الأدب المقارن - جامعة المدينة (بكالوريوس)
الأدب المقارن - جامعة المدينة (بكالوريوس)
প্রকাশক
جامعة المدينة العالمية
জনগুলি
-[الأدب المقارن]-
كود المادة: LARB٤١٤٣
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
অজানা পৃষ্ঠা
الدرس: ١ الأدب المقارن نشأته وتطوره
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(الأدب المقارن نشأته وتطوره)
تعريف الأدب المقارن ونشأته
الأدب المقارن نشأته وتطوره:
الأدب المقارن فرع من فروع المعرفة، يتناول المقارنة بين أدبين أو أكثر من أدبين، ينتمي كلٌّ منهما إلى أمة أو قومية غير الأمة أو القومية التي ينتمي إليها الأدب الآخر، وفي العادة إلى لغة غير اللغة التي ينتمي إليها أيضًا، وهذه المقارنة قد تكون بين عنصر أو أكثر من عناصر أدب قومي ما، ونظيره في غيره من الآداب القومية الأخرى، وذلك بُغية الوقوف على مناطق التشابه، ومناطق الاختلاف بين الآداب، ومعرفة العوامل المسئولة عن ذلك.
كذلك قد يكون هدف هذه المقارنة كشف الصلات التي بينها، وإبراز تأثير أحدها في غيره، وقد يكون هدفها الموازنة الفنية أو المضمونية بينهما، وقد يكون هدفها الصورة التي ارتسمت في ذهن أمة من الأمم عن أمة أخرى، وقد يكون هدفها هو تتبع نزعة أو تيار ما عبر عدة آداب ... إلخ.
هذا؛ وقد وقف الدكتور "طاهر مكي" في شيء من الأناة عند مصطلح القومية الذي يدخل في تعريف الأدب المقارن، في قولنا: إن الأدب المقارن يقوم على المقابلة بين الآداب القومية المختلفة، محاولًا أن يستكشف أبعاد هذا المصطلح، وما يمكن أن يثيره من مشكلات، وأطال وأجاد؛ لكنه في نهاية المطاف ترك الأمر دون حسم.
1 / 9
لقد تسائل قائلًا: ماذا نفهم من مصطلح أدب قومي؟ ما الحدود التي إذا تعديناها جاز لنا أن نتحدث عن أدب أجنبي، وعن تأثر به أو تأثير فيه؟ هل يقوم التحديد على أسس سياسية وتاريخية، أو على أسس لغوية خالصة؟ ليجيب بأنه: بعد ت أمل جاد، يُمكنُ القول إن الاحتمال الثاني أكثر قربًا، وأدق منهجية، وأسهل تطبيقًا؛ لأن الحدود اللغوية كانت على امتداد التاريخ أكثر ثباتًا، وأقل تقلبًا مدًّا وجزرًا من الحدود السياسية.
ثم ضرب مثالًا من ألمانيا التي كانت كيانًا سياسيًّا واحدًا إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم قسمت إلى دولتين بعدها؛ لكنهما ظلتا مع هذا تتكلمان لغة واحدة، ومن ثم لا يُمكن أن نقارن بين أدبهما بمفهوم الأدب المقارن.
إلا أنه برغم ذلك لم يتوقف عند هذه النتيجة بل استمر يستعرض أوضاعًا أخرى تختلف عن وضع الألمانيتين، منها مثلًا: وضع الجزائريين الذين يكتبون أدبهم باللغة الفرنسية، رغم أنهم ليسوا فرنسيين. ومنها وضع الهنود الذين يكتبون أدبهم باللغة الإنجليزية رغم أنهم ليسوا إنجليزًا، ومنها وضع الأدباء الأمريكان فهم يكتبون أدبهم بالإنجليزية رغم أنهم ليسوا إنجليزا، وكذلك معظم أدباء أمريكا اللاتينية فهم يكتبون آدابهم باللغة الأسبانية، رغم أنهم ليسوا أسبانًا.
ومنها أيضًا وضع الأدباء الكنديين الذين يستخدمون اللغة الإنجليزية، وهي ليست اللغة الوحيدة التي يتحدثها أو يكتب بها الكنديون، بل تشركها في ذلك اللغة الفرنسية، ومثلهم الأدباء السويسريون الذين لا يكتبون أدبهم بلغة واحدة بل بلغات ثلاث هي: الفرنسية، والألمانية، والإيطالية ... وهكذا.
وهو يشير هنا إلى أن عددًا من الباحثين الأمريكان يرى: أن الأدب الأمريكي والأدب الإنجليزي ليسا أدب ًا واحدًا بل أدبين مختلفين؛ لأننا بصدد أمتين متباينتين
1 / 10
ثقافيًّا، ومن ثَمّ أدبيًّا، والدّكتور "طاهر مكي" بهذا وإن بدأ بجعل اللغة هي الفيصل في تحديد الهوية القومية، وهو ما قاله قبلًا الدكتور "محمد غنيمي هلال" الذي يؤكد أن الحدود الأصيلة بين الآداب القومية هي اللغات؛ فالكاتب أو الشاعر إذا كتب بالعربية عددنا أدبه عربيًّا، مهما كان جنسه البشري الذي انحدر منه.
