصْل إِلَى اصْطِلَاحَات الْخط الْقَدِيم فِي كِتَابَته فَهُوَ يغْفل الْهمزَة فِي نَحْو لفظ الرُّؤْيَة وَقَائِل وَشَيْء وَنَحْو ذَلِك، وَيتْرك ألف الْمَدّ فِي نَحْو مُعَاوِيَة وَإِسْحَاق، وَيتْرك الإعجام لبَعض الْحُرُوف الْمُعْجَمَة إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يعرف مُرَاده بِهِ خلال السِّيَاق وَتَأمل النّسخ الْأُخْرَى، وَكتب التراجم، وَقد طوعت الْخط الْقَدِيم الَّذِي كتبه نَاسخ الأَصْل إِلَى اصْطِلَاحَات الْإِمْلَاء الحديثة من غير أَن أذكر فروق الأَصْل لِئَلَّا تطول بذلك الْحَوَاشِي.
٨- قُمْت بِوَضْع خَاتِمَة موجزة ضمنتها بعض الاقتراحات والملاحظات.
٩- قُمْت بِعَمَل فهارس اشْتَمَلت على مَا يَلِي:
أ- فهرس الْآيَات القرآنية.
ب- فهرس الْأَحَادِيث والْآثَار.
ج- فهرس الْفرق والأديان.
د- فهرس الْكَلِمَات الغريبة.
1 / 14
هـ- فهرس المصطلحات.
وفهرس الْأَشْعَار والأمثال، والقبائل، والبلدان واللغات وَنَحْوهَا.
ز- فهرس أَسمَاء الْكتب.
ح- فهرس الْأَعْلَام.
ط- فهرس المراجع.
ي- فهرس الموضوعات.
وَبعد: فَالْحق أَن مثلي يقصر بَاعه دون الْوُصُول إِلَى مَا يتطلع إِلَيْهِ ذَوُو النهم العلمي وَأَصْحَاب الهمم الْعَالِيَة، وحسبي أَنِّي قد بذلت الْجهد فَإِن أصبت فَمن الله، وَإِن أَخْطَأت فَمن نَفسِي وَمن الشَّيْطَان، وَالله وَرَسُوله بريئان مِنْهُ.
وَلَعَلَّ من أبرز مَا واجهته من صعوبات حصولي على النُّسْخَة المخطوطة الَّتِي اعْتمد عَلَيْهَا الشَّيْخ مُحَمَّد حَامِد الفقي فِي طبعه لهَذَا الْكتاب، وأحسب أَنَّهَا ضمن ممتلكات أحفاده فِي مصر، وَكنت قد بذلت مَا أمكنني للحصول عَلَيْهَا من بعض أحفاده واستعنت بِبَعْض من لَهُم بهم وجاهة وصلَة، إِلَّا أَن ذَلِك لم يجد بِشَيْء، وَقد أغناني عَن الْمَزِيد من الاستجداء أَن المطبوعة الَّتِي قَامَ بطبعها حَامِد الفقي مُقَابلَة عَلَيْهَا فاكتفيت بهَا مستعينًا بطبعة أُخْرَى قَامَ بطبعها ضمن مَجْمُوع عقائد السّلف كل من الأستاذين عَليّ سامي النشار وعمار الطَّالِبِيُّ.
كَمَا أَن من الصعوبات الَّتِي واجهتها هُوَ ذَلِك الْجهد الَّذِي كنت أبذله.
1 / 15
للحصول على تَرْجَمَة علم الْتبس عليّ، أَو أثر لم أَقف على من ذكره.
وَهَذَانِ الْأَمر من أظهر العقبات الَّتِي كَانَت تواجهني، وَكم كنت أسر عِنْدَمَا أظفر بِحَدِيث أَو أثر طَال بحثي عَنهُ، أَو تميز لي علم عَن غَيره مِمَّا يلتبس كثيرا على من بَاعه قصير مثلي فِي علم الرِّجَال.
وَلَقَد كَانَ لشيخي الْفَاضِل عبد الْعَزِيز الراجحي -بعد الله- أكبر الْأَثر فِي تذليل مَا واجهني من صعوبات، أفدت كثيرا من ثاقب رَأْيه، وَحسن درايته، وسديد توجيهات، مَعَ حرصه على الْوَقْت أَن يذهب سدى، فجزاه الله عني خير الْجَزَاء، وأجزل لَهُ المثوبة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة إِنَّه تَعَالَى سميع مُجيب.
