فقال حمدون: يشغل نفسه بالجنة والنار!
فقال عزت لنفسه: بالجنة والنار وبدرية. وهناك أمه التي تكون نسيج حياته وأحلامه وأفراحه ومخاوفه! إنها الصلة بينه وبين الله، والصلة بينه وبين الحياة، هي كل شيء، وهكذا ينظرون إليها في الحارة. وقد ألف منذ يقظته الأولى ذهابها وإيابها، مسيرتها المكللة بالجلال والحب تحت مظلتها، اجتماعها بالفقيرات في الحديقة، وتعلم أن يعتد ذلك عبادة من العبادات الرائعة. وعلى ضوء ما ترامى لأذنيه من تعليقات على نشاطها الكريم الموفور، سواء في المدرسة أو في غيرها، مضى ينظر إليها بعين جديدة، ويقارن، وهو لا يدري، بينها وبين الأخريات. لم تكن الثرية الوحيدة التي تفعل ذلك، حتى صدق حمدون وهو يقول له مرة: إنها أم الحارة وليست أمك وحدك.
ولكن من العجيب أن هذه القوة النادرة لا تنفعه في أشيائه الحميمة؛ فلا عون ينتظر منها على دروسه المعقدة، ولا فرح يأتي على يديها ليعيده إلى جنة بدرية المفقودة. إنها تداوي القلوب الجريحة وتتركه يعاني وحده، تتركه والأعوام تمر والكآبة لا تنقشع. •••
وذات يوم جاءه حمدون متألق البصر خفيف الحركة، ولسبب مجهول انقبض قلبه وتذكر بقوة وحزن بدرية المناويشي. جلسا في الفراندة والسماء تمج رذاذا يغسل الأوراق ويطارد العصافير، وراح حمدون يقول بحماس عجيب: دنيا ... دنيا لا مثيل لها.
فحدق إليه متسائلا، فقال الآخر: أمس اصطحبني زوج خالتي مع بعض أبنائه إلى الكلوب المصري. - المقهى! - بل المسرح، شاهدت مسرحية من البداية إلى النهاية.
ووصف له تفاصيل الرحلة بكل دقة؛ الدخول، الجلوس، الصالة، الستار، المسرح، الممثلين والممثلات، الحكاية، الغناء، كل شيء. - هناك تضحك وتطرب وتبكي أحيانا.
لم يستطع عزت أن يتخيل شيئا ذا بال، صورة الجنة أوضح في مخيلته، وكذلك صورة النار. وقال حمدون: سوف تراها يوما ما ... لكننا نستطيع أن نحاكيها ها هنا، في هذه الفراندة! - كيف؟! - سأحفظك ما يقال.
ودون تردد راح يقتبس المسرحية ويخلق الديكور بالوهم، ثم قال: أنت الآن فتاة تدعى جولييت، وأنا فتى اسمه روميو!
فقطب عزت متسائلا: ولم لا يكون العكس؟
فقال مطاوعا ومتجنبا إثارة غضبه أو عناده: ليكن.
অজানা পৃষ্ঠা