وبخطوات عمياء متعثرة انطلقت في الصالة، غير حافلة بالأصوات التي كانت تصدر طول الوقت عن الجندي ومحاولاته للاقتراب منها واللحاق بها، ولا بالنداء المستغيث الذي كان آخر ما سمعته منه ...
وبقلب واجف مخلوع، ووجه فاقد العينين هارب الدماء كأنه في طريقه إلى الموت، أسرع الجندي خلفها.
ولم تعد عيناه إلى محجريهما والدماء إلى وجناته، ولا نبتت تحت إبطيه قطرات عرق السلامة، إلا حين تأكد تماما أنها لم تذهب بعيدا، وبعيني رأسه شاهدها وهي تتجه إلى ذلك الجزء من دورة المياه الذي خصص للموظفات، وتدخله وتغلق وراءها الباب. •••
وبينما كلف خفاجة بمراقبة الدورة، كان اجتماع صاخب عاجل ينعقد في الحجرة وينهي فيه الجندي لزملائه - مستسلما - قصة فشله الذريع مع سناء، والكارثة التي تنتظرهم فيما لو نفذت وعيدها والدلائل كلها تشير إلى أنها حتما ستنفذ ذلك الوعيد.
وما كاد ينتهي حتى تطايرت الاقتراحات من كل صوب ... اقتراحات بالمبادرة بالتبليغ عنها قبل أن تبلغ عنهم وإلباسها التهمة ... اقتراح بكتابة شكوى تمس أخلاقها ... اقتراح بتهديدها والضغط عليها ... وعشرات أخرى من الاقتراحات لم تتوقف إلا حين انفتح الباب فجأة وأطل منه رأس خفاجة ليهمس لهم أنها قادمة.
وعلى عجل هيئ المسرح لاستقبالها واتخذ كل موظف مكانه ودوره، وبينما تصنع البعض الانهماك جلس آخر يعبث بمفاتيح الآلة الكاتبة، بينما الباشكاتب لم يطاوعه سنه على التمثيل فوق مكانه كما كان، كل ما استطاعه أن أمسك بمظروف راح يستخرج محتوياته ببطء ويفحصها بعيدا عن أعين الزملاء ... بعيدا عن الركن الخامس.
ودخلت سناء وقد أصلحت ما أفسدته الدموع من وجهها وعينيها وإن بقيتا منتفختين قليلا يلونهما الاحمرار، ودون أن تنطق بكلمة توجهت إلى مكتبها وراحت تجمع الأوراق وتضعها في الأدراج وتغلقها علامة الاستعداد لمغادرة العمل، والساعة لم تكن تجاوزت الثانية عشرة إلا بقليل ، وسألها الباشكاتب بطريقة عادية جدا إلى أين هي ذاهبة؟ وأجابت بطريقة حاولت هي الأخرى أن تجعلها عادية قائلة إنها متعبة طالبة منه الإذن بالمرواح، ورغم دهشة الموظفين المكتومة أذن لها الباشكاتب متمنيا لها بلهجة أبوية سرعة الشفاء ... فقط طلب منها أن تكتب ورقة صغيرة؛ إذ هكذا ينص الروتين، وبينما مضت سناء بيد مضطربة وأفكار مشتتة تحاول كتابة الورقة وتمزق المحاولة، غادر الباشكاتب مكتبه وذهب إلى مكتبها، وبروح الأب أيضا أعفاها من التفكير وأملى عليها الصيغة، وحين وقفت أخذ منها الورقة وأعاد قراءتها، ولاحظ أنها نسيت كتابة التاريخ فكتبه، وبينما هي تتلفت في حركة غريزية قبل مغادرة الحجرة سألها الباشكاتب: إنتي صحيح تعبانة يا سناء؟
وحين هزت رأسها مجيبة وقد عاودتها الرغبة السخيفة في البكاء، قال الباشكاتب: لا يا سناء، إنتي مش تعبانة ... إنتي زعلانة، فيه إيه؟
وبينما مضت تصر على أنها متعبة فقط ومضى هو يصر وبروح الأب أيضا على أن هناك مشكلة، وعلى أننا كلنا زملاؤه، وكلنا لا بد أن نحمل هم بعضنا إذا ألم بالبعض منا هم، ظلت المحاورة دائرة وقتا غير قليل حتى بدا على سناء الإعياء، وحتى بدا أنها في المرة القادمة لن تحفل بالإجابة وستترك الحجرة، حينئذ قال لها الباشكاتب: إنتي زعلانة م اللي عمله الجندي أفندي، شوفي يا بنتي ...
وكان قرار سناء بينها وبين نفسها أنها لن تسمع ولن تسمح لنفسها أن يثار الموضوع أو تكون طرفا في إثارته، ولكنها لا تعرف بالضبط ماذا أبقاها، وماذا في لهجة الباشكاتب رد لها بعض الاعتبار، ربما وضعه لها في موضع القاضي في الوقت الذي وضع نفسه وزملاءها فيه موضع المتهمين، ومنصب القضاء لا يرفض مهما بلغت وضاعة التهمة.
অজানা পৃষ্ঠা