11
وطالعته عين ذات صباح بعينين محمرتين من أثر البكاء فانزعج جدا. لا يذكر أنه رآها تبكي من قبل. سألها عما بها بقلب منقبض يتوقع شرا، فهمست بصوت حزين: بركة ... تعيش أنت!
فما تمالك أن ابتسم وهو يشعر بالنجاة وتمتم: القطط تملأ الدار، البقية في حياتك. - لكن بركة هي الأصل، كان قلبها عامرا بالحب وحسن الإدراك، ولم يكن ثمة مفر؛ فقد انتهى الأجل.
كان قد ألف هذه الدروشة، وسلم بحقيقة المناجاة المتبادلة بين أمه والقطط، وربط بين ذلك وبين حيويتها التي لم تنقص منها سبعون عاما شيئا. كذلك ألف معاشرة سيدة الراكدة، بل لقد تألم لإجهاضها مرتين بلا سبب ظاهر، وقد خفق قلبه عندما قالت له أمه ذات يوم: آن لنا أن نرسل سمير إلى الشيخ العزيزي! حقا بلغ سمير السادسة، وضحت الآن ملامح عين في وجهه. الزمن يتقدم وقد بلغ هو الخامسة والعشرين من عمره، لم يحدث شيء هام في أثناء ذلك ... بل حدث تغير خفي لم يهمس به لأحد.
تغير عجب له وانزعج. إنه الفتور الذي يسري في شعوره الديني. لا علاقة بذلك بأحد من جلساء الغرزة فهم مؤمنون، ولا شأن لقصص الجريمة في ذلك، ولا دخل للتفكير في الموضوع كله فهو لا يفكر، ما هو إلا فتور في الشعور أخمد الحماس واليقين فتهاوت أركان المعبد. كف عن الصلاة والصيام ولكنه احتفظ بسر ذلك لنفسه فلم يفطن إليه أحد. وخوت الدنيا ولم يكن في وسعه أن ينعشها؛ دنيا الفراغ والأكاذيب.
ولاحظ رمضان الزيني - عميد الغرزة - كآبته ذات ليلة فقال له:
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها .
فابتسم متسائلا، فقال الرجل: جاه ومال وشباب، ماذا تريد أكثر من ذلك؟!
صدق الرجل، حتى لو تهادى إليه ميراثه فأي شيء يفعل أكثر مما يفعل الآن؟ •••
والغرزة تقع في مكان فريد على الحد الفاصل بين التاريخ والعصر، في حجرة مراقبة بالحصن العتيق القائم فوق القبو. في زمن مضى كان القبو هو الباب الشمالي للقاهرة، وكان الحصن فوقه هو مركز الأمن والدفاع. اليوم الحصن أثر من الآثار، والقبو ممر عبور ومنامة للمتسولين، ورمضان الزيني هو الذي اختار حجرة المراقبة مكانا لغرزته، ليست هي بالواسعة ولا بالضيقة، وتتوفر لها التهوية من نافذة كان يطلق منها الرماة نبالهم. وجعل من خفير الآثار خادما للجلسة، يهيئ الجوزة ويدور بها، ويشارك في التدخين والعشاء.
অজানা পৃষ্ঠা