مقدمة
موت الأميرة شماء بنجد واعتلاء الجازية مكانها في قيادة بني هلال
غيرة الجازية من حب العالية وأبي زيد
حب أبي زيد للأميرة العالية بنت جابر
جمع المشورة للهجرة والحرب
مأساة عزيزة وسعدى
تنكر «أبو زيد» والفرسان الثلاثة
سكك أبي زيد
الزناتي يفاجئ العشاق الأربعة
اقبضوا على الجميع
عودة أبي زيد إلى نجد والرحيل والحرب
الزناتي يجمع مجلس حربه لمحاربة الهلالية
حروب الهلاليين على أول بلاد العرب وحصار تونس
النساء يحلقن شعورهن استنجادا بدياب
دياب يقتل الزناتي ويفتح تونس
أسر دياب لسعدى ومأساتها
العزيزة ترعى أبناء الشهداء
مقدمة
موت الأميرة شماء بنجد واعتلاء الجازية مكانها في قيادة بني هلال
غيرة الجازية من حب العالية وأبي زيد
حب أبي زيد للأميرة العالية بنت جابر
جمع المشورة للهجرة والحرب
مأساة عزيزة وسعدى
تنكر «أبو زيد» والفرسان الثلاثة
سكك أبي زيد
الزناتي يفاجئ العشاق الأربعة
اقبضوا على الجميع
عودة أبي زيد إلى نجد والرحيل والحرب
الزناتي يجمع مجلس حربه لمحاربة الهلالية
حروب الهلاليين على أول بلاد العرب وحصار تونس
النساء يحلقن شعورهن استنجادا بدياب
دياب يقتل الزناتي ويفتح تونس
أسر دياب لسعدى ومأساتها
العزيزة ترعى أبناء الشهداء
عزيزة ويونس
عزيزة ويونس
تأليف
شوقي عبد الحكيم
مقدمة
عزيزة ويونس وريادة الهلالية
القصة الملحمية الكبرى عزيزة ويونس التي اعتدنا سماعها تروى بمختلف وسائل التعبير الشعبي، استقلت أصلا عن الجسم الأساسي لسيرة بني هلال. وهي تؤرخ لعرب نجد المرية، وهجراتهم لتعريب الشمال الأفريقي والغرب، فقد بدءوا من ربوع الجزيرة العربية شمالا وجنوبا مرورا بما بين الرافدين والشام وفلسطين ومصر وليبيا، إلى أن وصل زحفهم إلى تونس وقلاعها الأربع عشرة، فضربوا حصارهم حول قرطاج الذي امتد إلى سنوات سبع، بما يذكرنا بحصار الإغريق لطروادة الذي استغرق سنوات تسعا، وكلا الحصارين تذرع بحجة المطالبة بالإفراج عن الأسرى، وكان الإغريق قد طالبوا بالإفراج عن «هيلين» زوجة «مينلاوس».
أما الأمراء النجديون الثلاثة وهم يونس ومرعي ويحيى فلهم قصة أخرى، إنهم أبناء السلطان حسن بن سرحان الهلالي سلطان الهلالية الغزاة.
تحايل فرسان الهلالية الثلاثة يونس ومرعي ويحيى، حين ريادتهم المبكرة، كطلائع لتحالف الزحف الهلالي، لاستكشاف تونس وربوعها وتخومها أو قلاعها الأربع عشرة، بصحبة خالهم أبي زيد الهلالي سلامة، واضطرارهم لبيع عقد ثمين من غالي الجوهر توارثوه عن جدتهم الأميرة الأم «شماء»، التي كان لها ثلث المشورة في الحرب وقيادة المهاجرين خلال الثلث الأول من ثلاثية السيرة الهلالية.
إلى أن وصلوا قصر الأميرة «عزيزة» ابنة سلطان تونس «معبد بن باديس» وهم متنكرون في هيئة شعراء جوالين، عن طريق دلال ظل يفاخر بدهاء يونس وفروسيته وقبائله تحت شباك قصر العزيزة:
آه يا ستي لو شفتيه
لو شفتي طولو مع معانيه
تفوتي قصرك باللي فيه
واسمك الغالي تنسيه.
فكان أن تحركت لواعج عزيزة نحو يونس، حين وقعت عيناها عليه للمرة الأولى منبهرة.
وقفت عزيزة في ريح القصر ورحاته وقالت:
يا دلال صاحب العقد روح هاته
يا بخت من حدى بوصلك يا يونس في السنة مرة
يسود شعره وتحلى عيشته المرة
ولما قالوا لعزيزة دا يونس في الشجر برا
نزلت تهز اليلك وتقولوه كنت فين سلامات
ومن ابتلا بك يا يونس طق وانسلى مات
خدته على الصدر جوا القصر ورحاته.
أسر أبي زيد والأمراء الثلاثة
إلى أن وقع الأمراء الثلاثة في أسر حاكم تونس، معبد بن باديس الذي من نسله انحدر المعز بن باديس،
1 - والزناتي خليفة، ووزير داخليتها العلام بن هضيبة، ووقعت قلوب الفرسان الثلاثة في أسر أكثر عذابا والتهابا هو قيوم الغرام، فقد أحب يونس عزيزة، ومرعي سعدى - ابنة الزناتي - أما يحيى فقد أحب الحسناء مي الهلالية.
وامتد أسرهم ذاك لسنوات سبع، لم ينسوا فيها يوما موطنهم نجدا، فتحدثوا بجمال نجد وحرية نجد، كما عبر مرعي عن هذا الحب ضارب الجذور في روحه عبر مناجاته لمعشوقته سعدى ابنة الزناتي:
يا سعدى نجد العريضة مريه
ربيت بها أهل وكل جدودي
بلدي ولو جارت عليه مريه
وأهلي ولو شحت عليا تجود.
وهكذا نجحت الفتيات الثلاث - عزيزة وسعدى ومي - في الإبقاء على محبيهم الثلاثة، يونس ومرعي ويحيى ، في أسر السجن الملحق بقصر عزيزة الأسطوري الفاخر، وإقناع حكام تونس وفارسها خليفة الزناتي، بإطلاق سراح خالهم أو عبدهم المسن، أبي زيد الهلالي، ليعود إلى نجد والعودة بفديتهم، فما كان منه إلا العودة بجحافل جيوش بني هلال التي أوقعت الحصار الشهير لبوابات تونس السبع، لحين اقتحامها وقتل دياب بن غانم لخليفة الزناتي، وفتح المغرب العربي عامة حتى الأندلس التي حكمها أبو زيد الهلالي.
الهلالية بين التاريخ والفولكلور
ومن المفيد هنا التعرض للبناء الرئيسي الذي عنه استقلت «بالادا» أو «بالادة» حسب تسمية العرب الكلاسيكيين لقصص الحرب والحب الشعرية مثل «عزيزة ويونس» هذه، فمن المفيد التعرف بإلمامة سريعة بهذه السيرة السياسية الكبرى - الهلالية - وموقعها ما بين التاريخ الفعلي والفولكلور.
وتلقي مخطوطة مكتبة المتحف البريطاني الرئيسية للسيرة بالمزيد من الضوء على متابعها وأحداثها الهائلة التي شملت جغرافية الشرق الأوسط عامة عبر حلقاتها الرئيسية الثلاث، التي هي في عداد ثلاث سير متتابعة، أولها يضرب في العصور التي تعارفنا عليها بالجاهلية السابقة لظهور الإسلام، والتي قد تصل بنا إلى بضعة قرون.
إذ تغطي الحلقة الأولى للسيرة بدء تواجد العرب الهلاليين التاريخي في الجزيرة العربية، وهجرتهم الأولى إلى الأردن وفلسطين أو بلاد السرو وعبادة.
إلى أن تتوقف بنا الأحداث مع بدء ظهور الإسلام، وكيف أن هلال بن عامر وفد على النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
على رأس قومه أو قبائله المتحالفة، ولعب أولئك الهلاليون دورا مهما في ترسيخ أركان الدين الجديد، حتى إن النبي أسكنه وقومه وادي العباس.
وأبدت فيما بعد فروسية وشجاعة الهلالية في حيل «المنذر» أبو العرب المناذرة، وكيف تعرف على الأمير «مهذب»، وتزوج بابنته «هذباء»، لما لم يرزق منها بطفل فقرر الزواج بأخرى.
ثم رحل إلى بلاد السرو وعبادة، أي الأردن وفلسطين، حيث تزوج بابنة الملك الصالح واسمها «عذباء» التي خلف منها «جبير»، بينما وضعت زوجته الأولى «جابرا».
وينشب الصراع بين الزوجتين طويلا، فكل منهما تريد المنذر لها وحدها.
وينتهي الأمر بطلاق عذباء ابنة الملك الصالح ورحيلها هي وابنها «جبير» إلى نجد .
المهم هنا أنه من نسل جابر وجبير انحدرت إلينا بطون بني هلال ونسائهم الذين قاموا بالأدوار الهامة في مختلف الأحداث الكبرى التي تضمنتها الحلقة الأولى من حروب وهجرات قارية على طول العالم القديم في أواسط آسيا والأناضول حتى تخوم الصين.
فجابر ولد له عامر وتامر وهشام وحازم، ومن نسل هؤلاء انحدر «رزق» والد أبي زيد، وسرحان والد السلطان حسن بن سرحان، وأبناؤه الفرسان الأمراء الثلاثة يونس ومرعي ويحيى.
أما جبير - رأس التحالف القحطاني - لعرب اليمن والجنوب العربي، فولد له «رباح» وحنظل والنعمان، ومن رباح جاء دياب والد رأس تحالف عرب الجنوب دياب بن غانم، كما أن من نسل رباح انحدر الأمير زيدان الذي قتله الزناتي خليفة على بوابات قرطاج.
وعقب جيل جابر وجبير يرد خبر زواج «رزق» من «خضراء» التي أنجب منها «شيحاء» وفتى يدعى «بركات».
مولد أبي زيد الهلالي
وجاء الغلام - بركات - أسود اللون كعنترة، لذلك اتهمت الأم خضراء في عرضها، وانتهى الأمر برحيلها وابنها إلى بلاد الأمير «الزحلان» عدو بني هلال، فيكرم الأمير الأم ويعتني بابنها، ويوكل أمر تعليمه إلى معلم فكان يعلم بركات أبا زيد الهلالي العلوم والحرف واللغات والحيل والمكائد التي اشتهر بها وتفوق فيها:
ولسان عبراتي اليهود تنفعك
ولسان سريان تصير مشير.
وكذا الطب والكيمياء والرياضيات والفلك والجغرافيا والصباغة والمعادن:
والطب أيضا دانيال أعلمك
وعلم الحساب وكل علم جبير
وأعلمك علم الصباغات كلها
تصبغ لروحك ما تريد يا أمير.
ويحدث أن يهاجم الهلاليون بلاد الزحلان فيتصدى لهم بركات ويأخذ والده أسيرا، ويعترف له الهلاليون بالشجاعة ويطلقون عليه اسم «سلامة»، ويعجب به الزحلان فيزوجه بابنته «غصن البان»، وتعلو مكانته في ربوع الهلالية لمهابته وذكائه ومهاراته المتعددة فيطلقون عليه «أبا زيد الهلالي سلامة».
ثم تنتقل بنا السيرة إلى جبل سرحان، وكيف تعرف بالأميرة «شماء» ووقوعهما في أسر الإفرنج ونجاتهما بحيلة من تلك الحيل التي اشتهر بها الهلالية وفارسهم أبو زيد.
الأميرة شماء
وكان للأميرة شماء «ثلث المشورة»، ولها القيادة في الحرب والسلم والهجرة والترحال والمعاهدات.
فالسيرة الهلالية تفرط إلى أقصى قدر بالنسبة إلى ظاهرة شخصياتها الأنثوية، مثل تلك الأميرة «الكاهنة» شماء:
انظر لشامتها
هذي علامتها
انظر لقامتها
شبه الردينية
الشعر مثل الليل
كأنه سباسب خليل
والوجه مثل السيل
بعيون هندية
ومن نسل شماء انحدرت الأميرة «الجازية» وأخوها السلطان حسن بن سرحان أمير نجد وقائد التحالف الهلالي، وكان محبا لوالدته:
شما تلفتيني
بحبك ضنيتيني
قومي واسقيني
من فوق شبرية
بالليل أنا أزورك
وها الوقت دا شويه.
ولشماء مآثرها الخارقة، خلال حرب ومنازعات بني هلال في الهند وسرنديب والأناضول واليمن والجنوب العربي عامة، فهي تتشابه مع رموز وإلهات الحرب الأنثيات في الميثولوجيات القديمة، وأبرزهن «أثينا» في قيادتها للتحالف القبلي اليوناني - الإغريقي - في حروب وحصار طروادة.
وهو ما توارثته «الجازية» فيما سيلي من أحداث عزيزة ويونس، والريادة حول فتوحات بني هلال في الشمال وفلسطين ومصر وليبيا، لحين حصار تونس والمغرب العربي للمطالبة بالإفراج عن أسراهم الأمراء، أو الفرسان الثلاثة يونس ومرعي ويحيى.
وهنا نكون قد وصلنا إلى الحلقة الثانية لسيرة الهلالية، التي تبدأ أحداثها بمرحلة السلطان حسن وأبي زيد الهلالي من بلاد السرو وعبادة بوادي الأردن وفلسطين، حيث تعيش قبائل بني زغبة المنحدرة من ذرية جبير إلى أن تصل بنا إلى نسب بطل التحالف اليمني والجنوب العربي عامة الأمير غانم وابنه دياب.
الهلاليون يحاربون يهود خيبر
أما السبب الدافع لتلك الهجرة من ربوع وادي الأردن ومرج بني عامر بفلسطين، فلم يكن سوى السيول والجفاف.
واللافت للنظر هنا أنهم عبر هجراتهم الجماعية إلى سهول نجد المرية يخوضون أولى حروبهم مع يهود بني خيبر، وهي حروب طويلة مضنية تستغرق وقائعها الجانب الأكبر من الحلقة الثانية للهلالية، لحين تحقيق انتصاراتهم على اليهود الخيبريين الذين كانوا في بعض صورهم التاريخية يتصدون لمحاربة الأكاسرة الفرس.
ففي هذا الجزء أو الحلقة الثانية للهلالية وسيرتهم، تستقر تحالفاتهم من عرب نجديين وحجازيين قيسيين أو معديين وجنوبيين قحطانيين، وتجيء هذه التحالفات تحت شارة أو راية الهلال، آخذين بالتقويم القمري الهجري فيما بعد.
ويقدم السلطان حسن على الزواج من «نوفلة » أخت دياب بن غانم، ثم يقطع عهده لدياب هذا قائد ورأس التحالف اليمني بتقديمه أخته «نور بارق» أو الجازية له للزواج منها، والتي سترث أمها السالفة شماء قيادتها لحروب وهجرات بني هلال حتى ليصبح لها ثلث المشورة.
تغريبة بني هلال
أما تغريبة بني هلال أو الحلقة الثالثة، فتبدأ بإرسال أبي زيد الهلالي ومعه الأمراء الشبان الثلاثة يونس ومرعي ويحيى لزيارة المغرب العربي بشمال أفريقيا وخاصة تونس الخضراء، حيث يقعون في أسر فارسها خليفة الزناتي ووزير داخليتها المتسلط العلام، لحين قدوم الفيالق الهلالية لحصار تونس وتخليصهم من الأسر.
وهذه الفترة من فترات التاريخ الإسلامي صحيحة، بالإضافة إلى صحة دور بني هلال وحروبهم الجاهلية السابقة على الإسلام، وكيف قاموا بالنصيب الأعظم في سبيل تعريب البلدان المتاخمة للجزيرة العربية جنسا وثقافة.
فابن الأثير يحدثنا في تاريخه - الكامل - بأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تزوج في العام الرابع من «زينب بنت خزيمة» أم المساكين، وهي من بني هلال. ثم يذكرهم مرة بصدد الحديث عن غزوة هوازن، ومرات كثيرة أخرى في مناسبات مختلفة.
أما عن خروجهم إلى شمال أفريقيا، فقد ذكره أكثر من واحد من المؤرخين، مثل ابن خلدون حيث ورد بصفحة 62، 63 من الجزء الرابع من تاريخه ما نصه:
كان المعز بن باديس قد نقض معاهدة العبيديين بأفريقيا، وأيد القائم العباسي ضد المستنصر العلوي سنة أربعين وأربعمائة، فكتب إليه المستنصر يتهدده ببني هلال وبأسهم.
أما عن السبب الدافع إلى تغريبة بني هلال، فمرجعه انقطاع المطر وحلول الجفاف بنجد والجزيرة العربية عامة، حيث لا خلاص سوى الهجرة والترحال وفرض التعريب، وهنا يستقر الرأي على ضرورة استكشاف المسالك إلى البلدان المتاخمة للجزيرة، فيضطلع فارس التحالف الشمالي أبو زيد الهلالي وبصحبته الأمراء الثلاثة باستكشاف الطريق إلى تونس، لحين وقوعهم في أسر زناتي تونس، وإطلاق سراح أبي زيد ليعود إلى نجد، لكنه بدلا من إحضار فدية الأمراء الأسرى الثلاثة فإنه يجهز الجيش لغزو تونس والمغرب العربي حتى الأندلس، وذلك بعد أن تم لهم فتح المشرق العربي عامة، وفرض نفوذهم على معظم كياناته.
وهكذا ضرب الهلاليون حصارهم على تونس - قرطاج - بحجة المطالبة بالإفراج عن أسراهم الفتيان الثلاثة: يونس ومرعي ويحيى.
وعلى بوابات تونس السبع تدور المعارك الطاحنة لسنوات وهي معارك استشرق فيها خليفة الزناتي بقادة العلويين وحلفائهم وأمرائهم منازلة وتقتيلا:
ثمانين أميرا من هلال وعامر
دعاهم أبو سعدى برمح كعيب
أخرب أبو سعدى جميع مساكننا
وما عاد لنا سامح ومجيب
دائر كما الدولاب ولد غانم
ينادي دياب من لقانا هريب.
إلى أن استنجد السلطان حسن بن سرحان وأبو زيد الهلالي بدياب بن غانم، الذي نازل الزناتي إلى أن أصابه برمحه «بين عينيه» وفتح تونس واعتلى عرش الزناتي وأوقع السبي بابنته «سعدى»، وهي التي ساعدت - مع «عزيزة» - الهلاليين إلى أن تحقق لهم فتح تونس والمغرب العربي حتى الأندلس التي حكمها أبو زيد الهلالي.
شوقي عبد الحكيم
موت الأميرة شماء بنجد واعتلاء الجازية مكانها في قيادة بني هلال
أخيرا أسلمت الأميرة شماء الروح، ولا يعرف أحد على وجه الدقة في كل أنحاء «نجد المرية» كيف حدث هذا، وهل يمكن فعلا أن يحدث على هذا النحو الفاجع الصادم؟ أي أن تسبل الأمير شماء أميرة بني هلال عينيها الدعجاوتين، وكما لو كانت تستسلم للنعاس المصاحب لخدر النوم، لتلفظ أنفاسها الأخيرة وتموت مثلها مثل خلق الله الآخرين!
أحقا ما يحدث ويحمله هواء ذاك الصباح الرطب من سهل إلى ما يجاوره ومن مضرب إلى آخر ومن مرج إلى نظيره، على طول رحاب نجد، فتتداوله الألسن والحلوق الجافة غير المصدقة، بينما تسيل العيون دموعها مدرارا وهي تتحرك في الوجوه التي هدها النبأ المفاجئ، فاندفعت باتجاه مضاربها كالموج الهادر غير مصدقة أو مدركة لما حط على نجد في ذلك اليوم، الذي لا بد ألا تسطع له شمس أبدا، وإن حدث وسطعت فلا بد أن يحرق سياط لهيبها كل أخضر ويابس دون رحمة؟!
أحقا ما يحدث أن تلفظ الأميرة الحكيمة المجاهدة التي عمت شهرتها الآفاق كلا من المشرق والمغرب أنفاسها؟! وهي التي رفعت رايات الهلاليين وبيارقهم خفاقة مشرقة من فوق هودجها المجلل بشارات المجد، بدءا من تخوم أسوار الصين مرورا بالهند وسرنديب والأناضول مشرقا، حتى مشارف المغرب الكبير والأندلس غربا، تنكس أمامها هامات أعتى الملوك والأباطرة والأكاسرة والأمراء، تواكب ذلك كله حكمة عميقة الجذور والغايات والمقاصد.
وكما لو أن هاجسا خفيا وحد بين جميع قبائل وبطون عرب بني هلال، وهم يتدافعون خارجين مروعين من بيوتهم ومضاربهم وقصورهم في ذلك الصباح المبكر، هذا الهاجس هو الخوف الباطني الذي لا يعرف له سبب، والذي كان ظاهرا تماما على جميع الوجوه كلما تلاقت جموعهم وجموعهن. - لم أنم البارحة. - أجل. - لم أذق للنوم طعما. - لحظة واحدة فقط. - غمضة عين.
صحيح أن الجميع كانوا على دراية بمدى ما حل على كاهل الأميرة الأم - شماء - منذ سنين قريبة من مرض عضال، أضنى أطباء نجد والشام والأندلس ويئس الجميع من إمكانية شفائها.
ولم يعد يسمع منها وهي مسجاة على فراشها سوى تمتمة. - آجال! أعمار تنقضي!
لكن من يمكن له أن يصدق ويعي من تلك الجموع الغاضبة الحانقة التي تجمعت وفودها من كل صوب وكيان، فلم يقتصر الأمر على النجديين وحدهم، بل سرى مسراه أيضا إلى وادي الحجاز ومدن الطائف وتهامة وتعز وصنعاء وعدن وحضرموت وصرواح ومأرب سريان النار في الهشيم. - الشماء ماتت!
وعلى الفور توافدت الفرسان على مشارف نجد وساحاتها التي غصت بجنازات النساء النائحات والمبتهلات وطالبات الرحمة وشاعرات الموت ومنشداته.
وكان الأمر أكبر وأقسى من مجرد موت أميرة وقائدة، لها وحدها ثلث المشورة في الحرب والسلم والهجرة والتصالح والمهادنة والتحالف.
وكما لو أن هناك إحساسا خفيا جماعيا ناشب الجذور داخل الجميع عن مدى جسامة الكارثة الكبرى الجاثمة التي ستحط يوما على رءوس الجميع، لتمتص رحيق الحياة من جزيرة العرب شمالا وجنوبا. - ما الخبر؟
صحيح أن بوادر الأيام الصعبة لم تلحق عرب الجزيرة بأسرها سوى مع حلول المرض بالأميرة شماء الأم، الذي لازمها السنوات الأخيرة فأمسكها عن كل حركة ونشاط.
وهي بذاتها وتمامها السنوات التي نكست فيها الرايات الهلالية، دون تطلع لجهاد وفتوحات قوامها التعريب والتوحيد، وكأنه باستسلام أميرتهم الأم القهري لآلام مرضها العضال الطاعن استسلم الجميع انتظارا للحظة العافية التي امتدت لسنوات إثر سنوات إلى أن وقع المكتوب.
وضاعف من ثقل تلك الأيام العصيبة التي استغلها كل طامع في الهلالية انقطاع المطر وحلول الجفاف الذي امتص كل رحيق لخضرة وحياة من الزرع والبهائم، بل والناس أنفسهم على مختلف فئاتهم وطبقاتهم.
وهكذا لم يعد بإمكان الجميع سوى التذرع بالانتظار الثقيل، طالبا للعافية ومعاودة الجهاد وركوب المصاعب للخروج من واقع هذا المأزق القاتل لكل حياة.
فحتى ابنها الأكبر ذاته الأمير حسن بن سرحان سلطان التحالف الهلالي، وأخته وريثتها في القيادة والانفراد بثلث المشورة الأميرة «نور بارق» التي عرفت ب «الجازية»؛ حط عليهما ذلك الانتظار الثقيل عاما إثر عام دون تملك القدرة على الإتيان بقرار أو فعل جماعي، بسبب مرض الأميرة الأم وجفاف الصحراء الذي وصل بالهلاليين إلى حد العطش. - ما العمل؟
منذ البداية حاولت الجازية التبشير بمشورة أمها المريضة الغائبة عن كل وعي المثقلة بجراحها الغائرة ... التي لم يسلم منها عضو في جسدها الناحل نتيجة ما خاضته من معارك تركت آثارها وبصماتها عليه.
لكن كان ذلك كله دون جدوى، بل من يسمع ويعي والجميع تعودوا على تلقي القرار مشهرا من فمها الشريف، ساريا على كل رءوس القبائل والأمراء والشيوخ وملوك الجزيرة: شماء الأم القائدة.
بل حتى فارس التحالف الهلالي ذاته، أبو زيد الهلالي، الذي أعلن لجموع بني هلال خبر موت الأميرة الأم شماء الفاجع من أعلى الجبال المطلة على ساحات المدينة؛ لم يسلم من السب والتجريح والتطاول من الجماهير الغاضبة غير المصدقة الهائجة، المطالبة بإشهار الجثمان لتتيقن منه كل عين ترى وتبصر. - كذب، كذب! - تدليس! - اخرس يا شؤم - أين الجثمان؟ - الشهود، أين الشهود؟
وهكذا تدافعت الأجساد كيوم الحشر، باتجاه مضارب الأميرة «شماء» لا يوقفها حرس أو فرسان دون التفاته إلى الخلف، مطالبة بالدليل واليقين.
وتكسرت كل محاولات السلطان حسن ابنها ووريثها وابنتها الجازية و«أبو زيد الهلالي سلامة»، في رد الوفود الثائرة وإعادتها إلى صوابها، وهي التي صدمها النبأ الفاجع حتى العظم. - الجثمان، الجثمان.
ورغم التطاول على أبي زيد الهلالي من جانب بعض الأفواه التي أعماها الغضب، فإنه كان الأسرع بالمبادرة إلى إقناع السلطان حسن بإخراج الجثمان وتسجيته على أعلى سلالم قصر الأميرة الأم الرخامي؛ لتهدئة ثائرة الجماهير المنذهلة غير المصدقة: - إنا لله وإنا إليه راجعون!
وهكذا حط الهدوء على هامات الرءوس الثائرة والغاضبة والفزعة، وتدافعت الوفود في ثباتها تلهج بالرحمة والغفران للموتى والأحياء معا، وهي ترقب الجثمان الطاهر المسجى في حالة من الاطمئنان والصفاء الذي فعل مسراه في الأعصاب والمشاعر التي أغرقها الحزن.
واعتلى كل أمراء بني هلال بدءا من السلطان حسن وأبنائه الأمراء الثلاثة يونس ومرعي ويحيى إلى الجازية وأبو زيد الهلالي الساحات، متحدثين في ثبات إلى جماهير المشيعين.
واندفعوا يطالبونهم بتحكيم العقل وإعمال الحكمة، بحثا عن حلول لما أصبح يعانيه الجميع شمالا وجنوبا من جوع ومذلة: - المشورة حق للجميع.
وما إن انتهت مراسيم دفن الجثمان والعزاء والمواساة، حتى اشتهرت وصية الأميرة الأم، والتي نصبت فيها الأميرة «نور بارق» أو الجازية لتأخذ مكانها في قيادة التحالف الهلالي.
وهنا تنفست الجماهير المحيطة التي لا تحدها غير الصعداء، فالجازية وحدها هي الأقدر عن جدارة في أخذ مكان الأميرة الأم، وهي المعروف عنها مدى بأسها في الحرب والنزال، ومدى حنوها واحتضانها لآلام الجميع التي تزايدت في السنوات الأخيرة العصيبة التي صاحبت الجفاف. - الجازية، أم محمد.
1
وكما لو أن اسمها ذاته سرى بين الجموع مهدئا كبلسم شاف.
حتى إذا ما واصل قاضي قضاة نجد «بدير بن فايد» قراءة وصية الأميرة الأم التي دونت على رقعة طويلة من جلود الغزلان البرية، تعدى طولها طول قامته، معلنا رصد الشماء للجانب الأعظم من ممتلكاتها وكنوزها لفقراء بني هلال وبسطائهم بالإضافة إلى جرحى الحرب والمعوقين وأسر الشهداء، حتى تعالت الأصوات المترحمة مدوية من كل جانب، وعلا بكاء النساء ونحيبهن، وسمعت أشعار المراثي علية من هنا ومن هناك:
شما تلفتيني
بحبك شبقتيني
قومي واسقيني
من فوق شبرية
بالليل أنا أزورك
وها الوقت دا شويه. •••
انظر لشامتها
هذي علامتها
انظر لقامتها
شبه الردينية.
ولم تتوقف سيول الأشعار الجنائزية والمراثي إلا عندما تدخل القاضي بدير مقاطعا بحزم مواصلا قراءة الوصية لجموع الهلاليين مشرقا ومغربا، والتي تضمنت الحث على الجهاد والتلاحم والدفاع عن الحق والأخذ بالمشورة وتكامل العقول العربية، وعدم الاستسلام للواقع القاسي الذي لحق بقوت الجميع ومصيرهم.
وامتدت أيام الحزن أربعين يوما توافدت خلالها الوفود العربية من كل مكان وكيان إلى ربوع نجد للعزاء في وفاة الأميرة الأم، رأس المشورة للتحالف القبائلي الهلالي شمالا وجنوبا.
جاء من العراق الأعلى حاكمه الخفاجا عامر وابنته «ذوابة» التي تسمى بها، وهي الشاعرة العريقة التي أبكت جماهير بني هلال، وخاصة نساءهم بأشعارها:
يوم غرب النجع يا ما بكى ضرغام
وقال بيض الليالي مضت
واللي بقى صار غام
رايح تغرب يا ابو ذوابة
وفايت الاصطبل والخيل فيه
ما بكى الخفاجا عامر وقال
بكر الشجر راح
ما عادت تنفع الخيل فيه.
وجاء من وادي الحجاز الأمير جابر وابنته العالية بنت جابر، وكانت ممشوقة القامة باهرة الجمال شديدة الحضور، وما إن وقع نظر فارس بني هلال أبي زيد الهلالي عليها حتى تأججت داخله المشاعر الملتهبة التي دفعت به دفعا إلى الاختفاء عن العيون أياما، لا يعرف له أحد مكانا إلى درجة دفعت بالسلطان حسن بن سلطان إلى إرسال وفوده وفوارسه للبحث عنه أينما كان وتحت أي سماء، دون جدوى.
خاصة وقد كثر توافد المعزين من حلفاء بني هلال من كل صوب ومكان، سواء من فلسطين العربية ومروج بني عامر أو هلال بن عامر أو من الشام وحلب الشهباء.
وجاء فارس تحالف عرب جنوب الجزيرة القحطانيين دياب بن غانم الزغبي ووالده الضرير الأمير غانم، الذي كلت عيناه إلى حد فقدان النظر الكامل ليشارك في العزاء ويلتقي بابنته «نوفلة» لوجه السلطان حسن الصديق الحميم لأبي زيد الهلالي.
وأقام دياب بن غانم الدنيا وأقعدها حين لم يجد أبا زيد الهلالي في استقباله، وحين ألح في سؤال السلطان حسن وابنه الأكبر يونس ولم يجد جوابا، استبد به الضيق الذي أفصحت عنه أساريره القاسية الملامح: - أين أبو زيد؟!
ومن جديد واصل السلطان حسن إرسال فرسانه وأبنائه وعيونه في كل مكان بحثا عن أبي زيد الذي بدا كما لو أن الأرض عن آخرها انشقت وابتلعته دون أثر، منذ أن لامست يده يد الأميرة العالية (بنت جابر) مترجلة عن هودجها الذي أقلها من وادي الحجاز.
غيرة الجازية من حب العالية وأبي زيد
هكذا وجد فارس الهلالية أبو زيد نفسه بين لحظة وما أعقبها ينبض قلبه بلا هوادة أو توقف بحب العالية بنت جابر، وهو الذي منذ بضع سنوات فقط ليست بالبعيدة قطع بحسامه - المهند - رأس شقيقيها الأميرين عقيل وزيد، حين اشتد به الغضب ووصل به الهياج من جشعهما وتسلطهما حين تفتحت عيونهما على أسلاب الهلالية من كنوز أكاسرة الهند وسرنديب وعروشهم وثرواتهم.
وصل به الغضب والغيرة دفاعا عن حقوق المجاهدين من معدمين ومعوزين وجرحى وأسرى وشهداء، إلى حد التهديد بغزو مضارب الأمير الأكبر «جابر» ذاته واستباحتها.
إلا أن العالية بصائب بصيرتها تمكنت منذ أن تصافحا داخل معازي الحريم من أن تضمد له غائر جرحه الدفين الذي عاناه أبو زيد وحده السنين الطوال، وهو أن يرفع سلاحه يوما ليشهره في ذات - قبائله - جسده كمثل رجل ينتحر ...
تمكنت العالية بعمق مشاعرها من تجفيف دماء إحساسه الدفين بالذنب والإدانة، وعفا الله عما سلف، فيبدو أنه كان محقا فيما أقدمت عليه ذراعه الضاربة في عنقي فارسين من أخلص فرسان الهلالية وأقدرها على المنازلة سوى من هفوة الجشع المفضي إلى التسلط، حتى إذا ما انتهت جلستهما القصيرة المؤثرة وعاد أبو زيد متخذا طريقه إلى ديوان السلطان حسن والرجال معتذرا مرحبا رواده من فورة الإحساس الذي عرفه كثيرا عقب فك قيود الأسر وانتزاع سلاسل الإدانة، فاستراحت عضلات وجهه وعاد استرخاؤها وحبورها على مشهد من عيون الجميع وأولهم صديقه وموضع سره المقرب الأمير الشاب يونس.
فكان يونس هو الوحيد الذي استنجد به السلطان ليعود إليه برقبة أبي زيد، فهو الوحيد الذي يعرف مكمنه.
هنا اعتلى يونس جواده قاطعا السهول والوديان إلى أن تسلل وهو يغوص سراديب وزوايا ذلك الحصن الذي غيبت السنون والعصور معالمه وأبهاءه حتى توقف عند رأس أبي زيد الهلالي الذي هب من إغفاءته، كما لو كان يعاود الإطلال على عالم غريب غير مألوف هاتفا: يونس.
هنا عاجله يونس بدوره وهو يحط عن رأسه تعبا وإعياء مقعيا قائلا وهو يتفرس عبر الظلام الخفيف في عينيه: العالية بنت جابر.
انتفض أبو زيد في أقصى انفعاله ونشيجه مبتعدا مخفيا وجهه بين ساعديه كمن يكتم لهبا اندفع في غائر أعماقه ... - يونس، ألا يكفي ما أنا فيه؟! اتركني، اتركني، كفاك سخرية!
ولعلها المرة الأولى التي اندفع فيها يونس ضاحكا مقهقها وهو الذي لم يضحك أبدا منذ سنين.
ومن فوره تمدد في استرخاء وهو يدق الأرض بقبضته من غرابة أطوار خاله، هذا أبي زيد فارس الفرسان، والذي يبدو الآن أمام عينيه كمثل طفل محب لا يعرف من عالمه سوى البراءة. - العالية ابنة الأمير جابر.
قاربه سائلا: أليس كذلك يا خال؟
انتصب أبو زيد واقفا معدلا من هيئته مواصلا عناده كمثل طفل: لن أعود يا يونس.
داعبه يونس بصوت محايد خفيض: خائف؟
هنا انتفض أبو زيد وكما لو كان يخوض إحدى معاركه أو وقائعه أو ملاحمه: خائف؟
واصل يونس: أجل، من امرأة. - امرأة! - الأميرة عالية.
شبك أبو زيد ذراعيه على صدره، وبدا وكما لو كان يحدث نفسه مناجيا زافرا: ماذا أفعل؟
هنا انشغل يونس بالبحث عن بقايا زاد أبي زيد من تمر ولبن ولحم القديد المجفف، الذي لا يخلو منه جرابه، ملتهما في نهم إلى أن عاود الاقتراب منه ومواجهته بالسؤال: أنت تحبها؟
أخفض أبو زيد عينيه مبتعدا وهو في أقصى حالات انفعالاته التي يعرفها عنه يونس: أجل يا يونس يا بني.
وساد صمت طويل بينهما لم يقطعه سوى صهيل فرقة الفرسان المصاحبة ليونس الرابضة على أبواب قلعة يثرب المهجورة بانتظارهما.
ولم يتمكن أبو زيد الهلالي من إقناع يونس بتركه والعودة إلى نجد، وإبلاغ السلطان والجميع بعدم العثور عليه - أي على أبي زيد - بعد أن أخبره يونس بغضب السلطان حسن والجميع لتغيبه، وخاصة حاكم العراق الخفاجا عامر، وأيضا دياب بن غانم صديق صباه ومدى صعوبة المأزق والحرج اللذين اعتريا الجميع في نجد. - الجميع يسألون عنك، قف.
هنا لم يجد أبو زيد بدا من العودة.
وخلال الطريق أطلع أبو زيد يونس على ما يعانيه، ولم يكن يخفي عنه خافية، برغم صغر سنه فإنه كان يصطفيه ويصطحبه عبر رحلاته ومغامراته، بل إن أبا زيد هو الذي دربه بنفسه على الفروسية منذ مطلع شبابه، وما تستلزمه من معرفة عميقة موثقة بالكثير من الأمور والعلوم، ما بين إلمام كبير بجغرافية البلدان وطبائع القبائل والأقوام ولهجاتها ولغاتها واختلاف الألسن والطبائع ووصف المسالك من أرضية جبلية لصحراوية وبحرية وأقصرها توصلا للغاية.
كما كان دائم الحديث معه خاصة عن تاريخ عرب نجد والجزيرة الهلاليين، وحروبهم وفتوحاتهم وغزواتهم من مشرق الأرض إلى مغربها.
إلى أن وصل الحديث بينهما إلى أحد الفتوحات الهامة التي أوكل والده السلطان حسن قيادتها إليه، أي إلى أبي زيد، وشملت شبه القارة الهندية وآسيا الصغرى. وكان في مثل سنه - 25 عاما - منجرف الحماس والتوقد، كل مبتغاه هو الإعلاء من شأن الهلاليين دون انتكاسة واحدة تودي بحياة الآلاف المؤلفة من محاربي الهلالية، فيصبح مضغة في أفواه نسائهن قبل الرجال.
وأصغى يونس بكل حواسه إلى أبي زيد مقاربا وهما يقطعان السهول والوديان عائدين إلى نجد مندهشا إلى أقصى حد.