وما زال يقول به كذلك المقارنون العرب عمومًا كالدكتور "محمد سعيد جمال الدين" مثلًا الذي يقرره ما قرره المرحوم "هلال" من أن الحدود الأصلية بين الآداب القومية هي اللغات؛ فالكاتب أو الشاعر إذا كتب بالعربية عددنا أدبه عربيًّا مهما كان جنسه البشري الذي انحدر منه، ولذلك يعد ما كتبه المؤلفون الفرس الذين دونوا مؤلفاتهم، وآثارهم باللغة العربية داخلًا في دائرة الأدب العربي لا الفارسي.
أقول: إن الدكتور "طاهر مكي" بهذا قد عاد فتركنا في حيرة من أمرنا، بل ربما في عماية منه، حين أثار المشكلات السالفة الذكر دون أن يجيب على الأسئلة الشائكة التي طرحها، إن الأدباء العرب على سبيل المثال الذين يصطنعون في إبداعهم لغة القرآن، لا يمثلون فيما أتصور أدنى مشكلة في تطابق اللغة والقومية؛ فنحن كلنا ندين بدين واحد، ونصطنع لغة واحدة في كتابتنا، وفي حياتنا اليومية على السواء، بل إنّ الأقليات التي لها لغة أخرى إلى جانب العربية تتكلم هي أيضًا لغة يَعْرُب فضلًا عن أن التاريخ القريب والبعيد واحد أو متشابه على الأقل.
وبالمثل فإن العادات والتقاليد هي أيضًا واحدة، إن لم يكن من أجل شيء، فمن أجل أنها في معظمها مستمدة من الإسلام، كما أننا نعيش في منطقة واحدة متلاصقين لا متقاربين فقط؛ إلى جانب أننا جميعًا نتطلع إلى إن تقوم بيننا في يوم
1 / 11
من الأيام وحدة تجمعنا وتقوينا، وتكفل لنا الاحترام الدولي مثلما كان الحال من قبل، حينما كانت هناك دولة واحدة أو عدة دول تخضع ولو خضوعًا اسميًّا لخليفة واحد.
وفوق كل ذلك، فإن الإسلام الذي ندين به، يدعونا ويلحف في الدعاء إلى أن نعتصم بالتعاون والتساند والتواصل والأخوة الدينية، وأن نبتعد عن أي شيء يمكن أن يهدد هذه الوحدة، أو يلحق بها الضرر، ونحن بحمد الله ما زلنا نستمسك بديننا رغم وجود أقلية دينية هنا، أو جماعة تختلف في اتجاهاتها الفكرية أو السياسية عن التيار العام الهادر هناك، مما لا يمكن أن يَخْلُو منه أي بلد لأنّ النّقاء مستحيل، وبخاصة في هذا العصر الذي زاد فيه تجاور الاتجاهات الثقافية، وتعايش الديانات داخل حدود الوطن الواحد.
هذا؛ عن الأدباء العرب الذين يعيشون في الوطن العربي، ويبدعون أدبهم باللغة العربية، لكن ماذا عن العرب الذين يعيشون في أمريكا مثلًا، ويكتبون أدبهم باللغة الإنجليزية؟ أو في فرنسا ويكتبون أدبهم باللغة الفرنسية؟ وماذا عن الكرد الذين يعيشون في العراق مثلًا، ويبدعون أدبهم باللغة الكردية؟ أو البربر الذين يعيشون في بلاد المغرب العربي، ويكتبون أدبهم بالأمازيغية؟ وماذا عن الفرس الذين يكتبون أدبهم باللغة العربية؟.
إن المسألة في كل حالة من هذه الحالات تحتاج إلى تأنٍ في التحليل، ومرونة في التفكير، وربما لم نصل بعد ذلك كله إلى حل مرضٍ، إذ دائمًا ما تُوجد على الحدود الفاصلة بين المفاهيم والمبادئ، حالاتٌ تُشكل علامة استفهام وقلق، ولا يَصِلُ الباحثُ بشأنها إلى شيء حاسم، فأما في حالة الكُرد الذينَ يكتبونَ أدبهم
1 / 12
باللغة الكردية، فأرى أن يطلق على ما يكتبون الأدب الكردي؛ حيث تتطابق في حالتهم اللغة والعرق. ومثلهم في ذلك البربر الذين يكتبون أدبهم بالأمازيغية؛ فيسمى هذا الأدب بالأدب الأمازيغي.
لكن الأمر يختلف في حالة العرب الذين يعيشون في فرنسا، ويصطنعون لآدابهم الفرنسية، ولكنهم لا يكتبون إلا عن بلادهم الأولى، ومشاكل المجتمعات التي وفدوا منها، ولا ينتمون إلى القومية الفرنسية، ولا يشعرون من الناحية السياسية أنهم فرنسيون؛ حتى لو تجنسوا بالفرنسية.
والدليل على هذا: أنّ أعمالهم إنما تتناول أوطانهم، وأوضاع شعوبهم التي نزحوا منها؛ سواء كان ذلك النزوح نزوحًا أبديًّا أو مؤقتًا، إن العبرة هنا بمضمون الأدب وروحه وطعمه، وتوجهاته واهتماماته، وعلى هذا نقول عن ذلك اللون من الكتابة: إنه أدب عربي مكتوب بالفرنسية، وهذا الأدب يمكن أن يكون محل دراسة مقارنة مع الأدب الفرنسي، ولكن من ناحية أخرى هدفها التعرف إلى مدى اختلاف أسلوب الكاتب عن الأسلوب الفرنسي الأصيل، أو اتفاقه معه في نكهته ومفرداته، وتراكيبه، وعباراته، وصوره.