كَمَا أتقدم بالشكر الجزيل لجامعة الإِمَام مُحَمَّد بن سعود الإسلامية ممثلة فِي كُلية أصُول الدَّين، على إتاحة هَذِه الفرصة لي، سَائِلًا الله تَعَالَى أَن يَجْعَل عَمَلي هَذَا خَالِصا لوجهه الْكَرِيم، إِنَّه تَعَالَى سميع قريب مُجيب، وَآخر دعوانا أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين وَصلى الله وَسلم على نَبينَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه أجميعن.
1 / 16
الْقسم الأول:
الْبَاب الأول: التَّعْرِيف بالمؤلف والمريسي وَابْن الثَّلْجِي
الْفَصْل الأول: التَّعْرِيف بالدارمي
المبحث الأول: عصره السياسي والعلمي
أَولا: عصره السياسي:
عَاشَ الدَّارمِيّ ﵀ فِي الفترة مَا بَين بداية خلَافَة الْمَأْمُون إِلَى بداية خلَافَة المعتضد بِاللَّه، وسأتناول على سَبِيل الإيجاز جملَة من الْحَوَادِث السياسية، الَّتِى حدثت فِي هَذِه الفترة مبتدئًا بخلافة الْمَأْمُون.
١- الْمَأْمُون "١٩٨-٢١٨":
وَفِي عَهده واجه بعض الصعوبات، كَانَ من أبرزها اسْتِقْلَال الدولة الزيادية عَن الْخلَافَة العباسية، كَمَا قَامَ الزط بمناوأة السلطة مستفيدين من الْفِتْنَة الَّتِي قَامَت بَين الْأمين والمأمون، وَقَامَ أَبُو السَّرَايَا فِي الْكُوفَة سنة ١٩٩ بالدعوة لأحد العلويين، وقاد مؤيديه ضد وَالِي الْعرَاق الْحسن بن سهل، وأوقع بِهِ الْهَزِيمَة.
وَقَامَت فِي عَهده فتْنَة القَوْل بِخلق الْقُرْآن وَأَرَادَ حمل النَّاس على القَوْل بذلك متأثرًا بخلصائه وأصفيائه من الْمُعْتَزلَة، إِلَى أَن توفّي بِبِلَاد بيزنطة فِي آخر غَزَوَاته سنة ٢١٨ موصيًا بالخلافة من بعده للمعتصم١.
٢- المعتصم "٢١٨-٢٢٧":
ولي الْخلَافَة بعد أَخِيه الْمَأْمُون، وَكَانَ من أبرز المشكلات الَّتِي واجهت
_________
١ انْظُر: الطَّبَرِيّ: تَارِيخ الْأُمَم والمملوك "٨/ ٥٢٧-٦٦٦"، د. أَحْمد رَمَضَان فِي حضارة الدولة العباسية ص"٢٩-٣٢".
1 / 21
المعتصم فتْنَة الزط سبق ذكرهم، حَيْثُ استولوا على الْبَصْرَة وفرضوا المكوس الجائرة على السفن مِمَّا تسبب فِي منع وُصُول الأقوات والمؤن إِلَيّ بَغْدَاد، كَمَا تمّ فِي عهد محاربة ثورات بابك الخرمي وَمَا زيار والأفشين وَأسسَ مَدِينَة سامر. وَلَعَلَّ من أبرز الْأَحْدَاث فِي عصره فتح عمورية الْمَشْهُورَة، إِلَّا أَن من أظهر السلبيات الَّتِي وَقعت فِي عَهده هِيَ أَنه كَانَ يدني الْمُعْتَزلَة وينتصر لآرائهم١.
٣- الواثق "٢٢٧-٢٣٢":
ولي الْخلَافَة بعد وَالِده، وَلم تدم أَكثر من سِتّ سنوات فِيهَا سيرة وَالِده من الِانْتِصَار للمعتزلة، وتشدد فِي فرض آرائه مِمَّا أثار أهل بَغْدَاد عَلَيْهِ، كَمَا لَا حَظّ المؤرخون فِي عَهده الضعْف الَّذِي شَاب السياسة الإدارية إِلَى أَن توفّي سنة ٢٣٢ ٢.
