من يدري؟ لعل هذا، بالإضافة إلى الجهود التأويلية اللاحقة، وبمعزل عن تخبط العصور الوسطى الأخيرة وصدمة الحداثة التي تلتها، هو ما أتاح للعقل الغربي أن يقيم صرحه الحضاري الحديث وهو يحمل داخله ولافا سعيدا بين عقلانية شديدة الصرامة والانضباط ولاهوت مغرق في التعقيد والغيبية، دون أن يعاني تناقضا مشلا أو تنافرا معيقا.
نزع الطابع الأسطوري
ولكن كيف ينبغي أن نفهم الأساطير الكلاسيكية العديدة المبثوثة في نص «عزاء الفلسفة»، والمندمجة فيه اندماجا عضويا، والملتحمة في نسيجه التحاما منطقيا، حتى ليبدو النص معتمدا عليها مستندا إليها، يقوم بها ويسقط بسقوطها؟ وماذا يكون موقفنا من الكوزمولوجيا الخرافية العتيقة التي تتأسس عليها أفكار محورية في عزاء الفلسفة، مثل رحلة العودة إلى الوطن الحقيقي في جنب الله، وكيف نترجم، في عقولنا، أسماء الآلهة الأسطورية التي لا تكاد تخلو منها قصيدة من قصائد بوئثيوس في «العزاء»: فبوئثيوس مثلا لا يذكر «الشمس» ... ذلك النجم الملتهب الذي نعرفه الآن ولا «القمر» ذلك الكوكب الحجري الضئيل الذي بلغناه ووضعنا عليه أقدامنا، وإنما يتحدث عن «فويبوس» الإله و«فويبتي» أخته الإلهة.
1
لعل الموقف السديد تجاه هذه المشكلة الشائكة هو موقف اللاهوتي البروتستانتي رودلف بلتمان
R. Bultman
تجاه أساطير العهد الجديد نفسه! وهو الموقف الموسوم، بشيء من اللبس وعدم التوفيق، باسم «نزع الطابع الأسطوري»
demythologizing
فنزع الأسطورية عند بلتمان لا يعني بحال تطويع الأناجيل لكي تلائم طرائق الرؤية الحديثة، إنما هو موجه ضد نزعة الفهم الحرفية السطحية الثانوية في الأسلوب الحديث في النظر إلى الأمور، ضد ميل عامة الناس (وحتى اللاهوتيين) إلى اعتبار اللغة مجرد معلومات بدلا من النظر إليها كوسيط من خلاله يواجه الله الإنسان بإمكانية فهم ذاتي جديد تماما، فهم غير الفهم الإغريقي وغير الفهم الطبيعي وغير الفهم الحديث، ذلك أن نزع الأسطورية لا يرمي إلى الإطاحة بالرمز الأسطوري وتحطيمه بل يعتبر الرمز الأسطوري نافذة لنا على المقدس، فأن نئول الرمز يعني أن «نتذكر» معناه الأصلي الحقيقي وإن توارى الآن واحتجب، أن نتعامل مع الرمز بمودة وحب في محاولة لاسترداد معنى خفي فيه.
يشير بلتمان إلى أن رسالة الإنجيل تقوم في سياق تصور كوزمولوجي للسماء من فوق والأرض في الوسط والعالم السفلي من تحت - أي عالم المستويات الثلاثة، ويذهب في حله لهذه المسألة إلى أن رسالة «العهد الجديد» لا تعتمد على كوزمولوجيا العهد الجديد التي لا تشكل إلا السياق لرسالة عن الطاعة الشخصية والتحول إلى «إنسان جديد»، ونزع الأسطورية هو محاولة لفصل الرسالة الجوهرية عن الميثولوجيا الكوزمولوجية التي لا يمكن للإنسان الحديث أن يقبلها.
অজানা পৃষ্ঠা