ومِثلُه ما يَكتبه الأدباء الهنود، أو أدباء جنوب أفريقيا في بلادهم بالإنجليزية، إذ أن أعمالهم في هذه الحالة إنما ترتبط ببلادهم، ومجتمعاتها وتاريخها، وتطلعاتها ومشاكلها، وعاداتها وتقاليدها وأديانها، وحياتها اليومية لا ببلاد "جون بون".
لكن إذا كان الأديب من هذا النوع يعيش في فرنسا مثلًا أو بريطانيا، واندمج اندماجًا تامًّا في الوسط الجديد، وأضحي يعتنق ما يعتنقه أصحاب ذلك الوسط، ويُردد آراءهم ويتخذ مواقفهم، وينطلق من رؤيتهم الحضارية والقومية، وينصبغ
1 / 13
بصبغتهم الاجتماعية، ونسي وطنه وقوميته القديمة، ولم يعد يهتم بمشكلات الأمة التي كانت ينتسب إليها من قبل ... إلخ. فعندئذ فالمنطق يقتضي إلحاقه بالأدب الذي يصطنع لواقعه إذًا.
أما أمريكا التي يُدرس أدبها عادة على أنه جزء من الأدب الإنجليزي، فهناك من باحثيها -كما رأينا- من يُناضل ضِدّ الفكرة القائلة بأن ما يكتبه الأمريكان والإنجليز هو أدب واحد؛ لأننا بصدد أمتين متباينتين، سلكتا منذ القرن التاسع عشر طريقًا ثقافيًّا، وبالتالي أدبيًّا متباعدًا تمامًا، ويرون أنّ إنتاجهم الأدبي يدخل في مجال الأدب المقارن، على رغم أنهما مكتوبان في اللغة نفسها كما نقل عنهما الدكتور "طاهر مكي".
ولا شك أن أمامنا في هذه الحالة قوميتين مختلفتين لا تتطلعان إلى قيام وحدة بينهم، إن لم يكن بسبب أي شيء آخر؛ فبسبب المسافة الشاسعة التي تفصل بين الشعبين، كما أن بينهما تاريخًا من الصراع والحروب؛ فضلًا عن الاختلاف في مضمون الأدبين وروحيهما، واهتمامات كل منهما وطعمه؛ مما عليه المعول الأكبر في مثل هذا التمييز كما قلنا من قبل، ومثل أمريكا في ذلك الأمر في القارة الاسترالية.
باختصار؛ نخرج من هذا: بأنه في حالة تطابق اللغة والقومية، أو الوطن لدى الأديب؛ فحينئذ فلا مشكلة، أما إذا كان ثمة تعارض فالعبرة بالشعور القومي للكاتب، واتجاهاته وهمومه، وبمضمون العمل الإبداعي وروحه، لكن هل تراني قلت كلمة الفصل في هذا السبيل؟ لا أظن، بل هي مجرد وجه نظر ينبغي أن تدرس وتحلل، وتبدى فيها الآراء، وهذا كل ما أستطيع أن أقوله ولا أزيد.
1 / 14
ميادين الأدب المقارن ومدارسه
وميادين الأدب المقارن مُتعددة؛ فقد يكون ميدانه المقارنة بين جنس أدبي كالقصة أو المسرحية في أدب ما، ونظيره في أدب آخر، وقد يكونُ ميدانه المقارنة بين الأشكال الفنية داخل جنس أدبي من هذه الأجناس في أدب ما، ونظيراتها في أدب آخر.
وقد يكون ميدانه الصورة الخيالية كالتشبيه، والاستعارة، والكناية والمجاز، وقد يكون ميدانه النماذج البشرية والشخصيات التاريخية في الأعمال الأدبية، وقد يكون ميدانه التأثير الذي يحدثه كتاب أو كاتب ما في نظيره على الناحية الأخرى، أو مجرد الموازنة بينهما لما يلحظ من تشابههما مثلًا.
وقد يكون ميدانه المقارنة بين المذاهب الأدبية كالكلاسيكية والرومانسية، والواقعية والرمزية والبرناسية هنا وهناك، وقد يكون ميدانه انعكاس صورة أمة ما في أدب أمة أو أمم أخرى وهكذا.
وهناك عدة مدارس في ميدان الأدب المقارن منها مثلًا: المدرسة الفرنسية، والمدرسة الأمريكية، والمدرسة الألمانية، والمدرسة الإيطالية، وكذلك المدرسة السلفية التي سوف تحتاج منا إلى وقفة خاصة فيما بعد.
وتشترط المدرسة الفرنسية أن تكون هناك صلات تاريخية بين العملين أو الظاهرتين أو الأدبين المراد مقارناتهما، بيد أن هذا شرط تَحَكُّمي أو قل: إنه شرطٌ غير مُلزم ولا لازم، والمُهم: أن تكون المقارنة بين أدبي أمتين مختلفتين، إن المُراد هو تمكين العلاقات الأدبية بين الأمم والشعوب المختلفة، واكتشاف أوجه التشابه
1 / 15
والاختلاف لديها في الذوق والإبداع، وتتبع المسارات التي انتقلت عن طريقها التأثيرات الأدبية من أمة إلى أخرى في حالة وجودها، وإمكان تتبعها.
