إن الحكيم الذي ينصب نفسه لتربية الأمة يجب عليه أن يدخل بها في كثير من أبواب الرياضات ويريضها على صنوف من مكارم الأخلاق ليتحقق من استعدادها الفطري ويظهر له الوجه الذي تصبو إليه، والموطن الذي تألفه، والمقصد الذي تتوجه إليه، حتى إذا دعاها الولوج معه من ذلك الباب الذي رآه صالحا لها لبته لأنه أصبح هو وشوقها عليها.
وقد رأينا أن الذين نصبوا أنفسهم لوعظ أمتنا هذه ونصيحتها قد قلبوها على أوجه كثيرة من التربية والتهذيب فأخذوها بالرفق والدعوة للخير، ثم واجهوها بالزجر والإعنات وضربوا لها الأمثال، وحذروها عواقب ما هي فيه، ودعوها إلى محاذاة الأمم ومجاراتها، وأهاجوا فيها نار الغيرة، وقدحوا لها زند الشوق لكل فضيلة، ثم رأينا ورأوا أنهم على طول هذا الزمان لم يصلوا إلى كل ما أرادوا، بل قصرت بهم النتائج عن كثير من المبادئ الشريفة التي نهجوها وأرادوها.
تحقق لهم أنهم كلما اجتهدوا فسدوا عليها بابا من أبواب الشر فتح أهل الشر عليها أبوابا من المفاسد ولم يأمن فيها العثور، ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق، إلا قليلهم.
ظهر لهم أن الأمة لم يكن لها نقطة وسط ترتكز عليها، بل هي في مهب ريح الأغراض سائرة مع كل قائد ، وعلى الخصوص لو عزز الداعي لها دعوته بالبهتان الذي أصبح منطليا على أكثرها، فما أسرع أن تلبيه إذا دعاها، وتضافره إذا سألها.
ثبت لهم أن في الأمة عددا عظيما نسوا ملتهم ودينهم ووطنهم، بل نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فلا بد لهم من مذكر يقرع أسماعهم بصوت آخر يكون له في القلوب رنة، وفي النفوس صدى يبعث فيها ميت الهمة.
تبين لهم أن في حواس الأمة خدرا جعلها لا تتأثر لمصابها، كصاحب العاهة الذي تعيره الصبيان بها فيتألم منهم في أول أمره حتى يضرب قريبهم، ويشتم بعيدهم، ريثما يعرف أن الناس تسامعت بعاهته واشتهر بها فيسكن ويضحك على نفسه كما تضحك الناس منه.
ولا عجب في هذا؛ لأن فقدان الفضائل وارتكاب أضدادها وسلوك الطرق المبتدعة، وانتقاض الأخلاق، ونسيان العوائد الجميلة، والإفراط في أسباب الحضارة من الرياش والترف، والتناهي في عدم القناعة، بدل الخلق من أصله، وحول العالم بأسره، وكأنما خلق جديد، ونشأة مستأنفة وعالم محدث.
نعم يجب على الناصح أن ينادي في الأمة بذلك الصوت من غير أن يدعوه حالها لليأس، أو يسد عليه باب الأمل، أو يقطع عنه طريق الخير، أو يمانعه في وصول النفع، فإن أبواب الصلاة لا تحصى ولا تستقصى يعرفها الناصح الأمين، والواعظ المشفق يرجو بها تحقيق الخير والنفع إن شاء الله.
وإن من أبواب التربية التي لم تقرع، وطرقها الجسيمة التي لم تسلك، وشرعها الغزيرة التي لم تقصد، دعوة الأمة للنظر في ماضي أمرها وأولية شأنها؛ لتعلم من هي، عساها تخجل من أن تكون خاتمة سوء لذلك المفتتح الشريف، عساها تأسف على حالها من كونها أصبحت بمنزلة السفيه ولي ملكا فلم يحسن سياسته، ورزق سعة من المال فلم يدبر أمر تنميته.
هذا الباب من أحسن الأبواب التي تثقف أفكار الأمة، وأقرب ما تتربى على خيرة طباعها، فإن تذكارها بمجدها القديم، وتمثيل عزها السالف لها، وتشخيص مجدها الشامخ أمام عيونها يدعوها - بلا شك - للتنافس بخلالها الحميدة السابقة.
অজানা পৃষ্ঠা