فلقد كان يظن - قبل هذه الرحلة - أنه على دراية بما وهن من تفاصيل ودقائق، خاله أبي زيد وحياته، لكنه بدا في عينيه هذه المرة مختلفا وكأنه يصطحبه ويراه ويستطلعه لأول مرة. - ما الخبر؟
دعني أتخفف معك يا يونس دون مقاطعة، وسأترك لك الحكم والمشورة بعد معرفة ذلك الدافع البغيض المخجل حقا الذي دفعني إلى الاختفاء عن عينها على هذا النحو المزري المشين.
قاطعه يونس: تقصد الأميرة العالية؟ - نعم يا يونس، هي وحدها دون غيرها من نساء العالمين.
ترجلا لأخذ لحظات من الراحة داخل بستان متشابك الأشجار يفيض بمختلف صنوف الفاكهة والزهور البرية على غير المألوف. - العالية بنت جابر ونصلا عينيها الناريتين اللتين واجهتني بهما منذ لحظة ترجلها من هودجها في أثر والدها الأمير جابر، حين مددت لها يدي مسلما ووالدك السلطان ينطق اسمي لها مقدما: أبو زيد الهلالي سلامة.
ووصل الانبهار بأبي زيد حين عاجله يونس مقاطعا وكأنه يكمل له تفاصيل ما خفي عنه قائلا: رأيت كل شيء، أتعرف ماذا حدث؟ - ماذا؟ - أغمي على الأميرة، وهي تخطو في أثر والدها عتبة الديوان، واحتضنتها أمي وطفاء إلى أن أدخلتها فراشها باكية.
غمغم أبو زيد: منذ التقينا.
واصل يونس متذكرا: لحظتها بالتحديد اختفيت أنت وكأن أرض الله الواسعة انفتحت من تحت قدميك.
أكمل أبو زيد متندما مبتعدا: أجل يا يونس، فلعل خناجر الأعداء وسيوفهم أكثر رحمة وسلامة من عينيها!
هنا وصل العجب بيونس مداه، وهو يقارب أبا زيد مستطلعا ليقف منه على جلية الأمر سائلا: أتعرفها؟ - تقصد العالية؟ - أجل. - نعم أعرفها يا يونس، قتلت شقيقيها الأميرين عقيل وزيد؛ أولهما بشمال الهند والثاني بسرنديب.
سأل يونس وهو يعاود قراءة تعبير وجهه مغمغما: أليس هذا سببا كافيا لمعرفتها؟
وساد صمت طويل ثقيل مفعم بالأسى بين يونس وأبي زيد.
وحين عاودا امتطاء حصانيهما وجدا المسير في قطع الروابي والسهول المحيطة بنجد، أكمل أبو زيد ليونس مطلعا إياه على الكيفية التي صاحبت قتله لشقيقي العالية بنت جابر بالهند وسرنديب.
لقد وصل الشره بأولهما وهو الأمير عقيل للحصول على كنوز الأسلاب والسبي التي وقعت في أيدي الهلالية مما تزخر به قصور الهند والتركستان من ثمين الجواهر وعروش ملوكها ومهراجاتها وأمرائها، من أطنان الذهب وغالي الأحجار الكريمة من ياقوت وبلخش وزمرد وأكداس المال والسيوف المهندة؛ فاندفع بأقصى طاقات شرهه يطالب أبا زيد بحراستها مع «البوش» ومؤن الحرب والأسرى.
حتى إذا ما حقق له أبو زيد مبتغاه لم يصن الأمانة وحاول في صباح أحد الأيام الهرب بما استطاعت كتائبه حمله والفرار.
وما إن تواترت الأخبار إلى أبي زيد بفعلته حتى جد السير في أثره برا وبحرا، إلى أن تمكن من إيقاعه وكتائبه في الأسر. هنا لم يكتف عقيل بما حدث، بل شهر سيفه في وجه أبي زيد محاولا طعنه من الخلف، فما كان من أبي زيد إلا أن نازله وقطع رأسه، ليصبح عبرة لمن تسول له نفسه من زعماء القبائل المتحالفة نهب أموال الهلالية دون حق.
أما الأخ الثاني - الأصغر - زيد، فقد رفض الواقعة من أساسها، محاولا إثارة الفتن الجانبية والإنقاص من قدر أبي زيد جهارا، متهما إياه - أي أبي زيد - بأنه مجرد عبد بني الزحلان الذميم ليس إلا، إلى أن تسلل ذات ليلة محاولا الانتقام لأخيه الأكبر الأمير عقيل، والتوصل إلى مضارب أبي زيد واغتياله، وبالطبع استيقظ أبو زيد مع لحظة إطباقه عليه، فهب من فراشه قافزا إلى حسامه ونازله على مرأى من حراسه الغاضبين بعد أن حال بينهم وبين قتله سوى بالمنازلة وجها لوجه في تلك الليلة الحالكة الظلمة إلى أن تمكن منه أبو زيد فقتله.
وأنهى أبو زيد كلامه ليونس بأن ذلك ما حدث.
وطمأنه يونس قائلا: تخطاك العيب يا خال أبو زيد.
إلا أن يونس أعاد سؤاله له: لكن، هل تعرفها؟ - تقصد الأميرة العالية؟ - نعم. - لم أرها قبل اختفائي البتة. - لكنك أدركت ما بها. - لا أعرف يا يونس، كل ما أعرفه هو عيناها اللتان أشهرتهما في وجهي كمثل حدي نصل، هنا اعترتني أقصى لحظات الخجل المحمل بالذنب الذي دفع بي دفعا إلى الاختباء عدوا إلى قلعة يثرب.
وحين أشرفا على سهول نجد المرية، واصل يونس هزله لأبي زيد منبهرا من أصالته وعمق مشاعره، وهو الذي لم تقهره أعتى الجيوش المدججة لكن قهرته امرأة، قائلا: إنه الحب يا خال. •••
ما إن وقعت عينا السلطان حسن بن سرحان على ابنه الأمير يونس مقبلا وحده عليه وعلى من معه، حتى هب من فوره لاستقباله متلهفا سائلا في حدة: أين الأمير أبو زيد؟
طمأنه يونس من فوره: خالي أبو زيد في الطريق إلى هنا.
وتنفس جميع من في المجلس الصعداء، وأولهم دياب بن غانم وحاكم العراق الخفاجا عامر - أبو ذوابة - والقاضي بدير، وحتى الأمير جابر - والد العالية - اكتسى وجهه بالاطمئنان حين علم بمجيء أبي زيد.
وعلى الفور اختلى السلطان حسن بابنه يونس منسحبا من مجلسه وقاربه مسلطا عينيه في حدقتي عيني يونس ثائرا: اصدقني القول يا يونس، ما الخبر؟ ما الذي دفع بأبي زيد إلى الاختفاء؟
ولما لم ينطق يونس بجواب، قاربه والده أكثر حدة وهو يضع قبضتي يديه حول عنقه: انطق، ماذا حدث؟
هنا داعب يونس والده مطمئنا مترددا: خالي أبو زيد فقط يغير ملابسه للقدوم إلى هنا. مشيرا إلى الطريق.
شدد السلطان حسن من قبضته حول عنقه: أنا أسألك، انطق، ما الخبر؟
هنا لم يجد يونس بدا من الإفصاح همسا في أذني والده السلطان حسن متحرجا: الأميرة العالية. - العالية؟
تراخت قبضتا السلطان متراجعا مفكرا مستغربا وكأنه يسترجع تلك اللحظة الدهر، حين استقبلها مترجلة من هودجها مقدما إياها إلى أبي زيد الهلالي. - هاه، تذكرت.
وبدا السلطان وكما لو كان يخفي ضحكه عن ابنه يونس، إلا أنه غمغم متسائلا: هكذا الأمر! غرايب! هي أيضا العالية سألت عن ذلك الماكر المارق والدتك ثلاث مرات، أين الأمير أبو زيد؟ أين أبو زيد؟
وحين استدار السلطان حسن عائدا إلى ديوانه ومجلسه لحق به يونس مواجها: خالي أبو زيد حكى لي خلال الطريق عن صحة ما حدث منه في الهند وسرنديب لشقيقيها الأميرين عقيل وزيد.
وانفلت السلطان حسن مندفعا وهو يرمق ابنه يونس مطمئنا: طبعا أذكر، أعرف.
وكمن قرر أمرا غمغم مسرا ليونس منسحبا: والخيرة في جمع الشمل.
وتفهم يونس مغزى مقولة والده مندهشا منشرحا غير مصدق.
وعلى الفور سمعت من الخارج ضجة عالية صاحبت دخول أبي زيد منكسا مرتبكا على غير عاداته وما عرف عنه، ومن فوره تقدم جاثيا عند ركبتي الأمير طاعن السن جابر الأقرب إلى أن يصبح ضريرا، وهب الأمير جابر يمد يده عابثا في خصلات شعر أبي زيد بعنف ينبئ عن مدى تكتم ما يعتمل في أعماقه من انفعالات عنيفة متضاربة: عمي الأمير جابر، الآن تحقق حلم السنين الطوال في أن تكتحل عيناي برؤيتك ومشاهدة سماحتك.
كل هذا ودياب بن غانم يقاربهما دهشا من تصرف أبي زيد في تجاهله على هذا النحو وبعد طول افتراق وهما الصديقان القديمان اللذان وثقت الأيام والسنون بمحنها وانتصاراتها ما بينهما إلى حد يصعب تجاهله على هذا النحو.
إلا أن أبا زيد تنبه من فوره مستديرا محتضنا دياب بن غانم مقبلا طويلا: أخي وصديق عمري دياب.
متقدما لائما والده العزيز الأمير غانم، والخفاجا عامر وزيدان شيخ الشباب والقاضي بدير، والجميع في لهفة حقيقية محملة بكل تعبير الأسف العميق لتغيبه عنهم جميعا وهم ضيوفه في نجد المرية، لحين دخول السلطان حسن منشرحا قليلا معابثا أبا زيد والجميع: يبدو أن فارسنا أبا زيد يفكر أخيرا جديا في استكمال نصف دينه.
في ذات اللحظة التي أخذ فيها أبو زيد مكانه ملاصقا لعمه الأمير جابر منكسا مضطربا معانيا قليلا في صعوبة لم يعهدها قبلا قائلا: عمي الأمير جابر، أطلب مغفرتك مدى العمر!
ولعلها كانت اللحظة، ويمكن القول الحالة الوحيدة التي يشهد فيها جميع من احتواهم ذلك المجلس أبا زيد فارس الهلالية على هذا النحو من الاضطراب والحنو، وفي مثل تلك المناسبة وهو تقبل العزاء في رحيل الأميرة الأم قائدة الهلالية - الشماء - الذي امتد أياما طويلة.
ومن جديد ساد صمت عميق في المجلس، امتدت خلاله يد الأمير جابر - والد العالية - وكأنها تبحث عن جدائل شعر أبي زيد لتعمل فيها وكما لو كان أبا رحيما يداعب طفله في حنو، بينما تقاطعت دموع الأمير الشيخ على وجنتيه، وأبو زيد يجففها لائما بمنديله متحسسا بكفتيه جبهته وجفون عينيه المسبلتين الآسيتين.
ودارت أقداح القهوة العربية في ذات الصمت المترقب، الذي قطعه دخول الأمراء الثلاثة يونس ومرعي ويحيى، مقاربين أبا زيد الهلالي سلامة، مسرين في أذنه همسا برغبة والدتهم الأميرة «نوفلة» - أخت دياب بن غانم - في رؤيته داخل ديوان عزاء الحريم لحظة ويعود بعدها إلى ضيوفه.
وتشددوا في مطلبهم وهم يجذبونه إلى أن انتصب أبو زيد واقفا مستأذنا منسحبا في أقصى اضطرابه واكفهراره، مما دفع بدياب بن غانم إلى تكتم ضحكاته العالية المدوية في صعوبة مداعبا: غرايب! أبو زيد الهلالي يبدو رقيقا خجلا على هذا النحو مثل بقية خلق الله! غرايب!
وضاعف من مداعباته حين اعترضه منسحبا قائلا: وأنا، آجي؟ لا أحد يريدني.
وعلت الضحكات المتكتمة مما يحدث: من يصدق أن هذا بعينه أبو زيد؟ أية حيلة؟!
هنا اندفع أبو زيد داخلا إلى ديوان الحريم - أو المحصنات - والتقت عيناه من جديد بعيني العالية بنت جابر جالسة في انكماش إلى جانب الأميرة نوفلة، حتى اعتراه من جديد الاضطراب الذي سبق أن دفع به إلى الاختباء، فتوقف متعثرا منكسا في عتبة الديوان، إلى أن قاربته نوفلة وهي تسحب إلى الخلف منها العالية شبه دامعة: العالية ابنة عمك الأمير جابر.
وحين لامست قبضته يدها أحس وخزا كمثل حربة همجية مست بنصلها شغاف قلبه، وغمغم منكسا: العالية بنت عمي.
أجلسته الأميرة نوفلة، وهو منقاد لها كطفل صغير يسلم قياده إلى أمه مسلوبا من كل إرادة إلى جوارها، فحط منزويا من فوره: لحمي.
وكما لو أن العالية بدورها ترصدت بجلاء وتفهم حصيف ما يعانيه فارس الهلالية، فراحت تتأمله من تحت أهدابها خلسة لدرجة أن النساء الهلاليات والعامريات تزاحمن متفجرات بكل دهشة وانبهار، مما تختلسه عيونهن من خلف الشبابيك والمشربيات والستائر المسدلة، خاصة وقد تناولت العالية بنت جابر تفاحة من أطباق الفاكهة والحلوى التي تقدمت بها الجاريات ومضت تقشرها له بسكينها مقدمة في حنو.
فبدى المشهد للهلاليات والعامريات كمثل يوسف مع امرأة عزيز مصر، حين غالبها البكاء أمام صديقاتها من النساء بكت زليخة وقالت:
عشت في الذل لمتوني
في حب يوسف يا بني يعقوب
لمتوني ...
ولما جالها البيض في أوان عصر
ومالوا وقالوا لها
فين يا زليخة اللي عليه البيان سكين؟
ما فتحت لهم زليخة الباب
ما خرطت يدهم سكين
قالت لهم
أهو يا مساكين اللي عليه لمتوني.
بدا مشهد «العالية وأبو زيد الهلالي» تحت إضاءات الشموع الخابية، باهرا من وجهة نظر الفتيات المتلصصات في حذر، وأولهن الجازية التي اعتراها ذبول كمثل غصن يتخلى عنوة عن رحيقه: أبو زيد. •••
كانت الأميرة «نور بارق» أو «الجازية» تحب من أعماقها أبا زيد منذ أن التقت عيناها به عقب عودته إلى نجد ومضارب الهلالية كفارس في مطلع شبابه المبكر، وهو الذي تربى يتيما في منفاه لدى قبائل بني الزحلان على مشارف بقاع بلاد الشام منذ مولده كطفل جاء كعنترة على غير لون آبائه ويدعى بركات، لحين تحقق انتصاراته وذيوع صيته الذي عم ربوع جزيرة العرب بأسرها عقب غزواته ومنازلاته وملاحمه التي عرفت عنه.
وكان أكثر ما يلهب حب الجازية لأبي زيد عقب عودته إلى دفء القبيلة لينصب فارسها الأول، هو ذكاؤه الخارق وسعة علمه ومعارفه التي لا حد ولا نهاية لمدى عمقها وتشعبها وطاقاتها، وهو الذي ينطق عن جدارة بمعظم إن لم يكن الألسنة واللغات واللهجات المتداولة على ألسن الأعداء قبل الحلفاء.
وكانت الجازية تنصت له وهو يتحدث معلما ومحاضرا، سواء في الفروسية وأصولها أو في طبائع الأقوام والبلدان والأسفار وعادات الشعوب والأمم التي زارها محاربا وسائحا ومغامرا جوابا ومتخفيا.
كانت تذوب حبا وهي تشهد منازلاته وإيماءاته وتفتحاته وتبدياته تحت مختلف جلود البشر؛ ما بين كاهن تطغى لحيته على صدره، أو شاعر جوال وكهل أعمى، وسائس «خيل الأجاويد»، وشحاذ سائل، وحاو يلعب بالبيضة والأرنب، وحكيم جوال عبر النجوع والبوادي يشفي المرضى والمعلولين ويناصر الضعفاء.
كل هذا وأكثر منه حقق به أبو زيد الانتصار تلو الانتصار للهلالية كما شهدته الجازية على يديها ... بل ما تعلمته منه، حيث كان يصب الكلام في أذنيها قائلا: يا نور يا بنة عمي، أنا صحيح سككي كلها مسالك، لكن المهم هنا هو أقصرها لتحقيق انتصار الهلالية الآن بأسرع من انطباق الجفن على الجفن.
كان ما يبهرها فيه هو فيض معرفته وهو يحادثها عن تاريخ العرب - العاربة - ومآثرهم عن ملوك وتباعنة اليمن، وبحر العرب من مخلفات القدماء من صرواح وطرواح وبقايا الآراميين والثموديين والسبئيين وملكتهم بلقيس بنت الهدهاد، عن بطولات الذباء والزرقاء، وقيم وبطولات النساء العربيات الأمازونيات - المقاتلات .
عن أطلال بعلبك وبوابات صور وقرطاج التي فتحها القائد العربي «هاني بال» أو «هاني بعل» وفتوحاته في جنوب أوروبا وبلاد الغال التي أوصلت الخيول والجمال والأفيال العربية إلى أقصى أصقاع أوروبا.
وكان يصل بالحديث معها عن أسفاره وجولاته في بحار الله المتلاطمة ليصل في نهاية المطاف إلى جزيرة في بلاد القوط، وإلى قطعة سلاح جديدة في نيوقوسيا أو التركستان تحقق بالاستحواذ عليها وعلى أسرار صناعتها النصر للهلالية.
قد تكون غايته حارة في صعيد مصر، أو بلبيس بدلتا مصر، وقد تكون جادة في دمشق ومراكش والأندلس.
كان يحلو للجازية تحضير طعامه عقب المعارك وطرح أسئلتها وإطلاق عنان حديثه العذب الواضح الطلي، وكان في كل مرة ينهي حديثه لها بمقولته الشهيرة: «بلاد العرب للعرب.»
وينشد:
لا يكتم الأسرار غير الأصايل
ولا يكشف الأخبار غير خائن
رديء الأصول من قوم أراذل
أنا أبو زيد من أهل عامر
وأمي شريفة من خيار القبائل.
وكان لا يقدم وحده أبدا على تناول طعامه:
يا ست زاد اثنين يكفي ثلاثة
ويكفي أربعة يا ست والكل راجع
ويكفي لخمسة من أجاويد حينا
ويكفي لستة من هلال السمايح.
لكم تمنت وحلمت طويلا باليوم الذي تصبح فيه زوجة لأبي زيد، ولكنه حلم - هي الجازية - تعرف قبل غيرها مدى وعورته بإزاء متطلبات التحالف ونبذ البغضاء والانقسامات والعداء بين القبائل، التي قاسمها هنا هو الزواج السياسي وصلات رحم الدم في السلم قبل الحرب. •••
فتحت الجازية عينها كمن انتزعت كالمشدودة من سباتها ذلك الطلي، لتشهد أبا زيد إلى جوار العالية بنت جابر قاتل شقيقيها وهي - أي العالية - تطعمه من بين أناملها في سماحة. - يا لله!
حب أبي زيد للأميرة العالية بنت جابر
لم ينجح في الوصول إلى مقر ومخبأ أبي زيد الهلالي سوى الأمير الشاب يونس الابن الأكبر للسلطان حسن بن سرحان حين جد في ترصد خطاه والبحث عنه، تنفيذا لوصية والده المثقل بالأحزان على موت والدته الأميرة شماء بنجد، وما صاحب موتها من تكاثر الوفود القادمة من كل كيان وموطن وصوب للمشاركة في العزاء والوقوف على وصية الأميرة - الأم - قائدة التحالف الهلالي، وحيث اضطلعت الأميرة نور بارق أو الجازية باتخاذ مكانها في القيادة «المشورة والمحاربين».
وكان السلطان قد استدعى ولده يونس واحتد في وجهه صارخا: الجميع يسألون عن أبي زيد، أين أخبئ وجهي من الضيوف والمعزين يا يونس؟
ثم قاربه محتدا عاصفا: لن تعود إلى هنا إلا بصحبة ذلك الماكر أبي زيد.
كان السلطان حسن على دراية بمدى الحب الجارف الذي يكنه أبو زيد الهلالي لولده الأكبر يونس، وكيف أنه لا يرفض له طلبا، كما كان على دراية بمدى معرفة يونس بكل صغيرة وكبيرة في حياة أبي زيد وخفاياه التي لا تنتهي.
ومن فوره اصطحب يونس كوكبة من فرسانه وأطلق العنان لحصانه في مقدمتهم، بحثا عن أبي زيد في كل مكان إلى أن فتح عليه مخبأه السرى داخل أغوار وسراديب أشلاء حصن قديم مهجور على أطراف «يثرب» يقال إنه حصن آخر ملوك «التباعنة» جمع تبع، وهو الملك سيف بن ذي يزن، الذي بناه وزيره، الذي كان قد أعطى المدينة اسمها «يثرب».
ذلك أن يونس اندفع من فوره، ومنذ أن أعلمه أبو زيد بمدى حبه الذي تفجر للعالية منذ الومضة الأولى للقائهما، وقبل أن يصل اسمها إلى أسماعه ينطق والده السلطان حسن: الأميرة العالية بنت جابر.
فاعترته الرعدة التي لم يحسها وصادفها يوما في أجيج معاركه وهنا، ففر هاربا إلى منفاه.
انطلق يونس من فوره يعمل متحركا محققا لأبي زيد رغبته في نيل محبوبته، وبدء صفحة جديدة في تاريخ الهلالية، قوامها التلاحم ونبذ البغضاء التي تفت كمثل داء متغلغل في عظام الجسد الواحد.
وهكذا أسر يونس في أذن والده نبأ لقاء العالية وأبي زيد داخل ديوان الحريم وحبهما المتبادل واتفاقهما على الزواج. - على خيرة الله.
ومن فوره فاتح السلطان حسن ابن عمه الأكبر الأمير جابر لإعلان خطبة أبي زيد لابنته الأميرة العالية. ومن جديد تزاحمت دموع الأمير الشيخ الضرير جابر - والد العالية - دون أن يفصح عن جواب، لحين تدخل الأمير غانم والد دياب وبقية الموجودين في الحث والإسراع بجمع الشمل، توثبا للخطوات الجديدة الملحة التي أصبحت تدفع بالهلاليين اليوم قبل غد، إلى التخطيط بعيدا حسب وصية الأميرة الأم المتوفاة «شماء» دونما التفاتة إلى الوراء. - الخيرة فيما اختاره الله يا عرب.
على هذا النحو صدرت موافقة الأمير جابر ومباركته للزواج المرتقب الذي يضع الحب مكان البغضاء.
هنا اندفع السلطان حسن بنفسه منتصبا آخذا طريقه إلى داخل ديوان المحصنات من نساء الهلالية، حتى إذا ما وقعت عيناه على أبي زيد في اكفهراره جالسا إلى جانب العالية بجمالها المشع الباهر، لم يتمالك نفسه من تقبيلهما معا مهنئا والعودة بأبي زيد معابثا: ألن تشبع منها وتكتفي من مجالسة النساء الجميلات؟ تعال.
وختمت الليلة بقراءة الفاتحة وإعلان الخطبة وشهودها والاتفاق على عقد الزواج عقب انقضاء موسم العزاء والجنازة على موت الأميرة الأم الذي امتد أربعين يوما بتمامها. •••
هنا تنفس الأمير دياب بن غانم فارس تحالف عرب الجنوب - القحطانيين - الصعداء، وأصبح الطريق أمامه مفتوحا على مصراعيه لطلب يد الأميرة نور بارق أو الجازية، خاصة بعدما تخلى عنها أبو زيد بحبه الجديد للعالية، وما أشيع عن عمق صداقتهما وتعلق الجازية به وبأفكاره وشخصه وخططه حربا وسلما عامة، مما جعل دياب يرجئ الطلب في كل مناسبة سنحت قبلا.
خاصة وأن الجازية أخذت مكان والدتها الأميرة الأم شماء، في القيادة والاستحواذ على ثلث المشورة وحدها لعرب بني هلال.
لذا فبزواج دياب بن غانم من الجازية يمكن تحقيق بعض التوافق والتوازن بين قطبي التحالف، الذي ترجح فيه كفة العرب العدنانيين أو القيسيين الشماليين ومركزهم على أشقائهم الجنوبيين القحطانيين أو اليقطانيين الذين يتزعمهم دياب بن غانم الزغبي.
أما بالنسبة إلى أبي زيد، فلقد كان دياب يحس على الدوام موقعه تحت الظل بإزائه، صحيح أن أبا زيد يفوقه حقا حنكة ومعرفة في رسم الخطط والتحايل والخداع المحنك للإيقاع بأعداء الهلالية، إلا أن دياب بن غانم الزغبي الأقدر منه جلدا على الشجاعة والقتال، وتغنى الشعراء بثقل حربته، فله على الدوام الباع الأكبر في تحقيق الانتصار سواء في أواسط آسيا أو على ما تسميهم السيرة بالأعاجم، وهو القائل عن نفسه: أتى دياب الخيل ذباح الفوارس.
فدأبت السيرة على أن تصفه عقب كل انتصار حين يعود ضرجا بالدم كمثل شقيقه؛ الأرجوان الأحمر القاني، منشدا:
مقالات الفتى الزغبي دياب
ولي عزم كما الصقر الأصم
ولي همة كهمة ليث غاب
أنا الزغبي دياب المسمى.
بل كثيرا ما أكرمه أبو زيد ذاته منشدا:
كم واقعة أشفيت هلال
أنت يا ذكي الجدود!
فما أروع احتفاء السيرة ببطولات دياب بن غانم! ومن أسمائه أبو موسى، فكان عادة ما ينوط به الهلاليون إنزال الانتقام لكبار شهدائهم:
أسألك يا إلهي أكون طيرا
عقابا كيما أخفق بالجناح
أطير بهمتي وأنزل سريعا
وأعدى بين مشتبك الرماح
لأخذ الثأر عن خالي بدير
وبدر وأخوه زيدان الرياحي.
كما أن من مفاخره:
قال أبو موسى دياب المفتخر
فارس الهيجاء خيال الوعر
حامي الزينات سور المحصنات
مفرج الكربات في يوم العسر.
فإذا ما كان أبو زيد الهلالي هو الرأس المفكر للهلالية، سواء في وضع الخطط الحربية والاتجاه إلى أقصر المسالك لتحقيق الانتصار، فإن دياب بن غانم هو الذراع المنتقمة الضاربة، وفي كل واقعة خاضها الهلاليون مشرقا ومغربا.
لكن برغم كل ذلك كان دياب بن غانم يعاني على الدوام من غبن مشاعر وأحاسيس الرجل الثاني بالمقارنة بأبي زيد الهلالي، سواء من حيث اتساع علم أبي زيد أو رؤيته وإتقانه للغات واللهجات والتحايل والخداع التي تتطلبها الحروب، وسواء من حيث إلمامه بالمسالك والخرائط وعلوم زجر الطير والكيمياء والمعادن والفلك.
يضاف إلى كل ذلك تفوق أبي زيد الهلالي في المعرفة بالطرق البحرية وعلوم البحر، الذي ظل دياب على عداء معه - أي البحر - فهو كبدوي يخافه ويخشى ركوبه، بل ومجرد الاقتراب من شواطئه بفرسته الشهيرة الخضراء.
ولكم تندر النجديون وعرب الشمال عامة من تخوف دياب من البحر وركوبه!
بل إن هناك واقعة شهيرة أضحكت الجميع وخاصة الجازية ذاتها، حدثت لدياب بن غانم بسورية الشمالية التي سبق لدياب افتتاحها والوصول إلى حلب الشهباء وقتل حاكمها المدعو «بدريس».
فكان بحلب تاجر جشع كبير من أتباع صاحب جزيرة قبرص المدعو بالملك الهراس، لما نهب دياب تجارته الواسعة أراد الانتقام من دياب بالاتفاق مع ملك قبرص الذي من فوره أرسل إلى دياب ثلاثة محتالين محملين بالهدايا الباهرة الثمينة، نزلوا اللاذقية مقتفين آثار بني هلال، إلى أن وصلوا مقر الأمير دياب في مدينة «حماة الأطلال».
وفي المساء حملوا هداياهم الثمينة الغالية معهم إلى قصر دياب، ومن بينها سيف معقرب وخنجر من ذهب، وإبريق من جوهر، وثلاثة مماليك يساوي الواحد منهم أكثر من ألف دينار.
وعندما دخلوا ديوان الأمير دياب وقدموا الهدايا رحب بهم وسألهم عن حالهم، فقال كبيرهم: نحن ثلاثة إخوة يا أمير، ونهبت تجارتنا العظيمة في اللاذقية التي نهبها مع عشرة آلاف دينار حاكم حلب «بدريس»، الذي سبق أن قتلته ففرحنا بهذا، إلا أن الجزء الأكبر من تجارتنا ما يزال في حوزة أتباعه باللاذقية.
هنا وصلت الحمية بدياب إلى حد قطعه على نفسه عهدا بإنقاذ ثروتهم وإرجاعها لهم.
فركب الثلاثة هجنهم وركب الأمير بعد العشاء وجدوا السير إلى ظهيرة اليوم التالي حتى أشرفوا على البحر المالح، فسمع دياب صوت دوي الماء مثل الطبل، فداخله الوهم، ورفض النزول معهم إلى مركب البحر التي بها تجارتهم وكنوزهم، فأمرهم بالنزول قائلا: أما أنا فلن أخطو خطوة واحدة.
ثم نزل عن الخضراء شاهرا سيفه منتظرا عودتهم إلى أن عادوا من الغليون، أي المركب، ومعهم خيمة باهرة من الحرير الأصفر مكللة ومطرزة بالدر والجوهر والياقوت والمرجان والزمرد الأخضر.
وختمت حيلتهم بإطباق تلك الخيمة - الفخ - على دياب وقيدوه بالحديد بمساعدة أعوانهم بعدما خدروه بالبنج، وأنزلوه إلى المركب حيث رفعوا المراسي، ولما قطعوا مسافة طويلة في عرض البحر أعطوه مضادا للبنج، فلما نظرهم في قبعاتهم السوداء تعرف على حيلتهم وغدرهم وهو الذي أكرم وفادتهم في قصره.
وما إن وصلوا قبرص حتى أدخلوه مقيدا على ملكها «الهراس»، وكان يمقت العرب فسجنه وأثقل في عذابه.
إلى أن عرف أبو زيد بأسره عند حاكم قبرص فأخذ عشرة فرسان ورحلوا إلى قبرص، فتنكر أبو زيد في ثياب راهب من بيت المقدس يدعى سلامة، والتقى بالملك الهراس وهو يحادثه باليونانية القديمة في مختلف الأمور الفلسفية وأهداه ثلاث شمعات «فيها مخدر»، وطلب منه أن يشفي غليله من دياب بن غانم الذي قتل ولديه في حلب وبيت المقدس.
إلى أن نزلوا إليه في أسره وقيوده، فتقدم منه الراهب سلامة «أبو زيد» إلى أن واجهه في بلائه، ثم رفع يده وضربه كفا أطار الشرر من عينيه! فصاح دياب بقوة: الله يقطع يدك!
فعاجله أبو زيد غامزا: وأنت الله يقطع عمرك من هذا السجن!
وبعد أن تعرف أبو زيد على مسالك سجن دياب الذي يضم اثني عشر ألفا من الأسرى، شكر الملك الهراس متقربا منه بكل الحيل.
وبعد بضعة أيام احتال باستخدام شمعاته ذات المخدر وحجر المغناطيس للوصول إلى دياب وفك أسره وقيوده وفك أسر بقية الأسرى، واستعان بهم في الهجوم ليلا على قصر الملك الهراس وقتله وسبي أمواله التي لا تعد ولا تحصى.
وظل أبو زيد يضحك ويتندر من مخاوف دياب من البحر وهديره خلال رحلة عودتهم البحرية إلى اللاذقية، ومنها إلى مضارب الهلالية في حماة الأطلال، فاستقبلتهم النساء والبنات بالزغاريد والغناء والترحاب والأشعار، إلى أن وصلوا ديوان السلطان حسن بن سرحان.
فأقيمت الولائم لمدة عشرة أيام، وأشيع على كل لسان مدى تخوف دياب بن غانم من البحر وأهواله الذي كم دأب على ذكره دياب: أكره البحر وأخشاه منذ الصغر.
وضحكت الأميرات الهلاليات وتندرن كثيرا بعقدة دياب بن غانم تلك ونوادره مع البحر وأمواجه العاتية، وهو البدوي الذي لم يترب عليه، كما هو الحال مع أبي زيد الذي لا تخفى عنه من المحيط إلى الخليج خافية.
جمع المشورة للهجرة والحرب
وما إن انتهت أيام جنازة الأميرة الأم قائدة الهلالية «شماء» التي تورثتها أختها الصغرى شيما أو نور بارق التي عرفت بالجازية كقائدة للهلالية، حتى عاد الضيوف الزائرون لنجد إلى أوطانهم وكياناتهم وقبائلهم، بعد تدارسهم وصايا الأميرة شماء وأخذ المشورة ومعاودة الجهاد.
عاد حاكم العراق الأعلى الخفاجا عامر ووالد الأمير النجع وابنته «ذوابة»، وعاد الأمير جابر وابنته الفاتنة العالية، وعاد أمير مكة «شكر» بعدما راقت الجازية في عينيه فأقدم على مفاتحة شقيقها السلطان حسن بن سرحان برغبته في الزواج منها، والوقوف تحت رايات الهلالية فيما هم عليه مقبلون.
ولم يجد السلطان حسن جوابا شافيا يرد به على أمير مكة «شكر»، سوى مفاتحتها في الأمر وأخذ مشورتها، وهي التي لها ثلث المشورة تنفرد بها لدى انعقاد اجتماعات ولقاءات «الشورى»، التي عادة ما تعقد قبل الإقدام على اتخاذ القرارات المصيرية من حروب وفتوحات ومنازعات أو هجرات جماعية تصل إلى مئات الألوف، يتقدمهم المحاربون واحتياطيهم وتتبعهم أسرهم إلى أن ينتهي الأمر ب «البوش» من مؤن وسلاح وعتاد وخيول وجمال محملة مع البهائم، بالإضافة إلى أكداس وكنوز الغنائم وأسرى الحرب والجرحى والمصابين والعجائز والمعوقين وهكذا.
فالأمر هنا أقرب إلى أمة متضمنة لدولة محكمة التنظيم مهاجرة وفاتحة ومعربة، فارضة فروضها وأحكامها التي قوامها محبة الله وحفظ شرائعه، والتخلق بأخلاق الكرام بتجنب الإلحاح في الكلام وعثرات اللسان؛ لأن صدور الأحرار قبورها، فمن صان نفسه ملك أمره، ومن باح لم ينجح وزاد ندمه.
أما بالنسبة إلى حكامهم فعليهم الالتزام بالسنن أو «القواعد الهلالية»، التي أسهمت الأميرة الأم «شماء» ووريثتها الجازية والسلطان حسن في إرسائها:
فإياك أن تغفل عن أحوال الرعية، معاملا الكبير والصغير بالسوية، رافعا لشكوى المظلوم حجابك، فاتحا في وجهه بابك، واضعا الأشياء في محلها، والمناصب في يد أهلها. فإذا كانوا على هذه الحال، تستقيم أحوال الرعايا وينتشر العدل في كل مكان، فترعى الذئاب مع الغنم، وتبيت العصافير مع الرخ.
ومن هنا وجد حسن نفسه في مأزق، دفع به - وقبل أي شيء - إلى مفاتحة الجازية وطرح رغبة أمير مكة «شكر» في الزواج منها، علما أن ذات الرغبة لمح لها دياب بن غانم باعتباره الأحق في الزواج منها قبل غيره.
لذا تساءل السلطان حسن الهلالي مترددا محدثا نفسه: والحل؟
إلى أن عثر على ضالته، بطرح الأمر بين يدي صاحبة المشورة أخته الأميرة الجازية، فهي وحدها التي يحق لها الاختيار بالزواج من أحد الأميرين، هي وحدها التي يحق لها قبل أي إنسان آخر التصرف في حياتها ومستقبلها وما يحن إليه قلبها المفعم دوما بالحب للجميع.
صحيح أن الأحقية الأولى في الزواج من الأميرة الجازية هي من نصيب أمير تحالف عرب جنوب جزيرة العرب دياب بن غانم؛ وذلك لضمان توثيق الروابط بين شقي التحالف الهلالي، أي بين النجديين والحجازيين «العدنانيين» وبين قبائل عرب اليمن والجنوب العربي عامة من «القحطانيين»، وقائدهم وفارسهم هنا هو الأمير دياب بن غانم.
بل إن السلطان حسن بن سرحان سبق له فعلا أن قطع على نفسه عهدا بزواج الجازية من دياب بن غانم، وحدث ذلك في مناسبة حفل زواج السلطان حسن نفسه من أخت دياب «الأميرة نوفلة» منذ ما يربو على العشرين عاما، وأنجب منها أبناءه الثلاثة يونس ومرعي ويحيى.
تذكر السلطان حسن عهده ذاك وهو يأخذ طريقه ليلا داخل أبهاء قصره للاجتماع بأخته الجازية ومفاتحتها في الأمر، مقدما المطلبين للأميرين دياب وشكر ورغبتهما في الزواج منها، فما كان من الجازية إلا أن أرجأت في أسى كظيم كلا المطلبين.
وهنا تعرف السلطان حسن بعمق بصيرته مدى ما اعتراها من تحولات أضفت عليها شحوبا أقرب إلى الذبول، عقب لقاء أبي زيد بالعالية بنت جابر وخطبته لها، بل وإتمام الزواج.
وهو الزواج الذي جاء مبسطا خاطفا نتيجة لوقوعه معجلا في أعقاب ما تبقى من شعائر جنازة الأميرة الأم شماء، حيث اقتصر على مجرد عقد القران الذي أبرمه القاضي بدير في حضرته - أي السلطان حسن - حسب رغبة الطرفين خاصة العالية بنت جابر، التي ما زالت تعاني أيضا من مقتل أخويها عقيل وزيد في مجاهل الهند وسرنديب على يد أبي زيد الهلالي حبيبها وزوجها المقبل.
ورغم مباركة الجازية للزواج مفضلة حقن دماء الهلاليين لبعضهم البعض وما قد يجره هذا من سلسلة الانتقامات وبحار الدم الواحد المراق، فإنها أبقت على مأساتها الشخصية وآلامها لافتقاد صديق صباها ومطمح آمالها كأنثى ... أبي زيد.