وإذا كانت المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن تركز بوجه عام على الصلات التي ثبت وجودها فعلًا بين الأمم والشعوب؛ فهل هناك ما يمنع أن نمد هذا الاهتمام إلى المستقبل، فنستشف وجود مثل هذه الصلات، أو نعمل على خلقها خلقًا إن لم تكن موجودة؟ ذلك أن من الممكن جدًّا أن يكون "موليير" على سبيل المثال قد سمع بـ"بخلاء" الجاحظ بطريقة أو بأخرى حين ألف مسرحيته الشهيرة "البخيل".
وربما كان تأثير المتنبي أو البحتري سلبيًّا، كذلك هل كان قبل "أسين بلاتيوس" بل إلى ما بعد وفاته ببضعة أعوام من كان يعرف أن قصة المعراج قد ترجمت إلى عدة لغات أوربية، منها اللاتينية قبل أن يكتب "دانتي" كوميدياه الإلهية؟ لقد تعرض "بلاتيوس" إلى هجوم شديد ومعارضة عنيفة، عندما طلع على الناس بأن "دانتي" قد تأثر بتلك القصة، إلى أن اكتشف أحد المستشرقين بعد رحيله بسنوات خمس لا غير إن تلك القصة قد ترجمت فعلًا قبل وضع "دانتي" عمله المذكور، مما يؤكد أنه قد قرأها قبل إبداعه لذلك العمل.
ولنفترض أننا كنا موقنين تمام الإيقان أنه لم تكن هناك قط مثل تلك العلاقة ولو على سبيل الاحتمال، أفلا تستحقُّ المُقارنة بين الذوقيين والأسلوبين، وتقويم العناصر الفنية في الأثرين الأدبيين مثلًا: أن نقوم بمثل تلك المقارنة على الأقل تنشيطًا لعملية الأخذ والرد بين الأدبين، وتلقيحًا لكل منهما بعناصر القوة والجمال في الآخر، وإغناءً لعملية الإبداع والتذوق بهذه الطريقة، ومن ثم قيام صلات أدبية بينهما تخلق خلقًا من هذا السبيل، واستكشافًا للعوامل التي تقف خلف نقاط القوة أو الضعف، وهل
1 / 16
هي راجعة إلى ظروف المبدع الشخصية أو هي بالأحرى ترجع إلى خصائص البيئة والأمة التي ينتسب إليها.
أما أنا فأحبذ مبادرة الأمور، والعمل على خلق مثل تلك الصلات عن طريق المقارنات الإستباقية هذه، ومن ثَمّ لا أجدُ أية غضاضة في ما صنعه "شفيق جبري" مثلًا في مقالاته في "مجلة الثقافة المصرية" سنة تسع وثلاثين وتسعمائة وألف من المقارنة النقدية بين "بحيرة البحتري" و"بحيرة لامارتين" ولا ما صنعه دكتور صفاء خلوصي من المقارنة بين البحيرتين العربية والفرنسية، ولا ما صنعه دكتور عبد الرزاق حميدة في كتابه (الأدب المقارن) حين وازن بين (رسالة الغفران) للمعري و(الكوميديا الإنسانية) لدانتي مقارنة جمالية خالصة؛ فلا حديث عن تأثر أو تأثير بين العملين.
لقد كان المرحوم "محمد غنيمي هلا ل" و"أنور لوقا" مثلًا من المتشيعين للمنهج الفرنسي في الأدب المقارن، وما زال هناك من يأخذ بوجهة نظر هذه المدرسة، لا يرى مما عداها شيئًا وهم كثر، وهناك على العكس من هذا من يتشيع للمنهج الأمريكي متمثلًا فيما كتبه "رينيه ويلك" الذي وسع دائرة ذلك الحقل كما تعكسه الفصول الخاصة بهذا الموضوع في كتابه (مفاهيم نقدية) فلم يقصرها على مجالات التأثير والتأثر، التي تقتضي وجود صلات تاريخية بين طرفي المقارنة.
إن ما يقوله هذا أو ذاك من الباح ثين الغربيين، ليس قرآنًا مقدسًا، ينبغي أن نخر عليه صمًّا وعميًا وبكمًا، بل إن القرآن نفسه لا يطالب البشر بأن يخروا عليه مؤمنين دون تفكير أو إعمال عقل، فما بالنا بنظريات في الأدب والنقد، هي من نتاج العقل البشري غير المعصوم.
1 / 17
وعلى هذا؛ فإني لا أقصر مجال الأدب المقارن على الأدبين اللذين قد ثبت أن بينهما صلات تاريخية، بل أنادي بتمديده؛ ليشمل دراسة أي أدبين بينهما وجه أو أكثر من وجوه الشبه أو الاختلاف، لمعرفة الأسباب التي تكمن وراء ذلك التشابه أو هذا الاختلاف، كما أرى أيضًا توسيع آفاقه؛ ليشمل مثلًا الموازنة الأدبية بين عملين من أعمالهما، وتحليل كل واحد منهما، والاجتهاد في تذوق كل منهما؛ لتوسيع مجال الاستمتاع الأدبي والنقدي، عند الدارس والقارئ جميعًا، ومحاولة تقويم كل منهما فنيًّا ومضمونيًّا، والوصول إلى معرفة أي منهما أجمل وأقوى وأشد تأثيرًا من الآخر ولماذا؟ وذلك من أجل اكتساب نظرة أكثر رحابة، وأوسع إنسانية، وأعمق حكمًا، وأحرى أن تكون أقوى انفتاحًا على ما عند الآخرين من آثار الخير والجمال والجلال.