٤- المتَوَكل على الله "٢٣٢-٢٤٧":
وَهُوَ أَخُو الواثق، تولى الْخلَافَة بعده ولقب بالمتوكل على الله، وَكَانَت خِلَافَته بداية لما يُسمى بعصر نُفُوذ الأتراك، وَكَانَ فِي أول أمره يدني مِنْهُ أَحْمد بن أبي دؤاد المعتزلي حَتَّى جعله كَبِير الْقُضَاة، وَفِي سنة ٢٣٧ غضب عَلَيْهِ وَقبض ضيَاعه وأمواله وحبسه، وَفِي عَهده أَمر بترك الجدل الَّذِي أثير فِي عهد الْمَأْمُون والمعتصم، وَكتب بذلك إِلَى الْأَمْصَار الإسلامية مِمَّا كَانَ لَهُ أكبر الْأَثر فِي نفوس الْمُسلمين، وَحدث فِي عَهده
_________
١ انْظُر: تَارِيخ الطَّبَرِيّ "٨/ ٦٦٧-٩/ ١٢٣"، حضارة الدولة العباسبة "٣٢-٣٣".
٢ تَارِيخ الطَّبَرِيّ "٩/ ١٢٣-١٥٤"، حضارة العباسية "٣٤".
1 / 22
مجاعات شَدِيدَة إِثْر عواصف شملت بَغْدَاد وَالْبَصْرَة والكوفة وَغَيرهَا، وأغار الرّوم على دمياط ثمَّ آسيا فغزوا قيلقيا، واغتيل سنة ٢٤٧ وَيُقَال: إِن ذَلِك كَانَ بتدبير من ابْنه والأتراك١.
٥- الْمُنْتَصر بِاللَّه "٢٤٧-٢٤٨":
تولى الْخلَافَة بعد أَبِيه فبادر بخلع أَخَوَيْهِ المعتز والمؤيد من ولَايَة الْعَهْد، وَمَال إِلَى العلويين وسمح لَهُم بزيارة قبر الْحُسَيْن، وَأدنى مِنْهُ الأتراك ثمَّ مَا لبث أَن قلب لَهُم ظهر الْمِجَن، فأرادو قَتله فتآمروا مَعَ طبيبه على قَتله بالسم وَكَانَ ذَلِك، فَمَاتَ سنة ٢٤٨ وعمره ٢٦ عَاما٢.
٦- المستعين بِاللَّه "٢٤٨-٢٥٢":
اجْتمع رَأْي التّرْك على تَوْلِيَة الْخلَافَة لِأَحْمَد بن مُحَمَّد بن المعتصم، وَكَانَ يبلغ من الْعُمر ٢٨ عَاما، ولقبوه بالمستعين بِاللَّه، وَلَعَلَّ ذَلِك رَاجع إِلَى اطمئنانهم إِلَيْهِ ففضلوه على أَبنَاء المتَوَكل إِلَّا أَنه أَرَادَ أَن يتَخَلَّص مِنْهُم، فَلَمَّا شعروا بذلك انقسموا إِلَى حزبين: حزب اتجه إِلَى بَغْدَاد وَأما الآخر فَأَرَادَ العودة إِلَى سامرا إِلَّا أَنه رفض فَقَامَ الَّذين عارضوه بخلعه وتولية ابْن عَمه المعتز بن المتَوَكل.
وَقَامَت الْحَرْب بَين الْفَرِيقَيْنِ واستمرت عدَّة أشهر وانتهت بانتصار المعارضين للمستعين الْمَعْزُول، فَأخْرج إِلَى وَاسِط ثمَّ مَا لبث أَن قتل سنة
_________
١ تَارِيخ الطَّبَرِيّ "٩/ ١٥٤-٢٣٤"، الْكَامِل لِابْنِ الْأَثِير "٧/ ٥٩"، حضارة الدولة العباسية "٦٣-٦٤".
٢ تَارِيخ الطَّبَرِيّ "٩/ ٢٣٤-٢٣٩"، حضارة الدولة العباسية "٦٤".
1 / 23
٢٥٢ ١.