ثم ها هي أخيرا تجد نفسها نهبا لرغبتين شديدتي التشابه، فإما قبول الزواج بابن عمها دياب وما تتحسسه منه من رغبات دفينة في التسلط برغم إقدامه وفضائله التي لا تنسى للهلاليين، وإما قبول أمير مكة زوجا بما يحقق لها من عناصر قوة جديدة لقبائلها الهلالية خاصة في هذه الظروف العصيبة، وهو ما ضاعف أحزان الجازية إلى حد شل حركتها عن اتخاذ قرار واضح صريح، مفضلة في المحل الأول مصلحة الهلاليين السياسية دون أي اعتبار لمشاعرها كأنثى قبل أن تكون قائدة ومحاربة.
لذا تساءلت الجازية طويلا لنفسها: كيف أتصرف؟
صحيح أنها انشغلت من رأسها لأخمص قدميها في إعادة ترتيب «البيت الهلالي» عقب مهامها الجديدة التي وضعتها في موقع الأم الكبرى للجميع، وبرغم حداثة سنها التي لم تتعد الرابعة والعشرين.
إضافة إلى أخذ الجازية وراثة الأميرة الأم - شماء - والانفراد الأكبر بالقرار، ويا له بالطبع من قرار أصبحت تفرضه الطبيعة المحيطة التي تحط بأثقالها وكوارثها على الهلالية وعرب الجزيرة عامة نتيجة للجدب الذي دخل عامه السادس وقوض كل أخضر ويابس في نجد وما حولها! وهو ما يستلزم الإقدام على الحركة السريعة اليقظة لتجاوز الكارثة التي لا حد لها. - اليوم قبل الغد.
وهو ما أكدته وصية الشماء وقتله الجميع بحثا، مطالبين بالخروج والهجرة ومعاودة الفتوحات قبل فوات الأوان.
لذا فالقرار هنا متروك بانتظار أن تنطق به يوما شفتا الجازية. - الرحيل.
لتنطلق على الفور طبول الحرب الكبيرة المسماة ب «الرجروج»، المتوارثة منذ أيام ملوك العرب القدامى وتباعنتهم، بدءا من يعرب أبي العرب العاربة وعبد شمس بن سبأ وحسان اليماني ومن نسلهم من التباعنة - جمع ملك أو تبع - لذا فالقرار الكبير الملح بالزواج يجيء في رأس الجازية وفي مخيلتها في غير أوانه. ومما زاد الأمر تعقيدا تلك الضغوط بطلب الزواج منها من الأميرين دياب وشكر وهي على هذا النحو؛ من الكدح والطحن اليومي في نجد وما حولها من مدن وكيانات ومضارب تبعد آلاف الفراسخ، وعليها أن تقطعها طولا وعرضا ليل نهار تتلقى سيول الكوارث تلو الكوارث من التي تراكمت في السنوات الأخيرة على عرب الجزيرة.
وهو ما لم يعتقده الهلاليون الذين بدوا على مدى سنين الجدب الأخيرة السبع أقرب إلى عقد منفرط الخرزات بإزاء الكوارث التي حطت والتي أوهنت من سواعدهم الضاربة مشرقا ومغربا، بل والأكثر مرارة هنا هو تمرد حلفائهم عليهم أخذا بمبدأ «وقع الجمل وكثرت سكاكينه».
لذا فالأولوية هنا من وجهة نظر الجازية هو تضميد ما يمكن من جراحات، وترطيب أفواه هدها العطش وجفاف الأفواه من كبيرها لصغيرها لدرجة الإقدام على بيع كنوز الشماء أمها التي «تقطع بمال الغرب وأبوه»، والتي لا نهاية لندرتها، لشراء ما يلزم من ضرورات سد الرمق.
باعها أبو زيد الهلالي في ربوع الهند وتركستان والأندلس وبلاد اليونان ليشتري ما يسد به الأفواه، وباعها دياب بن غانم في بحر العرب لإطعام قبائله المتحالفة.
وتلك كانت فرحة أمها الشماء الكبرى قائلة لكل من طالبها بالإبقاء على بعض ممتلكاتها: هي ملك الناس، تعود إليهم.
حتى إذا ما نضبت كنوز أمها، فتحت هي بنفسها المخازن والمؤن للجميع حسب رغبة السلطان حسن، ولو كانت جبلا لنضب واختل. - ماذا أفعل؟!
قالتها الجازية للسلطان حسن أخيها الأكبر، فتضاعفت حيرته إلى حد عدم الخلود إلى النوم في لحظات قيظ الظهيرة مجيبا: وأنا ماذا أفعل؟ كلاهما ينتظر خطب ودك، دياب وشكر. - لا أعرف!
ويسرت الجازية الطريق لأخيها الأكبر ذاكرة عرضا اسم قاضي القضاة بدير بن فايد، الذي أرسل السلطان في طلبه حيا بسماحته التي عرفت عنه، لإقناع كلا الأميرين الراغبين في الزواج من الجازية بإرجاء الموضوع وتقديم الأكثر أهمية من المشاكل بما يستلزم إتاحة الفرصة للجازية للإشارة بالحل، وما يمكن التعجيل به للخروج من تلك المحنة التي حطت بالهلاليين وحلفائهم.
هنا تبدت حنكة القاضي بدير بن فايد في إرجاء مطلبي كل من دياب بن غانم وشكر: نخلص أولا مما نحن فيه، وليس للأميرة الجازية جناحان خفاقان للطيران.
بل إن القاضي بدير عانى الأمرين خاصة في إقناع دياب بن غانم الذي كان يحفظ عن دراية تعبيرات وجهه، التي لا تعرف رفضا لمطلب له مهما تعالى.
إلا أن القاضي بدير استطاع إثارة فروسيته وحميته: الهلاليون في انتظار حربة دياب بن غانم التي يتغنى بها الشعراء يا أبا موسى.
أما مفاوضات القاضي مع أمير مكة «شكر» فكانت أقل حملا، خاصة وأن «نور بارق» ذاتها أو الجازية كانت كثيرة الحديث عن مآثره، لكن لم يحن الأوان بعد.
وفاجأ أبو زيد الهلالي السلطان حسن والجميع بقطع أيام زواجه بزيارة مضارب السلطان حسن، ومواجهته والجازية والأمير دياب والقاضي بدير وأمير مكة شكر والجميع بأهمية عمل شيء والتخلي عن الأمور الصغيرة الآن؛ لأن الأمر لم يعد يحتمل تأجيلا، خاصة وأطراف مجلس المشورة حاضرون في معظمهم بنجد، ومن سافر منهم يمكن استدعاؤه بشكل معجل للعودة إلى نجد دون تأجيل.
وبالطبع فإن قرني استشعار أبي زيد وعيونه وبصاصيه كانت لا تغيب لحظة عن نبض الناس وآمالهم وما أصبحوا يعانونه عبر تلك السنوات السبع العجاف، التي يبدو أنها اكتملت دورتها بموت الأميرة الأم شماء، للإقدام على عمل شيء كبير عاجل.
وعلى الفور استحضر السلطان حسن جميع مستشاريه وكتبته ومسجليه فحضروا على الفور، وتحول ديوانه إلى خلية عمل ليل نهار في تحضير الرسائل من علنية وسرية لبقية مجلس المشورة للهلاليين المتغيبين في أعماق اليمن ومشارف الشام والعراق، وحمل الرسل الرسائل الموثقة بخاتم السلطان، واندفعوا يقطعون السهول والمراعي والربى، لتنفيذ ما استجد من رغبة في عمل شيء للخروج من المأزق، وإعادة هيبة الهلالية وذراعها الضاربة التي تراخت طويلا طويلا.
وما إن اكتمل نصاب لقاء المشورة بعودة من رحل عن نجد المرية من الأمراء وشيوخ القبائل الهلالية المتحالفة، حتى أقاموا مضاربهم على أطراف وروابي نجد وتلالها التي تحولت من جديد إلى سوق عكاظ ماثلة مستبشرة بتلك الصحوة التي أصبح يعيها الجميع، كبارا وصغارا وشيوخا وشبابا وزوجات وأمهات، من بطون هلال. ومنهم من اضطر إلى الرحيل والعمل سواء في مدن الشام وفلسطين وبلاد السرو أو في عبادة - أي الأردن - ومصر العدية بحثا عن القوت والرزق.
إذن ما إن عقد اجتماع المشورة حتى تحولت المدينة - نجد - بأسواقها القديمة وقلاعها وتلالها إلى خلية نحل هائلة الحركة، فرفعت الأعلام والبيارق والرايات الهلالية.
وازدانت مشارب الشاي والساحات العامة بالشباب المنتظم وكتائبه التي أحسن أبو زيد الهلالي تدريباتهم، حالما انتهت سنوات نفيه لدى القبائل الزحلاوية ببقاع لبنان، وعودته من جديد إلى أهله وقبائله، بل هو نقل وأضاف إلى فنون الحرب والاقتتال البرية والبحرية مما تعلمه وبرع فيه.
وكان الأمير الزحلان قد دفع به إلى كبار معلمي عصره في إعداد الفرسان وتدريبهم فنون الحرب وخداعاتها وحيلها، وما تستلزمه من إلمام بلغة الأعداء ومعرفة طبائع الناس والبلدان والأسلحة، وكيفية نقل الجنود والاقتتال البحري وحصار المدن والسواحل.
حتى إذا ما حقق مراده في العودة إلى أحضان قبائله الهلالية، عاد محملا بخبرات الشعوب البحرية من بقاع لبنان التي تربى بها إلى مطلع شبابه.
فلقد كان فارس الهلالية أبو زيد مولعا منذ صباه المبكر بالسفر والترحال بحثا عن كل جديد، وساعده في هذا وجوده في بيئة بحرية تتيح له الإبحار والتجوال عبر بلاد الله الواسعة الفسيحة مشرقا ومغربا.
ولكم أتاح له البحر الشاسع المدى إطلاق خياله المنتفخ بدوره دون انغلاق وتوقف عند حياة البدو وطبائعهم وخوفهم الدائم منه ومن أمواجه العاتية، كما ساعد أبا زيد الهلالي في غزوه وترحاله الدائم دون توقف معرفته الواسعة بلغات ولهجات وطبائع الشعوب، من قريبة متاخمة إلى بعيدة مترامية لم يسمع بها قبل.
ومن هنا تحقق تفوق أبي زيد نتيجة لأسباب تجاوبه في القيادة ووضع الخطط والتنكر ودراسة وتعرف أنماط حياة كل وأي كيان وقبيلة وبطن عربية، ابتداء من ربوع الشام حيث طرابلس المشرق وانتهاء بطرابلس عرب المغرب.
وهي الخبرات التي حملها إلى نجد معدا بها فيالق الهلاليين وكتائبهم وألويتهم، مستفيدا من تكامل البلدان والكيانات العربية، التي آن أوان توحيدها ولو استدعى الأمر حد السيف، وهو ما عبر عنه ونقله إلى شباب المجاهدين الهلاليين ضد همجية وخرافة العالم القديم.
فما إن قاربت طبول الحرب الهلالية طرقها المدوي من كيان إلى آخر ومن مضرب إلى ما يتخمه، حتى تدخل بعض العقلاء في اجتماع المشورة مطالبين بالتروي، ولو لإعادة مراجعة قرار الهجرة والحرب وما يستلزمه من إعداد ورص للصفوف والمؤن.
فمثل هذا القرار يستلزم معرفة أكثر اتساعا بمسالك الطريق الذي يسلكه الألوف المؤلفة من الهلاليين، وريادته عبر الشام وما بين الرافدين مرورا بفلسطين ومصر وليبيا إلى قرطاج تونس التي يعرفها الهلاليون أكثر من غيرهم، وسبق أن نزلت جحافلهم أرضها الخضراء الوارفة كجنات تغذيها شرايين الأنهار قرونا عقب قرون، حيث أطلقوا عليها «تؤنس»، أي «أنس الغريب».
على هذا النحو استقر الرأي الذي رجحته الأميرة - الأم - الجازية بثلث تفردها بالمشورة قائلة: تؤنس ... قرطاج ... المغرب الذي آن أوان تعريبه.
قال دياب بن غانم مؤكدا: المغرب العربي، بإذن الله.
وهذا هو ذات المعنى الذي نطق به السلطان حسن الهلالي مؤكدا، وتوالت على أثره الأسئلة والتساؤلات، أبرزها أهمية المعرفة والجمع العاجل للجديد، وما استجد من معلومات سواء للأقوام والبلدان التي ستحتاجها جحافل الهلاليين وأحمالهم ومئونتهم وجيشهم في جزيرة العرب، وسواء في مدن الشام وفلسطين ومصر وليبيا إلى أن تصل غرضها فيالقها إلى قرطاج والمغرب العربي، في طريقها بالطبع إلى الأندلس. - أبو زيد ...
هنا جاء دور أبي زيد الذي لم يفق بعد تماما من حبه وزواجه بالعالية بنت جابر - قاتل شقيقيها - ومدى وعوده ورهبة لقائه الأول معها الذي قد تقصر عنده أكبر معاركه ومنازلاته وملاحمه.
صحيح أنه لقاء الحب والرغبة الجارفة الدافقة إلى تحقيقه من دون التطلع إلى الوراء، الذي قد يحوله من فوره إلى بغضاء وكره مدمر أصفر. - أبو زيد ...
فهو وحده الكفيل بالمبادرة في المهام الحيوية مثل الهجرة والحرب.
وأعادت الجازية حرصها على الهلاليين. - فقط لنعرف عن قريب ما استجد، الطريق ...
غمغم القاضي بدير بن فايد: الطريق وريادته.
وأكملت الجازية مؤكدة: الريادة.
وهكذا عادت الأنظار جميعها لتنصب على أبي زيد الذي أطرق من فوره مستجيبا، مفكرا في زوجته العالية التي لم تبرأ بعد من أحزانها وأفراحها، لكن ما العمل ومصلحة وأمن وقوت القبائل الهلالية تهيب به للإسراع في الحركة والعمل المضني، الذي آن أوان تحقيقه إن لم يكن قد تأخر كثيرا. •••
وبالطبع لم تخل جلسة اللقاء من التمثل بالشعر الملحمي الذي عرف عن الهلاليين وأبطالهم، والذي يحوي حكمتهم وبساطة حياتهم وسماحتهم.
فألقيت القصائد والأشعار العامية التي تفيض تمجيدا بمآثر أبطالهم:
أبو زيد بالعربان ليس مثاله
بالجود والمعروف وحسن ثبات
حوى حكمة لقمان وجود حاتم
وصبر أيوب وكل صفات
وحاز خصال الخيرين جميعهم
أمير ابن أمير سيد السادات.
وتعالت معلقات شعر الخفاجا «عامر» حاكم العراق المتفجرة بالأحاسيس القومية الجياشة:
يا أيها الطير الذي طار بالفلا
تسعى إلى الدهر الذي بك طالع
تأكل ربيعا بأرض مصر وزرعها
وتبيض بأرض العراق المواضع.
ومن خارج قصر المشورة الشاهق تعالت التكبيرات والهتافات المدوية.
وهو القصر المشرق بأبهائه ومشربياته وقاعاته العربية المطل على أكبر ساحات نجد الفسيحة المترامية، حيث تجمعت وفود الفرسان المتطلعة حماسا لما يحدث ويجري داخل أروقته وأبهائه الفسيحة، وهو ريادة المغرب وتعريبه، ونشر الحضارة العربية عبر ربوعه، سواء حدث هذا بالتراضي والإقناع أو استلزم الأمر حد السيف.
وتعالت هتافات الدعوة للجهاد، كما ارتفعت الأصوات المطالبة بالإسراع والتعجيل بالرحيل، مما اضطر الجازية إلى حث أخيها السلطان حسن على مواجهة الجموع المتحفزة الثائرة في الخارج، وطرح ما انتهت إليه المشورة.
وحبذ رأي الأميرة الجازية كل من دياب بن غانم وأبي زيد الهلالي قائلا: لا بد من طرح الأمر على الصغير قبل الكبير، ومصارحة الناس بمستقبل مصيرهم ووجودهم بكامله.
ولم يجد السلطان بدا من التدثر بعباءته والخروج إلى الشرفة الكبرى، ليستقبل بالهتافات والترحيب المدوي المعبر عن تعلق جماهير الهلاليين به، حتى في أكثر المناسبات والظروف قوة.
واختتم الهتاف والترحيب بالأشعار والأغاني الجماعية:
يوم العرب نووا مغرب
يوم خميس أبرك الأيام
العرب في تونس تدللو
ملكوها عن الريد للريد
ملكوا علوها والمواطي.
هنا قاطع السلطان حسن الجميع بإعلانه للقرار الذي أجمعت عليه المشورة، وهو الخروج وإعلان الجهاد.
ومن جديد علا تصفيق الاستحسان وتعالت الشعارات ودقت الطبول، وتبادلت الوفود التهاني التي قطعها صوت السلطان حسن معلنا من جديد اضطلاع فارس الهلالية أبي زيد بالمصادرة للخروج أولا لمعرفة الطريق إلى المغرب وريادته لها بصحبة الأمراء الشباب الثلاثة: يونس ومرعي ويحيى.
هنا تعالت التصفيقات مرة أخرى، حين اندفع أبو زيد محييا الفرسان والجموع ممسكا بأيدي الشباب الثلاثة: الريادة.
وحين وصل حماس الفرسان والجموع إلى آخر مداه، ارتفعت على الأثر أصوات طالبي التطوع، والتي سرت مسرى النار في الهشيم في أعصاب الجموع، التي كان قد هدتها وحطت عليها تلك الهدنة المملة الطويلة التي انتكس السلاح فيها إلى حد الصدأ.
تعالت أصوات راغبي التطوع منذ البداية، وتقدم أبو زيد بصحبة يونس لشرح الأمر وإيضاحه باعتبار أنها - أي الريادة - مهمة استطلاعية سرية لكشف ما استجد من أمور ومسالك وحكام جدد واستعدادات دفاعية، تمهيدا للخروج والرحيل وبالتالي القتال.
وارتفع صوت يونس موضحا: تمهيدا للجهاد.
وانتهى اللقاء بين القادة الهلاليين وجموعهم بإسراع الجازية والأمير يونس بفتح الأبواب على مصراعيها وخروج الشباب بأكداس الطعام والشواء التي ارتفعت رائحتها حين آن أوان العشاء، فمدت الموائد والأسمطة المغطاة بأكوام اللحوم والثريد وأطباق الحلوى والفاكهة والمشروبات.
وتبادل الجميع على موائد الطعام الآراء والمعلومات التي عادة ما يختزن المفيد منها حتى ولو جاءت من أبسط الناس، وفقا لتعاليم الشورى الهلالية.
وطغت أمنيات الجموع والفرسان المودعة لأبي زيد والأمراء الثلاثة في مهمتهم الجديدة على الأفواه، مصحوبة بالدعاء والتوفيق وعبارات التكريم الحارة والوداع. - ترجعوا بالسلامة! - النصر! - أقصر المسالك! - تعرفوا على ما يحدث حولنا. - قرطاج للمرة الثانية! - تونس. - تسلحوا بالحكمة والصبر.
إلى أن هب عربي عجوز، وهو سائل غريب الأطوار، ممسكا بين قبضتيه الخشنتين بفخذ من ضأن الماعز مقاربا الأمير يونس رافعا صوته العميق النبرات داعيا: أعدك يا أمير يونس بحب عزيزة بنت سلطان تونس! ودوت التعليقات الساخرة والمتهكمة ... - عزيزة! - نعم، «السفيرة» عزيزة.
مأساة عزيزة وسعدى
ارتفعت أغاني البنات والصبايا متغنية بعزيزة ابنة سلطان تونس «معبد بن باديس»:
أول قوللي على عزيزة
العايقة أم حلق ودلال
يوم العرب خطبوا عزيزة
جاها «المنازع» و«العلام»
وجوها من أهل مكة
من العراق ووادي الشام.
وتلك بالفعل كانت مأساة عزيزة ابنة سلطان تونس الطاعن في السن المريض معبد بن باديس، الذي من نسله انحدر «المعز بن باديس» باني قاهرة المعز.
كانت مأساة أو فاجعة عزيزة تكمن في جمالها الباهر وسعة معرفتها، مما جلب إليها العشرات إثر العشرات من الخطاب وراغبي التقرب منها والفوز بزواجها، متوسلين لتحقيق رغبتهم تلك بكل غال ونفيس وركوب كل صعب يفضي إلى استحواذهم على عزيزة.
أما هي - أي عزيزة - فكانت ترفض في كل مرة مثل هذا المطلب، الذي سيقودها في نهاية المطاف إلى أن تصبح قابعة وظلا لرجل قد لا تعرفه أو تسمع به أو تكن له أية مشاعر.
زوج أو خطيب قد يجيئها مرة من أطراف جزيرة العرب وقد يجيئها من مصر العدية، أو مراكش والأندلس، محملا بأكياس الهدايا التي تنوء تحت ثقلها هوادج الجمال أو المراكب والبواخر، يريد أن يفرغها من فوره على أعتاب قصر أبيها السلطان المسجى على فراشه معبد بن باديس منذ سنين، ليعود بعزيزة إلى بلاده بدلا من المال والهدايا والمجوهرات، وكأن الأمر هنا لا يعدو مجرد صفقة تجارية لا غير.
بل إن والدها ذاته «معبد» أصبح لا يرى في زواجها سوى مجرد تحقيق المزيد من الاستحواذ على عناصر قوة جديدة عن طريق زواج عزيزة من ذلك الحاكم أو ابن ذلك الأمير. وفي مثل هذه الحالات تعتريها ثورة من الغضب كلما عرض عليها قبول زيجة من هذا النوع: عزيزة لن تكون يوما مجرد سلعة سياسية لتحقيق أطماع وتحالفات على حساب سعادتها ليس إلا.
هكذا كانت تصرح لأقرب صديقاتها ووصيفاتها محتدة في معظم حالاتها، وخاصة لصديقة طفولتها وابنة عمها «سعدى» ابنة فارس تونس الأول وحاكمها في غيبة والدها السلطان الذي صرعه المرض الأعوام الطوال، سعدى بنة الزناتي خليفة.
فكانت سعدى توافقها متحمسة بالنسبة إلى موقفها ومشاعرها تلك، وهي التي تربت معها لا تفارقها منذ مهد الطفولة وأيام الدراسة والأسفار لاستكمالها، حيث قضت بضع سنوات بغرناطة بالأندلس وعامين بإسطنبول، حيث ظلتا معا لا تفترقان ليل نهار.
فكانتا تتبادلان معا الأحاديث والآراء، وتصدران التعليقات ذاتها بعدما تلاقت وجهات نظرهما في كل شيء حتى بالنسبة إلى عادات وتقاليد الشعوب والأقوام والحضارات الغربية التي تمر عليهما.
كانت الهواية الأولى لعزيزة هي السفر والترحال دون كلل، تجد فيهما مهربها والنهل الذي منه ترتوي عبر التطواف في المدن والأمصار المختلفة، وكانت دائمة القول لسعدى: المدينة حقا تعلم الإنسان.
ففي تلك اللحظات التي يعن فيها للصديقتين الابتعاد عن تونس بأسرها، وخاصة عاصمتها قرطاج التي أحالها ابن عمهما العلام بن هضيبة إلى سجن كبير؛ كان يحلو لعزيزة إطلاق طاقات خيالها بحثا عن كل جديد تشهده عيناها عبر بلاد الله الواسعة.
كانت لا تكف عن التعليق عما تشهده وتدونه من أحداث ومعالم تجمعات الغرباء، وخاصة الفقراء منهم، عبر أساليب تعبيرهم عن أنفسهم وممارستهم وعلاقاتهم الاجتماعية، سواء تمثلت في موسيقاهم وأغانيهم ورسوماتهم الشعبية والجدارية أو في أزيائهم وتصميماتهم، ومعمارية مساكنهم وشوارعهم وساحاتهم العامة.
أما ذروة فرح العزيزة وابتهاجها فكانت لحظة أن تحط مرساتها مشرفة على مداخل المدن والموانئ البحرية؛ في الأندلس والبسفور وعبر البنادقة - جمع بندقية - وهي المدن الساحلية التي بناها العرب الفينيقيون، وعلى مدن وشواطئ البحر الأبيض، ومنها المدينة التي تعيش فيها قرطاج.
ولم تقتصر رحلات عزيزة على مدن وموانئ وحضارات الغرب، فزارت الشرق كثيرا وعاشت حياته؛ زارت بيروت وطرابلس وصور واللاذقية وحلب الشهباء والإسكندرية. وكان يحلو لها تدوين ملاحظاتها وأفكارها ليلا؛ عن ملامح الناس البسطاء وأزيائهم ولهجاتهم وموسيقاهم ومساكنهم وأسواقهم وحتى أغطية رءوسهم، وكان يحلو لها تأملها واقتناؤها والعودة بها عقب كل رحلة مع ما يعجبها من منسوجات ومجوهرات ورسوم ومنحوتات وأزياء وآلات موسيقية، فتروح تنشغل في تأملها وكيفية عرضها فيما بعد على طول الجدران المرمرية - السوداء - التي شيد منها قصرها المنعزل على روابي قرطاج الفيحاء الكثيفة الخضرة.
فاستحال القصر إلى متحف شاهق انتقت العزيزة عناصره ومحتوياته بحرص شديد، والتي راوحت ما بين أغطية رأس الشعوب وشعورهم أو شعورهن المستعارة ومطرزات دمشق، وأرجوان صور، وعروش مهجورة لملكات يمنيات متآكلة الأخشاب وما دون تحتها من نصوص طريفة، منها ما كتب على قبر الملكة «تدمر بنت حسان بن أذينة»، وأذينة هو اسم والدة الملكة تدمر: خرب الله بيت من خرب بيتي!
فكانت تسافر المسافات الطوال بحثا عن أشعار ومعلقات مزدانة بالمذهبيات لشعراء مندثرين، أمثال السموءل، وأمية بن أبي الصلت، وجليلة بنت مرة، والعنتريات وغيرها، تروح تنشد مقاطعها أمام شمعداناتهم ومراياهم ليلا.
وكثيرا ما استوقفتها سعدى وبعض الصديقات والجواري المقربات سائلات، لتندفع عزيزة من فورها في فيض لا ينتهي من الشرح والإسهاب سواء أكان هذا الموضوع متصلا بالمدونات والمخطوطات العفنة البائدة، أو متصلا بمنحوتات الأحجار الكريمة والرسوم والمنمنمات، أو متصلا ببقايا مومياء متآكلة يفيض مرآها بالرهبة التي تدفع بسعدى خاصة إلى الخوف والرهبة، فكانت تصارح عزيزة بإحساسها فتمضي الأخيرة من جانبها في الاسترسال والحديث والشرح.
ولعل هذه المعرفة المتعطشة دوما إلى كل استزادة ولو أدى الأمر إلى الأسفار والاتصال المباشر بالأشياء من جانب عزيزة، هو ما أفضى إلى اتساع شهرتها والتغني بها وبجمالها الآسر الباهر من جانب الشعراء والمداحين، وأصحاب مسارح خيال الظل التي عرفت باسمها السفيرة عزيزة.
كما أن هذه المعرفة كانت في ذات الوقت مصدر عذابها وعزلتها النفسية عن بني جلدتها، أو حتى بعدها عن الطمع في الاستحواذ على السلطة التي ستئول إليها، بحسب التوارث الأنثوي والطبيعي لعرش تونس وقلاعها السبع بالجزائر والمغرب العربي والأندلس.
بل إن هذا بذاته هو السبب الدافع الكامن والمؤجج لرغبات الاستحواذ عليها من جانب معظم طالبي الزواج منها، الذين رفضتهم بكل عنف كاشفة ومبررة لأبيها طموحاتهم الدفينة.
وهكذا خلا الجو لابن عمها «العلام بن هضيبة» الحاكم الفعلي لتونس وقلاعها، نظرا إلى شبابه وحيويته المتدفقة وقسوته المتجبرة، خاصة مع كل طامع من الغرباء.
خلا الجو للعلام «ليبيض ويفرخ» مستعينا في أحقيته القبائلية في الزواج من ابنة عمه عزيزة، مما ييسر له بالطبع الطريق المفتوح على مصراعيه إلى عرش تونس، الذي نضج وحان قطافه بمجرد أن يلفظ السلطان المعتزل المريض «معبد بن باديس» والدها أنفاسه الواهنة. - العلام.
لكم فكرت عزيزة فيه وانشغلت كثيرا في هذا الأمر، حتى أعياها التفكير دونما التوصل معه إلى سلام أو مهادنة تتيح لها الالتئام النفسي معه والاطمئنان منه! لكن دون جدوى.
وكثيرا ما استعانت عزيزة بصديقتها المقربة سعدى، التي كانت بدورها تكره العلام، ليس فقط لمجرد التعاطف مع عزيزة، لكن بسبب دمويته وتجبره وشهوته العارمة للسلطة والتسلط.
ناهيك عما كانت تسمعه بنفسها من والدها خليفة الزناتي، الذي لم يكن يخفي عنها خافية من صراعه اليومي الطاحن مع العلام ابن أخته، حتى إذا ما انتهى الأمر به في أحضان فراشه، كانت سعدى آخر من يطبق عينيه على خيالها شاكية متأففة منه.
وكم من إهمال وصل بالزناتي الكمد حتى أقصاه، من العلام وأفعاله! وهو الذي أتاح له الوصول إلى قمة السلطة الحاكمة بتونس وقرطاج، إلا أن العلام كان لا يعرف له حدودا يقف عندها حامدا ربه.
فكان كمن يتغذى بالتملك الذي يتيح له مواصلة الصعود والتفوق دون مراعاة كافية لمعلمه وربيبه الزناتي، مما كان يتيح للأخير إحساسا بصنع المعروف في غير أهله.
ومن هنا كانت تعلو شكواه لأقرب مقربيه ابنته سعدى متذمرا شاكيا: هذا العلام الأرقط، المسموم!
وبالطبع تقوم سعدى بنقل نص حديث وتذمر والدها الزناتي صبيحة اليوم التالي لأذني العزيزة، التي يصل بها النفور إلى حد كره تونس بمن فيها، وقد يدفعها الأمر أو الضيق إلى التفكير في السفر والسياحة، أو استعجال المؤجل من برامجها. - لا مهرب لنا يا سعدى يا أختي سوى السفر لكي ننسى.
وتقاطعها سعدى في بعض الأحيان مؤكدة ضرورة عدم دفن الرءوس في الرمال. - كيف نهرب من العلام؟
وينتهي الأمر بعزيزة إلى معاودة انشغالها بمخطوطاتها العفنة، أو مقتنياتها التي عادت بها فرحة من أرض الله الواسعة، أو اختصار الطريق والتجهيز لرحلة بحرية جديدة مشرقا ومغربا. - دعينا ننسى يا سعدى. - لكننا سنعود إن عاجلا أو آجلا إلى تونس.
وتغمغم عزيزة: إلى العلام! - الجلاد!
وكثيرا ما يستحوذ العبث بسعدى فتمضي مغيرة الموقف معابثة عزيزة: لكنه لم يفق بعد من هواك يا عزيزة!
وتغني متندرة:
العلام في هواك يا عزيزة
كل يوم يكسر له حصان.
هنا تدرك عزيزة أن سعدى بدأت تضايقها لتغيظها حين تسألها: أنت أيضا تحبينه يا عزيزة يا حبيبتي. - أنا؟! - أجل أنت. - أحب من؟ - الأمير العلام ابن عمك من لحمك ودمك.
وقد ينتهي الأمر بسعدى في لحظات الصفاء في معاودة مكايدة عزيزة بما تعرفه عنها من رومانتيكية ورغبات جامحة، وقد تلاعبها مصارعة إلى أن تطرحها أرضا ضاحكتين عابثتين.
لكن وفي بعض الأحيان، يصل الحنق بعزيزة من مكائد وعنفوانية العلام بن هضيبة إلى حد يدفع بها دفعا إلى شق ملابسها أمام سعدى، التي سرعان ما يأخذها الموقف وما انتهى إليه فأغضب عزيزة إلى هذا الحد، فتقاربها مصالحة مواسية: أنا لا أقصد شيئا يا عيني يا عزيزة.
هنا تصرخ عزيزة ضائقة: أما من مهرب من هذا السجن الكبير قرطاج، تونس بأكملها؟!
وعادة ما ينتهي الأمر بالسفر البحري متنفسا ولو للتغيير داخل موانئ تونس وقلاعها وتخومها السبعة، لحين انتهاء الرحلة والعودة مرة أخرى إلى الأهل والوطن.
وهكذا بدأت حياة الأميرة عزيزة الباهرة الجمال ابنة سلطان تونس أقرب إلى أن تكون حياة منقسمة أو مزدوجة الشخصية.
فبينما اتسعت شهرتها لتعم الآفاق ليتغنى بها الشعراء وينشدها المداحون وتذكرها مسارح خيال الظل في كل مناسبة ومكان؛ مضت هي تعاني وحدتها القاسية تفاديا للمنغصات والمعوقات التي لم تفرغ منها جعبة العلام يوما أو لحظة.
تنكر «أبو زيد» والفرسان الثلاثة
كان أصعب ما في «الريادة» والعزم على السفر بالنسبة إلى فارس التحالف الهلالي أبي زيد بصحبة الأمراء الشباب الثلاثة يونس ومرعي ويحيى؛ هو كيفية مفاتحة زوجته العالية بنت جابر بالأمر، فما الذي يمكن قوله لها وهي التي لم يمض على زواجها منه، برغم قتله لشقيقيها عقيل وزيد سوى تسعة أيام لا غير؟
صحيح أن أبا زيد أحال تجربة تلك الأيام التسعة إلى ما يقارب تسعة أعوام، تمكن خلالها من ترطيب جراح العالية الغائرة الأبعاد، بطرح تفاصيل وظروف ما حدث منه لشقيقيها في مجاهل الهند وسرنديب منذ زمن مضى وانقضى.
وطالبها أبو زيد في نهاية شرحه لما حدث بأهمية الأخذ بمبدأ أن ما فات مات وانتهى أوانه وأجله، فالأكثر أهمية هنا هو حاضرهما معا، يعانيان مشاكل ما حط على كاهل العرب الهلاليين في السنوات الأخيرة من كوارث لا قبل لهم بها على طول تاريخهم الطويل الحافل: المهم يا عالية يا حبيبتي هو محاولة تغيير واقعنا دون استسلام.
وكم كانت فرحته حين انتفضت العالية بنت جابر كما لو كانت تجفف آخر دموعها قائلة: معك كل الحق يا أبا زيد، المهم هو المستقبل وكيفية تملكه.
ظل أبو زيد طيلة تلك الأيام البسيطة التي اختلى فيها بالعالية ليل نهار يحاول إرغامها على نسيان ما حدث منه لشقيقيها الأميرين عقيل وزيد دون رجعة، وهو لا يكف عن محادثتها والتقرب بكل كيانه منها، كما لو كان على دراية بأن خلوتهما معا قصيرة العمر كزهور الخريف البرية، التي سرعان ما يذويها الغياب والترحال.
وسرعان ما تحقق صائب رأي أبي زيد، حين أجمعت مشورة قادة الهلاليين على الاستنجاد به قبل الإقدام على طرق طبول الحرب إيذانا بالرحيل الجماعي، ولكي يخرج أولا برفقة الأمراء الثلاثة يونس ومرعي ويحيى أبناء السلطان حسن بن سرحان لاستكشاف الطريق وتأمين أخطاره عبر الأقطار والكيانات المتاخمة لنجد والجزيرة العربية عامة وصولا إلى المغرب العربي وتونس الخضراء، قبل الهجرة القارية الجماعية وما تستلزمه من دفاع وحرب.
هكذا رأت الجازية ووافقها الجميع، على أن من الأسلم زيادة الطريق وتعرف مخاطره قبل الخروج الجماعي.
وفي مثل تلك المعضلات التي تعترض الهلالية، فليس هناك أقدر من أبي زيد حنكة وذكاء وحرصا على أمن الجميع الصغير قبل الكبير، من قبائل وبطون بني هلال بمؤنهم ومواشيهم وسعيهم وبيوت وبرهم وعتاد حربهم.
حتى إذا ما حانت ساعة الرحيل لأبي زيد والفرسان الثلاثة، عمت مظاهر الوداع كل مضارب نجد المرية، وتزاحمت الجموع المودعة لأبي زيد ورفاقه وهم يعتلون صهوات خيولهم، مزودين بمؤنهم من زاد ودواء، وقلوب الجميع تخفق لفراقهم خاصة السلطان حسن والعالية زوجة أبي زيد وقائد المشورة والحرب الأميرة الجازية، التي قبلت الجميع في حنو الأم الكبرى: تصحبكم السلامة!
حتى إذا ما أطلقوا العنان لخيولهم إلى أن خبأ ترابهم وتواروا عن الأنظار، عرج بهم أبو زيد الهلالي فجأة مغيرا اتجاهه ساخرا منهم: هل تتصورون أننا سنرود الطريق؟!
هكذا على هذا النحو! واندفع يضحك صاخبا وهو يعدو بحصانه مسابقا الريح: اتبعوني أيها الشباب الذين ما زالت الخبرة والتجربة تنقصكم.
إلى أن انتهى بهم التجوال على مشارف تل مرتفع منعزل، أقيمت إلى جانبه واحدة من الأبنية الخلوية التي يعرف طرازها يونس: خلوة أبي زيد.
وما إن ترجل أبو زيد عن حصانه طارقا، حتى اندفع خادم أو تابع أبي زيد الشهير «أبو القمصان» فاتحا مرحبا بأبي زيد وهو يمازحهم قائلا: أهلا وسهلا بكم، سوف تدخلون هذه الخلوة محملين بالمال والثمين وتخرجون منها شحاذين!
وحين داعبه الأمراء الثلاثة مترجلين داخلين: ربنا يهديك يا أبا القمصان! اندفع عيار أبي زيد العجوز ومعلمه في الخدع ومكمن سره أبو القمصان يقودهم من قاعدة إلى ما يعقبها وهم شبه منومين مسحورين مما تقع عليه عيونهم من محتويات خلوة أبي زيد تلك، وهي أكداس لا نهاية لها من مختلف الأزياء الخاصة بالبدو والفلاحين وسكان الجبال، كثير من الأقنعة الملونة والشعور المستعارة والآلات الموسيقية الشعبية وأزياء الصيادين والصناع والنساء من مختلف الطبقات، ابتداء من الغواني وضاربات الودع والقابلات وانتهاء بالمحجبات من السيدات المحصنات، فضلا عن أزياء وأغطية رءوس للكهنة من أقباط مصر وروم وسريان ومجوس وهلينيين وأناضوليين وأحباش وغيرهم.
بالإضافة إلى ما احتوته قاعات خلوة أبي زيد العالية المترامية الأطراف والقاعات من أشياء حتى دعاها مرعي: بيت جحا كله مسالك!