ولسوف نرى إن هناك كتابات مقارنية في التراث العربي، وعلى مدى زمن طويل في العصر الحديث، لم تكن تهتم بتاتًا بالبحث عما إذا كان هناك صلة تاريخية بين الأدبين، أو الأديبين، أو العملين الأدبيين محل المقارنة، بل يكفي أن يكون هناك وجه مشابهة أو أرض مشتركة بين الطرفين؛ حتى تقوم دراسة مقارنة بينهما.
أي: أنّ الاتجاه الأمريكي ليس بدعًا جديدًا في الأدب المقارن، ولسوف نرى أن "فخري أبو السعود" مثلًا في مقالاته التي كتبها في الثلاثينات من القرن المنصرم عن الأدب المقارن، إنما ينطلق من رؤية أفسح، وأرحب وأجدى من الرؤية التي تنطلق منها المدرسة الفرنسية بوجه عام، وأنه قد سبق بصنيعه هذا "رينيه ويلك" الأستاذ السابق الأدب المقارن بالجامعات الأمريكية.
وعلى نفس هذا المنوال قارن الدكتور "إبراهيم سلامة" في كتابه (التيارات الأدبية في الشرق والغرب دراسة في الأدب المقارن) بين الأدبين العربي والإغريقي في كل
1 / 18
الفنون تقريبًا حتى ما لم يكن بين الأدبين فيه صلة، أو في أقل تقدير لم يثبت أنه كانت هناك بينهما تلك الصلة كما في فن "الملحمة" و"الشعر التعليمي الحكمي".
وعلى نفس المنوال أيضًا ضمن الدكتور جمال الدين الرمادي كتابه (فصول مقارنة بين أدبي الشرق والغرب) عددًا من المقالات عن مقارنة هذا الموضوع أو ذاك، بين الأدب العربي وبعض الآداب الأوربية، فتحدث مثلًا عن فصول السنة الأربعة واحدًا واحدًا، وكذلك عن الليل والقمر والبحر والحرب، والموت والزهور والرومانسية، وفن القصة والمسرح في أدبنا، وفي أدب الإنجليز، وفي غيره من الآداب الأوربية أحيانًا.
كما قارن بين "اللورد بيرون" وشاعر الغزل الأموي عمر بن أبي ربيعة سواء في حياتهما الأسرية والشخصية، أو في منحاهم الغزلي، وبين خليل مطران، و"ألفريد دي موسيه" وهي فصول شائقة وكاشفة، ومثيرة للخيال والعقل، رَغم إيجازِهَا، واكتفائها ببعض الخطوط العامة، وعدم وجود صلات معروفة بين الأدبين المذكورين في الموضوعات التي تناولها المؤلف.
ومن شأن هذه الفصول وأشباهها أن تدفع إلى مزيد من الدرس، والتعمق، والانطلاق إلى أفاق أرحب، ودراسات أكثر تفصيلًا وإحاطة، أما بالنسبة للقارئ العام؛ فإنها ذات قيمة عظيمة، لأن مثل هذا القارئ لا يحتاجُ إلى التعمق والتفصيل.
ثم إنها فوق هذا كله، وقبل هذا كله تساعد على خلق الوعي المقارني بين الجمهور العريض غير المتخصص في الأدب المقارن، وهو هدف جدير بالتنبه له،
1 / 19
والاجتهاد في توفير العوامل التي تؤدي إلى بلوغه، إذ ليس بالقليل أن نفكر في الارتفاع بالذوق الأدبي، وتوسيع الأفق الثقافي بوجه عام، والمقارنة بين ما عندنا وما عند الآخرين؛ لفرز الغث من الثمين، والعمل على تنقية ما نملكه وما نفكر في استعارته أو استلهامه من الأوضار والشوائب.
بيدَ أنّني أجدُ لِزامًا عليًّ بعد ذلك كله التوضيح بأني لست من أنصار توسع نطاق الأدب المقارن بحيث يشمل أيضًا المقارنة بين الأدب، وغيره من ألوان الإبداع والمعارف، طبقًا لما ينادي به "رينيه ويلك" وكذلك "ريماك H H" بل أرى في هذا تمييعًا للأمور، إذ من الواضح أنه لا يوجد في الواقع تجانس بين هذا اللون من الدراسة والمقارنة بين أدبين مختلفين.
إننا في الأدب المقارن ندرس وجوه الاختلاف أو الاتفاق، أو الصلة بين أدب وأدب؛ فلنبق داخل دائرة الأدب، ولا نوسع الخرق على الرّاقع، وإلا لم تعُد هناك حدود تميز هذا الميدان عن غيره من الميادين، ونحن بطبيعة الحال لا ننكر على أحدٍ أن يدرُس ما يشاء، بل كل ما نقوله: هو أننا لا نريد تمييع الحدود؛ حتى يكون للأدب المقارن شخصيته، مثلما لكل علم آخر من العلوم المتصلة بالأدب وغير الأدب، شخصيته الواضحة المحددة.
وعلى هذا فإن مقارنة العقاد والمازني في شبابهما في عشرينات القرن البائد مثلًا بين الشعر وبين الفلسفة، وبين الفنون الجميلة على ما فيها من حساسية فنية، وعمق في التحليل، وسعة في الأفق لا تعد في رأيي من الأدب المقارن، على عكس ما حاول الدكتور علي شلش أن يصنفها، لقد كان الدكتور شلش بإلماحاته للعقاد والمازني وغيرهما يرد على كمال أبو ديب، في دعواه بأن
1 / 20
محاولات تجاوز تحديد الأدب المقارن بدراسة التأثر والتأثير في الغرب غير موجودة في العربية.
