وصل الجيش وعلى رأسه جون سوبيسكي قبيل الغروب، فكانت وارسو شعلة من نار، بل كما قال أحدهم: لم يعرف لها في ذلك اليوم ليل.
فقد كان في كل منزل احتفال، وفي كل طريق أعلام وسرادق، كل ذلك ليظهر البولانديون بمظهر العارفين للجميل، المقدرين الرجال حق قدرهم.
وفي منتصف الليل بينا كان الاحتفال بالغ أشده، والقوم لاهين غير محتفلين إلا بما هو أمامهم، انسل جون سوبيسكي من بين إخوانه النبلاء إلى الخارج؛ حيث سار ميمما غار السعادة ليلقى من يحب بعد أن غاب عنها زمنا مديدا.
فكان قلبه يكاد يثب من بين جنبيه في الطريق حتى إذا وصل إلى الغار وجد صوفيا واقفة فاتحة له ذراعيها.
فكانت مقابلة تجلى فيها الحب الطاهر بأسمى معانيه، وشوهد فيه مغرمان فرقتهما أيدي الدهر، ومن ثم سمحت لهما بالتلاقي، جلسا وكل ينظر إلى وجه الآخر ليشبع منه النظر إلى أن قالت صوفيا: إيه أيها الحبيب، تلك فرص سمح بها الدهر فتلاقينا بعد أن كنت سائرا في مواطن الخطر، ورجعت بحمد الله سالما، إن فرح وارسو وأهلها لا يعادل شيئا من فرحي أنا التي كنت أهتز كالسنبلة حركتها الريح فرحا بانتصاراتك على أمة كالأتراك.
وساعة وصلنا خبر حصار زراونو كاد قلبي تقف دقاته، ودمي يجف مع عروقي، وتجلى أمامي شبحا للموت يريد أن يخطف روحي، وما أحلاه! فإن الموت يحلو إذا عيش السرور مضى، وكيف تحلو الحياة وأنت بعيد عني؟!
وكانت صوفيا تتكلم وسوبيسكي سكران بخمرة الانتصار والحب، إلى أن انتبه وقد قبلته صوفيا، فقال: الآن أيتها الحبيبة زالت الأشجان، وولت الأحزان، وابتسم ثغر الدهر بعد عبوسه، ونجا الوطن المفدى، وأديت واجبي، فلنبادل بعضنا غراما شريفا طاهرا، وحبا عذريا.
فآه أيتها المحبوبة! كم كنت أفكر في تلاقينا بعد تلك الحرب الشعواء، وهل نلتقي؟
ولكن هي العناية الإلهية تساعد المخلص وتقوي مركزه، وأنا قسما بحبنا الطاهر، والسماء اللازوردية، والشمس والقمر، لا يتأثر مثلي على هذا الوطن الأسيف الذي سوف يلاقي حتفه إن لم يلاق قائدا رشيدا، ولا يغرك ظواهر النبل التي على وجوههم، فإن بين تلك الجوانب قلوبا كقلوب الذئاب وأشر، وتحت تلك الثياب شراهة النمر وفتكه، وبين تلك الرؤوس عقول أشد حلكا من السواد.
فأنا أسأل الله أن يبقي هذا الوطن، وأن يقيض له من أبنائه من يقوده في دجى المشاكل، وغوامض المسائل بيد رشيدة، تعرف الصالح من الطالح، وذلك بعد موتي، وأما غرامي أيتها الحبيبة؛ غرامي الذي أقدسه وأعبده، أنت تعرفين ذلك، وبرهاني عيناي وقلبي، حركاتي وإخلاصي، وأنت على علم من ذلك كله.
অজানা পৃষ্ঠা