وعاجله يونس: خرج الخال أبي زيد الذي لا ينضب!
هنا انتصب أبو القمصان هازلا مطلا بسيفه - الخشبي - من أعلى السلم معلنا بزهو: تلميذي، تلميذ الفارس أبي القمصان!
وضحك الجميع حتى أبو زيد الذي تحول من فارس إلى راقص بعدما خلع عنه ملابسه وغير هيئته وإيقاعه ونبرات صوته!
هنا صفر أبو القمصان في تعال كمن يصدر أوامره: اخلعوا ملابسكم جميعا!
صفر ثانية: ملط زلط!
وحين أغرقوا في الضحك غير مصدقين من كيفية تحول أبي القمصان فجأة إلى ليث وهو يواجههم، قال أبو زيد محذرا قليلا: كله إلا الضحك يا شباب!
تساءل الأمير الأصغر يحيى: كيف؟ إن ما يحدث هنا يضحك حتى الحجر!
مضى أبو القمصان متصنعا في تعاليه مهددا: هذا الحجر يضحك إلا أنتم، ممنوع!
وعاد مواصلا تعاليه مختطفا كرباجا أسود: الحجر، والحجر الصوان!
عانى الأمراء الثلاثة طويلا لكتم ضحكاتهم من غرابة أطوار تلك الخلوة وحارسها أبي القمصان وانفلاته تماما على هذا النحو أمام الجميع.
كل هذا وأبو زيد منشغل عنهم لا يضيع لحظة في إعداد «خرجه» الشهير ومحتوياته الغريبة، ما بين عناصر ومواد كيمائية كالزئبق وحجر المغناطيس وشمعة التنويم «البنج» والدخان المحبوس، ومجموعة لا بأس بها من مختلف الأعشاب والعطور والبخور، منها ما هو مركب ومنها ما يضحك ويرخي المفاصل ويدفع إلى الهياج أو إلى أقصى درجات النوم أياما بطولها.
وفجأة قطع الصمت صوت أبي القمصان المدوي الآمر حتى لأبي زيد: لا تنس الكوابيس!
عاد يؤكد مشيرا إلى صندوقه: أقصد بخور الكوابيس يا بركات.
هنا اندفع أبو زيد ممتنا إلى أبي القمصان الذي بدا كما لو كان يقرأ أفكاره حين عاد مذكرا: والزي الآخر.
ومن فوره اندفع أبو زيد مغيرا هيئته أمام مرآة هائلة متنكرا بزي شاعر جوال، وأبو القمصان يضع له لمساته الأخيرة مقدما إليه الربابة: هكذا تصبح فعلا في أرذل العمر، شاعرا عجوزا مجربا تماما!
ثم ناول أبو زيد يونس والبقية أزياءهم، وأبو القمصان لا يكف عن وضع لمساته الأخيرة، ما بين أسلحة محددة تخفى تحت الأردية البالية المزرية، بالإضافة إلى أشياء ومواد مختلفة تخبأ هنا وهناك.
منها ما يخفى في الجيوب والشقوق المتعددة المسارب أو داخل آلات عزفهم، إلى أن تغيرت هيئاتهم وشعورهم ووجوههم وأيديهم رأسا على عقب. كل هذا وأبو القمصان لا يكف عن هزله وتشفيه الخفى! - أريد منك أن تعرج أكثر.
ويمضي مقلدا مشية الأعرج وغدوه وهرولته وجريه متراقصا ومعبرا ومتهكما أيضا، حتى إذا ما ضحكوا باستثناء أبي زيد صب جام غضبه على رءوسهم الواحد تلو الآخر بغطرسة هي ذاتها التي تضحك من لا يضحك: إلا الضحك يا شعراء الغبراء!
ثم عاد أبو القمصان يهدد: من يضحك ضاع!
مؤكدا: وقد لا ترجعون! ومن يعرف فقد تعودون أدراجكم إلى نجد أيضا وأنتم تعرجون وكلما حاول أحدكم الوقوف وقع.
وطالت فترة تدريب الفرسان الثلاثة التي ترك أبو زيد مهامها لمعلمه - كما يدعي - أبي القمصان أفضل عياري عصره، قائلا في نفسه مغالبا بدوره ضحكة إلى حد انحباس أنفاسه: أعطنا فرصة يا أبا القمصان!
كان أبو زيد يعرف في أبي القمصان تعطشه الجنوني إلى حد الإغراق للعظمة والسلطة والتسلط، وها هي الفرصة قد حانت وسنحت وخلا الجو لأبي القمصان ليفرح ...
وقطع صوت أبي القمصان مزمجرا حبل أفكار وتداعيات أبي زيد: من يضحك مكانه غياهب السجون وزنزاناتها، وقد تكون بأرض الشام وبلاد السرو وغياهب سجون صعيد مصر.
ومضى كمن يخطب مشرفا من أعلى درجات سلالمه - التي فيها قتل الزير سالم ودفن بالعرابة المدفونة - مشيرا بعظمة: لا تنسوا زيارتها.
إلى أن جاءت «بروفات» الإيماء والتمثيل والتقمص والغناء و«الحدى» والإنشاد الجماعي والعزف الموسيقي، التي تناولها أبو القمصان كلها معدلا هنا وهناك إلى أن هب فجأة مصرحا: ناقصكم من يرقص!
وضحك الجميع حتى أبو زيد الذي استلقى على قفاه مرحا مسترخيا كعادته حين يضحك حقا وليس زيفا وتقمصا من أعماقه: كملت يا أبا القمصان؟
واصل أبو القمصان ملاحظاته مصرا: غازية!
قارب أبو زيد مسرا في أذنه مسرعا كما لو كان يملي شفرة سرية، سمع منها الفتيان بضع كلمات متناثرة منها: «مي» الحزينة الهلالية والأميرة الأعجمية «شاه الريم»، وكيف أن «مي» هذه ابنة الأمير «مفرج» الهلالي، تعمل عند شاه الريم كمغنيتها الأثيرة التي عمت شهرتها كل مكان.
ووصل اندهاش الفتيان الهلاليين مداه وهم في شبه إغفاءة قبل استئناف المسير مع الفجر الذي بدت بوادر إشراقه على السفوح والتلال المحيطة، حين ذكر أبو القمصان لأبي زيد عنوان تلك المغنية الهلالية «مي»: ثمانية غرب حلب الشهباء.
ومرة أخرى وصل تطاول أبي القمصان إلى حد الصعود على سطح البناية مصدرا تعليماته حالما امتطى أبو زيد والشباب جيادهم تمهيدا لبدء رحلتهم بأحمالهم: وحذار من حسان وجميلات تونس وعزيزة.
ضحكوا طويلا وأبو زيد ما زال يراقبه في تجبره وزيه المضحك، ويدعوهم صارخا بأعلى صوته: اذهبوا بلا رجعة!
وغابوا في أثر أبي زيد متوجهين نحو الصحارى والقفار والسهول وأعالي الجبال وشعابها حيث قضوا فيها أياما، يقدمون فنونهم ويمتدحون الأجاويد إلى أن شارفوا تلال حلب الشهباء والتي منها اقتنى أبو زيد الهلالي فرسته - الشهباء الشهيرة - فهمسوا قائلين: حلب الشهباء!
سكك أبي زيد
يعرف أبو زيد الهلالي المدن والأمكنة والمسالك كما تعرف هي - أي المدن - مآثر ومأثورات «نصير المساكين» أبي زيد ذاته.
ومنذ خروجه من نجد وعروجه إلى خلوته التنكرية التي مارس فيها تابعه وعياره العجوز أبو القمصان طغيانه على الفرسان الثلاثة منكلا ومعلما، لحين طوافه على أطراف جنوب الجزيرة الساحلية إلى عدن وحضرموت والبحرين، ثم قدومه إلى بلاد السرو وعبادة بوادي الأردن وفلسطين التي كان يحكمها السركسي بن قارب صاحب الجيوش والمواكب والحشود الهائلة المعاربة، والتي أثارت تحفظات أبي زيد ويونس حتى إن أبا زيد بعث من فوره إلى قومه الهلاليين مخبرا منشدا:
أيا عطور الجيد إن السركسي
يشبه الذئب قد حظي بغنائم
هذا السركسي ما أحد يصادمه
إذا قام في ظهر الحصان يلاطم.
وكتب للسلطان حسن بن سرحان مشيرا إلى سطوة حاكم القدس وغزة:
السركسي ما رأيت مثله فارس.
يفتح - يا أبا علي - على الحروب أبواب.
وما توصلوا إلى غايتهم حتى واصلوا سيرهم إلى دمشق التي كان يحكمها «شبيب التبعي» المسمى بالتبع شبيب بن مالك، ووزيره الحكيم المدعو «عميرة».
وكان ذلك التبع المتجبر يتسمى بشاحب العمود، ونجح أبو زيد والفرسان في الوصول قريبا من قصره ومدحه هو وزوجته «جنوب» في قصيدة.
وكالعادة ما إن يحط أبو زيد ورفاقه رحالهم بمدينة أبي نجع، حتى يمضي من فوره إلى الاجتماع بعيونه وعياريه الهلاليين، يصل إليهم أينما كانوا، تقلبت بهم حروفهم وماوريهم وحركاتهم وهجراتهم، وكأنه يتشمم مترصدا خطاهم.
إلى أن حطوا رحالهم على مشارف حلب الشهباء ذات مساء مكتمل القمر، ومن فوره أخرج أبو زيد عناوينه، ومنها عنوان المغنية الهلالية «مي»، حسب ما ذكره له أبو القمصان ووصاياه «الموحلة بالطين» كما كان يدعوها أبو زيد متندرا.
وكما لو أن الجارية الهلالية الحسنة الصوت والمحيا «مي» على موعد مع وصولهم؛ ذلك أن أبا زيد التقى بها من فوره ومنذ الأمسية الأولى التي حطت فيها قدماه أرض حلب الشهباء بقلاعها وساحاتها ومبانيها القوسية الحانية وموسيقاها الشجية ذات الألحان المعروفة وأسواقها المسقوفة وحواريها وحاراتها المرصوفة والحجارة ووراق بساتينها وسهراتها وغيطانها ذات الهواء العليل.
فما إن قاربوا قصر الأميرة «شاه الريم» الحصين الوافر الجنان، والتي تعمل عندها «مي» كأقرب جواريها، منشدين رافعين عقيرتهم بالغناء على أحوالهم، حتى جرت من فورها مشيرة إلى سيدتها التي كانت تعاني حصارا ضاريا من جانب وزيرها المقرب الوصي على عرشها، والذي كان يتهددها ليل نهار بالزواج منها عن رضا أو رغما عنها؛ لاغتصاب سلطتها دون أدنى شفقة.
جرت مي فرحة مستبشرة إلى سيدتها شاه الريم مؤكدة وهي تنصت إلى غنائهم كما لو كانت تحل رموز كلماتهم الملغزة: خالي أبو زيد، جانا مفرج الكربات.
وحين اختلت به وببقية الأمراء الهلاليين بهرها حسن يونس واعتداده وفروسيته حتى وهو تحت أصباغه ومساحيقه وهلاهيله البالية، فرحبت بهم وأدخلتهم خلسة إلى سيدتها التي حكت لهم دامعة العينين مأزقها مع وزيرها ومملوكها الجشع «الهصيص» الذي استبد بحقوقها مستغلا كونها فتاة مسكينة لا نصير لها.
ووعدها أبو زيد مطمئنا بمناصرتها وإرجاع حقها، على أن تترك لهم مي الحزينة لترافقهم كمغنية عبر رحلتهم ومخاطرهم إلى تونس والمغرب.
ودفعت تلك الواقعة وتعهد أبي زيد للأميرة المنكوبة إلى المكوث بضعة أسابيع في حلب بانتظار لحظة تحين الانتقام لشاه الريم من الهصيص المتسلط حاكم حلب.
إلى أن حانت - حسب نص السيرة - ليلة زواجه القسري من شاه الريم وتسللهم بعد خداع الحرس إلى عرسه الماجن، لحين تحينهم للحظة غفلته، فقطعوا رأسه وهو مخمور وعادوا به إلى الأميرة الصغيرة الجميلة، التي لها كامل الحق في حكم حلب الشهباء وتخومها.
وأعجبت هي بشجاعة الهلاليين وأغدقت عليهم ثمين الهدايا، ووعدت بمناصرتهم دوما اعترافا لهم بمعروفهم، وسمحت لهم باصطحاب صديقتها المقربة «مي»، التي فرحت كثيرا باصطحابهم مودعة أميرتها باكية من رهبة الفراق.
وبعد ذلك اتخذ أبو زيد ورفاقه من شباب الأمراء ومعهم مي الحزينة طريقهم إلى تونس وبواباتها السبع.
وهناك أقاموا مضربهم بوادي الغباين المزدهر البهيج المتاخم لأحد مداخل أو بوابات قرطاج الشهيرة أياما، لتحين فرصة الانفلات والتسلل إلى داخل تونس وتحقيق مأربهم العاجل الذي تنتظره جموع الهلاليين ببالغ الصبر والثقة.
فكانوا يقدمون عروضهم وأغانيهم وأهازيجهم ليلا التي شاركت فيها مي بصوتها العذب الرخيم، الذي اجتذب حراس البوابات والمفوضين على الداخلين إليها من زائرين أجانب.
ولم تكن مي الحزينة أقل حماسا ولا إقداما بالنسبة إلى الريادة ومخاطرها، وهي التي قبلت عن طيب خاطر اصطحابهم: فأنا مثلكم هلالية.
وهكذا وثق بها أبو زيد ويونس خاصة، الذي بهرها حقا مدى فروسيته واعتداده وإقدامه وكل ما ينبض فيه من تواجد أو حضور وإيقاع متناسق: زينة الشباب.
إلا أن الانتظار الذي طال أمده على بوابات تونس لم ينس أبا زيد لحظة مهامه من حيث الإلمام به، كأمن كل مناطق القوة أو الضعف على طول القلاع الأربع عشرة التي تتبع سلطنة تونس وقرطاج.
فكان يتغيب عن الباقين أياما، يمضيها عدوا بفرسته الشهباء، مواصلا تجميع معلوماته باثا عيونه مرسلا رسائله بالحمام الزاجل التي كان يحسن تدريبها واستخدامها في أحلك المآزق وأكثرها تطلبا للسرعة والملاحة، فهو كما يقول عن نفسه: عين هنا، والثانية على نجد والأهل.
حتى زوجته العالية بنت جابر، والتي أجهضت هذه الرحلة زواجه منها، ولم يكن يبخل عليها بخطاباته التي عادة ما تتجمع كلها لتحط كمثل وفد من الحمائم على كتفي ورأس عياره وتابعه أبي القمصان أينما كان في خلوته: حمام الحبايب.
هنا كانت أهمية أبي القمصان تتزايد في نظر نفسه ليروح معلنا للسلطان حسن والجازية والعالية زوجة أبي زيد التي كانت تنتظر على أحر من الجمر وصول الرسائل: وصلت المكاتيب.
وهو تعبير أعطاه أبو القمصان أهمية خاصة؛ نظرا إلى الكيفية التي يعلن بها عنه، سواء للجازية أو الأميرة العالية، إذ تنشق الأرض فجأة عن أبي القمصان متشحا بزيه الرسمي، كجندي منح نفسه ذات يوم لقب فارس والذي تطور معه مع مرور الزمن إلى لقب أبي الفوارس.
ففي العادة يقف أبو القمصان فجأة أقرب إلى منطقة الرأس من «ضحاياه»، معلنا بصوته المختنق المتعدد النبرات، داقا الأرض بعصاه أو كعب رمحه، الذي عادة ما ينتهي بشارة الهلاليين الخضراء يتوسطها هلال أبيض صريح، معلنا كمثل منادي قرية أو نجع: الحين وصلت الرسائل.
أما في حالة العالية زوجة أبي زيد، فقد أفرط زوجها الغائب في الكتابة لها مطولا، خاصة بسبب ظروف عشقه الجارف لها منذ أول لقاء تصافحا فيه، حين قدمها له السلطان حسن خلال عزاء الشماء وهو يأخذ بيدها البضة الدافئة نازلة عن هودجها المطرز برقائق الذهب البخاري الأحمر: الأميرة العالية بنت جابر.
حينذاك استحال لون أبي زيد الأبنوسي الأسود إلى اكفهرار أصفر يقارب شحوب الموت ذاته، وهو يمد لها يده مصافحا مساعدا: أهلا وسهلا.
ولم يعرف كيف يكمل جملته هذه مرحبا بها حول سلامة الرحلة من وادي الحجاز وما تنطوي عليه من مخاطر حتى الوصول إلى نجد.
ذلك أن العالية سلطت عليه وهو ينزوي خجلا أهدابا مسلطة كمشرطي حربة همجية لها وقع أكثر من أربعة وعشرين نصل حسام بينما السلطان حسن ينطق باسمه معرفا ومقدما: بركات، الأمير أبو زيد الهلالي.
ليته لم ينطق باسمه أمامها! ساعتها لم يكن حدث ما حدث لأبي زيد الذي تراجع من فوره متقهقرا إلى الخلف كما لو كان ينادي، أو يبحث بعينيه عن شيء وليكن مجرد غطاء خباء يستر به نفسه وهو في مواجهتها.
إلى أن آثر الاختفاء عن عينها بالهرب من واجبات العزاء واستقبال الضيوف والوافدين من ملوك وأمراء وحكام وشيوخ قبائل وقادتها، جميعهم قدموا بوفدهم معزين في موت الأميرة الأم الشماء، ثم للاجتماع به لاستطلاع الرأي وتكامل المشورة.
إلى أن عثر عليه يونس في أقصى أقاصي خلواته المهجورة التي يعرف يونس دون غيره أنه لم يزرها ويطأها منذ زمن بعيد.
لحين ظروف زواجه من العالية الذي أراده هو أن يبدو في العلن كزواج تحالف لتوثيق الروابط السياسية، خلال لقاءات جمع الشمل بين فيالق الهلاليين، الذين طال بهم الاسترخاء وانتكاس السلاح أثناء شعائر موت الشماء قائدة التحالف الهلالي الذي امتد أربعين يوما وليلة.
لحين رحيل أبي زيد عن العالية وحط رحاله هنا على بوابات تونس قرطاج يغالبه الحنين إلى العالية زوجته وحبيبته.
تنهد أبو زيد وهو يسابق ريح الصحراء معتليا صهوة فرسته الشهباء، مغالبا ذلك الحنين الجارف للعالية والأهل الذي حط عليه فجأة وهو يصل بريادته على رأس الفرسان الأمراء الثلاثة إلى تخوم بوابات قرطاج الشاهقة الارتفاع المحكمة الإغلاق في وجه الغرباء ومن أين جاءوا.
هب العلام بن هضيبة عن كرسيه المذهب مأخوذا منتبها كأنما يطرد بحركة رأسه غبارا عن أذنيه وهو يسمع من أحد أتباعه المقربين عن أنباء تسلل الهلالية إلى قرطاج: كيف؟! - يصطحبون معهم مغنية هلالية شهيرة جاءوا بها من حلب إلى هنا.
واصل العلام تقدمه باتجاه محدثه مواجها وهو يسلط حدقتي عينيه في عيني محدثه: أين؟
تراجع تابعه، وكان فتى منتصب القامة بيده بضعة مدونات وتقارير يقرأ عليه منها بحذر دقيق.
وبدا العلام كما لو كان يكلم نفسه: ديار تونس يا علام!
ثم مضى من فوره مواصلا تقدمه باتجاه رسوله المتقهقر الذي لم يكن يتصور للحظة أن خبرا كهذا يمكن أن يصدم الأمير العلام إلى هذا الحد الذي يقلب فيه كيانه رأسا على عقب.
وضاعف من رهبة الرسول أيضا ما أعاد نطقه العلام لنفسه في غيظ أقرب إلى الألم: ديار تونس يا علام ... ه ... هكذا أصبحت تونس وديارها مباحة لعرب المشرق! وعلى حين غرة علا هياجه شاهرا كرباجه ملوحا في وجهه: ما أريده الآن التفاصيل كلها.
ثم واصل هياجه وصراخه قائلا: ديار تونس! أنا من يقال له مثل هذا اللغو يوما؟
واندفع مشهرا ذراعه كلها على شبه خارطة مجسمة تملأ سطحا رخاميا بأكمله يشكل أرضية إحدى غرف قصره، وتبين الخارطة هذه تونس كلها بمعالمها من سهول خضراء يانعة العشب وأنهار ووديان وبحر ضارب إلى الزرقة.
ومضى العلام مشيرا بكرباجه وذراعه كلها للجميع، إلى ديار تونس وتخومها السبعة وقلاعها الأربع عشرة، في غضب شمل نائبه وتابعه وثلاثة من حجابه وحارسه الخاص، «عين» للزناتي خليفة مسلطة عليه يعرفها كما يعرف نفسه، وهي أكثر ما يخشاه في مثل هذا الموقف الذي تضمنه هذا التقرير المفاجئ حول كارثة وصول «عيون» الهلالية إلى تونس، كيف أن لا أحد من رجاله وفيالقه وعسسه وبصاصيه يعلم بهذا الأمر الخطير؟! حتى العلام هو نفسه المفروض أن يكون أول العارفين كان لا يعلم شيئا.
يا لها من كارثة! سيلاحقه الزناتي مدى العمر خاصة في مثل هذا اليوم المشئوم المصادف حلول العيد الكبير، أو عيد اللحم والضأن: تتسلل عيون بني هلال إلى بوابات تونس - قرطاج - وتدخلها عنوة، إلى هذا الحد؟!
كان أبو زيد وفتيانه الثلاثة يونس ومرعي ويحيى وبصحبتهم «مي الحزينة» قد وصلوا إلى ديار تونس، حيث دخلوها من بواباتها الشرقية التي فتحت منذ الصباح الباكر على مصراعيها للزائرين والغرباء، الذين تجمعت وفودهم على طول السهول الخارجية المحيطة التي لا يحدها البصر.
وفود من أعراب وبدو وشوام ومصريين ويونانيين وإيجيين وقبارصة بانتظار تلك اللحظة التي امتدت أياما بحالها قبل أن ينطق الأمير العلام بكلماته التقليدية: افتحوا البوابة الشرقية.
هكذا انسل أبو زيد والهلالية داخلين متسللين بعدما تعرضوا لأسئلة واستجواب طوابير طويلة ومختلفة من مختلف الرتب من عسس تونس الذين كانوا يسألونهم: من أنتم؟
نطق بها أبو زيد وأعاد نطقها على الربابة بمختلف تنويعاتها للحرس وأتباعهم وبصاصيهم والزوار الغرباء، فتجمهر الجميع من حوله وهو يقفز ويعزف إلى أن تدخل كبير الحرس، وكان مشرفا عليهم كأبي القمصان، مشيرا بكرباجه لإيقاف مهزلة أولئك الحوش قائلا: أنا لا أحب الموسيقى والدوشة ...
إلا أن أبا زيد واصل عزفه وقفزه الهزلي مادحا:
ها نحن قد جئنا ديار تونس
ولم يعد علينا عتايب
يلا يا أجاويد الديار
هاتو الزكايب.
هنا هاج رئيس الحرس المتغطرس ذو الكرش الكبير صائحا: اتركوا هذا العبد الأغبر، دعوه.
وهنا اندفع أبو زيد داخلا من فوره قفزا إلى أن تخطى طوابير الزحام من حوله وأمامه، إلى ساحات تونس المزدانة عن آخرها بالرايات والمعلقات والزينات الملونة؛ احتفالا بعيد اللحم الكبير الذي اجتذب الآلاف المؤلفة من التونسيين وأتباعهم والزوار والغرباء من كل صوب وحدب.
إلى أن توقف أبو زيد مترصدا الباقين، الذين لم يطل بهم الأمر حين حذوا حذوه كفنانين شعبيين مشعوذين على باب الله: على باب المولى تمدح الأجاويد.
فما إن امتدت أيديهم إلى آلاتهم الموسيقية في صخب حتى هاج أكثر رئيس الحرس، مشيرا إليهم بالدخول: أوباش، صعاليك!
إلى أن اجتمع شملهم فغطسوا تماما وسط أسواق وأزقة تونس المزدحمة بالأجساد والاحتفالات الماجنة وروائح الشواء ومختلف الأطعمة والسلع، حتى أصبح من الصعب العسير اقتفاء آثارهم داخل بوابات قرطاج.
فاجتمع أبو زيد بعيونه وبصاصيه وتدبروا أمر معيشتهم مقدمين أشعارهم وغناءهم ومدائحهم وموشحات «مي الحزينة» داخل أحياء وأسواق ومشاري شاي قرطاج المزدهرة.
ترددوا على الموائد والاحتفالات الشعبية، وزاروا «سوسة» و«قابس» والقيروان، حتى عرفوا وانتشر صيتهم بين الناس، وخاصة موشحات مي الحزينة وصوتها وعزفها الماهر، الذي أطرب جماهير مستمعيها من السمار الشعبيين في المدن وما يتاخمها من ضياع وقصور ودساكر.
كل هذا وأبو زيد لا يغفل لحظة عن المهمة الأساسية التي دفعت بهم إلى داخل بوابات قرطاج وتخومها وقلاعها وحامياتها.
فكان يتحين لحظات تدوين ما تجمع لديه من أخبار وملاحظات ليرسلها - كما يحلو له أن يتندر مع يونس: برا أو بحرا أو جوا (عن طريق الحمام الزاجل).
لتصل طبعا في مواعيدها إلى أسماع السلطان الهلالي والجازية وقطب التحالف الهلالي لعرب الجنوب اليمنيين دياب بن غانم، وحاكم العراق الخفاجا عامر، ووالد زوجته الأمير جابر والقاضي بدير، ودون إغفال بالطبع لزوجته العالية في نجد.
وكانت العالية من حدة تحمل مشاق انتظارها لأبي زيد «تنتزع» ريش طيور البيت من دجاج وإوز عن أجسادها، وهي تخفي في صعوبة ما يعتمل في أعماقها من سياط ولهب الانتظار والبعد واللوعة.
وحين طال بهم الطواف داخل الديار التونسية وضاقت بهم الأحوال أخرج يونس «فرعا كان قد توارثه لعقد من الجوهر الثمين» من جدته الشماء ليبيعوه لأثرياء المدينة.
وحين عرضوه على كبير الدلالين أشار مبهورا إلى تعذر بيعه سوى لابنة سلطان تونس الأميرة عزيزة!
هنا ألجم يونس نفسه عن النطق والكلام أمام الدلال الحصيف، سوى مجرد تبادل النظرات العجلى مع أبي زيد مرة ومع مي مرة ثانية غير مصدق: عزيزة!
حتى إذا ما أعاد الدلال تأكيد وجهة نظره لوفد الشعراء الجوالين الأغراب، متصورا أن ما اعتراهم من تغيير قد يكون مبعثه شكوكهم في نواياه وذمته، واصل كلامه مؤكدا: أجل الأميرة عزيزة، فهي وحدها التي تهيم حبا في اقتناء الأشياء الجميلة النادرة، وتدفع فيها الأثمان المرتفعة، بل هي تسافر في أثرها الشهور الطويلة لتقتنيها داخل مقرها المنعزل شمال قرطاج.
وعندما أعاد يونس التساؤل الصامت بعينيه مع أبي زيد، أيقن الدلال اليهودي من توجس أولئك الأغراب، الذين يبدو من هيئتهم أنهم من دراويش المشرق القحطانيين وأنه بسبب توجسهم هذا سيفقد «سمسرته» وصيده الثمين للغاية من كلا جانبي أو طرفي هذه الصفقة النادرة ندرة العقد الباهر العميق الأخضر، الذي صيغ من نادر أحجار الزمرد.
فاندفع من فوره مقدما لهم أقداح القهوة السوداء والحلوى والشاي الأخضر المنعنع شارحا الأمر: ليس هناك من معضلة، فقصر العزيزة على مبعدة فراسخ إلى الشرق.
ثم شرح لهم كيف أنها أرفع زبائنه شأنا وعطاء؛ لذا فلا بأس من التوجه بمصاحبتكم حالما ينتهي من إغلاق حانوته، وصرف زبائنه وعماله.
واعترت يونس رعدة مشابهة لتلك التي سبق لأبي زيد معاناتها لحظة لقائه بالعالية بنت جابر وتمكن يونس من تحسسها من بعيد، فتناول من فوره عقد الزمرد من يد الدلال المتكفئ المتوقد حماسا وحركة لمصاحبتهم فورا إلى مقر عزيزة قائلا: نذهب حالا، ولا داعي للتأجيل.
ثم غمغم لنفسه: عزيزة! أين أنا الآن في هذه الأسمال البالية من الخيش والأصباغ التي تغطي وجهي من الأميرة عزيزة؟
واصل الدلال عملية إقناعه لأبي زيد باعتباره كبيرهم الذي أشار بغلق حانوته والاتجاه معهم إلى قصر العزيزة: على خيرة الله.
وحين عاد يونس إلى تبادل النظرات مع أبي زيد، ضحك الأخير في خبث مغمغما في أذنه مذكرا بحكايته القديمة: أتخاف امرأة يا يونس؟
هنا انتفض يونس، دافعا عنه اضطرابه متحسسا في جيبه حبات العقد: ماذا تقصد؟! - أقصد عزيزة يا يونس.
أشار يونس كمن ينبه أبا زيد إلى ملابسه: أهكذا نتوجه إلى الأميرة عزيزة؟ - ولم لا؟!
ساعتها كان الدلال اليهودي المتوقد الذهن والحركة قد انتهى من صرف بقية زبائنه وعماله، وعينه لا تغفل عن يونس وعقد الزمرد الذي في حوزته وقاربهم منشرحا مهونا الأمر. أمر أحد مساعديه بإعداد عربته المطهمة التي تجرها الجياد قائلا وهو يأخذ بيد يونس الشارد بذهنه غير المصدق لما يحدث ويجري: خلاص، انتهينا، هلموا إلى قصر الأميرة عزيزة.
كان الحاكم الفعلي لتونس وتخومها العلام بن هضيبة قد وصل به القنوط واليأس إلى أقصى مداه، فتشابكت البلايا دفعة واحدة ومن جهات عدة لتحط على كاهله المثقل بواجبات حماية الأمن الداخلي لتونس وحكامها وشعبها.
وقد زاد الطين بلة أنه أوصل علاقته بابنة خاله عزيزة ابنة سلطان تونس المسجى مريضا معبد بن باديس إلى نقطة التوتر واللارجوع رغم حبه الجارف لها منذ الصغر، وكان يعزز من هذا الحب رغبته العارمة في الاستحواذ على تونس بكاملها من خلالها، فتدين له قلاعها والدنيا بأسرها من بعدها.
بل إن ما حدث بينه وبين العزيزة من تطاحن وحزازات في الأشهر الأخيرة وصلت ذروتها حين استعانت هي في كشف ألاعيبه وأحابيله التي أصبح لا يكف يوما عن نسج خيوطها بخبرة وحنكة ضدها، في محاولة يائسة للتقرب منها ولفت عينيها الباهرتين إليه يوما أو لحظة.
فهو العلام الذي تدين له تونس من كبيرها لصغيرها، راضخة عند قدميه فيما عداها؛ عزيزة، فكان مثل هذا الإحساس الدفين يعتمل داخله طاحنا مقوضا لكل خطواته ومسئولياته الجسيمة، ويدفع به دفعا إلى المحاولات إثر المحاولات للإتيان بأفعال كبيرة لافتة لكل عيان، تتيح له أن يحقق أقصى درجات الشهرة وذيوع الصيت والفروسية.
كان يتصدى للإيقاع بكل من تسول له نفسه الاقتراب من تخوم تونس وأسوارها المنيعة وبواباتها وقلاعها الموصدة ضد كل طامع أو معتد، سواء كان أولئك المعتمدون والطامعون من الغرباء أو كانوا من اليونانيين والبطلميين والرومان أو من القبارصة أو الإيجيين أو البدو من عرب المشرق.
ولهذا تجبر العلام في معاملة أولئك الغرباء والمتسللين أيا كانوا وتحت أي سماء، فكان يقبض عليهم ليودعهم سجونه وزنازينه المطمورة تحت الأرض، أو قد يلح في مطاردتهم إلى أن يوقع بهم في البحر المحيط بالبلاد ليعود بجيشه وكتائبه بعد ذلك سالما منتصرا أمام عيني مولاه خليفة الزناتي، الذي أسلم له مقاليد أمور مثل هذه الوقائع «البسيطة» التي تحدث هنا وهناك بشكل يومي، ولا يحتاج ردعها إلى تدخله شخصيا في القتال والنزال، باعتباره - أي الزناتي - فارس تونس الأول ومصدر هيبتها.
إذ ليس من المعقول أن يتصدى الزناتي لمختلف هفوات العوام اليومية أو حتى حملات الطامعين من «الهمج» الأفريقيين من أحباش وغيرهم وغينيين وصوماليين، وهو - الزناتي - الذي نازل منذ شبابه الجيوش الجرارة المدججة بكل سلاح وعتاد، دفع بهم إلى الموت الجماعي إما غرقا في مياه البحار والمحيطات، وإما على منحدرات تلال تونس وسهولها وأراضيها المترامية المتفجرة خضرة وعطاء، كما أنه هو ذاته أبو سعدى الزناتي الذي صيغت عنه الملاحم والأشعار التي تتغنى بها الأقوام والشعوب والقبائل مشرقا ومغربا.
أنا أبو سعدى الزناتي خليفة
لي في أفعالي يا كرام شهود
شهودي نهودي والقائم صارمي
بيض الرمادي واخيات جمود
أنا أبو سعدى الزناتي خليفة
هنيئا لمن كان خالي عنا حقود.
فليس من المعقول أبدا أن يتخلى الزناتي عن استرخائه ولذائذه ليشغل نفسه بالتوافه وبكل صغيرة وكبيرة، ترك أمرها لجلاده الأصغر العلام بن هضيبة ابن أخته، الذي توسم فيه منذ أن تربى في حجره كل طاقات العنف وقسوة القلب وكل علامات الكره والحقد، فاكتمل ناحلا أصفر الوجه عبوسا على شاكلة كل منتش بسفك الدم وإهراقه، بل على شاكلة وطبائع الزناتي ذاته خاله ومعلمه الأول.
لذا فما إن تناهى إلى أسماع الزناتي خليفة خبر مفاده ذلك التسيب الحادث والفوضى عند مداخل بوابات تونس قرطاج، وبخاصة حين أسر له «عياره» - وكان عجوزا محنكا نافذ البصيرة - بالشك في تسلل بعض عيون عرب المشرق المعروفين بالهلالية، حتى انتفض كالملدوغ سائلا عن ابن أخته العلام بن هضيبة: أين العلام؟ ماذا يحدث؟! عيون بني هلال، يا لها من كارثة! هنا في تونس ... قرطاج؟!
ومضى يتساءل منزعجا عبر جنبات قصره يطرق كفا بكف غير مصدق: جواسيس عرب المشرق! جواسيس الهلالية! أيعقل هذا؟!
فكيف تصل الغفلة والتسيب بالعلام إلى حد تسلل عيون بني هلال وبصاصيهم إلى تونس بطولها وعرضها؟! وعلى هذا النحو يسوقه بصاصو الزناتي والعلام ذاته من دون التوصل إليهم أو إلى أثرهم، فهو ما لا يطاق: كارثة.
استدار سائلا في حدة: هذا أمر لا يمكن احتماله ...!
استدار الزناتي وهو يتفوه بهذه الكلمات نازلا عن عرشه المتوارث منذ ملوك اليمن من العرب العاربة أو الغابرة: لا يحتمل يا علام.
وحاول بعض المقربين من وزراء الزناتي تهوين الأمر: العلام في أي حال ابن شقيقتك ومن لحمك ودمك.
هنا استدار الزناتي وقد أصبح أكبر غضبا وهياجا رافضا هذا المنطق مشيرا بأطراف حربته المتعددة الرءوس إلى ذراع قائلا: إنه لن يتوانى عن قطعها - أي ذراعه - إذا توانت أو تراخت عن أمن تونس وقلاعها الحصينة، ثم أردف يقول: نخلة بلا طرح لها عندي دواء ... هو المنشاط.
وقبل أن يعود الزناتي إلى الجلوس على كرسيه متعاليا كالطاووس، أشار على مستشاريه وأعوانه بضرورة استدعاء العلام فورا أينما كان ومن تحت أي سماء: الليلة.
وهنا تدافعت وفود حجابه ومستشاريه لتنفيذ أوامر الزناتي. - الأمير العلام الليلة، حالا.
واصل الزناتي مشيرا بحربته إلى عينيه قائلا في صرامته المعهودة: لن تذوق عيناي نوما الليلة قبل مثول العلام، حتى ولو كان في سابع نومة أحضروه.
كانت مشكلة المشاكل تلك الليلة التي لم تنم فيها عين من عيون حكام تونس وشيوخها في البحث المضني على طول قرطاج وتونس وتخومها عن العلام، ولكن دون طائل.
إلى أن تجمعت محصلة الأخبار منبثة عن أن العلام قارب القيروان، عبر مطاردته لجواسيس بني هلال المتنكرين الذين تسللوا داخلين إلى تونس في غفلة من حراسها.
إلى أن جاءت الأخبار بعد بضع ساعات أن الأمير العلام تمكن من أسر جواسيس بني هلال الأربعة، وجاء وصفهم كالآتي: رجل دائب الحركة في منتصف العمر، يعتقد أنه أبو زيد الهلالي ذاته، وثلاثة أمراء متنكرين، وأميرة مغنية حسنة الصوت عذبة الملامح دقيقة الجسم.
حتى إذا ما وصلت تلك الأنباء إلى أذني الزناتي - السهران - المؤرق، جاء رده في صيغة أمر صارم: أحضروهم أحياء، الآن.
وبدا منظرهم مزريا للغاية، مثيرا لكل شفقة لكل من وقع بصره عليهم حتى الزناتي ذاته، الذي مضى يتأملهم وهم يحبون على أربع عند قدميه!
وظهر أحدهم كرجل مسن له هيئة الشعراء الجوالين: على باب الله!
بمدح وقدح بربابته وخرجه الكبير الذي طغى على نصف بدنه الواهن، ومعه فتاة صغيرة بيضاء باهرة الجمال تنبض بالأنوثة وبيدها قيثارتها وهي تحبو تحت أثقال شعرها العسجدي الأحمر مستنجدة: بعرضك، ستر الله عرضك!
وكانت تتكلم بلهجة البدو التونسيين من «حوش» وغجر بسطاء.