٧- المعتز بِاللَّه "٢٥٢-٢٥٥":
وَكَانَت فَتْرَة حكمه محكمَة الْقَبْض بأيدي الأتراك، يعزلون من يُرِيدُونَ ويصنعون مَا شَاءُوا، وَكَانَ متخوفًا مِنْهُم لَا يَأْمَن جانبهم، وَيذكر أَن جمَاعَة مِنْهُم دخلُوا عَلَيْهِ فِي حجرته، فضربوه بالدبابيس وعلقوه فِي الشَّمْس وَأشْهدُوا على خلعه وَأَعْطوهُ الْعَهْد والأمان، ثمَّ مَا لَبِثُوا أَن قَتَلُوهُ صبرا سنة ٢٥٥ ٢.
٨- الْمُهْتَدي بن الواثق "٢٥٥-٢٥٦":
تولى بعد مقتل أَخِيه وأبى أهل بَغْدَاد مبايعته وَقَامُوا ضِدّه إِلَّا أَنه اسْتَطَاعَ أَن يهدئ ثائرتهم إِلَى أَن بَايعُوهُ. كَمَا ثار فِي عَهده الْجند لتأخر عطائهم، وثار العلويون فِي أنحاء مُخْتَلفَة من الْخلَافَة، إِلَّا أَن أخطر الثورات فِي عَهده كَانَت ثورة الزنج، وَالَّتِي بدأت فِي عَهده واستمرت زهاء أَرْبَعَة عشر عَاما، ثمَّ مَا لبث أَن أسر ثمَّ خلع، ثمَّ عذب حتي مَاتَ سنة ٢٥٦ ٣.
_________
١ تَارِيخ الطَّبَرِيّ "٩/ ٢٥٦-٣٥٤"، حضارة الدولة العباسية "٦٤-٦٥".
٢ تَارِيخ الطَّبَرِيّ "٩/ ٣٤٨-٣٩٠"، حضارة الدولة العباسية "٦٥"، الْكَامِل فِي التَّارِيخ "٧/ ٦٨-٦٩".
٣ تَارِيخ الطَّبَرِيّ "٩/ ٣٩٢-٤٦٩"، السُّيُوطِيّ فِي تَارِيخ الْخُلَفَاء "٣٦١-٣٦٢"، حضارة الدولة العباسية "٦٥-٦٦".
1 / 24
٩- الْمُعْتَمد على الله "٢٥٦-٢٧٩":
تولى الْخلَافَة بعد أَن أخرج فِي القلعة وَذَلِكَ سنة ٢٥٦، وَفِي عَهده شهِدت الدولة أحداثًا هَامة من أبرزها:
أ- ثورة الزنج.
ب- قيام طَائِفَة شِيعِيَّة جَدِيدَة هِيَ الشِّيعَة الاثنا عشرِيَّة.
كَمَا ظَهرت شخصية مُوسَى بن بغا على مسرح الْأَحْدَاث فِي التَّارِيخ العباسي، وَكَذَلِكَ كَانَ لشخصية أَحْمد بن طولون وَالِي مصر أَثَرهَا الْبَالِغ أَيْضا فِي هَذَا الْعَصْر١.
١٠- المعتضد بِاللَّه "٢٧٩-٢٨٩":
تولى الْخلَافَة بعد الْمُعْتَمد على الله حكمه بالميل إِلَى العلويين، وَكثر فِي عَهده الخارجون على الْخلَافَة، فَقَامَ عَمْرو بن اللَّيْث الصفار أحد زعماء الصفارية وَاسْتولى على كثير من بِلَاد الْفرس، كَمَا ظهر القرامطة بقيادة حمدَان قرمط فِي الْكُوفَة، وَفِي الْبَحْرين على يَد أبي سعيد الجنابي، كَمَا نشر ابْن حَوْشَب فِي الْيمن الدعْوَة للمهدي، وَأَبُو عبد الله الشيعي صَاحب الدعْوَة الفاطمية فِي الْمغرب، كَمَا منع فِي عَهده بيع كتب الفلسفة، وَمنع الْقصاص والمنجمين من الْجُلُوس فِي الطرقات اتقاء الْفِتْنَة والبلبلة فِي أوساط الْعَامَّة٢.
_________
١ تَارِيخ الطَّبَرِيّ "٩/ ٤٧٤-١٠/ ٢٩"، حضارة الدولة العباسية "٦٦-٦٨".
٢ تَارِيخ الطَّبَرِيّ "١٠/ ٣٠-٨٦"، حضارة الدولة العباسية "٦٨".
1 / 25