ومع هذا فقد انتقد الدكتور حسام الخطيب في كتابه (الأدب المقارن من العالمية إلى العولمة) الذي رأى النور بعد صدور كتاب شلش بست سنوات كاملات ضآلة الاهتمام بين النقاد العرب، بالربط بين الأدب والفنون الأخرى، بما قد يرجح أنه لم يتنبه إليه، وإلى ما رد به على بلديه الدكتور أبو ديب.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فقد يكون من المفيد أن أسجل هنا أنني أصدرت منذ عدة أعوام كتابًا بعنوان: (التذوق الأدبي) خصصت فيه فصلًا من بضع عشرات من الصفحات، للمقابلة بين الأدب والفنون الأخرى، من خيالة، ونحت، وتصوير، وكاريكاتير، وموسيقى وعمارة، سواء من ناحية الوسائل التي يتذرع بها كل من الطرفين في التعبير عما يريد، أو من ناحية قوة التأثير، والإمكانات التعبيرية التي يوفرها.
ومع هذا لم يخطر ببالي أن أعد ما فعلته من الأدب المقارن في شيء، وأرى من الأوفق وضعه في خانة التذوق الأدبي كما عنونته، كذلك أحسبُ أنّ الدكتور حسام الخطيب، وغيره من المقرين على حق في قلقهم على مستقبل الأدب المقارن من هذه الناحية، إذ يُنادي في مقال له عنوانه: "الأدب المقارن في عصر العولمة تساؤلات بتجاه المستقبل" بوجوب حل مشكلة التسارع في توسيع الأدب المقارن من ناحية المقارنة المعرفية، مع مختلف الفنون والعلوم إلى درجة اهتزاز بؤرة الارتكاز فيه، وصعوبة حصوله على الاعتراف الفكري، والقوة المؤسسية في الإطار المعرفي العام، وينتج عن ذلك عادة تقسيم أقسام أو برامج الأدب المقارن مقابل ما تتمتع به الآداب القومية من قوة ومكانة.
1 / 21
الصلة التي تربط بين الأدب والفنون الجميلة
ورغم ذلك فقد يكون من المُستحسن أن نلقي نظرة على الصلة التي تربط بين الأدب والفنون الجميلة، والواقع أن في الأدب ملامح من كل فن من تلك الفنون، ونبدأ بالموسيقى فنرى أن في الشعر العروض والقافية؛ فضلًا عن السجع والجناس، والتشريع، والترصيع والموازنة، ورد الأعجاز على الصدور، وتكرير حرفٍ أو كلمة أو أكثر في بيت واحد أو أكثر، وهو ما يُحدِث تجاوبًا صوتيًّا أشبه بالرنين.
وإذا كان النثر يخلو من العروض والقوافي، فإن فيه مع ذلك السجع والجناس والموازنة ورد الأعجاز على الصدور، وغير ذلك من المحسنات البديعية اللفظية، التي من شأنها إحداث التوقيعات وما إليها، علاوة على ترديد حرف أو لفظة أو عبارة كاملة كما أشرنا آنفًا في كلامنا عن الشعر.
وهذا العُنصر المُوسيقي إلى جانب ما في الإبداع الأدبي من خيال وعاطفة، يعْمَلُ عمل السِّحر في القلوب؛ فيفتح مغاليق حصونها أمام الأفكار والمعاني، فتكونُ النشوة العلوية التي نعرفها للأدب، ولا نعرفها لغيره من الكتابات التي لا تتغيا إلا العقل، ولا وظيفة لها إلا إقناعه إقناعًا علميًّا باردًا ليس فيه حرارة الأدب، ولا تحليقه ونشوته.
وبسبب هذا التأثير الساحر للموسيقى في الشعر نجد النقاد قد اصطلحوا على أن يغضوا الطرف على ما يقع فيه من هنات نحوية وصرفية، مما يسمى بالضرورات الشعرية؛ لمعرفتهم أن الشعر مقيد بقيود العروض والقافية، وهي قيود ليست بالقليلة، وإن كان الشاعر الفحل لا يُحِسُّ أو لا يكادُ يُحِسّ بها فضلًا عنْ أن
1 / 22
ذلك العنصر الموسيقي نفسه، من شأنه أن يغطي على تلك الهنات، بما فيه من توقيع ورنين أخاذ.
ولنَفس هذين السببين يغتفر النقاد للشعراء بعض ألفاظهم وصيغهم، التي لا تشيع شيوع غيرها من الصيغ والألفاظ، وكذلك تركيباتهم التي لا تجري تمامًا على ما تجري عليه الجملة العربية النثرية الحرة.
وننتقل إلى فن التصوير حيث نجد أن إمكانات الأدب في هذا المضمار، أكبر من إمكانات الريشة، إذ لا يستطيعُ الرَّسم أن ينقل لنا في أية لوحة إلا لقطة واحدة، ومِن ثَمّ لا يُمْكن أن يكون المَشهد المرسوم إلا مشهدًا ساكنًا، ففن التصوير فنٌ مَكاني بخلاف الأدب الذي هو فن جمالي مكاني معًا، وبالتّالي كان بإمكان الأدب أن يُصَوِّر لنا معركة كاملة مثلًا من أولها إلى آخرها، بكل ما تعج به من كر وفر، وضرب وقتل، وجري وقفز على مدى ساعات وساعات.