وكان هناك أيضا ثلاثة شبان أبرياء الوجه والملامح يسند الواحد منهم الآخر، وقد حاول كبيرهم التماسك تحت جراحه الدامية من آثار الضرب المبرح من قبل العلام وجنوده، فبدا لسانه ملتصقا بسقف حلقه الجاف.
أما العلام فقد وقف كمن يلقي بأسراه تحت قدمي عرش الزناتي مشيرا في أفعوانية وغطرسة: ها هم.
واندفع مختلقا للزناتي قصة عثوره عليهم وعلى بعض عيونهم بعد مطاردة طويلة، خاصة كبيرهم صاحب الملاعيب، ثم أسر في أذن خاله الزناتي بما يظن: لا تغرك مسكنته هذه.
ونزل العلام مسرعا نشطا السلالم المفضية إلى عرش الزناتي متجها من فوره إلى حيث يقبع الأسير العجوز الأسمر اللون الذي انحبس عنه لسانه من هول ما يحدث، فمضى يدور حول نفسه مطرقا باكيا مولولا بلا صوت.
ومد العلام ذراعه في خاصرته تحت عباءته مخرجا سلاحه المطعم بالذهب الأحمر صارخا بأقصى حدة: خذوهم.
هنا انقض حرس العلام حسب إشارته على الأربعة فقطعوا رءوسهم عن أجسادهم وهم يصرخون والزناتي يغمغم متثائبا: أنام ... أنام.
أغمض خليفة الزناتي عينيه محاولا النوم مع آخر صيحات الفنانين الشعراء الأربعة، وسرعان ما خبا صراخهم تحت طعنات العلام حسب أوامره الصارمة، لكي يتم تعذيبهم وشل حركتهم أثناء اصطحابهم عبر الطريق إلى قصر الزناتي. - لا صوت واحدا يسمع منهم ولا همسة.
وهكذا طعن حرسه أولئك الأربعة تعذيبا وضربا إلى حد شل كل ألسنتهم وحركتهم أمام الزناتي: كتما، كتما.
لذا تم تنفيذ كل شيء بتمامه إلى الحد الذي أرخى جفون خاله الزناتي بعد طول سهد وانتظار، وبدأ يستسلم للنعاس متثائبا مغمغما مشيرا عليه وللجميع بالانصراف: خير يا علام يا ولدي.
فانسحب العلام أقرب إلى المطرقة منه إلى المنتصر، عبر أبهاء قصر الزناتي وحرسه، وعيونه تقطر حسرة وألما، كان يجاهد في إخفائهما عن العيون المتطلعة المحيطة: عموا مساء.
عند البوابة الخارجية للقصر أخذ العلام موكبه مقررا العودة إلى قصره وهو يشعر بالتعب والإرهاق: أنام مثل الناس.
وزفر متنهدا شاردا في عزيزة مقررا العودة عبر الطريق الأقرب لقصرها، كما كان يحلو له في سابق أيامه الخوالي معها.
وحين قارب العلام القصر وجده مضيئا على غير عادته فغمغم لنفسه: ما تزال صاحية، عزيزة.
وعندما وصلت إلى أذنيه نغمات أندلسية غريبة عذبة الإيقاع، توقف طويلا منصتا بكل جوارحه محاولا تعرف الصوت، فما من مغنية بارزة لا يعرفها العلام: من تكون؟!
ظل يواصل اقترابه عبر بساتين قصر العزيزة العطرة مختبئا بين الأشجار متقدما مستمعا، إلى أن أصبح ما بداخل القصر تحت كامل بصره وسمعه: عجايب!
أربعة أشخاص لا يعرفهم وعزيزة وسعدى معهم يأكلون ويغنون، رجل في منتصف العمر، مرح يفيض حيوية وحبورا، وثلاثة شباب كالبدر وجارية حسنة الصوت والموشحات. تراجع العلام مغمغما لنفسه وقد آلمته أضراسه فجأة: جواسيس بني هلال! هم بذاتهم، هم، هم.
كان أبو زيد ورفاقه قد رافقوا الدلال اليهودي الذي اصطحبهم بعربته المطهمة التي تجرها أربعة خيول اندفعت بهم عبر شوارع قرطاج وبساتينها وحاراتها إلى أن شارفت قصر العزيزة الباهر المنعزل، فترجلوا حسب طلب الدلال بين بساتينه يأكلون ما شاء لهم من فاكهة على غير أوانها: كلوا، كلوا.
واستأذنهم في عرض أمر عقد الزمرد الذي في حوزة يونس على الأميرة عزيزة قبل مفاجأتها من قبل الجميع والدخول عليها على حين غرة، خاصة وأنهم غرباء، قائلا: عذرا، ضيوف.
ثم تابع الدلال لكبيرهم «أبي زيد» موضحا: غرباء.
ووافقوا من فورهم عاقدين الآمال على بيع العقد لابنة سلطان تونس.
وغاب الدلال طويلا داخل متاهات قصر السفيرة عزيزة الباهر المزدحم بالحراس والجواري والزائرين والزائرات، بالإضافة إلى من تحبهم وتحنو عليهم من الفنانين والشعراء والمغنيات والرسامين والمهندسين المعماريين والموسيقيين من تونسيين وأجانب.
وغاص الدلال اليهودي العجوز في متاهات قصر العزيزة مختصرا الطريق إلى أقرب جواريها ليسر في أذنها بطلب مقابلتها عاجلا وقبل فوات الأوان، وخلاصة الموضوع جوهرة نادرة هائلة القيمة لم ير مثلها في حياته سلفا - أي الدلال - بأيدي بضعة دراويش أو سائلين غرباء أحضرهم بنفسه إلى هنا، وهي معهم الآن.
وانتظر الدلال رد الأميرة عزيزة بفارغ الصبر وعيناه لا تغفل عن أبي زيد ورفاقه الذين تبدوا له منذ وقعت عيناه عليهم أنهم بلهاء قد لا يعرفون ما بأيديهم من غالي الجوهر، مما يسهل سمسرته وأتعابه من كلا الطرفين البائع والشاري: فرصة العمر الليلة.
وكان كلما انتهت العزيزة من مقابلة وفد من الوفود فرادى كانوا أم جماعات، انفرجت أساريره وجدد المطالبة بالإسراع بالمقابلة: جوهرة الجواهر، الليلة!
إلى أن حانت فرصة الدلال حين لمح شبح الأميرة سعدى موصلة أحد الوفود من موسيقيين وعازفين بأزيائهم البهيجة وآلات طربهم، فاندفع من فوره واقفا متصديا لها لدى عودتها إلى حيث صديقتها العزيزة، مسرا في أذنها بما في حوزته الليلة، وهو عقد جوهر قديم شرقي، لا يقدر بثمن وبلا ثمن، وارتفع صوته مصرا مؤكدا: أجل بلا ثمن (يقصد أن سعره رخيص جدا).
وحاولت سعدى التخلص منه وإبعاده دون جدوى. - زمرد!
وواصل الدلال اقتحامه مقتربا أكثر من سعدى، مشيرا إلى حيث بستان العزيزة: مع أولئك الأعراب الغرباء البلهاء.
تطلعت سعدى بعدما غالبها فضولها: دراويش، فنانين، بدو ...
تساءلت مشرئبة: أين؟ - داخل البستان الغربي للأميرة عزيزة.
ولم تتمالك سعدى من الخطو باتجاههم، حتى إذا ما قاربتهم اجتذبها من أعماقها مشهدهم الباهر الذي لا بد أن يستهوي العزيزة كثيرا.
مضت من فورها متطلعة إلى مرعي في ألفة وحنو كمن تعرفه منذ زمن لدرجة اجتذبت اهتمام الدلال ذاته الذي بادرها معرفا: هذا مرعي.
وأضاف متجها من فوره إلى يونس: والعقد مع يونس.
هنا كان يونس قد أخرج عقد الجوهر من جيبه دافعا به إلى يدى سعدى التي تأملته في استغراق كبير، مندفعة من فورها مرحة إلى الداخل قائلة: الأميرة عزيزة فورا.
جرت فرحة إلى داخل أغوار القصر تبحث عن عزيزة دون أن تغفل عيناها عن مرعي، الذي توقف بدوره مبهوتا باسما وهي تنسحب جارية إلى داخل القصر. - الأميرة سعدى.
وحاولت سعدى جذب انتباه الأميرة عزيزة، وكانت ساعتها غارقة حتى رأسها في الترحيب بضيوفها والمبالغة في إكرامهم.
ذكرت لها سعدى متلهفة أمر أولئك الفنانين البدو، وروعة مشهد الشابين يونس ومرعي والعقد القيم الذي في حوزتهم مشيرة في عجلة: وهم هناك في بستانك، أسرعي.
عاجلتها عزيزة دون أن تتحقق من جلية الأمر: طيب، طيب يا سعدى.
وهنا لو أن بقية الضيوف قد تحسسوا ما اعترى عزيزة بانشغالها عنهم، فهبوا من تلقاء أنفسهم مسلمين في حرارة على العزيزة خارجين.
بينما اندفعت سعدى تصب في أذني العزيزة روعة أولئك الشباب محاولة تذكر الأسماء: مرعي ... ويونس ... صاحب العقد.
غمغمت العزيزة مرددة شبه غائبة عن وعيها: يونس! - سترينهما حالا، شيء مختلف لم أشهد مثلهما قبلا.
ومن فورها اندفعت عزيزة جاذبة إحدى عباءاتها الداكنة المطرزة برقائق الذهب والفضة، مسدلة شعرها الطويل الفاحم، جارية في أثر سعدى، حتى إذا ما وصلت إلى أعلى سلالم قصرها المرمرية، وتوقفت من فورها فجأة غارقة في تأملهم إلى أن غاصت عيناها في عيني يونس الذي تراجع مأخوذا من جمال عزيزة الطاغي وبيده عقد الجوهر: سبحان الله!
إلى أن لكزه أبو زيد مسرعا من الخلف بإيماءة من إيماءاته الجانبية، فتقدم يونس على أثرها خطوة محييا برأسه دون صوت مقدما العقد ملامسا بيديه يدي العزيزة عن قرب ... - الله! يا ...
وقام الدلال معرفا قبل أن يعود إلى الانزواء: يونس، هذا يونس، يا سيدتي عزيزة. - يونس!
قالتها عزيزة وكأنها تناجي نفسها، كما لو كانت تعرف هذا الاسم منذ زمن بعيد لا حد ولا نهاية له.
قاربتها سعدى متأملة مشيرة إلى عقد الزمرد العميق الاخضرار، فأعادت العزيزة تأملها قائلة: هذا لا يقدر بثمن!
هنا اندفع يونس بكل فروسيته ليتناول العقد منها ويطوق به جيدها: يكفينا مقابلتك يا أميرة عزيزة، وكلي رجاء في أن تقبلي هذه الهدية البسيطة.
ووصل الاندهاش بعزيزة أقصى مداه حين تراجع يونس بظهره منسحبا نازلا السلالم لاصطحاب الباقين والانصراف: طابت ليلتك يا أميرة!
وسريعا ما نزلت عزيزة في أثره وخلفها سعدى إلى أن لحقت به عند مدخل الحديقة المطوق بالورود والرياحين: يونس، العشاء ... جاهز.
كان كل هذا يحدث ويجري تحت سمع وبصر الدلال، الذي بدا كمن لا يفهم شيئا فيما يجري من حوله، إلى أن لاحظت العزيزة ما به فأشارت عليه بالانصراف على أن ترسل في أثره فيما بعد. - طابت ليلتك يا أميرة! طابت ليلتكم جميعا!
انصرف الدلال العجوز مسرعا لا يلوي على شيء إلى أن أخفته أشجار بستان العزيزة العملاقة ذات الأغصان المتعانقة.
وعاودت عزيزة وسعدى الترحيب بيونس ورفاقه، ثم قامت عزيزة بأخذ يونس لتصعد به سلالم قصرها، الذي كان قد تضاعفت أنواره ونشط الحرس والجواري في مد موائد العشاء والشراب والمشهيات.
ولاحظت مي الحزينة من فورها مدى انبهار عزيزة بيونس وسعدى بمرعي، مشيرة خفية لأبي زيد الهلالي: اجتمع الشمل يا خال أبو زيد.
وما إن احتوتهم قاعات قصر العزيزة الفاخر المغطى بالمخمل الدمشقي القاني الاحمرار، حتى بهر الجميع من محتوياته المعبرة بجلاء عن مدى الذوق الرفيع الذي تحظى به صاحبته الأميرة العزيزة بنت معبد: متحف هائل!
وتزايد إعجاب العزيزة واحتفاؤها بيونس حين اصطحبته عبر ردهات قصرها لتطلعه على ما يحويه من مقتنيات عالية القيمة، وهي تنصت في رهبة حقيقية لتعليقاته التي كشفت لها عن مدى ثقافته وعميق معرفته بكل عنصر أو قطعة وعمرها التاريخي وأصلها الجغرافي وظروف العصر أو البيئة التي صيغت فيها، سواء أكانت تحفة أو لوحة فسيفساء أو منمنمات أو نسجيات، وهكذا.
إلى أن حانت من عزيزة نظرة جانبية إلى مرآة رأت فيها جيدها المزين بعقد الزمرد: رائع يا يونس العقد! أروع مقتنياتي!
وحين قاربته في محاولة لمعرفة أصله وموطنه أخبرها دون أن يذكر أنه ورثه عن جدته الشماء. - الغريب أن الزمرد القائم هو حجري المفضل.
ثم استدارت مستنجدة بسعدى التي كانت ساعتها منشغلة لأخمص قدميها في الترحيب بمرعي ورصد حركاته وإيماءاته المعبرة عن مدى فروسيته. - أليس كذلك يا سعدى؟ - أجل، أجل.
وحين جاء أوان العشاء تحلقوا جميعا حول المائدة في ألفة من يعرفون بعضهم البعض منذ زمن طويل. - مدوا أياديكم، تفضلوا.
وسمعت تعليقات أبي زيد: لقمة هنية تكفي مية.
انشغلت عزيزة بإطعام يونس، وقد جلس منتصب القامة كالرمح في مواجهتها.
وحين انتهوا من عشائهم ودارت أقداح القهوة والمرطبات جاء دور الغناء، فطالب الجميع مي بالغناء الذي أثار إعجاب كل من عزيزة وسعدى، بل ومشاهير مغنيات العزيزة اللواتي انبهرن بعزفها وموشحاتها ومواويلها التي لا تخلو من حزن دفين وشجن متوقد للأهل في المشرق ونجد المرية خاصة.
وكان كل هذا ترصده عينا العلام المتلصصتان في اندهاش مرير من مخبئه بين ثنايا أغصان وأشجار بستان العزيزة مشتعلا في حسرة وحسد صارخا لنفسه: هم جواسيس عرب المشرق.
الزناتي يفاجئ العشاق الأربعة
تراجع الأمير العلام في مكمنه المختبئ بين أدغال بستان العزيزة مروعا وهو يرقب في أقصى ذهوله غير مصدق ما تشهده عيناه المتلصصتان وتسمعه أذناه، وهو يفح لنفسه وقد عاوده ألم أسنانه: هم بذاتهم، حسب أوصافهم، جواسيس، عرب المشرق، الهلالية.
غطس وجهه في ظلام البستان يستنجد بحرسه وعسسه، إلا أنه عاد كمن يسترجع عواقب ما سيحدث الليلة: ليس الآن يا عزيزة، ليس أوانه.
من جديد تحرك مستديرا متخذا نفس وضعه.
لم يكن أبو زيد الهلالي أكثر انتصارا في تحقيق مآربه، ما عليه الآن هذه الليلة؟ فهو الآن وجها لوجه مع حاكم تونس وتخومها وفارسها الأول خليفة الزناتي، وإلى الخلف منه وقف العلام بن هضيبة داخل قصر العزيزة وسعدى: أحقا ما يحدث؟!
ولعلها هي ذات الأحاسيس التي رادوت يونس وإخوته ومي الحزينة: أحقا؟!
أما عزيزة التي أذهلتها المفاجأة بدخول عمها الزناتي مقرها خلسة وفي أعقابه كرباجه الضارب العلام ابن عمها، والذي استحال نظرها في الأيام الأخيرة إلى عدو حقيقي ينزف حقدا وغلا عليها وحدها دون نساء تونس جميعها.
فما إن رحبت عزيزة مسرعة بالزناتي، ووقعت عيناها على العلام حتى صرخت في وجهه كمن تكشف لها الموقف: ثعبان!
عاجلتها سعدى مرحبة بأبيها: أرقط ومنقط.
أما خليفة الزناتي فمضى من فوره متفرسا في ملامح الغرباء الخمسة، كمن يتذكر مجهدا أين صادفهم والتقى بهم، ذلك الكهل الأسمر والشبان الثلاثة والجارية بذاتها مع قيثارتها.
استدار مستطلعا العلام: أين؟
أجاب العلام على الفور متغاضبا إلى حد التجاهل الكامل سباب وشتائم عزيزة وسعدى: يبدو أنهم أكثر من مجموعة.
زفر الزناتي متضايقا منه، مستديرا مرحبا وعزيزة تقدم له ضيوفها: فنانون (مشيرة إلى أبي زيد) شاعر عظيم وصوت مي، على باب الله.
قاربته سعدى وعيناها لا تغفل عن مرعي مداعبة: اتفضل استرح يا أبي.
وشدد هو من قبضته على يدها مواصلا استغراقه وتطلعه: سعدى ابنتي، من هؤلاء؟ - شعراء وفنانون ...
بل إن الزناتي ذاته هدأت ملامحه إلى حد الترحيب بالجميع، يونس وأبي زيد ... - مرحبا بالضيوف (مشيرا إلى الأرض) دياركم.
أما العلام فأبدى مللا وامتعاضا وهو يتطلع عن قرب في وجه يونس بالذات وأبي زيد والباقين، وبالتحديد إلى مناطق أعناقهم الخمسة حتى الجارية كانت ساعتها تغني، بعد أن طالبها الجميع بالغناء وتبديل ما حط عليهم من حرج مفاجئ لم ينج من نظرات العلام المتفحصة.
وأسقط في يد العلام، بدا منظره أكثر غربة من الهلالية ذاتهم في حضرة حاكم تونس الزناتي، فراحت كل من عزيزة وسعدى تكيل له النظرات المشحونة بكل كره وعداء واستنكار لتصرفاته العدوانية المبددة لأي لحظة فرح . - شيطان رجيم!
وحاول العلام أكثر من مرة الاقتراب من الزناتي وتبصيره بما يحدث خلسة: متسللون، عيون عرب المشرق الطامعين، لن نخدع.
إلا أن الزناتي لم يعره آذانا مصغية، وهو الذي استقدم له في غروب شمس هذا اليوم بالذات خمسة أشخاص على شاكلة هؤلاء تماما حين أزهق أرواحهم على عتبة قصره، باعتبارهم متسللين خطرين.
ثم ها هو أخيرا يعاود اللعبة ذاتها، وهنا في قصر ابنة سلطان تونس ووريثته عزيزة وابنته هو - أي الزناتي - الذي يحمل اسمها تيمنا، أبو سعدى.
وتساءل طويلا وهو يراقب في شره لا يخلو من غموض ما يحدث ويجري أمامه في تلك الليلاء.
حتى إذا ما حاول العلام إعادة تعبئته وشحنه ضد هؤلاء الأغراب «المتسللين» من ذوي المعشر الحسن؛ أجاب زاجرا ابن أخته بمؤخرة ذراعه: اهدأ يا علام. - كيف لي أن أهدأ يا مولاي وعيون المشرق تعمل داخل قصورنا ذاتها؟!
دق الأرض بقدميه كمن يستعد للإقدام على حماقة جديدة: هنا.
أعاد الزناتي قوله بإصرار: قلت اهدأ. - ما تراه يا خال.
وثقل جو المكان نتيجة لعدوانية عزيزة وسعدى ضد سموم العلام النازفة بلا توقف، مما دفع بالزناتي إلى الوقوف مودعا الجميع مطالبا سعدى بعدم التأخر طويلا قبل الالتحاق به، واستدار الزناتي منسحبا والعلام في أثره كظله متحاشيا نظرات الفنانين والباقين، ينفجر غيظا وألما مما يحدث له أمام الزناتي.
وانتفض الحرس وسمعت قرقعة السلاح صادرة من كل مكان لتحية الزناتي، الذي ما إن عبر بستان العزيزة المعبق بزهور الياسمين والفل والورد والرياحين ووصل إلى عربته، حتى اعتلاها صامتا مشيرا لحرسه بالعودة إلى قصره دون تبادل كلمة واحدة مع العلام ابن أخته الذي حاول اللحاق به ولو ليقول له: عمت مساء.
وهكذا توقف العلام كالمأخوذ، أو كمثل تائه لا يعرف له طريقا، وخيل إليه أن نظرات العزيزة ما تزال مسلطة عليه مثل جمر متقد وهي تصرخ في وجهه: اغرب، اغرب!
اندفع العلام إلى مركبته تعبا متوترا مشيرا على رئيس حرسه بالتوجه فورا وبسرعة إلى قصره، مما حدا بهم إلى إلهاب ظهور جياده الأربعة التي اندفعت تدك أرض قرطاج الرخامية مسرعة وسط الظلام.
أما عزيزة وسعدى والهلاليون فقد واصلوا سمرهم البريء وكأن شيئا لم يكن، ومن جديد دارت أطباق الحلوى والمأكولات وكئوس العصير والشاي والشطائر.
وما إن قارب سمرهم الانتهاء حتى دعتهم عزيزة إلى المبيت بقصر الضيوف الملحق بقصرها غربا، يقيمون فيه ما شاءوا، واستقدمت كبير حرسها ليصحبهم عقب إعداد ما يلزمهم من غطاء ومأكل.
وأحست وهي تضع يدها بين يدي يونس بدبيب دافئ يسري في عروقها وهو شعور لم تحسه من قبل: يونس ...
ونفس الإحساس انتاب سعدى مع مرعي وهي تداعبه هامسة: لا تفتح عينيك يا مرعي صباحا قبل وصولي، إياك وإني لأحذرك!
غمغم مرعي وهو يودعها لتلحق بأبيها الزناتي قائلا: هذا عهدي لك يا سعدى.
أما العزيزة فوعدت يونس بإطلاعه غدا على ضوء الشمس على بقية مجموعات مقتنياتها وتحفها الفنية. - أريد أن أسمع رأيك يا يونس.
ثم همست في أذنه: العمر بطولو. - نفس الإحساس يا عزيزة.
حمل أبو زيد خرجه متقدما الباقين، وتبادلت مي مع الأميرتين القبلات التي ضحك لها الباقون مطولا ... - يا بختك يا مي! - حظوظ!
اتخذوا طريقهم على ضوء الشمعدانات الموقدة بأيدي الحرس والجواري عبر مسالك بستان العزيزة المعبق بعطر الزهور، إلى حيث دار الضيافة الملحق بقصر الأميرة عزيزة، وأبو زيد ما يزال يواصل تعليقاته: يبدو أننا ضللنا الطريق إلى الجنة! - حقا يا خال، حقا.
وما إن احتواهم القصر المرمري الناصع البياض، بعدما أمرت العزيزة بإعداد كل ما يلزمهم، حتى مضوا يلفظون وقد تملكتهم جميعا نشوة جارفة بلا استثناء مع الرغبة في الكلام وطرح التساؤلات حول رهبة أحداث هذا اليوم، الذي وصفه أبو زيد بأنه ليس أبدا مجرد يوم: بل دهر.
أي أن يمتد بأبي زيد وفرسان بني هلال العمر - أو الدهر - ليشهدوا بأعينهم زناتي تونس مستأنسا يسامرهم عن قرب مرحبا بقوله: تونس بلدكم.
بل الأدهى هو أن يمضوا ليلتهم هنا تحت ضيافة ورعاية حكام تونس ذاتهم والزناتي وتابعه العلام بن هضيبة.
قاطع يونس أبا زيد وهو ما يزال سعيدا منتشيا منذ أن لامست يده يدي عزيزة في حنو لن ينساه مدى العمر: هي ضيافة عزيزة أولا وأخيرا يا خال.
اندفع مرعي بدوره مأخوذا بحبيبته: ويمكن القول بل هي سعدى بنة الزناتي، سأفتح عيني بعد ساعات لا غير على عينيها الخضراوين، بستان يزول أمامه بستان العزيزة الشاسع!
مضوا يتأملون زهورهم المعقودة حول أعناقهم وهم يغيرون ملابسهم استعدادا للنوم، ويستعيدون تفاصيل تلك الرؤيا التي عايشوها غروب شمس هذا اليوم المشحون المتأجج بالشحن، خاصة بالنسبة إلى يونس ومرعي اللذين أغمضا عيونهما كل على فتاة أحلامه؛ يونس مع عزيزة ومرعي مع سعدى، بينما انغلقت عينا أبي زيد الهلالي على عيني العلام بن هضيبة المسلطة على عنقه وهما متقدتان كجمر نار.
وامتد بالهلاليين المقام بتونس أياما لا تنسى وهم ينزلون ضيوفا على أميرتي تونس عزيزة وسعدى، وبمباركة الزناتي خليفة ذاته الذي رحب بهم في ديارهم.
وعلى مرأى من العلام الذي مادت الأرض تحت قدميه، وهو الوحيد الذي يمكن القول إنه تأكد يقينا لا تخالجه أبدا أي ومضة شك بأن هؤلاء الغرباء الخمسة ما هم سوى جواسيس بني هلال بلحمهم وشحمهم، الذي أوصل الأمور إلى حد لا يمكن إرجاعها، وكيف له الرجوع عن كذبته التي أطلقها عبر بحر سوسة؟! - ألقينا القبض على جواسيس بني هلال!
ولكي يسبك حماقته تلك أطلق لجنده العنان لأسر خمسة أشخاص أيا كانوا لهم ذات المواصفات لحين قطع رقابهم وإشاعة الخبر الذي على أثره انطبقت أجفان خاله الزناتي مطمئنة.
إلى أن جاءت الطوبة في المعطوبة، ليشهدهم في ضيافة العزيزة ويكرم الزناتي وفادتهم كضيوف شرعيين يلتزم العلام بتأمين كل حماية لهم! - أيعقل ما يحدث في تونس الآن بسببه وبسبب كذبه وحماقته؟!
غمغم إلى نفسه: أنا سجان تونس، أصبح سجينا لا حول لي ولا قوة على هذا النحو إزاء ما يحدث؟!
وغمغم مرة أخرى: أتستر على جواسيس ... أبي زيد الهلالي؟!
استدار ملتفحا عباءته استعدادا للرحيل ومقابلة خاله خليفة الزناتي منبها نفسه بصوت مسموع: وليكن ما يكون.
اتخذ العلام طريقه إلى قصر عزيزة متخذا وضعه المختبئ السابق الذي يسمح له بمواصلة التلصص وهو يفج في مأزقه متطلعا إلى الشبان الثلاثة وأخصهم يونس الذي قاربته عزيزة في جلستها الهائمة، ثم ذلك الكهل النشط الموقد الحركة والتعبير كمثل جمر ملتهب «أبو زيد» معاودا الإسرار لنفسه: هم بذاتهم جواسيس بني هلال الأربعة.
عاد متسائلا في ألم: وأين؟ داخل قصرك يا عزيزة؟!
وتضاعف ألمه أكثر حين استرجع تفاصيل ما حدث معه أمام خاله الزناتي في تلك الليلة ذاتها فقط.
حين أثقل عليه بضرورة إحضار جواسيس عرب المشرق الذين كانوا قد تسللوا بمساعدة عبدهم الأسود صاحب الحيل والملاعيب الذي يعتقد أنه أبو زيد الهلالي من بوابات تونس صباح «الموسم» الماضي واختفوا داخل تونس كمن انشقت الأرض وابتلعتهم.
فما كان من العلام إلا أن قطع تونس طولا وعرضا، بحثا عنهم دون أن يعثر لهم على أثر. - ابتلعتهم أرض تونس وقلاعها.
زفر العلام منفعلا من أعماق قلبه وهو يعاود التلصص مركزا كل حواسه هذه المدة على وجه العزيزة، التي كانت بدورها مستغرقة في تأمل وجه ذلك الفتى الجالس إلى جوارها، والذي نفذ حبه إلى أعماق قلبها كمثل نصل غائر الأبعاد؛ يونس.
وهنا استبد الجنون بالعلام إلى حد اتخاذ قرار سريع: لا بد من عمل شيء، وليكن ما يكون، لإيقاف هذه المهزلة السوداء الليلة.
تحسس مقبض حسامه في وسطه متذكرا من فوره وجه خليفة الزناتي وكأنه هو بذاته المنقذ لما هو فيه من تردد وألم، ثم اندفع كالمنكفئ عائدا من حيث جاء مبتعدا عن مكمنه داهسا تحت ثقل قدميه شجيرات الزهور وورود العزيزة المختلفة الألوان والأشكال، إلى أن وصل إلى حيث حرسه وركبه المنتظر في فضول، وقد استبد به القلق الشديد.
وحين استقر به المقام داخل عربته الفاخرة المطهمة، قطع حبل الصمت قائلا بصوت خفيض لحرسه وثلة جنده: عودوا من حيث جئنا. - إلى أين؟ - إلى قصر الزناتي.
كان الخليفة الزناتي في ذلك الوقت ما زال غافيا على مقعده الوثير يعاني كابوسا طالما تكرر عليه في الآونة الأخيرة، خاصة عقب العشاء الثقيل الذي كان يخلد إلى النوم على أثره، فقد كان يرى نفسه نهبا لطائر كبير يشبه النسر الجارح الذي كان يحط على رأسه من عنان السماء، وهو يضرب بجناحيه، حيث يمضي ينقر بمنقاره ومخلبيه بؤرة عينيه بينما جثته طريحة الأرض العراء.
فكان يحاول جاهدا تحريك ذراعيه لإبعاد ذلك الطائر الوحشي، لكن دون جدوى: أبعد، أبعدوه، عيناي!
هنا قاربه كبير حجابه معلنا: الأمير العلام.
فتح عينيه في صعوبة مندهشا محتدا: العلام تاني!
هب عن عرشه مبعدا عنه كابوسه الثقيل، وتجمع من حوله أربعة حجاب مسرعين، انشقت عنهم ستائر العرش لمساعدته في خلع عباءته وبقية ملابسه الرسمية استعدادا للنوم.
إلا أن العلام كان أسرع الجميع حين اندفع إليه ملهوفا صارخا: عذرا يا سيدي! - ماذا يا علام؟
أومأ العلام لحجابه ومساعديه بالابتعاد، قائلا في صعوبة: أنت أدرى الناس يا سيدي بمدى إخلاصي لك، وأنني لا أخفي عنك خافية. - وبعد يا علام؟
تردد العلام طويلا في إبلاغ خاله الزناتي بأن القتلى الأربعة لم يكونوا بالحق جواسيس بني هلال، وأن الجواسيس الحقيقيين يرتعون بقصر الأميرة، أي في مخادع حكام تونس آمنين.
اقبضوا على الجميع
- من تطوله أياديكم وأينما كان.
لكن دون أن تطول أياديه المتعددة المخالب عيون بني هلال المتسللين.
وهكذا وصل حنق خليفة الزناتي وضيقه منه مداه، استعجالا في القبض على المتسللين بحسب ما تشير به تقارير عيونه وبصاصيه المنبثة في كل شبر ومكان حتى عليه هو ذاته، أي العلام!
مما أجبر العلام على اختلاق تلك الكذبة.
ومضى العلام منكلا بكل ما تقع عليه عيون بصاصيه من الغرباء أيا كانوا. - أوقعنا القبض بجواسيس عرب المشرق الخمسة.
وجاءه رد الزناتي: أحضروهم أحياء.
فما كان من العلام وهو في طريق عودته من سوسة إلى قرطاج سوى إلقاء القبض كالمجنون على خمسة أشخاص بغض النظر إن كانوا أغرابا أم تونسيين، المهم انطباق المواصفات عليهم؛ كهل أسود مصطحبا ربابة قديمة وثلاثة شبان حسنو المظهر تحت ملابسهم التنكرية وجارية بيضاء أميل إلى القصر جميلة المحيا رائعة الصوت.
وهكذا أحضرهم إلى مقر الزناتي، بعد أن أطلق أيدي جنده في تعذيبهم أحياء على طول الطريق، إلى حد شل كل حركة أو مقاومة فيهم حتى أخرس كل نطق فيهم.
حتى إذا ما تأملهم الزناتي استراحت نفسه وعاوده استرخاؤه ونعاسه، مشيرا بحربته الهمجية بقتلهم تحت تخته وعرش أجداده: هنا.
وعلى الفور قطع جند العلام رءوس الخمسة الأبرياء تحت عتبات عرش الزناتي، دون رحمة، دون أي محاكمة!
وهنا استراح وجه الزناتي وانفرجت أساريره وأسبل عينيه، مسلما نفسه لخدر النعاس وهو يتمتم لنفسه: سأنام، سأنام الآن.
وعاد العلام مجهدا إلى مقره، فسنح له خاطر طارئ لم يكن التيقن من شيء، معاودا التطلع في حدقتي عيني العلام لعله يفهم شيئا مما تراه عيناه وتسمعه أذناه على هذا النحو الصادم الذي كاد يوقف نبضات قلبه. - الموت المحقق، جحيم!
أعاد التلصص غير مصدق: هم بذاتهم وأوصافهم الخمسة أبرياء، الذين أزهقت أرواحهم على عتبة عرش خالي الزناتي.
ثم تابع متمتما لنفسه وهو يتساءل: أحقا ما يحدث؟ وأين؟
وأتعبت الحيرة العلام إلى حد شل حركته وفكره بكامله، هل يصدر أوامره بحصار قصر عزيزة؟ أم يبعث في طلبها وفي هذه الحالة ستسبه بأشنع السباب أمام جواريها وحرسه وتونس بأكملها؟ - كارثة!
عاوده التساؤل في محنته تلك بينما العزف الماهر النشط لذلك العبد الأسود ورقصه الصاخب أمام عزيزة وسعدى يصم أذنيه. - ماذا أفعل؟!
هل يصدر أوامره لحرسه بإلقاء القبض عليهم باعتبارهم جواسيس بني هلال؟ في تلك الحالة كيف يكون موقفه أمام خليفة الزناتي الذي أشار بنفسه بقتل الخمسة السابقين مومئا بطرف حربته: «اقتلوهم»؟
كان صوت الجارية الشجي وعزفها الماهر قد ارتفع مبددا كل وحشة، وهي تنشد مغنية مرتجلة وصفا عن عزيزة يقول: تقول عزيزة بنت سلطان تونس:
وجرح الهوى قد علقني حبايله
جرحني الهوى في قلب أهانني
ومشعال نار الحب أوقد فتايله.
تفرسه الزناتي متضايقا: ماذا حدث؟ أنا مرهق هذه الليلة، انطق.
واندفع العلام مسرا إليه بما شاهده داخل قصر الأميرة العزيزة ومعها سعدى.
شهق الزناتي مقاطعا: سعدى! - أجل سعدى والعزيزة، ومعهم خمسة غرباء من العوام، يغنون ويرقصون والقصر مضاء كجمرة ملتهبة وسط الظلام.
تساءل الزناتي متعجبا: وماذا؟!
اندفع العلام قائلا: أقصد الأمن أمن الأميرتين.
قال الزناتي: من أي أمن يا علام، والقصر تحت حراستك؟!
عاود الزناتي مساءلته هذه المرة: هل حدث شيء؟ - لا. - هل هناك ما يشير إلى خطر؟ - أجل يا مولاي، تحقق بنفسك.
وهكذا هجر النوم جفني الزناتي، مرة أخرى وربما إلى أبد، تلك الليلة، فتشدد في وقفته، وأعاد الحجاب إلباسه وربط عباءته من حول عنقه، مقررا الذهاب بنفسه ليرى ويشهد ما يحدث. - فين يا علام؟ - قصر الأميرة عزيزة الشرقي.
وهكذا اندفع ركب الزناتي مخترقا ساحات وشوارع وحواري قرطاج الغارقة في سبات نومها في تلك الساعة التي تقارب منتصف الليل.
وما إن شارفوا القصر وتوقف ركب الزناتي وفي أثره ركب العلام بن هضيبة، حتى طالب الأخير الزناتي بالترجل وإبعاد الحرس والعيون تمهيدا لتسللهما معا عبر أشجار العزيزة. - تعال يا خال.
وما إن قاربا البستان وخاضا فيه بصعوبة، حتى هالهما ما يسمعانه من موسيقى وغناء غريبين عن أذنهما، إلى أن اتخذا مكمنهما الخبيء المشرف على القصر، ليريا بوضوح ويسمعا مي الحزينة ترتجل لعزيزة مغنية بصوتها الدافئ المعبق بشجن نجد:
وقفت العزيزة في ريح القصر وريحاته
وقالت يا دلال صاحب العقد روح هاته
ولما قالوا لعزيزة دا يونس في الشجر برا
نزلت تهز العباية وتقولو كنت فين سلامات
ومن ابتلا بك يا يونس
طق وانسلا ومات.
ودوى التصفيق والاستحسان من سعدى ومرعي ويحيى وأبي زيد والجميع، وعلت الضحكات المنتشية البريئة. - ما أحلاك يا مي! يا عيني! بديع شعرك مع اللحن والصوت!
امتد الحديث مطولا بين الجميع، الذي لم يكن الزناتي والعلام يدركانه: غرايب!
إلى حد محاولة الزناتي الاقتراب أكثر متسمعا متطلعا كمن يحاول التيقن من شيء، معاودا التطلع في حدقتي عيني العلام لعله يفهم شيئا وهو يواصل التقدم أكثر فأكثر، بينما العلام يحاول منعه وإثناءه فيلكزه مبعدا، إلى أن فوجئ الجميع به داخل قصر الأميرة عزيزة على ما هو عليه من سمر وطرف وحديث عذب.
هبت عزيزة أولا منتصبة معلنة: عمي خليفة الزناتي.
إلى أن تلاقت عيناها بعيني العلام المتآمر.
عودة أبي زيد إلى نجد والرحيل والحرب
كان أبو زيد الهلالي على الدوام مفتونا بحياة الصعاليك وبسطاء الناس والخارجين على كل قانون ومنطق وما هو متعارف عليه.
فما إن أطلق سراحه وحده دون رفاقه الأربعة الهلاليين الذين أودعوا السجن، يونس ومرعي ويحيى والجارية المغنية مي الحزينة، ليعود إلى أهله وعشائره عرب المشرق، ومركزهم نجد، ليأتي عائدا بالإثبات والفدية لإطلاق سراح بقية الرهائن الهلاليين الأربعة؛ حتى انطلق من فوره بحثا عن مجموعة من الصعاليك ما بين شعراء جوالين وحواة وحكواتية يقيمون بوادي «الرشراش» الفسيح المزهر خارج بوابات وقلاع قرطاج.
