أقول نترك دراسة الظاهرة أسبابها وملامحها، وماذا يمكن أن تفعله لنخرج من هذا المأزق الخطير تماما، للعلماء وللمتخصصين ونعود للمهرجان.
هنا الازدحام أيضا موجود، هذا حقيقي، ولكنه ازدحام إنساني وليس تكدسا بشريا، والأولاد والأطفال والجدات والرجال والشباب والشابات خمسة عشر ألفا أو يزيدون كل ليلة، تزدحم بهم ساحة تقل كثيرا عن ساحة ملعب كرة، ولكن أحدا لا يصطدم بأحد، وشابا لا يعاكس أبدا فتاة، والأطفال أطفال فعلا وليسوا شياطين صغارا، والعروض كثيرة ومتنوعة، من أربعين دولة وحوالي مائة وأربعين عرضا من ليالي المهرجان العشرين، وما أروع لحظة اللقاء بين الفن والناس وبين الناس والفن! ما أروع لحظة التفرج والتمسرح التي أصررت عليها في نظريتي المسرحية! هنا النفس جزء من الفرجة، والممثلون والموسيقيون والراقصون جزء من الجمهور، والجميع في حالة عظيمة من النشوة، هنا الجميع أطفال إلى درجة البراءة المحضة وكبار إلى درجة التصرف المتحضر غير المندفع أو المجنون، هنا الجميع في ساعة واحدة، ومزدحمون ولكن بقي لكل منهم الحد الأدنى من المسافة، والمساحة الواجبة أن تتوافر للإنسان طفلا كان أو شيخا ليتنفس ويحيا ويتحرك، ويحب، وينفعل، وينبهر، المزمار الصعيدي والطبلة بجوار الفرقة القومية للفنون الشعبية بجوار الفرقة الأمريكية والباليه الإنجليزي وفرقة الرقص الروسي، والأنوار ساطعة والتلال المحيطة والوادي تحفل بالنور، النور الصادر من كل عينين متطلعتين، هنا الحياة تبدو جميلة جدا جديرة بأن تحيا، والبشر يبدون جميلين جدا جديرين بالحياة وبالفن وبالحب وبالحرية وبالاستقلال وبكل ما يجعل الإنسان إنسانا، بل وحتى سوبرمان.
والسبب!
أن عدد الناس هنا إذا قورنوا بمساحة الأرض المأهولة معقول تماما، هنا الشارع عريض فسيح جديد، وليس حارة أصبحت تتكدس بالبشر والعربات والخناقات، هنا أطلق سراح الإنسان ليتحرك، فنحن في القاهرة سجناء شوارعنا وبيوتنا ونوادينا ووسائل مواصلاتنا وانتقالاتنا، سجناء فعلا لا قولا، سجناء لأننا لا نستطيع الحركة كما نريد فنتكدس وندبها فولا وطعمية وبلا حركة نتخن ونتخن ولا رياضة فردية ولا جماعية ولا مكان للسير أو التمشي، بشر، بشر، بشر، طوفان من البشر، ضللت مرة طريقي ودخلت حيا لا أعرفه كدت أصاب بالذعر من العدد المخيف من الناس المزدحمين في شارع واحد من حي واحد من مدينة واحدة من مدننا، يا إلهي! ماذا حدث ؟! وماذا نفعل؟! فنحن بهذه الطريقة وبهذا الكم لا نحيا، ولا نفرح، ولا نبتهج، ولا نحتفل ولا نقيم مهرجانات إنسانية حلوة، ولا نفعل إلا أن نستلقي أمام التليفزيون مستسلمين لمتعة سلبية تماما، نتفرج على إلكترونيات ترسم صورا وقصصا، بينما الحياة الحقة هي ما «يزاولها» الإنسان وليس ما «يتفرج» عليها، وكأن ازدحامنا وصل إلى درجة التوقف أن نحيا، بل حتى أن نوجد، فوجودك دائما مجروح ومقتحم بوجود لصيق آخر لا تملك له دفعا.
محروسة أنت يا مصر! هذا صحيح.
ولكن شعبك يخنقك ويختنق بك، وحتى دعاواه مهما تسربلت بثوب من العلم أو الدين فهي دعاوى اختناق بشري وازدحام وجود، وما هكذا تكون الدعاوى أو توجد، فالدعاوى يطلقها البشر للبشر، فإذا كان الطالقون يحيون في علبة سردين والمستقبلون يكتظون وكأنما في علبة تونة، فإنها دعاوى اختناق يرسلونها لمختنقين.
إني متأكد أن مصر ستجتاز تلك الأزمة، لا أعرف كيف، ولكني أعرف أن هذا الشعب المجيد قد مر بأزمات وجود طاحنة، مجاعات أكل فيها ما لا يؤكل، حتى بعضه أكل بعضه، وولاة كانوا في أحيان جزارين، واحتلالات متعاقبة لم ير مثلها شعب.
أعرف أننا سنجتاز هذه الأزمة بكل تأكيد، ولكني أصبحت في شك أن يتم هذا الاجتياز في أعمارنا نحن، أو عمري على الأقل، وليس هذا تشاؤما، إنه عين التفاؤل، فحتى السرطان الخلوي نفسه قد أصبح يشفى ويمكن علاجه، فما بالك بما هو أخف؟! أخف لأن في أيدينا شفاءه، ولو كنت من حكومتنا لعقدت فورا مؤتمرا عاجلا أجمع له أعظم العلماء والمفكرين والمتخصصين ويكون له موضوع واحد فقط: كيف نحل مشاكل ازدحامنا الوجودي ووجودنا المزدحم بطريقة تعيد لكل مواطن منا إنسانيته؟
حتى نعود نفرح ونبتهج ونقيم أحلى المهرجانات.
ضحك الجنازات
অজানা পৃষ্ঠা