كذلك فالتصوير قد يقتصر في الألوان على الأبيض والأسود، أما الأدب، فالألوان كلها حاضرة دومًا في يديه، لا يغيب منها لونٌ أبدًا، ليس ذلك فقط بل يستطيع الأديب في لوحته أنْ يَنْقُل لنا الأصوات أو المشمومات، وخلجات النفوس، مفصلة بكل دقائقها علاوة على أسماء الأشخاص وأنسابهم، وأسماء بلادهم، وماضيهم وحاضرهم وعلاقاتهم بغيرهم من البشر، وهو ما لا يستطيعه شيء منه فن الرسم كما هو معروف.
وفوق هذا ففي الرسم يرى المشاهد اللوحة دفعة واحدة، فلا يحس من ثم بذلك التشويق الذي يشعر به قارئ الأدب؛ حيث تنبثق الأسرار واحدًا وراء الآخر مثيرة بهذه الطريقة تطلعاتنا ولهفتنا؛ مما لا يعرفه مشاهد اللوحة، كما أنّ اللوحة تقف عاجزة تمامًا عن أن تنقل مثلًا عبارة تهكمية، كقول أحد الأدباء عن بطل من أبطال قصته: "إنه لم يمت تمام الموت".
1 / 23
كذلك فاللوحة لا تترك للذهن فرصة لإضافة شيء إلا ما يراه المشاهد أمامه، إذ كل شيء حاضر تلقاء عينيه؛ بخلاف قارئ الأدب، حيثُ يترك الكاتب كثير من الفراغات التفصيلية، ينشط الخيال إلى ملئها مستمعًا بهذا النشاط الذهني العجيب.
ولدينا أيضًا: التشبيهات والاستعارات مما لا تستطيع اللوحات إيذائه شيئًا إذ هي لا تُرينا إلا الشيء ذاته فحسب، على عكس النص الأدبي الذي يرينا الشيء، ويرينا في ذات الوقت الشيء المشبه به وهكذا.
ومثلما هو الحال في العلاقة بين الأدب والتصوير، فكذلك الحال في العلاقة بين الأدب والنحت، إن الكلمات قادرة على وصف الأشياء ذات الحجوم وصفًا مجسمًا؛ ثم تزيدُ على ذلك وصف الحركة، والصوت، والرائحة كما أشرنا قبلًا، وكذلك التقاط دبيب المشاعر والأفكار، والنيات أيضًا، لا الحركة وحدها كما ظن الفيلسوف الألماني "ليسنج" في دراسته عن التمثال "لاوكون".
وفي شِعْرنا القديم أمثلة كثيرة جدًّا على هذا اللون من الإبداع، إذ يعكف الشاعرُ على ناقته أو فرسه مثلًا، يَصِفُها عضوًا عضوًا بكل ما لديه من تحديد وتدقيق، كما يُقابلنا في شعر الغزل أحيانًا مثل ذلك الوصف للمرأة التي يتدله في هواها الشاعر؛ شعرها وعينيها ووجنتيها، وفمها وأسنانها وعنقها، وصدرها وقوامها، وخصرها وساقيها ... إلخ.
ولقد أذكر مثلًا أنني قرأت كثيرًا من الصفحات التي تتجلى فيها هذه السمة التعبيرية في كتابي (ولدي) وفي (منزل الوحي) للدكتور محمد حسين هيكل حين يصف بعض شوارع باريس، أو الكعبة المشرفة فتتجلى براعته في تدقيق الوصف، وتحليله، وتفصيله؛ بحيث يبدو لك كأنه نحات مدهش.
1 / 24
ولا تقتصر المقارنات بين الأدب والفنون الجميلة عند هذا الحد، بل هنالك أيضًا البناء والعمارة، ومن يمر بعينيه على الأرفف المخصصة لكتب تاريخ الأدب والنقد؛ فسوف يعثر على عناوين مثل: بناء القصيدة عند الشاعر الفلاني أو في العصر العلاني أو بناء الرواية، وفي العقود الأخيرة كانت هناك ضجة تتحدث عن البنيوية منهجًا في نقد الأدب، وبِخَاصّة في مجال الأسطورة والقصة، مِمّا يدلُّ على أن ثمة علاقة بين الأدب وفن العمارة أيضًا.
وكلنا يعرف ما كتبه ابن قتيبة في القرن الثاني الهجري يصف التصميم البنائي الذي كانت تجري عليه كثيرٌ من القصائد العربية القديمة، إذ لاحظ أن الشعراء الجاهليين عادة ما يفتتحون قصائدهم بالوقوف على الأطلال، والبكاء عندها، جاعلين ذلك سبب لذكر أهلها الظاعنين عنها بحثًا عن الماء والكلأ، ثمّ ينْتَقِلون من هذا إلى النسيب، وشكوى الوجد وألم الفراق؛ بُغية استمالة الأسماع والقلوب، ثم يُعَقِّبون بذكر ما لاقوه في رحلتهم إلى ممدوحهم من مشاقّ ومصاعب؛ ليدخلوا بعد هذا في مديحه وتفضيله على كل من عاداه وهكذا.