كان أبو زيد قد أودع لدى أولئك الصعاليك أمانة، وهي حصانه «أبو حجلان»، قبل التسلل هو ورفاقه بالحيلة إلى داخل أسوار تونس المنيعة بعد ادعائهم مختلف العلل والشعوذة لحراسها.
لذا فما إن أطلق الزناتي والعلام سراحه ورافقته عيونهما الراصدة لحين وصوله إلى بوابات قرطاج منفلتا خارجا، عقب سلسلة من الكمائن التي وضعها العلام في طريقه لإعادة أسره حيا أو ميتا، وهي كمائن ومصايد حسب لها أبو زيد ألف حساب، مما يسر له تفاديها ليجد نفسه وحيدا حرا على طول امتداد سهول وتلال وادي الرشراش الفسيحة الموحشة.
فمضى من فوره بحثا عن حصانه دون أن تغيب عنه لومضة خاطفة صورة الزناتي فارس تونس وابن أخته العلام.
ومن عادات أبي زيد الهلالي وما اشتهر عنه قدرته الفائقة على إعمال خياله، والتنبؤ الدقيق بتفاصيل ومصاعب ووعورة ما يمكن أن يحدث ويقع له من مصائب قبل حصولها.
فهو لا يترك أبدا للصدفة منفذا لإطباق حصارها سواء جاءت تلك الصدفة وعشوائياتها لتعرقل مسيرته من جانب طريق وعر، أو خدعة حربية أو تفوق لقوى قد تتصدى لفيالق وكتائب الهلاليين التي كثيرا ما كان يأخذ على عاتقه مهمات سلامتها، وتذليل واختراق ما يواجهها من صعاب.
من هنا مضى أبو زيد يراجع نفسه متذكرا ما حدث له ولرفاقه داخل أسوار تونس، وخاصة وجهي فارسيها خليفة الزناتي والعلام، وذلك منذ قدومهم إلى استطلاع مهمتهم داخل قرطاج تونس، فوقع لهم ما وقع من العلام بن هضيبة وزناتي تونس الذي واجهه أبو زيد داخل قصر العزيزة بلحمه وشحمه وهو لا يصدق عينيه ومشاعره.
فلقد مضى يستطلعه عن قرب وكما لو كان يتعرف مسالك طريق أو خطة حربية من تلك التي اشتهر بها أبو زيد.
توقف أبو زيد الهلالي مستطلعا بعينيه، مطلقا بصره على الأفق اللانهائي لوادي الرشراش الفسيح المغطى بالكلأ، والذي على سفوح مرتفعاته وعبره ستجرى يوما «وقائع» الهلالية مع الزناتي والعلام وجيوشهما الجرارة وعمقها الممتد على طول المغرب العربي والجزائر حتى الأندلس.
تصور أبو زيد بعميق خياله سيول الدم المراق الذي سيجري أنهارا عند أخاديد وادي الرشراش الذي سترابط فيه كتائب وفيالق الهلالية فارضة حصارها على بوابات وقلاع قرطاج وما يتبعها ربما سنين طوال، مطالبين بالإفراج عن أسراهم الثلاثة أمراء يونس ومرعي ويحيى أبناء السلطان حسن بن سرحان، الذين وعلى عكس كل تصور غرقوا بكاملهم كل في قصة حب وعشق دامية، وكما لو كانوا على موعد معها أو كانوا مجرد عطاشى في أعماق الصحارى العربية عثروا على مائهم يروي ظمأهم.
وذلك حين استجاب يونس - رغم تحذيرات أبي زيد - في حب عزيزة إلى حد أنهما أصبحا لا يفترقان لحظة.
ونفس الشيء وقع لمرعي مع سعدى بنة الزناتي، بل وحتى الأمير الصغير يحيى الذي استهوته مي الحزينة، فأصبح لا ينام ويصحو إلا عليها وعلى شمائلها وصوتها الأخاذ.
صحيح أن ذلك لم يكن أبدا غايتهم ومقصد آمالهم، وهدف ريادتهم من نجد المرية إلى قرطاج عبر تلك الرحلة المضنية ومخاطرها، لكن لا بأس طبعا مما حدث من حب وعشق وغرام طالما أنها ستكون السياج الحامي والحافظ لسلامة الأمراء الثلاثة، خاصة يونس الذي يضعه أبو زيد في موقع حدقتي عينيه.
بل إن ذلك الحب الذي يكنه أبو زيد ويحفظه في قلبه قد تضاعف قبل مجيئهم مباشرة إلى تونس، تلك التي تركه الآن بها قابعا مع أخويه داخل أغوار سجونها الموحشة مسهدا متيما بحب عزيزة. - مسكين يونس ولدي!
تضاعف حب الخال أبي زيد ليونس منذ أن اقتحمه وتوصل إليه بخلوته في وادي الحجاز عقب لقائه المأساوي بالأميرة العالية بنت جابر بجمالها وحضورها الآسر، فأحبها من فوره رغم أنه قاتل شقيقيها في أحد غزواته ومعاركه، ثم كيف تصرف يونس بحكمة ماهرة إلى أن نال مشتهاه بزواجه بالعالية.
إلا أن فرحته هو ذاته - أبو زيد - بالزواج من العالية لم تكتمل حين فضل طائعا الإسراع بالخروج في هذه المهمة، التي ويا للأسف يعود منها وحده بعدما خلف رفاقه الأمراء الثلاثة مودعين سجون تونس لحين عودته بفديتهم!
غمغم أبو زيد ساخرا لنفسه وهو يضرب بنعليه حواري ومتاهات ذلك النجع الذي ترك به حصانه وبقية مهامه ولوازمه لدى أحد عيون الهلاليين لحين عودته. - نرجع بجيوش الهلالية حالا يا علام.
حتى إذا ما استرد حصانه ومضى ليلته بوادي الرشراش ودع مريديه بحرارته المعهودة وامتطى حصانه مع الغسق مطلقا العنان إلى نجد المرية، يسابق ريح الصباح المعبقة بعطر تونس وتخومها.
كانت مهمة فارس بني هلال أكثر وحشة ووعورة مع العودة عنها مع المجيء إلى هذه الديار؛ نظرا بالطبع إلى وحدته من دون رفاقه، ونظرا أيضا لأن عليه الإلمام بكل الدقة لكل جديد أو تغيير طرأ على البلدان والأقوام التي ستمر بها - فيما بعد - الهجرة الهلالية يتقدمها جيشها الحامي الفاتح.
ففي مصر العدية وجد الأمور كما هي مع حاكم صعيدها الماضي «ابن مقرب» حليف الهلالية الوفي؛ نظرا إلى إخلاصه وثباته على محالفتهم.
لكن المشكلة قد تطول بهم - أي الهلاليين - في دمشق وفلسطين لتصبح أقل كثيرا في بلاد السرو وعبادة - الأردن اليوم - وحلب الشهباء ووادي الرافدين عامة.
كان عليه الإلمام المستفيض بمجريات أمور وصراعات هذه الأقوام المتاخمة.
وكان لأبي زيد الهلالي طرقه الخاصة لحشود الأحداث والمعلومات التي عليه اختزانها بشكل يحقق فائدتها عند الحاجة دون كثير عناء ودون الاعتماد فقط على الذاكرة، خاصة إذا ما تطلب الأمر تحقيقها على الخرائب ومسالك الطرق وكيفية عبورها برا أو بحرا أو حتى الاضطرار إلى تحقيقها وشقها في حالة عدم وجودها.
فمن أقوال الهلاليين التي اشتهرت عنهم: أشق الطريق إن لم أجده.
ولذا ما إن تحقق لأبي زيد التوصل إلى أهدافه ومبتغاه، حتى اتخذ طريقه إلى نجد محملا بكل جديد من يانع المعلومات التي تعجل بالهجرة، وما تتطلبه بالضرورة من دفاع وحرب.
حتى إذا ما شارف أبو زيد معالم نجد سرا ليلا ترجل عن حصانه، مسلما قياده لأول من صادفه بها وكأنه كان على موعد شديد الدقة مع وصوله. - أبو قمصان ...
فهو الذي رحب به مقتضبا كعادته، وكأنهما لم يفترقا لشهور طويلة أقيمت الدنيا فيها وأقعدت مرات إثر مرات، قائلا في تعاليه: أين الشباب؟ - بسجون تونس.
قال أبو القمصان بتعاليه: تونس، تقصد قرطاج. - أنا متعب يا أبا القمصان.
أشار أبو القمصان: إذن عليك بالأميرة العالية الليلة.
وهكذا أخذ أبو زيد من فوره بنصيحة - إن لم يكن صيغة أمر - أبي القمصان متجها من فوره إلى قصره ومضاربه.
حتى إذا ما استقبلته زوجته العالية بكل الحب والترحاب وهي تمسح دموعها الغزيرة في وجهه ولحيته: أبو زيد، حبي، لم أعد أستطيع فراقك غمضة عين.
وهنا أردف أبو القمصان قائلا: كانت تفك غلها في ريش طيور البيت من إوز ودجاج لتنتفها في حرقة.
ولم يتمالك أبو زيد والعالية من الضحك حين نطق أبو القمصان موضحا: حرقة الفراق.
ولم تطل فرحتهما باللقاء كالعادة منذ زواجهما، فسرعان ما عرف وانتشر خبر وصول أبي زيد الهلالي سرا ليلا ليسري سريان النار في هشيم الضواحي والبوادي.
وعلى الفور تجمعت الوفود من كل صوب وحدب باتجاه مضارب أبي زيد منشدة ومغنية:
اليوم قد جانا
من هو عزنا وحمانا.
وهكذا لم يجد أبو زيد مهربا للحظات يختلي فيها بالعالية حبيبته - الذي أدماه فراقها - بعدما أرغم على الخروج والالتقاء بالوفود التي تقاطرت على مضاربه مرحبة مستطلعة.
إلى أن جاءه ركب السلطان حسن بن سرحان ذاته، وبصحبته أخته الجازية وقاضي القضاة بدير بن فايد والأمير زيدان الهلالي شيخ الشباب.
وكذلك جاء دياب بن غانم وابنته «وطفاء »، وأزمة بني زغبة الذين قدموا من اليمن إلى نجد في فترة غيابه، تمهيدا لما ستسفر عنه الريادة للتعجيل بالخروج والرحيل.
وما إن تصافح أبو زيد مع الجميع حتى برز التساؤل المؤرق حول مصير الأمراء الشبان. - يونس ومرعي ويحيى، ومصيرهم؟
هنا فاجأ أبو زيد السلطان حسن والجميع بأنهم مودعون سجون الزناتي والعلام بتونس كمتسللين وجواسيس، بينما أطلقوا هم سراحه ليرجع إلى هنا - نجد - ويعود من جديد بفديتهم.
عندئذ علا الحزن والكمد وجه السلطان حسن لفقده أولاده الثلاثة: يونس ... أكبادي!
وحاولت الجازية من جانبها الاستزادة من دقائق وتفاصيل ما حدث من أبي زيد الذي حكى لهم كل ما توصل إليه من أخبار ومعلومات لحين وصولهم تونس، والتحايل على دخولهم ووصولهم إلى أقصى المراكز الحاكمة بها، وكيفية لقائه بالزناتي خليفة وابن أخته العلام بن هضيبة.
إلى أن كان حدث التشكك في نواياهم ومجيئهم إلى قرطاج الذي انتهى باعتقالهم جميعا من داخل قصر ضيافة الأميرة عزيزة ابنة سلطان تونس المريض معبد بن باديس، ليودعوا غياهب ومطمورات سجون تونس، لحين الإفراج عنه وإطلاق سراحه ليعود بفدية الأمراء المحتجزين. - هذا ما حدث.
وقبل أن يتم أبو زيد حديثه كان مجلس المشورة قد استعد للانعقاد داخل قصر السلطان حسن الهلالي والجازية، وحسم الأمر بإعلان أمر الرحيل إلى تونس لفك أسر الأمراء يونس ومرعي ويحيى.
وعلت على الفور طبول الحرب الندوبة المتوارثة منذ ملوك وتباعنة اليمن والمعروفة بالرجروج؛ إيذانا بالرحيل والحرب.
الزناتي يجمع مجلس حربه لمحاربة الهلالية
استطاعت الأميرتان عزيزة وسعدى بعد طول صراع مع العلام منذ رحيل أبي زيد الهلالي عن تونس، نقل الفرسان الثلاثة يونس ومرعي ويحيى من سجون تونس العامة إلى السجن الملحق بقصر العزيزة.
وذلك حتى يكونوا بمأمن من انتقام ورعونة العلام وبطشه الذي قد لا يعرف أحد مداه بالنسبة إلى أمن تونس، في حالة إقدامه على قتل الغرباء الثلاثة غدرا داخل غياهب السجن.
وهو بالفعل ما حاول العلام ارتكابه بمختلف الوسائل والأساليب للتخلص منهم وأولهم يونس بالذات، الذي رأى العلام بعيني رأسه تعلق عزيزة به بحيث أيقن من ذلك تماما، بينما تعلقت سعدى بشقيقه الأصغر مرعي.
ومن هنا لم تغفل عيونهما معا عنهما، سواء عن طريق تسلل عيونهما وبصاصيهما إلى داخل أسوار سجنهما أو عن طريق فرض سلطاتهما كل منهما عن طريق والدها.
فأكثرت عزيزة من التردد على قصر والدها المريض السلطان معبد، كما تكفلت سعدى بأبيها فارس تونس وحاكمها المهاب الخليفة الزناتي، الذي يخشى العلام أول ما يخشى سطوته والخروج عن أوامره وإرادته.
بالإضافة إلى التزامهما معا أو منفردتين بزيارة السجن والالتقاء مواجهة، عزيزة بيونس وسعدى بمرعي.
واللافت للنظر أن محاولات العلام لاغتيال الغرباء الثلاثة والإجهاز عليهم داخل أحد سجون تونس الواقع تحت سطوته، كانت تجيء - بشكل دوري - في أعقاب زيارة كل من عزيزة وسعدى ليونس ومرعي والإتيان لهما ببعض ما قد يحتاجانه من مأكل وملبس ومدونات أو مخطوطات انكب دأب يونس على قراءتها، للتخفيف من عبء وضغوط السجون والبعد عن عزيزة بالذات كما ذكر لها مرة.
وبالطبع كانت تنقل إلى أذني العلام كل محاولات عزيزة للاتصال بذلك الشاب المترفع كالرمح المدعو يونس، من عيونه ومرءوسيه، مما كان يلهب أحقاده الدفينة ضد العزيزة التي رفضته وأصبحت تناصبه العداء المعلن، مفضلة عليه ذلك المتسلل المعدم. - حقا ما أغرب وأبشع النساء!
وهكذا يروح العلام يلتهم غله وأحقاده، بحثا عن كيفية الانتقام من ابنة عمه التي فضلت عليه الغريب وأصبحت تحميه وتدافع عنه بكل ما تملك من قوة ضده. - يا له حقا من زمن غريب!
فكان يأمر سجانيه بإحراق كل ما تبعث به عزيزة إليه أولا بأول، بالإضافة إلى التشدد في تعذيبه ومحاولة اغتياله بأي وسيلة متاحة، ولو بكتم أنفاسه في أعماق الليل الدفين.
إلا أن محاولات العلام انتهت كلها إلى الفشل والإحباط، سواء بسبب يقظة يونس وعدم إغفاله ولو لومضة عين عما يدبره له غريمه العلام بن هضيبة، أو عزيزة ذاتها وعيونها أيضا التي نصبتها لحراسته داخل سجنه ومحنته كمثل أم تفيض مسئولية لحماية أولادها. - عيونكم لا تغفل عن أولئك الغرباء، وبالذات كبيرهم يونس .
ونفس الشيء تكلفت به سعدى بالنسبة إلى مرعي، مما أغضب العلام إلى حد الفزع والاحتجاج أمام خاله خليفة الزناتي. - إذن لتحكم البنات الصبايا تونس بدلا منا! وهذا ما يحدث.
أما عزيزة وسعدى فحاولتا من جانبهما تبصير الزناتي بمحاولات العلام المتكررة المكشوفة للتخلص من الغرباء وقتلهم داخل سجون تونس المظلمة بمختلف الطرق المتكتمة. - ولا من رأى ولا من درى.
بل إن سعدى بالذات نجحت قليلا في إقناع أبيها؛ أخذا بالمثل القائل «من ذات ذقنه وافتل له»، قائلة له: لنفترض يا أبي أن كلام العلام صحيح الذي أصبح يطلقه طولا وعرضا، وهو أن هؤلاء الشبان هم أمراء بني هلال المتنكرين، إذن ألا يحقق بقتلهم أو اغتيالهم أخطارا أكبر وأكثر فداحة من وضعهم داخل سجون تونس وبلا أدنى محاكمة أو اعتبار أو ذنب؟
وشيئا فشيئا بدأ الزناتي يتلمس سلامة منطق الفتاتين، وحرصهما على أمن تونس أمام رعونة ابن أخته العلام: هذا صحيح.
وهكذا لم تذق عزيزة النوم ويهدأ لها جفن من أثر السهاد والتفكير في حبيب روحها يونس، إلا بعد أن نجحت في نقله مع شقيقيه من سجون العلام إلى سجن مهجور ملحق بقصرها.
وذلك بعد أن أشارت سعدى مقترحة على أبيها الزناتي تعيين من يثق هو بنفسه فيهم من سجانين وحراس أشداء. - لك ما تراه يا أبي، المهم حفظ الأمانة بعيدا من عبث العلام، حتى يرجع عبدهم بفديتهم.
وكم كان حقا غيظ العلام وكمده من فعل النساء، حين نام وصحا ذات يوم على خبر نقل الفرسان الثلاثة الغرباء إلى سجن قصر العزيزة سرا، وكأنه بالفعل آخر من يعلم! حتى إنه هدد متوعدا لأصفيائه ومقربيه بقوله: ليحدث ما يحدث في قرطاج، أنا غير مسئول طالما أنني آخر من يعلم.
حتى إذا ما وصل خبر ما توصلتا إليه عزيزة وسعدى إلى أسماع يونس ومرعى ويحيى في سجنهم، اشتد بهم الفرح وكأنهم خرجوا إلى الحرية بعد أيام السجن الذي أراده العلام أقرب إلى الموت اليومي لحظة إثر لحظة حتى إنهم لم يكونوا يذوقون للنوم طعما ، وإن سقط أحدهم في إغفاءته سهر عليه الباقيان؛ تخوفا من غدر العلام وجلاديه وتربصهم دون كلل لقتل يونس أولا وقبل كل شيء. - كبيرهم.
وكيف للعلام أن ينسى لحظة حين نازله يونس - دفاعا عن نفسه - على مرأى من عزيزة والجميع وكاد أن يزهق روحه بحسامه، لولا إشارة من العزيزة ليبقي عليه مهانا عند أقدامها وهي تصيح: دعه يا يونس.
تنهد العلام في أقصى مرارته: وها هو يونس يعود إلى حيث كان بقصر عزيزة معززا ودون علم منه، ذلك القصر الذي حرم عليه الاقتراب منه من قريب أو بعيد. - أنا العلام بن هضيبة!
لكن كيف للعلام أن يصفو أو يبتعد وعيونه توافيه يوما بيوم بما أصبح عليه السجن وقصر عزيزة من بهجة وانشراح وغناء لا ينقطع؟ ناهيك عن فاخر الطعام والمفروشات والهدايا التي حطت على السجن الفولاذي الجدران، الذي أشرف بنفسه على بنائه وتشييده، ليتحول اليوم إلى حديقة فيحاء يمرح فيها أولئك الغرباء على مرأى من حراسه الذين عينهم الزناتي ليتلقوا كل أمر ونهي من ابنته سعدى مع حبيب قلبها أيضا المدعو مرعي.
وبالطبع لم يبعد تصور العلام بن هضيبة عما استحال إليه الحبس الجديد في قصر العزيزة بنت معبد، ذلك الذي اكتفت فيه عزيزة وسعدى بالثقة المشعة من عيني يونس ومرعي، ففي هذا كل اكتفاء لإطلاق سراحهما لكن دون هرب، فكيف ليونس أن يهرب عن عيني عزيزة؟! وكيف لمرعي أن يصحو يوما فاتحا عينيه في عالم بلا سعدى؟! إن ذلك سيكون هو بذاته السجن الحقيقي.
إلا أن يونس لم يكف يوما مع عزيزة عن حديثه الشجي عن موطنه ومرتع طفولته وصباه في ربوع نجد المرية، بسهولها وتلالها الملونة وجناتها وحتى طيورها المغردة عبر مروجها العطرة.
كان ينشد لها وهو يتطلع إليها بعينين حالمتين:
يا عزيزة نجد العريضة مرية
ربيت بها أهلي وكل جدود
بلدي ولو جارت علي مرية
وأهلي ولو شحت عليه تجود.
ولكم تمنت عزيزة يوما مصاحبة يونس إلى موطن صباه لا تفترق عنه غمضة عين، لقد التقت مشاعرهما معا ليكمل كل منهما الآخر، رؤية وتصورا وأحلاما مرجوة قوامها الاتحاد وطغيان العدل والمحبة، بدلا من البغضاء والذي دعاه يونس ب «التناحر القبلي». - للجسد الواحد!
لقد بدا الاثنان يحلمان معا عزيزة ويونس بذلك الوطن العربي الواحد، الذي لا مكان فيه للانقسامات والبغضاء طالما أن هناك متسعا للجميع. - مشرقا ومغربا.
وهو ما لم تتوقف المغنية حسنة الصوت مي عن تأكيده وإنشاده والعزف على مرهف أوتاره، حين كانت تمتد جلساتهم معا سواء داخل سجنهم أو حول ولائم قصر الضيافة أو قصر عزيزة ذاته، حيث كان يحلو لعزيزة الطواف بيونس عبر كل ما يجد من مقتنيات ما بين منحوتات وأحجار نادرة ومصنوعات شرقية ومنمنمات ومخطوطات نادرة.
والتجربة ذاتها أحس بها كل من سعدى ومرعي، وإن كانت حول هيامهما بالخيول العربية الأصيلة وما يجد منها.
وهو ما لم يغب لحظة واحدة عن أعين العلام الراصدة لكل ما يحدث مهما حاولت عزيزة وسعدى التكتم عليه، لكن دون جدوى ترجى من شرور العلام التي لم تكن لتنقطع عنهما أسبوعا واحدا بلا وقيعة جديدة تؤرق الزناتي وتونس بأسرها، لدرجة أنها كانت بين الحين والحين تدفع بالشكوك والهواجس إلى قلب الزناتي ذاته.
حتى إنه أصبح في الأيام الأخيرة دائم الخروج عبر بوابات تونس الشرقية؛ ليتعرف بنفسه متشمما عما يجري تدبيره من عرب المشرق.
وذات يوم حث الزناتي ابن أخته العلام على الخروج للصيد مع بقية أمراء تونس وفرسانها باتجاه الحدود، البوابات الشرقية.
حتى إذا ما عاد العلام محملا بمحصلة صيده وقنصه واضعا إياه أمام الزناتي بما فيها من طيور غريبة وما علق بها حتى من الحشرات ما بين ذباب ونمل ونحل وطير الأبابيل والجراد وطير «عيسى» وهو الخفاش والغراب والهدهد؛ حتى إذا ما عاد وأحصى الزناتي متعرفا تلك الطيور والحشرات التي عاد بها العلام من صيده وقنصه بادره: يا علام، ما هذا الذي أرى؟
قاربه العلام متطلعا: ماذا؟
فغمغم الزناتي مندهشا: لم يجلب لنا هذا الصيد سوى العجائب!
ومن جديد تصنع العم مبهوتا عدم الفهم. - لماذا؟ ما الجديد يا خال؟
أجاب الزناتي: الجديد هو ما جلبته هذه المرة بصيدك.
هنا بادره العلام من فوره: وأنا أقول إن ما جلب ذلك لنا ليس سوى ذلك العبد الذي يمرح رفاقه في بلادنا دون حبس، وها هو يحضر قومه الهلاليين بجحافلهم لاستباحة بلادنا. وأنشد:
يقول الفتى العلام ولد غضيبة
لقد بان عندي يا أمير حروف
فهذه عربان الهلالي أبو علي
عليهم الذهب وهم قاعدين دفوف
هذا ملكهم ابن سرحان يا ملك
أمير ابن أمير سيد المعروف .
وهكذا حاولت المخاوف الفعلية خليفة الزناتي هذه المرة، فأمر من فوره بجمع مجلس حربه استعدادا للخروج والقتال.
حروب الهلاليين على أول بلاد العرب وحصار تونس
ما إن أيقن حاكم تونس وفارسها الذي طبقت شهرته الآفاق خليفة الزناتي بخبر نزول جحافل العرب الهلاليين بين جبلين بوادي الرشراش المزهر على أبواب قرطاج؛ حتى أمر من فوره بجمع مجلس حربه، وعلى رأسه ابن أخته الأمير الملقب «الهصيص» الذي هون قليلا من مخاوف الزناتي وتوجسه من وصول الهلاليين إلى تونس على شكل ذلك السيل الجارف المفاجئ، فتحت يدى الهصيص «أربعة وعشرون أميرا، وكل أمير يحكم مائة ألف عنان».
وعلى الفور أمره الزناتي بإحضار قلم وقرطاس، وأشار إليه أن يكتب إلى ملوك وأمراء بلاده على طول الديار التونسية والمغرب العربي والأندلس، طالما جمع الشمل والمشورة. فمضى يكتب لهم طالبا تجميع فلولهم وقوادهم ونجداتهم دون إبطاء بعدما أرسل لهم برسله.
أرسل العلام إلى الأندلس، وأرسل زيتون لقاعة، وعضرون لناسة، وضرغام لمغيرة، ومقداد للمنذرة وأرض زيلالي، وشمعون لأكرة، وعماد لأعمداس، وجفال لكسرة، وحماد لأرض مكناس، وشداد لقابس، وسليمان لقيروان وقابس الغربية.
وما إن وصلت رسائل خليفة الزناتي التي حملها ممثلوه الشخصيون حتى تدافعت الوفود والقواد على العاصمة التونسية قرطاج، مشهرة من فورها أسلحتها وحرابها الهمجية ذات الأربعة والعشرين نصلا، مطالبة بالخروج ومداهمة عرب المشرق المغيرين الطامعين قبل أن يتاح لهم الاستقرار بوادي الرشراش لتنظيم صفوفهم، ونفض عناء تلك الرحلة الطويلة المضنية بحروبها ووقائعها منذ خروجهم من مركز تجمعهم في «نجد المرية» إلى أن وصلوا إلى تخوم تونس وقلاعها.
وهو حقا طلب واقعي جدا الذي تقوم به حلفاء الزناتي وقواد عشائره ومعهم العلام بن هضيبة.
ذلك أن رحلة الهلاليين منذ عشية وصول أبي زيد الهلالي إلى نجد والخروج كانت رحلة مضنية جدا، فلقد اجتمعت القبائل مع مطلع نهار الرحيل يتقدمها شيوخ القبائل والفرسان، من أمثال السلطان حسن بن سرحان وأبي زيد الهلالي ودياب بن غانم والقاضي بدير والأمير زيدان شيخ الشباب والأميرة القائدة الأم الجازية.
فخاضوا سلسلة من الحروب والمنازعات في بلاد الأعاجم والعراق الأعلى وبلاد التركمان ضد الحكام والأمراء الموالين لبقايا الإمبراطورية الفارسية وسطوتها، سواء في العراق الأعلى أو بلاد التركمان أو على طول كيانات وقبائل شط العرب والجنوب العربي عامة.
وكانوا يتمثلون في تلك الحروب الطاحنة ببطولات جدهم السالف الأمير حمزة - البهلوان - وسيرته وحروبه المناوئة للأكاسرة منذ أقدم العصور، وهو الذي نبت من بين صفوف القبائل العربية في مكة المكرمة، وجمع نواة جيشه من فرسان القبائل وتحدى بهم في البداية اليهود الخيبريين إلى أن قويت شوكته ضد التسلط الفارسي على كيانات وقبائل عرب الجزيرة شمالا وجنوبا، إلى أن حاصر الفرس وأسقطها.
أما حروب الهلاليين في وادي الرافدين فكانت طاحنة.
وهي حروب أبلى فيها رأس التحالف اليمني القحطاني - أو اليقطاني - دياب بن غانم البلاء الحسن، حيث بانت بطولاته خاصة بعد أن نازل الملك «الدبيسي» وقتله رغم تحذيرات ابنته التي تسمى بها، «وطفا» التي أنشدت:
قد رأيت بحرا من دم
وأنت بوسطه غرقان.
ومن العراق اصطحب الهلاليون حليفهم الملك المسمى ب «الخفاجا عامر»، الذي اصطحبهم بقواته مخاطبا سلطانهم حسن بن سرحان:
نحن يا أمير لنا بالغرب سادة
بأرض الزناتي يا ملك بالجزاير.
إلى أن نزلوا فلسطين ووادي الأردن وحاربوا حاكمها «السركسي» في القدس وغزة، وقتل أبو زيد الهلالي الملك «التبع شبيب بن مالك» حاكم دمشق، وبكته زوجته النائحة «جنوب» وانتحرت في أثره.
ألا يا حمام النوح توجهوا واندبوا
وابكوا على فقد الأمير شبيب
شبيب الذي بكته الناس كلها
وصاحت ديوك العرش مات شبيب
تقول فتاة الحي «جنوب» مما أصابها
لا عيش في بعد الحبيب يطيب.
ودخلوا مصر السفلى عن طريق برزخ السويس بحيلة مهرب الكواعب قشمر بن منصور، الذي هو أبو زيد الهلالي ذاته متنكرا في هيئة مهرج.
إلا أن الحرب امتدت بين الهلالية والملك «فرمند مصر» وابن أخته المدعو الأمير محمود، إلى أن قتل أبو زيد الفرمند.
وكان السلطان حسن قد استحسن مصر كل الاستحسان لكبرها وما فيها من الأبنية الحسان، فصمم أن يبني له فيها جامعا على اسمه ليكون ذكرى له على طول الزمان، فأمر البنائين والمهندسين ببناء الجامع المذكور في ظرف ستة شهور.
وبعد أن أتموه أمر أن يفرشوه بنفيس الفرش وتنقش حيطانه بأحسن النقش، فكان جامعا عظيم المنال يزهو كالهلال، وكان مكتوبا على بابه بالذهب: هذا جامع الأمير حسن الهلالي سيد العرب ...
وبالطبع ما يزال جامع السلطان حسن من معالم القاهرة إلى اليوم.
وواصل الهلالية طريقهم عبر صعيد مصر للإفراج عن أسراهم الأمراء الثلاثة يونس ومرعي ويحيى.
محابيسهم عند الزناتي خليفة.
لهم عنده مدة سبعة أعوام ...
بما يشير إلى أن رحلتهم ومنذ تجميع فلولهم وخروجهم من نجد إلى وادي الرافدين والعراق الأعلى وحروبهم ضد بقايا الفرس وتسلطهم، ثم نزولهم إلى فلسطين وحلب ودمشق لحين دخولهم مصر ثم الوصول إلى تونس قد استغرق سبع سنوات ...
وبعد تلك الرحلة المضنية وما صاحبها من أخطار وفتوحات، لم يغفل الهلاليون عن عقد تحالفاتهم مع البلاد المفتوحة؛ ضمانا لتأمين ظهورهم وإرساء لضرائعهم وتعاليمهم التي لا تخلو من سماحة.
ومرورا بصعيد مصر أو مصر العليا، رحب بهم حليفهم - الذي سبق لأبي زيد زيارته - الأمير «ماضي بن مقرب» الذي وقع من فوره صريعا في حب الأميرة الجازية وحاول الزواج منها وهي في طريقها كقائدة للهلاليين إلى الحرب.
فكتب إلى السلطان حسن بن سرحان منشدا:
نحن نعرف يا أمير مكارمك
أريد فتاة الجازية أم محمد
هي بنت عمي بغيتي ومرادي ...
فما أن التهب حب الأمير ماضي بن مقرب للجازية وحاول التقرب منها بالزواج، حتى نصحه المقربون منه بطلب فرسة دياب بن غانم - الخضراء - لأن روحه معلقة بها، وفي حال رفض السلطان ذلك يطلب بدلا منها يد الأميرة الجازية ...
إلا أن السلطان حسن حقق طلبه بإرسال «الخضراء» مع هدايا كثيرة، فردها الأمير ماضي طالبا مقايضتها بالجازية منشدا:
يقول الفتى ماضي بن مقرب
بدمع جرى فوق الخدود بدار
أرسلت لك خضراء دياب بن غانم
وأبذلت فيها أموال مع أجياد
ونحن نعرف منك يا أمير مكارمك
كفك سخي طول المدى مداد
أريد فتاة الجازية أم محمد
هي بنت عمي بغيتي ومرادي .
وعلى الفور قام الماضي - حاكم الصعيد - بتزيين القصر بفاخر الحرير والديباج وأقام الأفراح والزينات.
وهكذا لم يجد الهلاليون بدا سوى تقبل الزواج الذي لم يستغرق سوى ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع استأذن السلطان حسن بالرحيل إلى المغرب العربي، فقامت الجازية تبكي بدمع غزير، فلما زاد عليها الحال سمح لها الماضي بالرحيل، بل هو سار في وداعهم لمدة ثلاثة أيام إلى أن دخلوا الديار الليبية.
وخلال المرور عبر ليبيا وقعت بين الهلالية بضع مشاحنات ومنازعات داخلية، أي بين القبائل والأفراد، منها بضعة منازعات بين رأسي قطبي التحالف الهلالي العدناني لعرب الشمال - النجديين - والجنوبي القحطاني، وهما هنا أبو زيد الهلالي ودياب بن غانم، واستطاع السلطان حسن بن سرحان رأب الصدع وهو في المهد وقبل استفحال الأمر.
وكذلك ما وقع من مشاحنات نسائية بين الأميرة - القائدة - الجازية التي كانت قد لحقت بالهلاليين بالديار الليبية، وبين العالية بنت جابر زوجة أبي زيد الهلالي، حين تنازعا على تملك آبار أو مخاضات المياه، فكان أن تهورت الجازية وهي التي كانت تحب وتطمع في الزواج من أبي زيد قبل العالية بنت جابر، أهانتها بقولها: يا عشيقة عبدنا!
وكان ذلك بمثابة الجرح الدامي لأبي زيد، الأكثر غورا من جراح المعارك، خاصة إذا ما كانت قائلته أميرة في حجم الجازية، التي أنذرت لأبي زيد بحرارة وعلى رءوس الأشهاد فهو: حامي المحصنات!
إلا أن أبا زيد تجاوز مثل تلك الصغائر مركزا كل طاقاته على الإسراع بفك وثاق رفاقه الأسرى عبر أقصر الطرق وأسلمها، وهو الذي عرفها عن قرب، واختبر متعرجاتها ومدى صلاحيتها، بل وحتى طبيعة تربتها وأخاديد كمائنها.
وهكذا عكف أبو زيد بعدما وصل بالقوات والهجرة الهلالية إلى هنا، على استكمال وضع خططه على ضوء ما في حوزته وتوصل إليه منذ الريادة.
فكان يختفي أياما معدودات لمعاودة الاتصال بعيونه وبصاصيه المنبثين في كل صوب حتى داخل بوابات تونس وحصونها المنيعة ذاتها، بل ومراكز صنع قراراتها.
وكان أكثر ما أثار ارتيابه هو مدى القوة الضاربة التي تمكن الزناتي وابن أخته العلام بن هضيبة من جمعها واستجلابها بعتادها من قلاع وكيانات وقبائل المغرب، من قابس ودير مكناس، والقيروان، والجزائر، والأندلس.
مما أعاد الثبات والثقة إلى الزناتي الذي ركب رأسه معلنا بدء المعارك قبل أن تدعوه الهلالية إلى ذلك، وكما لو كان على موعد مع الحرب مستعيدا صولاته وجولاته التي عرفت عن «أبي سعدى».
وما إن تجمعت محصلة المعلومات المستجدة التي توصل إليها أبو زيد الهلالي، حتى نقلها من فوره إلى قادة الهلالية ومجلس مشورتهم، مشيرا إلى مدى الأخطار المحدقة، فكل ما حدث لهم من مواجهات وحروب يمكن وضعها في كفة، وما هم مقبلون عليه مع زناتي تونس وحلفائه هو في كفة أخرى.
وأبلغ أبو زيد الهلالي السلطان حسن ومجلس المشورة بمدى التحصينات والجيوش التي تجمعت تحت يدي الزناتي خليفة وابن أخته - الأرقط - العلام بن هضيبة.
توالى وصول القوات والإمدادات المساندة لزناتي تونس على «قرطاج» العاصمة من كل حدب وصوب، بشكل فاق كل توقع، حتى استحالت المدينة إلى قوة ضاربة متقدة حماسا ورغبة في الخروج لملاقاة عرب المشرق.
إلا أن العلام بن هضيبة وقف هذه المرة بالمرصاد محبذا التروي وعدم الانجراف لمجرد الحماس، قبل التعرف على مواضع القوة والضعف لذلك الزحف الذي أطبق على تونس فجأة دون سابق إنذار، بما يشير الى أنه أمر «مبيت» وتم تنفيذه عن سابق تصور وتصميم، وما أولئك المتسللون الغرباء يونس ومرعي ويحيى الذين ما زالوا يحيون هانئين بسجن قصر العزيزة برغم كل ما يحدث؛ سوى مجرد ذريعة تستر تحتها الغزاة الطامعون في تونس وخيراتها ومروجها؛ البقرة الحلوب.
وما إن تعرف العلام - بالتحديد - على مناطق الضعف في ذلك الجيش الجرار، الذي لا يمكن التفريق فيه بوضوح كاف قواته عن عوامه؛ حتى بدأ بسلسلة من الكمائن والحروب الصغيرة، وذلك عن طريق الإغارة هو وقواته على مؤخرة الزحف الهلالي بهدف تقطيع أوصاله واستنزافه.
وهي خطة نجح فيها العلام الي حد إلحاق ضربات محققة بالهلاليين، وذلك بتركيز الالتفاف على مؤخرتهم بدلا من طلائعهم، حيث توجد المؤن والإمدادات أو ما يعرف ب «البوش» من أسلحة وعتاد وثروات وغذاء وخيول وجمال ورءوس أغنام، وكل ما تحتاجه أمة مهاجرة قبل أن تكون جيشا مغيرا أو فاتحا.
وهكذا مضى العلام وفيالقه يوقعون الخسائر تلو الأخرى في «بوش»، عن طريق قتل المواشي ونهب الثروات وإحراق المؤن الغذائية وحظائر رءوس الضأن، بالإضافة إلى سبي الشيوخ والأطفال والنساء والخيول والعتاد والثروات.
