وإني إذ أسجله كما تناهى إلي، إذ أسجله باسم الراوي وبنص كلماته، فإنما أصدع بما يأمر به الولاء، وأنفذ ما يقضي به الحب، مذعنا في الوقت نفسه لقوة لا يجوز المجازفة بتجاهلها. •••
يقول الراوي:
إنه كانت تعيش في حارتنا أرملة تدعى ست عين. امرأة قوية عجيبة الأطوار مثيرة الأوصاف، كائن فريد لا يتكرر، يدعو إلى الحذر بين يدي الحياة الغامضة التي لا حدود لإمكانياتها. وتبدأ حكايتها عادة وهي أرملة في الخمسين ذات ابن وحيد يدعى عزت، في السادسة من عمره. لم لم تبدأ الحكاية قبل ذلك؟ لم لم تبدأ وهي صبية أو وهي عروس؟ لماذا لا يحدثوننا عن عم عبد الباقي زوجها؟ لم لم تنجب إلا عزت؟ ولم أنجبته على كبر؟ أجاء النقص منها أم من الزوج؟ ولكن ماذا يهم ذلك كله؟ الراوي ملتزم برؤيته، ولو تحرر منها لوجب أن يسترسل في التقصي حتى يبلغ رحاب أبينا آدم وأمنا حواء. إذن فلتكن البداية وست عين في الخمسين ووحيدها عزت في السادسة، وهي امرأة مرموقة ذات شأن ينمو ويتضخم مع الزمن كمدينة صاعدة، تملك جميع العمارات الكبيرة في الحارة؛ فهي ثرية واسعة الثراء، بل لا مثيل لثرائها، ولا أدري إن كانت هي موجدة الثروة أم زوجها، ولكن مما يذكر أن شقيقتها أمونة لا تملك شيئا. أجل لا يقطع ذلك بأن ثروتها موروثة عن زوجها؛ فقد نتصور أن الشقيقتين تساوتا ذات يوم في إرث محدود، بددته أمونة على حين استثمرته عين. على أي حال كانت أغنى شخص في الحارة بلا استثناء للمعلمين والتجار.
وإلى الثراء الواسع خصت بصحة رائعة. يقولون إنها حافظت على رونق الشباب وهي في الخمسين من عمرها؛ لم يبهت سواد شعرة من شعرها، ولا اشتكى لها عضو، متينة البناء متوسطة القامة، لا بدانة تثقلها ولا نحافة تعيبها، يتكور نهداها شامخين وسالمين من أثر الرضاعة، ويكونان في مقدمة الجسد مركز ملاحة مستترا كأنه - بلغة اليوم - محطة إرسال، ولكنه مغلف بالجلال الزاجر، وأجمل قسماتها العينان السوداوان يشع منهما نور هادئ ذائب في الحنان، أما الأنف فدقيق ولكنه طويل يرشحه طوله لوجه رجل، كذلك فوها الواسع الممتلئ. ويحدثونك كثيرا عن لون بشرتها القمحي النقي الذي لم تمسه الأصباغ، وخمارها الأبيض وجلبابها السابغ وتلفيعتها السمراء؛ فلم تر في الطريق مندسة في ملاءة لف أو تزييرة أو متحجبة ببرقع أسود أو أبيض؛ متحدية الألسن بوقار العمر وهيبة الخلق وسحر السلوك وحصانة المنزلة، معتزة بسمعة مثل شذا الورد، وفي حارتنا لا يغض البصر عن نقيصة، ولا تعفى نقيصة من القيل والقال والحفظ والتسجيل؛ لذلك فليس أبقى في الذاكرة من سير الفتوات والقوادين والعاهرات، ونغالي فنؤرخ بهم الأحداث؛ فتقرن الذكرى بحياة الضبش أو الدنف أو علية كفتة؛ فأن يمضي تاريخ ست عين بلا كلمة واحدة تسيء إليها دليل قاطع على نقائها وطهارتها وفضائلها الجمة. وهي تمشي إذا خرجت في الطريق في صحبة مظلة لا تتخلى عنها صيفا أو شتاء، تتقي بها الشمس أو المطر أو تنذر بها - في الأحوال النادرة - من يتعرض لها من السكارى أو المسطولين، ويا ويل من يتعرض لها في ذهوله من أهل الطريق. الحق أنها لم تكن مصونة بسبب عفتها فحسب، ولكن لقوة شخصيتها أولا وأخيرا. كانت بحكم وظيفتها المالية تستقبل الكثيرين من السكان والمتعاملين، وكانوا سرعان ما يفيقون من سحر جمالها تحت تأثير صوتها القوي ومنطقها الجدي ونظراتها النافذة. حتى الفتوات لم تسول لهم أنفسهم الاستهتار في محضرها، وربما رجعوا من لقائها وهم يتمتمون: «يا لها من رجل!» غير أن ذلك لم يعن أكثر من خيبة ثعلب مكار أو هزيمة محتال. لم تكن رجولتها إلا أسلوبا وجدته مناسبا للتعامل في حارة هي أعلم