ويُنَبّه ابن قتيبة الشاعر إلى أنه ينبغي أن يعدل أثناء هذا بين أغراض القصيدة وأقسامها، فلا يُطيل الكلام في قسم على حساب الآخر، إلى آخر الشروط التي طالب بها ناقدنا الكبير شعراءنا القدامى كي يحوزوا قبول الممدوحين والنقاد على السواء، وابن قتيبة هنا مجرد مثال.
على أنّ بناء القصيدة لا يتعلق بموضوعاتها فحسب؛ بل هناك بناؤها الموسيقي بدءًا من شكلها التقليدي، الذي يعتمد الوزن الواحد، والقافية الواحدة من أولها إلى آخرها، مع تقسيم كل بيت إلى شطرين متساويين، مرورًا بالمزدوجات والموشحات، والمصمتات والرباعيات، وانتهاء بالقصيدة التفعيلية؛ حيثُ يتَحَرّرُ
1 / 25
الشّاعِرُ من كثير من القيود العَروضية، فنراه لا يساوي بين الأبيات، ولا يُقَسّم كلًّا منها إلى شطرين متساويين، بل يعتمد السطر وحدة عروضية، مع اعتماد التفعيلة لا البحر أساسًا لموسيقاه، ومع اختلاف عدد التفعيلات من سطر إلى سطر دون نظام مطرد.
ونفس الشيء قل في نظام التقفية؛ إن جاز لنا أن نسمي عدم النظام الذي يجري عليه الشاعر هنا نظام.
وكما أن هناك بناءً للقصيدة، كذلك هناك بناء للعمل القصصي، فهو مجموعة من الحوادث آخذ بعضها برقاب بعض، بحيثُ يكون كل منها نتيجة طبيعية لما سبقه، وعلة منطقية لما يليه، وهذه الحوادث تقع من أشخاص لهم صفاتهم وقدراتهم، وتُحَرّكهم بواعث ودوافع كسائر البشر، ولا بد أن يكون ثم اتساق بين تصرفات هؤلاء الأشخاص وأفكارهم وكلامهم، وبين ظروفهم الاجتماعية والنفسية، ومستواهم العقلي والذوقي.
كذلك ينبغي مراعاة مبدأ الاختيار والتركيز، إذ يستحيل نقل الحياة كما هي في الواقع اليومي بكل تفاصيلها، ومن هنا قيل: إن المطلوب هو الإيهام بالحياة لا نقلها نقل أمينًا، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا ذكرها.
وينبغي بالإضافة إلى هذا: العمل على إقامة توازن بين عناصر الفن القصصي؛ من سرد وحوار، ووصف وتحليل، وكذلك بين بدايته ووسطه وخاتمته، ومن الأعمال القصصية ما يكون تصميمه مطابقًا لمجرى الزمن الطبيعي، بادئة من أقصى نقطة في الماضي، ومتقدمة مع الحوادث إلى الأمام. وهناك تصميم آخر يسير بعكس هذا الاتجاه، أي من نهاية القصة إلى بدايتها؛ ليعود في خاتمة المطاف إلى نهايتها تارة أخرى.
1 / 26
ومن التصميمات ما يتخذ شكلًا حلزونيًّا، إذ تتفرع من القصة الرئيسية قصة أخرى، وهذه تتفرع منها قصة ثالثة.
هذا عن الأدب المقارن، لكن كانت قبل الأدب المقارن دعوات إلى ما يسمى بالأدب العالمي، ويذكر الدكتور طاهر أحمد مكي، في كتابه (الأدب المقارن أصوله وتطوره ومناهجه) أن المحاولات الأولى في سبيل الوصول إلى أدب العالمي، بدأت في ألمانيا منذ قرن الثامن عشر، وانتقلت منها إلى بقية الدول الأوربية، ثم استمرت في القرنين التاليين.
وكان المُؤَلّفُون يقومُون بتلخيص تاريخ الأدب على نطاق العالم بعامة، أو تواريخ الآداب الأوربية بوجه خاص على الأقل، ومن ذلك على سبيل المثال كتاب (تاريخ الشعر والبلاغة منذ القرن الثامن عشر) لـ "بتروفت" الألماني الذي ظهر في بداية القرن الثامن عشر في اثني عشر جزءًا، وكتاب (الأدب العالمي) للإيطالي "دي بوبر ناتس" وهو يقع في ثمانية عشر مجلدًا، وصدر في نهاية القرن المذكور، ويمكن أن نضيف أيضًا المحاولة العربية التي قام بها دكتور أحمد أمين، ودكتور زكي نجيب محمود في كتابهما (قصة الأدب في العالم) الذي بزغ إلى الوجود خلال أربعينات القرن الماضي في ثلاثة مجلدات.
وكذلك المعاجم والموسوعات الخاصة بالبحث في مختلف آداب العالم كمعجم "جوزيف شبلي" وموسوعته المعروفين في هذا المجال.
ولست من رأي الدكتور مكي الذي يُقلل تمامًا من شأن مثل تلك المؤلفات إذ يرميها بأنها تملؤ رُفوف المَكتبات بدون جَدوى، وما هي إلا خلاصة مُخِلّة، أو تَرديدٌ مُمِلّ لتواريخ مختلف الكتب والكتاب، التي تمثل اتجاهًا واحدًا في شتى البلدان، وعنده أن ذلك كله ليس هو المقصود من تاريخ الأدب العالمي؛ لأن خلاصة العناصر شيء يختلف تمامًا عن اختصارها.
1 / 27