وهو ما أثار الذعر والفزع حقا في صفوف الهلالية إلى حد إحداث الانشقاقات والتشتت، مما دفع بالشيوخ والنساء إلى الاستغاثة بالسلطان حسن بن سرحان طالبين الحماية.
فما كان منه إلا أن جمع مجلس مشورته، في مقدمته الجازية التي تنفرد بثلث المشورة، وأجمعت المشورة أو الشورى على انتداب الأمير دياب بن غانم لحماية المؤخرة أو «البوش»، فهو وحده القادر على رد المعتدين والساطين على قوت وعتاد الهلالية غدرا وخلسة.
إلا أنه عندما استقر الرأي عليه لاضطلاعه بهذه المهمة أخذته من فوره ثورة من الغضب غير مصدق ما تسمعه أذناه، وكأنه واجه إهانة جماعية كبرى، سددتها إليه الهلالية على هذا النحو المزري: - أي أن تصبح مهمة دياب بن غانم هي حماية المؤن والنساء ليس غير!
من هنا تجدد اعتقاد دياب الراسخ بالإهانة فيما انطوت عليه هذه المهمة غير اللائقة بدياب الخيل، في أن ينتزع من القيادة والمقدمة ليصبح ذيلا في المؤخرة على هذا النحو المزري.
بل إن غضب دياب بن غانم هذا لم يقتصر عليه، بل امتد ساريا بين شيوخ وأمراء عرب اليمن وجنوب الجزيرة عامة، بما يعني الإخلال بقطبي التحالف الهلالي.
فحتى نساؤهم أصبن بالنفور من ذلك الرأي الذي أجمعت عليه المشورة إنقاذا للأرواح والمؤن والعتاد، ومن ذلك التسلل والسطو غير المتوقعين اللذين أحكم وضعهما العلام ذو الخطط الجهنمية.
وتبارت الأميرة وطفا بنة دياب في إلقاء موثباتها وأشعارها التحريضية ضد قرار المشورة الهلالية بانتداب دياب لحراسة المؤخرة، بدلا من إطلاق عنانه على رأس بني زغبة أو الزغابة لمنازلة الزناتي ذاته.
إلا أن دياب امتثل للمشورة وقبلها مرغما مضمرا الأحقاد الانتقامية السوداء لقادة التحالف - القيسي أو العدناني - عندما يحين الوقت المناسب.
وهكذا تحرك منسحبا بفيالقه المحاربة إلى أن وصل «البوش»، فأخذه وسار به إلى واد يطلق عليه وادي الغباين - وهو واد حصين بين التلال المزدهرة حيث الزهور فائحة والمياه سابحة - وأنشد في مرارة:
أنا دياب بن غانم حسن طيب
لا تخافوا علي لو سطا الديب
طيبا لقلبك على بوشك يا ملك
ولا تخافوا عليه من المحاريب
وأنتم كونوا حذارى نحو أنفسكم
وحافظوا على حريمي والمراكيب
ثم احضروا للزناتي حين يطلبكم
كونوا قوما عوابس في المضاريب
أنتم هلال ما حد يقهركم
حكمتم الأرض شرقا وتغريب.
وسار أبو زيد مع دياب بن غانم مودعا بأروع أشعاره دون إنقاص من قدرته وقدرته:
كم واقعة أشفيت هلال
أنت يا زكي الجدود!
لكن كيف لدياب بن غانم أن ينسى يوما أو يتناسى تلك الواقعة المهينة، التي ستظل دوما ذكرى سوداء يختزنها داخله طيلة العمر ضد ثالوث العرب الشماليين السلطان حسن وأبي زيد الهلالي والجازية؟
وكان أكثر من استبشر بهذا الخبر حول إبعاد دياب بن غانم عن المقدمة والقيادة خليفة الزناتي ذاته، الذي يخاف دياب ويرهب حربته التي كثيرا ما أودت بطلائع الأبطال والقواد.
وتأكد ابن أخته العلام من نجاح خطته بإبعاد دياب أولا وقبل كل شيء عن المقدمة لدى الاقتراب من حصون تونس.
وهكذا استشرى العلام والأمير الهصيص في تصديهم وقتالهم للهلالية، موقعين بهم الخسائر وموقعين أمراءهم وقادتهم صرعى دون رحمة في أرض المعارك قبل أن يحين دور الزناتي فيما سيلي.
ويبدو أن أبا زيد الهلالي تفرد في تلك الوقائع بمبادرة اتخاذ القرار بالنزال والحرب وحده، بعد أن أخليت له ساحة المعارك برحيل دياب بن غانم لحراسة المؤخرة، مما أغضب السلطان حسن بن سرحان الذي استدعاه إثر إحدى الغزوات أو الغارات التي أبلى فيها أبو زيد البلاء الحسن إلى حد قتل الهصيص الذي أحدث قتله فزعا كبيرا في صفوف جند الزناتي؛ لأن الغارة تمت دون مشورة أحد، فجمع السلطان حسن مجلس المشورة أو الحرب وواجهه قائلا: «لماذا يا أبا زيد تقاتل القوم أنت بنفسك دون أن تخبرني؟! ما عدت تركب معنا!
وأمره بالامتثال للسجن، ووضع قدميه في قيود الحديد بإرادته واختياره!
فما كان من أبي زيد إلا أن امتثل للقيد ووضعه في رجله، وجلس وحيدا صاغرا لأمر السلطان حسن الهلالي لا يقرب زادا.»
لكن في صباح اليوم التالي، وما إن دقت طبول الحرب، وعلم الزناتي من العلام وبصاصيه بغياب أبي زيد عن صفوف الهلالية، حتى قاد بنفسه فيالقه وخرج لقتال الهلالية موقعا بهم وبقادتهم أفدح الخسائر، انتقاما لابن أخته الأمير الهصيص.
وعندما علم أبو زيد بمدى الخسائر والقتلى في صفوف قومه الهلاليين وهو حبيس قيوده، أحاطه الحزن والضيق إلى حد عدم احتماله، فما كان منه إلا أن فك وثائق قيوده ثائرا ممتطيا صهوة جواده، ليفاجئ الجميع بوجوده في ساحة المعركة.
وهكذا استطاع أبو زيد ترجيح كفة الهلاليين ورد جنود الزناتي منسحبين مدحورين على «أربع عشرة مرحلة أو انسحابا»، إلى أن ارتد الزناتي داخلا أبواب تونس التي أغلقت خلفه سريعا، وأبو زيد يواصل مطاردته إلى أن خلع أبوابها بحرابه مشرفا.
وما إن انتهت الواقعة حتى عاد أبو زيد الهلالي إلى حبسه وقيوده كما كان التزاما بأمر السلطان حسن، رغم أنه على ما يبدو قد أصيب، أو على حد قول حاكم العراق الخفاجا عامر الذي ذكر في أشعاره: كان ملسوعا، يعاني في قيوده الآلام المبرحة.
ولكن رغم هذه الانتصارات المؤقتة خلت الساحة للزناتي ليصول ويجول موقعا الهزائم بالهلاليين نتيجة لغياب قطبي التحالف الهلالي دياب وأبي زيد ، ووصل الزهو بالزناتي إلى حد إعلان تحديه بالحرب والنزال للسلطان حسن بن سرحان ذاته، الذي نازله مرات على رأس قواته لكن دون إحداث تقدم محقق، إلى أن طالبته القبائل الهلالية بالكف عن منازلة الزناتي.
واستقر إجماع مجلس المشورة على أن ينازل الخفاجا عامر الزناتي بدلا منه، رغم محاولة خليفة الزناتي تحييد الخفاجا عامر عن طريق مفاوضاته ومساوماته له بهدف إخراجه من التحالف الهلالي، كما يتضح من شعر الخفاجا:
أمس أرسل الزناتي يقول لي
كلاما أكيدا واضح الأسرار
يقول لي يا أمير اترك قتالنا
وكف عنا جملة الأضرار
وعدني بالمال والملك والعطا
يرغبني في معدن وإبهار.
إلا أن الخفاجا عامر رفض تلك المراسلات والمفاوضات الجانبية، معلنا ومقسما على رءوس الأشهاد أنه سيتصدى لحرب خليفة الزناتي عشرة أيام متصلة دون توقف، وذلك برغم مخاوفه الداخلية وأحلامه وكوابيسه الليلة، وكذلك تحذيرات ابنته ذوابة من منازلة الزناتي. وأنشد حاكم العراق الخفاجا عامر يقول مخاطبا الزناتي:
وما أود أخون العيش يا أبو سعدى
أخاف ترخص عندها أسعارها
أود لا أكون الخفاجا عامر
في جاه صغارها وكبارها
أصبح هزيل في هلال مسخ
ويكشفون غروضها وصخورها
لكن اليوم جئت إلى حربك
لا بد أسقيك كأس مرارها.
وما إن فرغ من إنشاده حتى التقى الفارسان في حرب وصدام شديدين والخفاجا عامر يواصل تسديد ضرباته إلى أن انفك عزم خليفة الزناتي أمامه فولى هاربا للنجاة طالبا.
واستعر لهيب النزال بين الخفاجا عامر وخليفة الزناتي ثلاثة أيام متصلة، أحرز فيها الخفاجا تفوقا على الزناتي وجنده في كل واقعة، كان يعود بعدها إلى الهلاليين منتصرا كأرجوان أحمر مخضب بالدم.
ولم يجد الزناتي من وسيلة أمامه للإيقاع بالخفاجا عامر سوى اللجوء للحيلة والمكيدة التي دبرها ابن أخته العلام، حين أرسل في أعقابه عقب عودته من إحدى المعارك مظفرا باتجاه جناين الورد فارسا تونسيا يدعى «الخطيب»، فكمن له بين الأشجار وهو متعب واغتاله بخنجره المسموم.
وأنشد الخفاجا عامر مرثيته القومية الكبرى وهو يسلم روحه بين يدى ابنته ذوابة، وفيها يوصي الهلاليين بمواصلة القتال وجمع الشمل العربي من العراق ومصر والمغرب العربي:
يا أيها الطير الذي طار بالفلا
تسعى إلى الدهر الذي بك طالع
تأكل ربيعا بأرض مصر وزرعها
وتبيض بأرض العراق المواضع.
وبموت الخفاجا عامر العراقي حطت الأحزان القاتمة السوداء على الهلالية، ورثته ابنته ذوابة والنساء العامريات، أو نساء بني عامر من عراقيات وفلسطينيات، بأبلغ المراثي والأشعار الجنائزية لذلك الفارس المغتال على بوابات قرطاج السبع.
النساء يحلقن شعورهن استنجادا بدياب
عمت الأفراح في تونس وقلاعها ابتهاجا بذلك النصر الكبير الذي أوقعه الزناتي بالهلالية، بدحره لقواتهم وقتل قادتهم وأمرائهم خارج بوابات قرطاج منذ وصولهم إليها ونزولهم وادي الرشراش.
وكان آخر أولئك القواد رأس التحالف العراقي الخفاجا عامر الذي تمكن منه الزناتي بالحيلة والمكيدة، التي اضطلع بتصميمها ابن أخته العلام، فجاء حادث مصرعه الفاجع داخل أغوار استراحته بجناين الورد اغتيالا أكثر منه قتلا.
بل إن هذه الانتصارات غير المتوقعة رفعت بدورها من شأن العلام وأعادت إليه ثقته بنفسه وقدراته، فلعلها وبعدما أصبحت حديث الجميع في قرطاج وتوابعها تصل يوما إلى أذني بنت معبد التي ألحقت به الإهانات المشينة دفاعا عن فتاها الجديد يونس وبقية عيون وجواسيس بني هلال، الذين تشدد العلام في عدم تسليمهم لذويهم وقبائلهم مهما حدث. - طالما أنهم تسللوا إلينا بكامل إرادتهم.
أما عزيزة فقد داهمتها الأحزان لحزن حبيبها يونس الذي كان يتابع - مع مرعي ويحيى في حزن غائر بليغ - ما يحدث لقومه من اندحار وهزائم وقتل لفرسان وقادة الهلاليين.
وذلك منذ أن تواترت إليهم الأخبار - في سجنهم الملحق بقصر عزيزة - بوصول القوات الهلالية إلى تخوم العاصمة التونسية قرطاج لتحريرهم من أسرهم، فانفرط عقد تحالفهم، مما مكن الزناتي والعلام منهم على هذا النحو.
كان يونس دائم التساؤل وهو في سجنه الذي لزمه وأصبح لا يبرحه مهما حاولت عزيزة التخفيف عنه واصطحابه إلى قصرها: ما الذي يحدث خارج بوابات قرطاج؟
كان يصرخ ملتاعا غير مصدق: أحقا ما يحدث من كوارث؟!
كانا قد تعاهدا على الزواج، بل إن كلا منهما عقد العزم على ذلك باختياره الكامل، ولم يتبق سوى تحقيق ما يستلزم هذا من إجراءات ستحدث يوما مهما انتهت إليه ظروف المعارك والحرب المستعرة بين قوميهما.
والشيء ذاته اتفق عليه مرعي مع سعدى بنة الزناتي التي أصبحت لا تفارقه خوفا عليه من مؤامرات العلام الذي تضاعفت سطوته خاصة منذ وصول الهلالية بجحافلهم، وما ألحقه بهم من سلسلة الكمائن الناجحة ضد مؤنهم وإمداداتهم التي يسببها ثم انتداب دياب بن غانم لحمايتها.
وهو بالطبع ما ترتب عليه إبعاده عن المقدمة والقيادة.
وتعرف سعدى أكثر من غيرها مدى كره وهواجس وتخوف والدها الزناتي من دياب بن غانم وحربته، بل هي لا تنسى ما مدى فرحته الكبرى حين حمل إليه العلام ذاته أنباء الخلافات التي وقعت بين الهلاليين وانتهت بإبعاد دياب عن القيادة، ليتولى حراسة الإمدادات والبوش في ذلك الجيش المخذول.
بل إن يونس ومرعي شعرا بدورهما بمدى تعاظم الخلافات التي أصبحت تلتهم الهلالية وتفت في عضدهم كمثل سوس ينخر خشب الزان. - لعبت يا سوس في الصندل وخشب الزان!
وهنا أصيب الفتيان الثلاثة بما يشبه الخذلان المرير داخل سجنهم الذي لازموه ثلاثتهم في حالة دائمة من الترقب وآذانهم لا تغفل عما تحمله أخبار نهاية المعارك الضارية تلك التي كانت تستعر يوما بعد يوم وعاما بعد آخر حول بوابات تونس، والتي كانت تسفر كل مرة عن تساقط رءوس بني هلال التي ظلت مشهرة طويلا، ولا سيما رءوس القادة والأمراء الذين هم في موقع القلب والرأس لدى الهلاليين.
كما أنهم بالنسبة إلى الأمراء الأسرى الثلاثة في موقع الأعمام وأبناء الأعمام والأصدقاء ورفاق الجهاد الطويل: - الأمير زيدان الرياحي. - الأميران الشقيقان نصر وعقيل.
وهنا تعالت أشعار المراثي والبكائيات:
على ما جرى فينا وقد أصابنا
الفكر والعقل مني طار
على عقل عقلي راح مستقره
ويا نصر ما لي بعدكم أنصار.
بل الغريب هو اختلاط المأساة بالملهاة داخل سجن الفتيان الثلاثة، حين أعلن الزناتي خليفة بنفسه أنه سيهب ابنته سعدى مكافأة لمن يقدم على منازلة الأمير «عقل» وقتله، ووصل النبأ إليهم داخل سجنهم فتندر له مرعي وهو يواجه به سعدى: لعلك الآن في انتظار الفارس القرطاجي المنتصر القادم!
ساعتها لم تعط سعدى جوابا، بل هي طوقت رأسها بساعديها ألما من تندر مرعي بها على هذا النحو وكأن لها يد فيما يجري خارج أسوار وبوابات تونس.
إلى أن قاربها مرعي في حنو مصالحها عبر تلك الأحزان الثقيلة المخيمة على رءوس الجميع من محاربين وأسرى.
فتحت ضربات الزناتي التي تساقطت لها رءوس القادة الهلاليين، أصبحت الجماهير تلهج باسمه منشدة بملاحمه ومنازلاته ضد أعمامهم وأبناء عمومتهم، الذين كانوا يتهاوون الواحد تلو الآخر في مطلع نهار كل يوم جديد.
كان كل ذلك يجري على مقربة منهم ويصل أسماعهم، ويونس بالذات يعيد تساؤله متحسرا مدركا أن السبب الكامن وراء هذا الدم الهلالي المسفوح هو: الانقسامات وما يفضي إليه التطاحن القبلي بين أجنحة التحالف الهلالي المختلفة.
ذلك أن اغتيال الخفاجا عامر واندحار تحالف جيش العراق من بعده، لم يكن سوى فاتحة طريق لانفراط عقد الهلالية، فسرعان ما أعقبه خبر استشهاد القاضي الكبير بدير بن فايد، ثم تبعه الأمير بدر بن غانم الذي قطع الزناتي خليفة رأسه عن جسده بضربة واحدة من سيفه، حيث أرسله إلى تونس وهو ما يزال في ميدان المعركة ليعلق على بواباتها السبعة إلى جوار رأس أخيه الأمير زيدان شيخ الشباب، وظل يصول ويجول متحديا الجميع.
وفي اليوم التالي نازل الزناتي ولديه نصر وعقل اللذين تحدياه انتقاما لأبيهما فقتلهما الواحد تلو الآخر.
وهللت تونس عن آخرها وكبرت حين استقبلت رأس الأمير عقل الذي استبسل طويلا خلال منازلته الزناتي، الذي - أي الأخير - كان قد وعد في وقت سابق كبار فرسانه ذات يوم بأن من يقوى على قتاله وقتله سيهبه ابنته سعدى زوجة وحليلة، إلى أن تمكن الزناتي نفسه من قتله وجز رأسه بخنجره المسلول.
وكان أن بكتهما أمهما الأميرة هولة بأقوى مراثيها:
تقول فتاة الحي هولة الخزينة
بدمع جرى فوق الخدود بنار
كل ما جرى فينا وقد أصابنا
الفكر والعقل مني طار
على «عقل» عقلي راح مستقره
ويا نصر ما في بعدكم أنصار
فلو أن نهر النيل بالقلب يجري
وسيحون مع جيحون والأبحار
ونهر الفرات ودجلة والشط كله
وعاصي وحمى وكل نهير دار
فيا طول حزني كلما دمت بالحيا
إذ جاء دياب الحي وسط الدار.
وهكذا بدأت الهلالية خاصة نساءهم في رفع الصوت إزاء الأخطار والهزائم المتوالية طلبا واستنجادا بعودة دياب بن غانم إلى القيادة والمقدمة، بل إن الخاطر ذاته مر في فكر الفتيان الثلاثة في سجنهم الملحق بقصر عزيزة ابنة سلطان تونس معبد بن باديس. - أين دياب الخيل؟!
فحتى الأميرة سعدى ابنة خليفة الزناتي بدأت هي بدورها تحاوطها الهواجس والمخاوف المتنازعة، ما بين حبها للأمير مرعي ابن سلطان بني هلال وبين تلك الكوابيس التي حطت على رأس والدها الزناتي خليفة من تفاقم الموقف، إلى حد المطالبة بعودة دياب بن غانم الذي أصبح والدها الزناتي لا يطيق سماع اسمه. - أبعدوا دياب بن غانم بكل الطرق عن بوابات تونس.
وكثيرا ما فاتحت سعدى صديقتها عزيزة التي لا تخفي عنها خافية بمثل هذه الخواطر، التي أصبحت تتكاثر في الأيام الأخيرة، وهي تحط بمعظمها على كاهل والدها الزناتي، برغم ما يحققه كل يوم لتونس وتوابعها من انتصارات عمت كل الآفاق مشرقا ومغربا، إلا أن ذكر اسم دياب بن غانم أمام الزناتي كان يقلب كيانه كله رأسا على عقب.
بل إن هذا بذاته ما تناهى إلى أسماع سعدى من حبيبها وهو يحادث له يونس مرات عديدة: ماذا يحدث؟! أين دياب؟!
إلى أن لاح بصيص من أمل، فقد تسللت ذات يوم مي الحزينة التي أصبحت تعيش بصحبة عزيزة لا تفارقها لحظة إلى داخل سجن الأميرين لتبلغهما بتمكن خالهما أبي زيد من التسلل خفية إلى داخل العاصمة متنكرا بمساحيقه بصحبة الأميرة الجازية وبضع نساء هلاليات، بغية زيارتهما والاطمئنان عليهما وسماع مشورتهما إزاء ما يحدث.
ولم يمض وقت كثير ومي الحزينة تحادثهما حتى انشقت الأرض عن أبي زيد الهلالي في زي درويش فقير مهلهل الثياب وتقدم منهما مسلما ومرحبا، مستبشرا كعادته لا يكف عن إطلاق نكاته وتهكماته. - سجن ملوكي هذا! سجن على الجرح يا يونس، بالأحضان، هانت، هانت.
ولم تطل بهم دهشتهم، إذ إنهم اندفعوا من فورهم معلنين رفضهم لما يحدث للهلالية نتيجة الخلافات الجوفاء التي قادت إلى هذا الوضع المشين.
بل إن يونس تساءل من فوره مطالبا بعودة الأمير دياب لإنقاذ الوضع الحرج، وتلافي ما يمكن تلافيه اليوم قبل الغد.
وأشار مرعي وهو يصب الكلام في أذني أبي زيد إلى مدى تخوف التونسيين بل والزناتي ذاته من حدث عودة دياب إلى مقدمة المقاتلين، وكيف أنه أصبح في الأيام الأخيرة لا ينام الليل تخوفا من عودته يوما إلى منازلته بفيالقه اليمنية من بني زوغبة.
واندفع يونس صارخا بصوت مجروح خفيض: هل يمكن تصور هذا؟! الزناتي يكلم نفسه تخوفا منه، يكفي هذا ... في هذا كله كفاية لقلب دفة المعارك، وأنت يا خال أبي زيد سيد العارفين.
غمغم أصغرهم يحيى: إنهاء حصار تونس الخلاص.
وهكذا تجمعت الآراء عند ضرورة الاستنجاد بدياب وإعادة جمع الشمل بعودته إلى حيث مكانه اللائق في المقدمة.
فحتى النساء الهلاليات خاصة الثكالى منهن أو من فقدن الزوج والابن والحبيب، رحن يستنجدن بوالد دياب الأمير غانم وأمه وابنته وطفاء التي يسمى بها.
فهو وحده القادر على دحر الزناتي خليفة وجنده، هو دون سواه المنوط به قتل الزناتي وفك طوق الحصار المزدوج.
واندفعت وفود النساء الهلالية إلى حيث مضارب الأمير غانم والده، ورحن يكتبن إلى دياب يستدعينه للعودة وأخذ الثأر ومعهن ذوابة بنة الخفاجا عامر التي جزت شعرها وأرسلته إلى دياب، وكذلك فعلت ابنته وطفاء التي كتبت إليه تستعطفه باكية نائحة:
ثمانين أميرا من هلال وعامر
دعاهم أبو سعدى برمح كعيب
أخرب أبو سعدى جميع مساكنا
وما عاد لنا سامح ومجيب
دائر كما الدولاب وولد غانم
ينادي دياب من لقانا هريب
ألا يا دياب الخيل أسرع نحونا
واقتل خليفة يا أمير غصيب
قتل خليفة ابن عمك زامل
وأخوك عند ما عاد فيه نصيب.
وهكذا جمع الأمير غانم والد دياب كتابات النساء وشعورهن وتوسلاتهن وأرسلها إلى دياب في مكانه - أو منفاه - بوادي الغباين أو الغباين المغبونين أو المنفيين. لكن ما إن تسلم دياب الرسائل وقرأها حتى رد الرسول متسائلا: وأين مكاتيب السلطان حسن وأبي زيد؟
ولم يجب الرسول.
هنا رد دياب الرسول قائلا في حزم: جئت هذا المكان برأيهما، فكيف لي أن أرجع بمشورة النساء؟
وهكذا حطت الكوارث من جديد على الهلاليين من الزناتي وقومه.
دياب يقتل الزناتي ويفتح تونس
ورغم إحباط كل محاولات جمع شمل الهلاليين ونبذ خلافاتهم التي أفضت بهم إلى عدم الثبات في أداء مهمتهم بفتح تونس وقلاعها التي استعصت طويلا، فإن خليفة الزناتي لم يتخل يوما بل لحظة عن مخاوفه من عودة دياب بن غانم لمحاربته.
لذا رأى الزناتي في خطة ابن أخته العلام بن هضيبة خير مخرج من أزمته وهواجسه المتزايدة التي أصبحت تصاحبه ليل نهار.
وموجز تلك الخطة أن الهجوم خير الطرق وأبسطها إلى تحقيق الأمان المفتقد، ولو استدعى الأمر اللجوء إلى الحيلة والكمائن، التي اضطلع بها هذه المرة الزناتي نفسه ضد دياب بن غانم في منفاه بوادي الغباين.
وهكذا ارتفعت مكانة العلام في نظر خاله خليفة الزناتي، إلى درجة دفعت بالأخير إلى الإنصات إليه وإلى خططه وكمائنه الأفعوانية، سواء في مجال الحرب والمنازلة أو السياسة وما تتطلبه من إيقاع خاص لزيادة التفرقة والانقسامات بين صفوف التحالف الهلالي، وهي الانقسامات التي عادة ما تقضي إلى الهزائم والسقوط المتوالي لقادة فيالقهم وفرسانهم وأمرائهم.
ومن هنا ارتفع عدد القتلى والضحايا لرءوس قادة الهلاليين التي كانت تجز بسكين العلام أو الزناتي ذاته عن جثتها، لتمتلئ أماكنها على طول بوابة تونس وقلاعها حيث ترقص جماهير التونسيين في زهو مغنية بأمجاد الزناتي أبي سعدى وحرابه التي عرفت عنه ذات الأربعة والعشرين نصلا.
يقول الزناتي من فؤاد معمر
نيران قلبي زايدات وقادة
أنا الخليفة بالحروب مجرب
لي سيف بالخيل أنا ردادها
ألقى ألوف الخيل ما أنا خائف
أبطال تعرفني بيوم طرادها.
وكان العلام بن هضيبة يحتضن جماهير المنشدين والمداحين الذين يتغنون بأمجاد الزناتي وجيش تونس وأمجاده هو نفسه، ويتعمد إيصالهم إلى قرب قصر العزيزة وهم يواصلون إنشادهم وموسيقاهم وأغانيهم لتصل إلى أسماعها وأسماع أسرى بني هلال، متشفيا عقب كل انتصار للزناتي وفرسان تونس.
أما آخر خطط العلام التي استحسنها الزناتي وعكف فورا على تنفيذها، فجاءت ضد دياب نفسه، فقد اتفق الزناتي مع أحد فرسانه المقربين ويدعى «أبو خريبة» لإنزال ضربة قاصمة بإمدادات الجند والمهاجرين وبدياب ذاته في واديه ذاك المدعو وادي الغباين.
فأخذ أبو خريبة عشرين ألف فارس «قروم عوابس»، ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى وادي الغباين، وكان ذلك خلال فترة غياب دياب للصيد والقنص، فأغاروا على الهلاليين وأنزلوا السيف فيهم فقامت الرعيان بالعويل والصراخ، فلما سمعهم دياب ركب جواده وخرجت فرسانه والتحمت بينهم إلى أن لحق دياب بفارس الزناتي أبي خريبة وضربه بالسيف فقطع رأسه وألقاه صريعا.
وعندما رأى فرسانه أميرهم مجندلا فروا هاربين فلاحقهم بنو زغبة وأعملوا السيف في رقابهم، إلى أن وصلوا إلى حيث الزناتي وأخبروه بما جرى من أهوال دياب.
وهنا استدعى الزناتي شقيقه الأمير مكحول وأمره بأخذ قومه وقبائله والنزول إلى دياب بن غانم لأخذ ثأر أبي خريبة ونهب بوش بني هلال ومؤنهم واعدا: ومهما تطاولت يدك إلى أسلابهم فهو ملك لك.
فركب على رأس جنده المقدر بخمسين ألف همام، وأغاروا حتى وصلوا وادي الغباين، وكمنوا لدياب إلى أن خرج وفرسانه لصيده وقنصه، فنزلوا على حراس المؤخرة تقتيلا وساقوا البوش أمامهم.
إلى أن علم دياب بالخبر، فجد السير بفرسانه في أعقابهم إلى أن لحق بمكحول ونازله وقتله.
وما إن وصل الخبر إلى الزناتي حتى ضاقت به الدنيا تخوفا من دياب بن غانم، ولم يجد له مهربا سوء الاستشراء أكثر في منازلة الهلاليين وإعمال سيفه في رقاب قادتهم.
وهنا تجددت مرة أخرى الأصوات المطالبة بعودة دياب بن غانم لحماية ما بقي من فرسان بني هلال، حتى إن جموع الهلاليين تجمعوا حول إيوان السلطان حسن وأبي زيد في شبه مظاهرة كبرى للمطالبة بعودة دياب.
ضيعت حتى والدك.
وسفهت قولي يا قليل الحشايم.
وأحاطت النساء الثكالى مستنجدات بدياب وهو حامي المحصنات، وهكذا رضخ دياب مسكينا معلنا للجميع موعد عودته:
قوللو لهلال النصر جاهم
نهار الأحد أعزم على الرواح.
واستقبل دياب استقبال الفاتحين حين عاد بفرسانه إلى بني هلال آمرا بنصب سيفه على مقربة من أبواب تونس ذاتها، فدقت الطبول ونشرت الأعلام، وزار هو في البداية قبور قتلى بني هلال فخرج إليه أهالي القتلى والشهداء ورفعت النساء براقعها وألقوا تحت أقدام دياب، الذي أنشد يقول:
مقالات أبي موسى دياب المفتخر
فارس الهيجاء خيال الوعر
حامي الزينات سور المحصنات
مفرج الكربات في يوم العسر.
وفي اليوم السابق على منازلة دياب للزناتي يقال إنه كان يلاعب طفلة يتيمة وهو غائب الفكر كالتائه المأخوذ سائلا: أين أطعن الزناتي يا صغيرة؟
فقالت له: في عينيه.
فقال: مبارك قولك يا صغيرة! لن أطعنه إلا في عينيه، وقد كان.
حتى إذا ما اندلعت الحرب بين دياب المنتقم والزناتي الخائف منه، حاول الأخير مناشدته الصلح الذي لا يبعد كثيرا عن الاستسلام قائلا:
فاصفح عن حربي وخذ ما تريد
أموال خذ مني وكل جناس
أعطيت يا دياب القيروان وقابس
تونس وقابس ودير مكناس.
إلا أن الجازية القائدة المحرضة على القتال رفضت من فورها هذا الصلح:
تريدون صلحا بعد تسعين أميرا
حريمهم عليهم قايمين العدايد؟!
وهكذا لم يجد الزناتي مفرا من الخروج لمنازلة وحرب دياب محققا في البداية انتصارا ساحقا عليه إلى حد تمكنه من الإيقاع به أرضا من فوق هامة فرسته الشهيرة الخضراء، والتي يقال: إن روحه عالقة بها إلى حد أن قتلها «يعني قتله هو ذاته»، مما دفع دياب إلى الحزن والبكاء عليها فأمر بغسلها وتكفينها بأثواب الحرير ودفنها في مهابة، قبل أن يشيد على قبرها قبة عظيمة ذبح عليها ألف ناقة فرقها على الفقراء واليتامى.
لكن ما إن سمع بنو هلال بموت الخضراء حتى أيقنوا أن دياب لن ينسى ثأرها أبدا، وأن نهاية الزناتي قد اقتربت.
وهو ما حدث حين اعتلى دياب مهر «الخضراء» ونازل الزناتي إلى أن هرب الزناتي، فقام دياب بإطلاق الرمح لأن الزناتي كان هاربا، فالتفت لكي ينظر إلى دياب فأصاب الرمح عينيه ونفذ من قفاه! وحين حاول أبو سعدى الترجل عن جواده لحق به دياب مستلا سيفه من جانبه ونزل وقطع رأسه ونضجها على رأس سنانه شاهرا.
وهنا تراجع فرسان تونس هاربين، فأطبق عليهم الهلاليون من كل جانب إلى أن تزاحموا على بوابات تونس ملقين بسلاحهم تحت أقدام دياب بن غانم طالبين الأمان والصفح.
وعم الذعر والفزع قرطاج لمقتل فارسها الزناتي، وانفتحت أبواب تونس على مصراعيها أمام تدفق أفواج الهلالية بسيوفهم وراياتهم وعتادهم وتهليلهم بالنصر والفتح.
وكان أول ما فعلوه هو الإسراع في البحث عن سجن أسراهم الفتيان الأمراء الثلاثة يونس ومرعي ويحيى، إلى أن وصلوا قصر العزيزة بنت معبد، فخرج الأمراء الأسرى الثلاثة لاستقبالهم وتعانق الجميع طويلا، وحملهم فرسان بني هلال وجماهيرهم على الأعناق.
إلا أن يونس أمسك بيد حبيبته عزيزة وهو يقدمها لجموع الهلاليين الذين رحبوا بها آخر الترحيب، وكذلك فعل مرعي مع حبيبته سعدى بنة الزناتي التي بدت كالمشدوهة على مصرع والدها.
وحين وصلوا إلى حيث مقر السلطان حسن الهلالي والجازية وأبي زيد تضاعف الترحيب بهم، وخاصة بالأميرة عزيزة التي احتضنها السلطان حسن مرحبا غير مشدق، منشدا للأميرة الباسلة التي حفظت أرواح أبنائه:
أنت شفوقة يا عزيزة عليهم
خلصتيهم يا بنتي من جميع الوهايم.
كما رحب السلطان الهلالي بسعدى مشددا العزاء لها في أبيها فارس تونس الزناتي.
وتعاهد الجميع على الزواج القريب وبدء صفحة جديدة قوامها الحب والسلام والوئام.
ووجدت سعدى في احتضان مرعي وحبه الجارف لها بعض العزاء في موت والدها الزناتي، الذي أشار الجميع بفضائله وفروسيته الفائقة حتى أمراء بني هلال ذاتهم، إلا أن سعدى الشاردة كانت دائمة التفكير في كيفية حصولها على جثمان أبيها خليفة الزناتي ومواراته الثرى، بدلا من طرحه في العراء لجوارح الطير كما أراد دياب.
أما دياب بن غانم فما إن استتب له الأمر في تملك تونس واعتلاء عرش الزناتي، حتى بعث في طلب مناديه المدعو خليل وأعطاه رمحه، وأمره أن ينصبه أمام مدخل عرشه، وينادي باسم الأمير دياب للدخول من تحته ومن لا يفعل يحق قتله.
ففعل المنادي كما أمره مولاه، قاطعا شوارع تونس وميادينها طولا وعرضا مناديا بعلو صوته.
وهكذا اعتلى دياب بن غانم عرش الخليفة الزناتي مرتديا تاجه المصنوع من قديم الزمان، والمتوارث منذ عصر مهران خليفة، والمرصع كله بالمرجان الأحمر والياقوت الأخضر والمنسوج بالدر والجوهر الذهب الأصفر.
واجتمعت من حوله قبائل بني زغبة صفوفا في صفوف مئات وألوف بعد أن تدانى الجميع في تبجيله، ثم أمر دياب أن تعلق رأس الزناتي على أعلى أسوار تونس، وحرم دفن جثمانه طارحا الجثة في العراء لتنهشها جوارح الطير.
وعندما علمت سعدى بتنكيل دياب بن غانم بجثة أبيها الزناتي على هذا النحو، اندفعت كالمجنونة إلى حيث عرش الزناتي الجديد «دياب» إلى أن دخلت عليه مرتعدة مطالبة بدفن جثمان أبيها.
وما إن شاهدها دياب حتى راقت في عيونه فقبل طلبها من فوره بتكريم جثمان الزناتي، ودفنه بين قبور شقيقي دياب الأميرين اللذين صرعهما الزناتي في غيبته بدر وزيدان.
بل إن دياب بهر من جمال سعدى وحسن شمائلها وأكرمها في افتقادها والدها مشددا العزاء، وأمر بإدخالها عند حريمه فأكرمنها غاية الإكرام.
أما السلطان حسن الهلالي وأبو زيد فما إن تناهى إلى أسماعهما ما أقدم عليه دياب وأعلنه مناديه على الملأ، بوضع رمحه على مدخل عرش الزناتي الذي اعتلاه معلنا: لا سلطان لتونس إلا دياب بن غانم؛ حتى استبد بهما الغضب، خاصة السلطان حسن الذي بدا كمن لا يصدق ما تسمعه أذناه.
وما إن استشار السلطان حسن أبا زيد حتى أشار بالتوجه إلى مقابلة دياب والانحناء تحت حرابه ولو تطلب الأمر ذلك.
لكن ما إن قاربا قصر دياب بركبيهما حتى وصل الغضب بالحارس المقرب من السلطان إلى حد دفع به إلى ضرب رمح دياب بسيفه فقسمه، فما كان من حراس دياب بن غانم إلا الهجوم عليه وقطع رأسه.
وحدثت معركة على بوابات قصر دياب بين حرسه وفرسان السلطان حسن وأبي زيد ، استطاع أبو زيد بحكمته حصرها دون أية ذيول إلى حد تفاقم الخلافات من جديد بين أجنحة الهلالية المختلفة.
لكن ما إن دخل السلطان حسن بن سرحان - ومعه أبو زيد - مقبلا على دياب، حتى هب الأخير من فوره عن عرشه الجديد عرش الزناتي سابقا لاستقبالهما، وحوله أكابر وأمراء بني زغبة والخدم والعبيد بين يديه والتاج على رأسه.
وهنا لم يتمالك سلطان بني هلال غضبه وهو يشهد دياب على هذا النحو، حتى هجم عليه كمثل جمل هائج انفك من عقاله، مشهرا سيفه ليهوي به على رأس دياب بن غانم.
أسر دياب لسعدى ومأساتها
ما إن استل السلطان حسن بن سرحان سيفه من غمده ليهوي به على رأس دياب بن غانم المتربع على عرش الزناتي، حتى ارتفعت ذراع أبي زيد الهلالي عالية قابضة على يد السلطان الهلالي، مانعة إياه في حزم من تنفيذ ما أزمع عليه في سورة غضبه.
إلا أن السلطان حسن واصل اندفاعه وتحرشه بدياب متشبعا ما أقدم عليه من انفراد بسلطة حكم تونس، وكأنه يعزله عن قيادته المتوارثة عن أجداده في حكم الهلالية، صائحا بصوت جريح: تريدني الانحناء يا دياب تحت حرابك؟!