الناس بأحوالها. لم تكن نقصا في أنوثة أو خشونة في طبع أو قناعا لستر عورة. كلا ... بل كانت الرحمة عينها. لم تصر أسطورة إلا بفضل رحمتها. لو أنها التزمت المكث في دارها لسعى إليها المحتاجون. وما دارها إلا أجمل دار في الحارة. من الخارج لا يتجلى منها إلا جدار حجري معتم لا يعد بخير، تتوسطه بوابة غليظة متهجمة تحمل فوق هامتها تمساحا محنطا، وفي نقطة الوسط منها مطرقة نحاسية غبراء على هيئة قبضة بشرية. إذا فتحت البوابة تبدت الدار جليلة وافية التقطيع تشي بالعز والنعيم، وترامت وراءها حديقة تنفث أخلاطا من روائح الياسمين والحناء والفواكه، تدور حول فسقية ارتفع فوق سورها الرخامي سور من الخشب منذ تعلم عزت المشي والجري والمغامرة. ومذ ترملت لم تعد تنتظر المحتاجين في دارها. انطلقت في الحارة بمظلتها، تهبط على المحتاج في داره، ألفت التجوال الرحيم، أصبحت الزائرة المترددة أبدا على ربوع الفقراء، تنغمس في أسر الكادحات والأرامل والعجزة. يقول الراوي: إن الحارة نسيت في أيامها البؤس والجوع والعري، وهانت عليها واجبات الزفاف والمرض والدفن. تلاشت الهموم جميعا تحت مظلة عين؛ عين الحنون، القلب الخفاق بالحب، الجود الوهاب بلا حساب، التي تدير العمارات لحساب الفقراء والمساكين. إنها الطل يهطل على القفر فيتركه أخضر يانعا يرقص بماء الحياة. أم الحارة ... المودعة بالدعوات الصالحات والبسمات المشرقات والامتنان الوفير؛ باسمها يحلفون، بنوادرها في الإحسان يتذاكرون الحقيقة والمعجزة والأسطورة. وكانت تصادق وتناجي وتألف وتؤلف قبل أن تقدم الدواء، كانت تتسلل إلى أعماق القلوب الجريحة؛ فتعايش الآلام وتخالط الأحزان وتوادد التعساء كأنما تتعامل مع أبناء أو تؤدي رسالة طرحتها عليها قوى الغيب. ويقال إنها مارست الإحسان في حياة زوجها عم عبد الباقي في نطاق الدار وبقدر محدود ثم انطلقت انطلاقتها الوردية عقب ترملها. كان المظنون أن تقتصد عقب الترمل، وأن تقتصد أكثر حبا في عزت الصغير، ولكنها تجاوزت منطق الأشياء بجناحين مستعارين من الفردوس، رغم أمومة قوية وعميقة، فلم تسعد امرأة كما سعدت بالأمومة التي وهبتها في فترة حرجة غير متوقعة. اعتبرت عزت هبة السماء لقلبها الوحيد. أسرها الامتنان للرحمن وأحيت ليالي البر للحسين والسيدة وأبو السعود طبيب الجراح. وكم أمضت من دهور وهي ترنو بمقلة مسحورة إلى الوجه الصغير ثم تمضي في طريق الخير ناشرة شراع الرحمة، في وجهه يتراءى أنفها الطويل وبشرتها النقية وعينا الأب الجاحظتان. وقالت إنه ولد لا بنت. والعبرة بالقلب، فليكن قلبه عذبا حنونا. وهو نشيط وأناني ولا يتخلى عنها إلا بالهزيمة، وهو أيضا مدمر يبعثر الأزهار ويطارد النمل ويقتل الضفادع، ولا ينام إلا وهي تقص فوق رأسه القصص. أيظن نفسه سلطانا؟ هكذا تتساءل ضاحكة، تتساءل بقلب شكور ونفس زاخرة بالرضا وبهجة الزهور المتفتحة. ويخطر لها على سبيل الدعابة أن تفصل له جبة وقفطانا وعمامة، وترامقه وهو يتزيى بها طروبا ثم تقول: «ما أجمل أن نهديها بعد زهدك فيها إلى الشيخ العزيزي!» ثم تعرضه على صديقاتها من طلاب الرحمة متسائلة: «ما رأيكن في هذا الشيخ؟» فيجبنها: «قمر ورب الحسين، فليمد الله في عمره إلى الأبد.» وتتفكر قليلا في «إلى الأبد»، وهي ذكية بقدر ما هي مؤمنة. وتغشى سحابة ربيع صفاءها فتغمغم: «فليكن يومي يا رب قبل يومه، ولتدفنني عند القضاء يداه.» وسرعان ما تتذكر جيلا راحلا من أحبائها فتقتحم مخيلتها القبور والشواهد، والصبار والرياحين، وصور مسربلة بالحياة من البشر، فتغمغم مرة أخرى: «إنهم أحياء معنا، ولكن لا يعلم الغيب إلا الله.»
