قال أبو الفرج الملطي: «لما أفضت الخلافة العباسية إلى الخليفة السابع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد تمم ما بدأه جده المنصور؛ فأقبل على طلب العلم في مواضعه، وداخل ملوك الروم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة، فبعثوا إليه منها ما حضرهم، فاستجاد لها مهرة التراجمة وكلفهم إحكام ترجمتها فترجمت له على غاية ما أمكن.»
8
وما إن عاد رجال تلك البعثات العلمية إلى دار السلام حتى بادر الخلفاء إلى تأسيس دواوين يعكف فيها العلماء على الترجمة والتأليف، فاجتمع حول أولئك الخلفاء رهط من أساطين العلم كآل بختيشوع، وثئوفيل الرهاوي، وابن ماسويه، ويوحنا بن البطريق، ويعقوب الكندي، وبني موسى بن شاكر ، والربان حنين بن إسحق العبادي، وثابت بن سنان بن قرة الصابئ، وغيرهم كثيرين.
شرع أولئك العلماء يتبارون في الترجمة والتصنيف والتبييض والتسويد، وسالت أقلامهم في إنشاء نفائس التآليف حتى إنهم لم يتركوا بابا من أبواب المعارف إلا طرقوه، فلم يدعوا كتابا ذا فائدة كبرى في اللغات اليونانية والفارسية والسريانية والعبرية والهندية إلا درسوه ومحصوه وأحكموا نقله إلى اللغة العربية.
وعلى أثر تلك الفورة العلمية هب فتيان العرب وأقبلوا ذرافات ووحدانا إلى «بيت الحكمة»، وإلى غيره من معاهد العلم يحرضهم الخلفاء على القراءة ويرغبونهم في التعليم،
9
فدرسوا وطالعوا وصنفوا وتساجلوا حتى أصبحوا خير قدوة لمن عاصرهم أو جاء بعدهم من طلاب العلم ورواد الأدب.
وحسب الخلفاء فخرا أنهم لم يقتصروا على ترغيب الجهابذة في التأليف وفي نقل الكتب الأعجمية إلى اللغة العربية، بل حرصوا الحرص الشديد على ترجمات عربية لنصوص مؤلفات يونانية ولاتينية وسريانية لو لم تنقل بهمتهم إلى اللسان العربي، لأفنتها نوائب الدهر إفناءها مؤلفات ثمينة كثيرة سمعنا باسمها ولم نحظ برؤيتها. (5) مبالغة الخلفاء في تعزيز العلم وتكريم العلماء
مثلما استرسل العلماء في جمع المخطوطات وترجمة الكتب وتأليفها استرسل الخلفاء في تعزيز الحالتين العلمية والعمرانية كلتيهما، وروجوا سوقيهما في جميع أنحاء الملك العربي الواسع الأرجاء. ولقد بلغت النهضة العلمية أوجها في صدر الدولة العباسية بفضل المنصور والرشيد والمأمون؛ لأنهم جعلوا بغداد في عهدهم أم المدائن الإسلامية وقطب دائرة الثقافة ومجتمع العلماء والشعراء، ثم شاركتها في ذلك سائر العواصم العربية كدمشق والقاهرة والقيروان وقرطبة وغيرها.
على أن هذا العصر الذهبي امتاز بخلفاء علماء تولوا عرش الإسلام في تلك العواصم، وعرفوا حق المعرفة أن العلم لن ينمو ولن يزهو إلا في كنف ملوك نظيرهم يتعهدونه ويعززونه ويعطفون على أربابه. وقد حملهم على المبالغة في تكريم أهل الأدب تيقنهم أن أهل العلم هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده؛ لأنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس الناطقة، وزهدوا في ما يرغب فيه ...
অজানা পৃষ্ঠা