وتدخل أبو زيد وبقية الفرسان لكبح غضب السلطان حسن، وعدم التقليل من مآثر دياب بقتله الزناتي وفتح أبواب تونس التي أوصدت طويلا في وجه الهلاليين نتيجة لإبعاده عن المقدمة والقيادة وحراسة الإمدادات والبوش إلى أن استغاثت النساء الهلاليات الثكلى به، حين بعثن إليه في وادي الغباين ببراقعهن، فاستجاب دياب عائدا لنصرة الهلالية كما يتضح من شعر أبي زيد الهلالي:
جانا على خضرا جندل عدانا
وأخذ بثأرنا في ماضيات الطرايش.
وما إن هدأ خاطر الجميع واجتمع شمل قادة الهلالية مجددا، حتى قرروا تقسيم حكم تونس وتخومها وقلاعها المترامية حتى الأندلس فيما بينهم، وعلى الفور اندفع دياب بن غانم يساومهم على قتل فرسته الخضراء، التي تمكن منها الزناتي خليفة قبل أن يوقع به دياب بإنفاذ رمحه بين عينيه وقطع رأسه.
فالخضراء فرسة دياب بن غانم التي صانها طول عمره، توازي حياته ذاتها، وهو الذي أشار بدفنه هو ذاته معها حين ينتهي أجله في قبر واحد:
إن أماتني الله ادفنوني جنبها
وسط روضة موضع دفنتونها
عسى نلتقي يوم القيامة جمعنا
وأقبل الخضرا وأمسح عيونها.
وهكذا انفرد دياب بن غانم بالاستيلاء على حكم تونس - قرطاج - تعويضا عن فرسته الخضراء، ثم اقتسم ثلاثتهم السلطان حسن وأبو زيد ودياب حكم المغرب العربي ومن ضمنه الأندلس التي كانت من نصيب أبي زيد الهلالي.
لكن تقسيم تونس وتوابعها وقلاعها بين أقطاب التحالف الهلالي الذي فاز فيه دياب بنصيب الأسد، لم يعجل بإنهاء كل المشاكل المتراكمة والتي استجدت عقب فتح تونس وقلاعها والتي تضم الأندلس أيضا، فلقد ظهرت خلال ذلك الاجتماع الثلاثي الذي عقد داخل قصر عرش الزناتي الذي اعتلاه دياب بن غانم من فوره، وكما لو أنه حق شرعي له لمجرد إقدامه على منازلة الزناتي وقتله؛ أطماع دياب على الاستفراد في حكم تونس.
وضاعف من فداحة الأمر إقدام دياب على وضع حرابه لينحني تحتها سلطان بني هلال وفارسها حسن بن سرحان وأبو زيد الهلالي سلامة.
وظل السلطان حسن بن سرحان يردد لنفسه في غيظ كظيم: جاء اليوم الذي أصبحنا نحني فيه هاماتنا ورقابنا تحت حراب دياب بن غانم!
بل إن إصرار دياب بن غانم على التمادي في تجبره متشبثا بعدم التخلي عن عرش الزناتي تعويضا عن قتل فرسته الخضراء، أوغر صدر السلطان الهلالي ضده، إلى حد أصبح الاقتتال من جديد بين قطبي التحالف الهلالي من نجديين شماليين ويمنيين جنوبيين أمرا واردا.
واستطاع أبو زيد الهلالي بحنكته ومرونته تأجيل موعد ذلك الاقتتال الذي يخيم بظله الثقيل على الجميع، والذي قد ينشب بشكل رئيسي بين السلطان حسن ودياب بن غانم، خاصة وأن كفة القحطانيين اليمنيين سترجح إذا ما وقعت الواقعة.
فلقد نجح دياب بن غانم خلال فترة حراسته للبوش والمؤخرة في الاحتفاظ بأغلبية قواته دون أية خسائر تذكر، في ذات الوقت الذي تحمل النجديون الخسائر المهلكة التي أوقعها بهم الزناتي وعرب المغرب.
ومما زاد الأمر سوءا أن العلام بن هضيبة تمكن من الإفلات من العقاب والفرار هو وقومه باتجاه المغرب العربي والأندلس، مثيرا الفتن في كل مكان ضد عرب المشرق للأخذ بثأر خاله الزناتي، مجمعا فلول القوات المغربية بالقيروان لاستئناف القتال واسترداد العاصمة قرطاج، فاجتمعوا إلى ملكهم المسمى بالملك «الناحر» شقيق الزناتي خليفة، الذي أرسل للعلام في الأندلس معلنا تأهبه للحرب والنزال.
وكان يونس من أكثر المتابعين لتحركات العلام الخفية وتفهما لمدى أخطاره المهددة، التي أصبحت تنبئ بها الأيام الحبالى بالثأر وتجدد القتال بين الهلاليين وعرب المغرب.
بل إن يونس ومرعي استطاعا تجميع فلول القوات الهلالية، تأهبا لملاحقة العلام أينما كان قبل تفاقم دوره وقواته.
وودع كل منهما حبيبته أحر الوداع، يونس لعزيزة ومرعي لسعدى، تأهبا للخروج بفرسانهما لمطاردة العلام وفلوله على طول المغرب العربي حتى الأندلس.
وبعد رحيل يونس لأداء واجبه انخرطت عزيزة في صفوف المشرفين على رعاية تضميد جراح المصابين من الحرب، سواء كانوا تونسيين أو هلاليين.
بينما استجابت سعدى لرغبة الزناتي الجديد دياب بن غانم في البقاء مكرمة داخل حريمه، انتظارا لعودة حبيبها مرعي، مجللة بالأحزان لمصرع والدها الزناتي على ذلك النحو الفاجع، وحتى تتمكن سعدى من استرداد ما يمكن استرداده من ممتلكاتها الشخصية وأغراضها من براثن قاتل والدها الزناتي الجديد دياب بن غانم، وهي التي كرهت من كل قلبها مجرد سماع اسمه أو صوته المترامي إليها من قاعة عرش «الزناتة» الذي اعتلاه ذلك الجلف المتكبر.
وراحت سعدى تجاهد في كبح جماح دموعها التي كانت تخونها فتذرفها مدرارا على ما انتهى إليه حالها، بافتقاد الأب خليفة الزناتي والحبيب مرعي الغائب عن عينيها، وهي في أحرج وأشق ما مرت بها من أيام عصيبة، أي أن ترى نفسها غريبة أقرب إلى الأسيرة التي سبيت داخل جنبات وردهات هذا القصر الشاهق الأصم الذي تربت وشبت بين جنباته وتنفست هواءه.
حتى إذا ما جاءت الطوبة في المعطوبة كما يقولون وصادفها الزناتي الجديد دياب بن غانم الذي اتشح بأوشحة والدها وتاجه المتوارث منذ مهران خليفة، شاهدها تبكي وتنوح وتعدد لنفسها إلى جانب أحد عمدان القصر بلا صوت كمثل امرأة مخبولة؛ حتى توقف من فوره منبهرا مأخوذا من جمالها المأساوي والأثر الذي نفذ في أعماق قلبه كالسهام. - الأميرة سعدى؟
قاربها محاولا مساندتها أخذا بيدها باتجاه جناحه سائلا في تحرش: أما زلت تبكين الوالد؟ - أبكي غياب مرعي.
فقام يحاول سحبها مجددا باتجاه جناحه. - ادخلي يا أميرة.
توقفت سعدى وهي تبعده عنها رافضة الدخول منتصبة في مواجهته بنظرة أقرب إلى التحدي: ابعد!
هاجمها دياب أكثر مستعيدا تجبره: كيف أبعد عن كل هذا الجمال يا أميرة سعدى؟! أنت حليلتي. - أنا حليلة الأمير مرعي.
انفجر دياب ضاحكا مقهقها بأقصى قوة مواصلا محاولة استمالتها إلى أن انفلتت منه منشدة:
إن أخذتني يا أمير نواظري
فإني أعجل لروحي بشنق حبال
ولا الناس يقولوا أخذت عدوها
ولا أنك لي يا دياب رجال
ولا أريد الزغبي دياب بن غانم
ولا مقطع فوق رءوس الجبال.
وكان أن غضب عليها دياب منسحبا هائجا مصدرا تعليماته لمرءوسيه بأن يجلدوها عارية مع حبس بالأشغال الشاقة، التي تقضي بطحن الغلة والملح تحت ثياب الخيش عشرة أيام داخل المطامير الملحقة بسجن أبيها الزناتي.
ورفض دياب بن غانم كل المحاولات المضنية التي بذلتها الأميرة عزيزة صديقة صباها مستعينة بالسلطان حسن والجازية ونوفلة بنة دياب ذاته دون جدوى ترجى.
بل هو كلما تلصص عليها ليلا وسمعها تهجوه بأعنف الشعر زاد عليها العذاب والتنكيل، إلى أن كان يوم ضاعف فيه من عذابات سعدى حين تمكن عيونه وحراسه من كشف رسالة أو قصيدة دامية تشرح فيها كارثتها في سجن دياب بن غانم، وكانت تنوي تهريبها للسلطان حسن وأبي زيد:
تقول فتاة الحي التي خاب ظنها
سعدى التي خانت أبيها وراح
أيا غاديا مني على متن ضامر
إذا مشى يسبق هبوب رياح
فحين وصولك للهلالي قل له
يا كامل المعروف والإصلاح
نسيت الصغيرة يا هلالي أبو علي
ومعكم - كما ترى - ما فعلت قباح
ألا فاذكروا يوما أتونا أولادكم
إلى الغرب رادوها بأبي فلاح
أراد الزناتي أن يقطع رءوسهم
يريد يخطف منهم الأرواح
تشفعت فيهم ثم راحوا نعمة
ولولا كانوا فدوا شراح
واليوم قال دياب أخدك خليلة
فأبيت أمره يا حسن وقباح
فأخذني دياب وجعلني في مذلة
تضربني عبيده في مسا وصباح
أحمل على ظهري الحطب
أحمل جرار الماء بالأتراح
واليوم أعصم حالتي ابن غانم
يعاملني بالشر كل صباح
رميتوني يا بن سرحان يا أبو علي
كيف تجازون المليح قباح؟!
تقول فتاة الحي سعدى التي شكت
وفي القلب نيران وهب رياح.
ورغم وصول هذه الرسالة القصيدة المهربة إلى يد دياب بن غانم الذي استشاط غضبا وحقدا على سعدى، فإنها تمكنت من إيصال رسائلها وشكواها الملتهبة إلى يد السلطان حسن بن سرحان بمقره قرب القيروان.
وأدمت رسائل سعدى المهربة التي تفيض عذابا السلطان حسن، وهي خطيبة ابنه الحبيب مرعي الذي حارب ببسالة ليعود فائزا بزواجها.
كما بكتها عزيزة كثيرا وكذلك الجازية وأبو زيد، الذي عرف عن قرب مدى أصالتها وعنائها في الحفاظ على أرواحهم بسجون تونس.
فقرر السلطان حسن وأبو زيد الركوب إلى دياب رغم مشقة مهامهما، ورغم إخفاء ما يحدث لها عن حبيبها مرعي، ولو استدعى الأمر تجدد الصراع مع دياب من أجل الأميرة سعدى بنة الزناتي.
لكن ما إن اجتمعا بدياب وفاتحاه في موضوع سعدى وتعذيبها وكيف أنها خطيبة مرعي الذي يحارب ببسالة إلى حد إصابته بجرح بليغ، حيث أرسل وهو طريد خطابا لا يسأل فيه سوى عن سعدى وأحوالها؛ حتى ركب دياب رأسه رافضا في إصرار مغيرا الموضوع إلى ما استجد من كوارث وصلته في التو حول استشهاد ابنه الحبيب «موسى» الذي يتسمى باسمه مع ابن أبي زيد «صبرة»، حيث قتل العلام موسى بن دياب انتقاما للزناتي، وقتل الملك الناحر - شقيق الزناتي - صبرة بن أبي زيد.
وهكذا توارت مأساة سعدى أمام ما استجد من كوارث أهاجت أحزان كل من أبي زيد ودياب، بل والسلطان الذي أصيب ابنه مرعي بجرح بالغ.
واتفق ثلاثتهم على خروج دياب وأبي زيد بقواتهما للحرب ومساندة يونس الذي أصبح في وضع المستنجد بهما وهو على تخوم الأندلس.
وما إن دخلا المغرب من بوابته حتى ظهر دياب بن غانم كالمجنون الذي لا يقف عند حد انتقاما لابنه موسى، فقتل الأمير وائل واعتلى عرشه مواصلا تقدمه بافتتاح سبع قلاع حصينة.
أما أبو زيد فأعاد افتتاح القيروان عابرا جبل طارق وصولا إلى الأندلس حيث لحق بيونس، مواصلا فتوحاته على طول دويلاتها الواحدة بعد الأخرى دون صعوبات تذكر.
واجتمع أبو زيد ودياب بن غانم في بلدة تدعوها السيرة ب «عين تولوز» يرجح أنها في جنوب فرنسا، واتفقا على ضرورة العودة إلى تونس للاجتماع بالسلطان حسن وإعادة تقسيم المغرب من جديد، على أن يحتفظ دياب بن غانم بحكم تونس - قرطاج - تعويضا عن مقتل فرسته الخضراء.
ومرة أخرى تجددت وتزايدت إلى حد المأساة كارثة سعدى بنة الزناتي في سبيها ومحنتها وأصفادها.
بينما أخفى الجميع عن حبيبها الجريح مرعي ما أصبحت تعانيه، كما أخفوا الشيء ذاته عن صديقة عمرها عزيزة.
تبدت بطولة الأمير يونس - عقب فك أسره - في تلك الحملات التي قادها لفتح الطريق وتأمينه أمام الهلالية بدءا من قرطاج تونس مرورا بالقيروان والمغرب العربي والجزائر عبورا إلى شبه جزيرة إيبريا أو الأندلس.
ذلك على الرغم من تلك المرارة والأحزان التي أصبح يعانيهما، نظرا لجراح شقيقه مرعي وحنينه الجارف لعزيزة.
في هذا الوقت استمرت حملات دياب وأبي زيد عقب كارثة استشهاد ولديهما الأميرين الشابين موسى بن دياب ثم صبرة بن أبي زيد، الذي اتهم العلام بن هضيبة باغتياله.
وردا على ذلك قتل الهلاليون بدورهم العلام انتقاما لصبرة بن أبي زيد، ولنكصه - أي العلام - لعهوده الأخيرة معهم.
وهكذا أرسل أبو زيد الهلالي يخبر السلطان حسن بن سرحان باتفاقه مع دياب على إعادة تقسيم البلاد المفتوحة ذاكرا:
ملكنا من نجد إلى قاع تونس
بطعن يورث العدا عطيبها.
كان أبو زيد ينتظر عقد ذلك الاجتماع المرتقب على أحر من الجمر لفك أسر سعدى بنة الزناتي التي ساعدت وأعطت الهلاليين الكثير، ولم تحصد سوى الحسرة والمهانة.
فسعدى كانت على الدوام تدمي مأساتها بسجن دياب مشاعر أبي زيد، وتجعله يشعر بالحزن والأسى، خاصة تلك الليلة التي زار فيها أبو زيد الهلالي مرعي عقب إصابته بالقيروان، فسأله متلهفا عنها بصوت خفيض وهو جريح ينزف: كيف حال سعدى؟ - بخير يا مرعي، في عيون الوالد والجازية والأهل.
وتنهد أبو زيد متكتما أخبارها الدامية عنه وهو لا يعرف كيف يخفي كذبه عنه، بينما أغمض مرعي عينيه على صورتها مستريحا متنهدا، معانيا من جراحه البليغة. - كان الله معك يا سعدى!
أما يونس فقد فاتحه أبو زيد بإسهاب حول كل ما حدث من جبر وتجاوزات دياب بن غانم مع سعدى، وكيف أنها أصبحت مهانة ذليلة بقصر والدها الزناتي الذي اعتلاه دياب عشية قتله، مستبيحا كل شيء وخاصة بالطبع ابنته تلك الصغيرة التي تشع إخلاصا، والتي أصبحت ترسف في أغلاله داخل زنزاناته ليل نهار منذ انتصار دياب على أبيها وقتله وترك جثته بالعراء تنهشها جوارح الطير.
وعندما سأله يونس ملتاعا مفزوعا عما يسمع عن سعدى العفيفة العطوف التي أبلت الكثير حفاظا عليهم، وكيف يحدث لها كل هذا وشقيقه الأصغر مرعي حبيبها طريح أقرب إلى الموت؛ طمأنه أبو زيد. وهنا لم يتمالك يونس عن السؤال الملح عن حبيبته وخطيبته عزيزة، وهو يعني بذلك كيفية تصرفها حيال صديقة صباها سعدى وما لحق بها من أهوال جسام، وأخبره أبو زيد مطمئنا مقترحا التعجيل بإرسال الأميرة عزيزة إليه هنا بالأندلس مكرمة كزوجة وحليلة، حتى يهنأ يونس بالا بقربها.
العزيزة ترعى أبناء الشهداء
وأخلف أبو زيد مكانه في حكم ولايات الأندلس ودويلاتها، لحين انتهائه من مهام الاجتماع بدياب مع والده السلطان بقرطاج قبل العودة إليه مجددا.
حتى إذا ما عاد أبو زيد إلى القيروان اجتمع من فوره بالسلطان حسن تمهيدا للمسير إلى دياب، ثم اختلى بعزيزة ناقلا إليها رغبة يونس برحيلها إليه ففرحت من فورها.
إلا أن عزيزة عادت منفعلة مكفهرة متسائلة عن مصير صديقتها سعدى وما حل بها من كوارث دياب، وكيفية إنقاذها ولو لتطبيب مرعي الجريح النازف بالقيروان.
وطمأنها أبو زيد مفضيا إليها أنه إنما جاء من أجل هذا الغرض الذي أصبح لا يذيقه النوم كلما قرأ بكائيات سعدى الذاتية وخطاباتها التي تنزف مرارة، وهي ترسف في أغلالها بسجن ذلك المتجبر دياب بن غانم.
وأطلعت عزيزة أبا زيد بدورها على كتابات سعدى لها غاضبة متسائلة، وهي تشق إزارها من أعلاه إلى أسفله ثورة وكمدا: أتلك نهاية المطاف؟! على هذا النحو تعامل الأميرة سعدى، وبعد كل تضحياتها للهلاليين وفرسانهم؟!
قاربت عزيزة أبا زيد الهلالي ناشبة أظافرها في ثيابه: جثة الزناتي عارية فوق أعلى تلال تونس، تنهشها جوارح الطير!
وتابعت محتدة: وابنته سعدى تطحن ملح دياب بن غانم وترعى نوقه، ويسومها عبيده العذاب ليل نهار؟!
صرخت عزيزة في وجه أبي زيد: أما من خلاص؟
فغمغم أبو زيد بدوره زافرا في أسى مكملا: لدى انتهاء سيول الدم العربي النازف.
وأردف أبو زيد مبلغا عزيزة في حسرة آخر الأنباء حول كيفية سير المعارك، وكيف أقدم العلام بن هضيبة على اغتيال ابنه وحدقة عينه المقرب من قلبه «صبرة»، متنهدا: القلب تحمل الكثير يا عزيزة يا ابنتي.
وودع أبو زيد عزيزة مؤمنا بنفسه كوكبة فرسان لحراستها ومرافقتها إلى الأندلس لإتمام مراسيم عرسها إلى يونس، الذي خلفه أبو زيد مكانه، مجددا وعده له بخلاص سعدى من أسر دياب مهما كلف الأمر.
إلا أن عزيزة تشددت وهي تفيض له بهواجسها عن مصير سعدى الذي أصبح غامضا مبهما. - لعلها الآن قتيلة عارية! وسعدى تنهشها جوارح الطير إلى جانب جثة والدها الزناتي! من يدري؟!
ومرة أخرى هدأ أبو زيد من انفعالاتها على صديقة صباها مودعا موكبها بنفسه، معاودا تفاؤله الدائم الذي لم يكن ليغيب عنه في أحلك المواقف وهو يمازحها مذكرا بعرسها وزفافها على الأمير الحاكم يونس، هنا غمغمت عزيزة مغالبة دموعها: أي عرس هذا؟
حتى إذا ما حان أوان رحيل السلطان حسن وأبي زيد إلى حيث مقر دياب بقرطاج، ساروا حتى دخلوا إلى تونس الغرب، فلما نظرهما دياب - أي السلطان حسن وأبي زيد - نزل فلاقاهما بالترحيب والإكرام، وأدخلهما إلى القصر وذبح الذبائح، فأقاما بضيافته ثلاثة أيام ، وفي اليوم الرابع قال لهما دياب: شرفتموني بنزولكما منازلكم، وكان من الواجب أن أرحل أنا إليكما لأقدم الواجب علي.
وعلى الفور قاطعه السلطان وأبو زيد طارحين مهمتهما بالمجيء إليه، وهي الرجاء بفك أسر سعدى لأنها زوجة مرعي الجريح، وأنشده السلطان حسن قائلا:
مقالات حسن الهلالي أبو علي
ولي قلب من جور الزمان كواه
يا دياب الخيل اسمع مقالتي
وأصغ لقولي وافهم المعناه
سعدى أصبحت عندك وديعة بينما
يروق منا البال نقيم هناه
سعدى مرادي آخذها لضعونا
أزوجها أنا مرعي بأحسن جاه
وهي يتيمة يا دياب بن غانم
أبوها قتلته أنت بوسط فلاة.
وما إن فرغ السلطان من إنشاده حتى انفجر دياب بن غانم محتدا غاضبا من هول وغرابة ذلك الاهتمام الكبير من جانب سلطان الهلاليين وفارسها الأول بمجرد فتاة خانت والدها، ومن خان والده خان قبائله ووطنه، ومن هنا فلا خير فيها سوى القتل المحقق.
ومن الجانب الآخر استمر غضب السلطان حسن وأبي زيد من منطق دياب لفتاة هي في موقع خطيبة إن لم تكن زوجة ابنه مرعي الجريح، قائلا في سماحة ورجاء: فأنت خاله قبل أن أكون أنا والده.
إلا أن دياب المتجبر الحاقد أصر على منطقه بأن سعدى التي خانت أباها لا خير يرجى فيها، ومن ثم يحق قتلها.
وحسما للنزاع اقترح أبو زيد واقعة - أو لعبة - فروسية غربية قديمة، حيث توضع فيها سعدى في مكان بعيد في آخر الميدان المتصدر لقصر أبيها الزناتي - الذي استولى عليه دياب - ثم يركبون ثلاثتهم خيولهم في أول الميدان قبل أن يطلقوا الأعنة، ومن يصل إلى حيث سعدى أولا تكون ملكه ويأخذها حليلة.
وما إن وافقوا ثلاثتهم حتى اتفقوا على اليوم التالي مع مطلع النهار، ثم أحضروا سعدى إلى الميدان وأوقفوها في آخره.
وما إن أعطيت شارة البدء حتى خرجوا وكأنهم نشاب، وكان دياب راكبا الشهباء ابنة الخضراء وكانت أمهر من أمها، فاندفعت إلى المقدمة وأبو زيد في أعقابه، وكانت المسافة مقدار ساعة، وما إن وصل دياب إلى حيث تقف سعدى حتى بادرته سعدى بما سبق أن أخبرها به أبو زيد: أنا أختك يا دياب.
وهنا تزايد حنق دياب بن غانم من مضمون كلامها، فشهر من فوره حسامه وجرحها جرحا بليغا أوداها طريحة.
فتهاوت سعدى تهذي بمأساتها عن آخرها وما حدث لها مع الهلالية وعشقها لمرعي الذي أضناها، وهي تلفظ كمثل فرسه أنفاسها الأخيرة.
حتى إذا ما وصل إليها أبو زيد الهلالي وفي أعقابه السلطان حسن الهلالي، ترجل أبو زيد عن حصانه وجرى إليها فأخذها بين ذراعيه محتضنا، وهي تنشد بصوت متحشرج حبيس آخر مراثيها تنعي عشقها الدفين لمرعي الذي أذلها إلى حد الموت:
أنا كنت أسعد الناس جميعها
شبه القمر إن بان تحت غمام
فلما أتى أبو زيد للمغرب رادها
ومعه إمارة خيرين كرام
جاءوا إلى سلطان قابس في الضحى
وأبو زيد من سهر الليالي نام
أتوهم عبيد السوء وقفوا حولهم
وهم ساحبين خناجر وحسام
شدوا أياديهم كتافا إلى ورا
أخذوا صوارمهم مع الأغنام
ولما عرضوهم للزناتي خليفة
ملك ملوك الأرض كالضرغام.
وتمضي مرثية سعدى مصورة كيفية عشقها لمرعي، وكيف أن هذا العشق أذلها، وها هي تلقى مصيرها المحتوم بالموت على هذا النحو المفجع.
ومرة أخرى دبت الخلافات والأحقاد بين أقطاب التحالف الهلالي وأبي زيد والسلطان حسن الذي اشتعلت نيران قلبه نتيجة لما فعله دياب لسعدى حبيبة ابنه الجريح المسجى مرعي، حيث لم يرع له اعتبارا وهو سلطان الهلاليين أبا عن جد.
أما دياب فقد طغى في الحكم الذي توصل إليه في آخر عمره، فامتلأ قلبه بالبغضاء والقسوة.
بل هو من جانب آخر قرب إليه بني زغبة - أو الزغابة - اليمنيين وعرب الجنوب، وأغدق عليهم المناصب والثراء والسلطات، مما فجر الخلافات والأحقاد بينه وبين السلطان حسن بن سرحان وأبي زيد الهلالي إلى حد التهديد بالحرب السجال، التي سرعان ما اندلعت بالفعل، وامتدت رحاها لسنوات على طول تونس والمغرب والأندلس.
إلا أن أبا زيد الهلالي بصائب بصيرته وبفكره المعادي للانقسامات تمكن من عقد الهدنة بين السلطان حسن ودياب بن غانم، التي أعقبها عقد الصلح بينهما في «القيروان».
لكن ظل دياب على عهده وما طبع عليه من الغل والتآمر ضد سلطان الهلالية وتجاوز سلطاته، إلى حد إعادة التحالفات المقوضة لكلمته العليا بين قبائل وكيانات المغرب العربي.
مما أوغر قلب السلطان حسن ضده ودفع به إلى اللجوء إلى المكيدة والحيلة للإيقاع به عن طريق خدعة «المأدبة المسمومة»، حين استدعاه ومعه عيون وفرسان بني زغبة.
وكان دياب مرتديا جبة من الحرير الأخضر وشالحا على كتفيه عباءة حمراء اللون، وعلى رأسه عمامة من البرفيل والأرجوان. وحين دخلوا على السلطان حسن رحب بهم بالغ الترحيب، وجلس دياب على كرسي من العاج كأنه الذهب الوهاج ومن حوله قومه.
وبعد ترحيب السلطان بدياب وقومه، وكذلك ترحيب زوجته الأميرة نوفلة بأخيها، صفق السلطان فدارت القهوة العربية والشراب والكأس، وأحضر مائدة من الطعام مصحوبة بألف فارس ضرغام. أجلسوا على المائدة، وحين مدوا أياديهم كانت المناسف مغطاة، فرفع دياب الغطاء عن المنسف ووجده فارغا من الطعام، وفيه قيود من الحديد، فقال الأمير دياب: ما هذا يا حسن؟
فردد الجميع: الواجب أن تتقيدوا إلى السلطان بالطاعة ولو ساعة.
فعندها وضع دياب القيد برجليه، وفعلت باقي الإمارة كفعله.
وبينما هم كذلك، اندفعت فرسان «بني حديد» إلى داخل المكان وبأيديهم الخناجر والسيوف.
فصار دياب كالملهوف بعد أن تبين خدعة المائدة المسمومة أو المائدة الفخ.
وأمر السلطان حسن الهلالي بنصب المشانق، فذبحوا ستين أميرا من بني اليمنيين، والبقية أمر بشنقهم.
أما الأمير غانم والد دياب فكاد أن يلفظ أنفاسه من هول ما يقع.
وأمر السلطان بإبقاء دياب ووالده غانم في الأسر، طالما أنهما مأسوران بلا سلاح.
ولما وصل الخبر إلى أبي زيد في الأندلس، شد من فوره الرحال إلى السلطان حسن، فسلم عليه ورحب به غاية الترحيب، ثم سأله أبو زيد عما فعل، فقال السلطان حسن: ما عملت مع دياب إلا سجنه، فإن كنت قتلت أولاد عمه وإخوته، فإنه سبق أن قتل أخي وخطيبة مرعي الأميرة سعدى، وجرح قلبي عليهما، فقابلته بمثل ما قابلني، وجرحت قلبه عليهم .
ثم إن السلطان بعث بألف فارس إلى تونس وأمرهم أن يحضروا له خزائن تونس، وسلاح دياب، وأثاث بيته، وكل ما في قصور الزناتي يحضروه، فحالا ذهبوا وأحضروا ما أمرهم به السلطان حسن الهلالي.
وحدثت أحداث جسام، منها اغتيال الأمراء الهلاليين كلا من العدنانيين وبني زغبة الجنوبيين.
أما دياب فحاول جاهدا التوسل لفك أسره دون جدوى:
تجازيني بالحبس يا سيد الملا
وقد صار لي بالحبس سبع أعوام.
إلى أن تشفع له أبو زيد لدى السلطان، وساعدته نساء بني هلال في الإفراج عنه.
وهكذا أفرج عنه السلطان في موكب مهين لفارس كدياب، وهدده بإعادته إلى السجن مرات على مشهد من أولاد الإمارة والنساء الهلاليات. - ويلكم بدياب! أمسكوه وإلى السجن ردوه.
هنا أخذ دياب يرتجف مظهرا الخوف الشديد، فسقط على الأرض مغشيا عليه كمن قارب الموت.
وهنا تدخل أبناء الإمارة متوسلين السلطان الإفراج عن دياب المحتضر الغائب عن وعيه لا يدري ما يقول، فأمر السلطان بإدخاله بدار الحريم عند أخته نوفلة التي هي زوجة السلطان.
هنا رفع الرجال دياب بكل تكريم إلى بيت أخته نوفلة، التي ما إن نظرته مسجى على هذا الحال المبين وهو محمول على أيدي الرجال، حتى أجهشت بالبكاء والنحيب وهي تمزق أستارها مولولة:
فما كان ظني يا دياب بن غانم
أراك محمولا على أيدي الرجال كميت!
وأسرعت فمددت أخاها دياب على فراش من ريش النعام، وهو ينتفض ويرتعش، وبقي على هذه الحال ثلاثة أيام، لا يذوق طعاما أو ينطق بكلمة، مستجمعا قواه متحينا منتصف الليل للانتقام الدامي الفاجع لما حل به وانتهى إليه أمره.
إلى أن حانت فرصته فتسلل ليلا تحت أستاره وملابس سجنه إلى مخدع السلطان حسن الهلالي وهو غارق يغط في نومه، واستل شفرة كان يخبئها في حرص إلى أن تحين فرصته تلك بالانتقام الأسود من عدوه اللدود السلطان حسن.
فانطرح على السلطان حسن تحت جنح الظلام وذبحه من الوريد إلى الوريد في صمت كتوم، ومضى متسللا في جنح الظلام إلى أن وصل إلى قومه وعشائره ففرحوا به كثيرا.
إلى أن حكى لهم ما جرى لحين اغتياله لسلطان الهلالية حسن بن سرحان، فتزايد حزنهم وأساهم وقالوا: أصبحنا عبرة عند العرب، فسوف يصير بنا كما صار مع جساس بن مرة حين اغتال الأمير كليب ملك العرب.
وقرروا من فورهم هدم المضارب والرحيل الجماعي بمضاربهم وأغراضهم تحت جنح الظلام هربا من انتقام الهلالية، وقبل أن تلحقهم جيوشهم الزاحفة المعبأة بكل انتقام أسود.
فهدموا الأطناب وأودعوها ظهور الجمال وأركبوا النساء والأطفال وجدوا السير يقطعون الروابي والبطاح باتجاه السودان والحبشة.
وما إن عم وانتشر خبر اغتيال دياب للسلطان حسن بن سرحان الهلالي، حتى عمت أحزان القيسيين والعامريين - الفلسطينيين - حتى إذا ما وصل الخبر مسامع أبي زيد شق ثيابه، وألقى بشاله ونتف لحيته وأهال التراب مع النساء على رأسه، وبكته أخته الجازية:
عمود ركبتي قد هبط يا نكبتي
طول المدى ما أنظر الأفراح.
ورثاه أبو زيد:
يا مشبع الجوعان معزي الحزين
يا سيد المكروب يا مولى العرب.
وما إن انتهت مراسيم دفن سلطان الهلالية ابن سرحان بنحر الذبائح، حتى تعاهدوا بصيوان الأمير أبي زيد الهلالي بالثأر، فدقت طبول الحرب الانتقامية وساروا حتى دخلوا قصر دياب بتونس، وسرعان ما علموا بفرار دياب وقومه إلى بلاد الأحباش فتعقبه القيسيون، ونصب أبو زيد الهلالي سلطانا لتونس والمغارب.
أما دياب بن غانم فقد واصل فراره وزحفه هو ومن بقي معه من فلول أمراء وفرسان بني زغبة، بعدما كان السلطان حسن قد دبر مكيدة اغتيالهم خلال تلك المأدبة المسمومة التي انتهت بأسر دياب.
وعبر الطريق إلى السودان وأواسط أفريقيا حاول دياب مواصلة جمع شمل بقايا تحالف عرب الجنوب القحطانيين وتبرير فعلته الشنيعة لهم باغتيال السلطان حسن الهلالي في فراشه.
إلى أن حط دياب رحاله بقومه في الحبشة والسودان، مواصلا فتوحاته بحد السيف لتأمين منفاه الجديد، تحسبا لمطاردات العرب النجديين له أينما كان.
وما إن استقر حكم دياب للحبشة والسودان والغرب الأفريقي، حتى بدأ مراسلاته مع أبي زيد طلبا للصفح وإعادة تجميع شمل الهلالية تحت مظلة أبي زيد وحكمته، وعفا الله عما سلف، إلى أن نجح في استمالة قلب رفيق صباه أبي زيد، الذي راسله بدوره طالبا عودته.
وهكذا ودع دياب بن غانم حلفاءه الأفارقة متجها عائدا إلى شمال أفريقيا بقومه بني زغبة، إلى أن لاقاه أبو زيد ونحر الذبائح وعاد إليهما صفوهما، فكانا يسهران ويسافران إلى نجد ويخرجان للصيد واللهو معا.
ودياب لا يكف عن المطالبة بإعادة نصيبه في حكم المغرب العربي دون أن يعطيه أبو زيد جوابا شافيا.
وهكذا حقد عليه دياب محادثا نفسه: خلصنا من واحد وبقي الآخر!
إلى أن حانت فرصة دياب بخروجه مع أبي زيد للتريض وللصيد والقنص، وحين تفرقت الفرسان لازم دياب أبا زيد وهو يلعب على ابنة فرسه الشهباء بالرمح والدبوس، إلى أن باغت دياب أبا زيد وسحب دبوسه المخفي وضربه خلف رأسه بسهمه فنفذ من جبهته، فوقع أبو زيد على الأرض متخبطا في دمه كالأعمى.
وأخذت الشفقة دياب فوقع إلى جانبه يبكيه راثيا مهيلا التراب الذي رشف دمه لاطما خديه في حسرة، إلى أن تخلى عنه دياب مضرجا بدم أبي زيد بنفس ما فعل جساس بن مرة عقب اغتياله لكليب.
ثم سار دياب كالمذهول بين قومه إلى أن دخل تونس ودخل «سراية الأحكام» ونادى باسمه، بل تجاسر معلنا قتله لأبي زيد الهلالي، وأنه الحاكم الوريث لتونس والمغارب.
وبكت النساء الهلاليات ورجالها أبا زيد وكثرت فيه المراثي، فأنشدته الجازية عقب دفنه إلى جوار أخيها السلطان حسن:
حوى حكمة لقمان وجود حاتم
وصبر أيوب وكل صفات.
أما دياب فقد جلس من جديد على عرش الزناتة وجاءه الملوك والأمراء والحكام طائعين.
بينما فرت الجازية بأبناء الشهداء وفرسان الهلالية وبني دريد وبني الزحلان ليلا، تمهيدا لتحين الأخذ بالثأر الذي دارت عجلته الدامية على رءوس الهلاليين.
وتكدر دياب بن غانم حين لم يلحقهم فرسانه الذين أرسلهم في أعقابهم وعادوا دون أثر.
إلا أن عين دياب لم تغفل عن الجازية ودورها التحريضي في رعاية أبناء شهداء بني هلال الذين أودى بهم دياب، خاصة السلطان حسن وأبا زيد الهلالي.
وهو بالطبع ما اضطلعت به الجازية في حمايتهم وتربيتهم على الأخذ بثأر آبائهم، مثل إيزيس حين خبأت ابنها حورس المنتقم لأبيه في أحراش الدلتا.
بل هي أولت رعايتها الكبرى هنا للأمير بريقع ابن أخيها الأكبر السلطان حسن مع أبناء أبي زيد.
ولقد حاول دياب مد أياديه الطولى لاغتيال «جيل اليتامى» هذا بالحيلة والمكيدة، وكان ذلك ذات عيد أولم فيه دياب وليمة كبرى وجمعهم وأعمل سيوف فرسانه فيهم، إلا أن «بريقع» نجا بفرسانه من تلك الوليمة المسمومة.
فبعث إليه خاله دياب يتهدده بالحرب والقتال، حتى إذا ما وقعت تلك الحرب الانتقامية قتل دياب فيها الأميرة الجازية.
إلا أن بريقع ابن السلطان حسن استجمع من جديد قواته انتقاما لمقتل عمته القائدة الجازية، ونازل دياب الذي سخر منه في البداية قائلا: مرادي أن أقاتلك بلا درع، وعلى كديشة بدلا من الخضرا!
وهكذا أصر دياب على منازلة بريقع بلا درع وليس معه سوى السيف والترس، مما أغضب بريقع الذي صمد له طويلا إلى أن تمكن منه بطعنة نجلاء، فسقط يتنهد ألما من هول جراحه منشدا:
مقالات الزغبي دياب بن غانم
أيا موت قد زرتنا ثم دنوت.
وبموت دياب بن غانم فارس تحالف عرب الجنوب اليمنيين، جدت أحداث وحروب بين أبناء الجيل الماضي، ولعبت عزيزة دورا مرموقا في احتضان أبناء الشهداء وتربيتهم على الخير والسلم.
لندن، شوقي عبد الحكيم
অজানা পৃষ্ঠা