وتسألها أم سيدة ذات يوم: كيف صرت أشرف خلق الله؟
فتستغفر الله تواضعا وتتمتم وهي تداري سرورها الذي تجلى في ابتسامة خفيفة كلمعة ضياء في سحابة يمر وراءها القمر: ما هي إلا رحمة الله بعابدة مخلصة.
ثم تسائل نفسها: كيف لي أن أدري بما يجعل سعادتي في الحب العطاء؟
وعرف وذاع أنه عندما مرض عزت بالحصبة قد مكثت مسهدة لا تذوق النوم ثلاثة أيام. •••
وقد مضى زمن وجاء زمن. تغيرت حارتنا بدرجة ملموسة وتمخضت عن أجيال جديدة ذات مزايا باهرة ولا تخلو أيضا من غرابة، وكانوا يتخذون موقفا خاصا مما يروى عن ست عين؛ موقفا يتسم باللامبالاة ولا يخلو أحيانا من قسوة: لم نطالب بتصديق ما يروى دون مناقشة؟ - إنها حكاية جميلة، ولكن هل تصمد أمام التمحيص؟ - ألا ترون أن التاريخ العلمي نفسه تحوم حوله الشكوك؟ - الإحسان ظاهرة حقيقية، ولكن ليس على تلك الصورة. - ولا تنسوا أن الإحسان نفسه لعبة من ألاعيب الأنانية. - إليكم حقيقة ست عين التي طمس الحب عليها، كانت مجنونة بالرحمة والإحسان ... ولكنها لم تجد العين التي تنفذ في أعماق الظواهر، ولو وجدتها لتكشفت عن امرأة أخرى لها سيرة بشرية حقيقية، وربما حافلة بالفضائح. ••• - ما عسى أن أقول ردا على ذلك؟ أقول ما سبق أن قلت من أن حارتنا تتطوع دائما بتكبير العيب ونشره، ولكنها لا تعترف بالخير إلا عندما لا تجد مفرا من ذلك. فضلا عن ذلك فإن حكاية عين لا تخلو من ضعف بشري؛ مما يؤكد صدقها وواقعيتها، ولكننا نأبى التسليم بالمثل العليا من طول انغماسنا في الماء الآسن. المحاكم مكتظة بالأخوة، ومن يسقط في الطريق يموت وحيدا. وما زلت متشبثا بتصديق حكاية عين؛ فما من حكاية إلا وتعبر عن حقيقة ما، كما أنه ما من ألم إلا ويشير إلى جرح ما. فحق لا شك فيه أن ست عين تمشي متلفعة بشملتها السمراء ومظلتها العتيقة وجلبابها السابغ. الابتسامة تشرق في صفحة وجهها الوقور، تسعد بالدعاء والتحيات والنظرات المعجبة، تمضي نحو الربوع البالية، تجلس بين التعساء وتهتف: كيف حالكم يا أحباء؟
تسأل عن زينب وعم حسين وأم بخاطرها، ثم تغادر المكان بعد أن فرشته بورود الرحمة، وما أكثر الذين يطالبون بدراستها على ضوء الغريزة والأنا والأنا الأعلى! ما أكثر الذين يحومون حول حياتك الجنسية يا عين! ما أكثر الذين ينقبون لك عن فضيحة في حفائر الذكريات! •••
অজানা পৃষ্ঠা