إذن ينبغي أن نذكرها هنا: (1)
الخصائص المجردة لطبيعة الروح. (2)
والوسائل التي تستخدمها الروح لتحقيق فكرتها. (3)
وأخيرا، ينبغي أن ننظر في الشكل الذي يتخذه التحقق الكامل للروح؛ أي الدولة. (1)
يمكن إدراك طبيعة الروح بتأمل ضدها التام، وهو المادة. وكما أن ماهية المادة هي الثقل (الجاذبية)، فعلينا أن نقول إن جوهر الروح وماهيتها هي الحرية. وإن كل شخص ليوافق دون عناء على الرأي القائل بأن الحرية صفة من صفات الروح، غير أن الفلسفة تذكر أن جميع خصائص. الروح لا توجد إلا من خلال الحرية، وأن هذه الخصائص لا تعدو أن تكون وسيلة لبلوغ الحرية، وأنها كلها تسعى إلى بلوغ الحرية، والحرية وحدها. فالنظر الفلسفي يفضي إلى القول إن الحرية هي الحقيقة الوحيدة للروح. والمادة تتصف بالثقل نظرا إلى اتجاهها نحو نقطة مركزية. وهي مركبة بالضرورة، تتألف من أجزاء يستبعد كل منها الآخر. وهي تسعى إلى وحدتها، وبالتالي تتبدى قاضية على ذاتها، وساعية إلى ضدها (أي النقطة غير المنقسمة). ولو أمكنها أن تصل إلى ضدها هذا، لما عادت مادة، ولقضت على ذاتها؛ فهي تسعى إلى تحقيق حالتها الفكرية أو المثالية؛ ففي الوحدة يكون وجودها فكريا أو مثاليا.
أما الروح فيمكن تعريفها بأنها ما يوجد مركزه في ذاته. فليست لها وحدة خارجها، بل إنها تملك بالفعل وحدتها، وهي توجد في ذاتها ومع ذاتها. وعلى حين أن ماهية المادة توجد خارجها، فإن الروح وجود مع ذاته. وهذه هي الحرية بعينها؛ إذ إنني عندما أكون غير مستقل، يكون وجودي مرتبطا بشيء آخر مختلف عني، ولا أستطيع أن أوجد مستقلا عن شيء خارجي. وعلى العكس من ذلك، فإني أكون حرا عندما يتوقف وجودي على ذاتي. وما وجود الروح المنطوي على ذاته هذا سوى الشعور بالذات؛ أي شعور المرء بوجوده. وعلينا أن نميز بين أمرين في الشعور:
أولهما كوني أعرف، وثانيهما ما أعرفه. أما في الشعور بالذات، فالأمر أن يندمجان في شيء واحد؛ إذ تعرف الروح ذاتها، ويكون في ذلك حكم لها على طبيعتها الخاصة، كما أن فيه فاعلية تتيح لها تحقيق ذاتها، وجعلها بالفعل ما تكونه بالقوة. ويمكن القول، على أساس هذا التعريف المجرد، إن التاريخ العالمي عرض للروح وهي تستخلص معرفة ذلك الذي تكونه في ذاتها. وكما تنطوي البذرة في ذاتها على طبيعة الشجرة بأسرها، وعلى طعم ثمارها وشكلها، فكذلك تنطوي أول آثار الروح بالقوة على ذلك التاريخ بأسره؛ فالشرقيون لم يصلوا إلى المعرفة القائلة إن الروح - أي الإنسان بما هو كذلك - حرة، ولعدم توافر هذه المعرفة لديهم، فإنهم لم يكونوا أحرارا، وكل ما عرفوه هو أن فردا معينا حر. غير أن حرية هذا الفرد تغدو؛ لهذا السبب ذاته، مجرد نزوة، وهمجية، واندفاع وحشي للانفعال، أو اعتدال وكبح للرغبات، هو في ذاته عرض من أعراض الطبيعة، وبالتالي فهو نزوة كسابقه. وإذن فهذا الفرد ليس إلا طاغية، لا إنسانا حرا. ولم يظهر الشعور بالحرية لأول مرة إلا لدى اليونانيين؛ ولذا كانوا أحرارا، غير أنهم، كالرومان، لم يدركوا إلا أن البعض وحدهم هم الأحرار، لا الإنسان بما هو كذلك. بل إن أفلاطون وأرسطو ذاتهما لم يدركا ذلك؛ ولذا كان لدى اليونانيين رقيق، وكانت حياتهم بأسرها، وكذلك كان الاحتفاظ بحريتهم الرائعة، مرتبطين بنظام الرق، وهي حقيقة أدت فضلا عن ذلك، إلى جعل تلك الحرية نموا عرضيا عابرا محدودا من جهة، وجعلت منها من جهة أخرى، عبودية صارمة لما هو بشري؛ أي إنساني. ولقد كانت الأمم الألمانية، بتأثير المسيحية، أول من وصلت إلى الشعور بأن الإنسان، بما هو إنسان، حر، وإلى أن حرية الروح هي التي تكون ماهيتها. وقد ظهر هذا الشعور، أول ما ظهر، في الدين، وهو أشد مجالات الروح تغلغلا، غير أن إدخال هذا المبدأ في مختلف علاقات العالم الفعلي ينطوي على مشكلة أوسع نطاقا من مجرد تنفيذ هذا المبدأ، فتلك مشكلة يحتاج حلها وتطبيقها إلى عملية حضارية شاقة طويلة الأمد. والدليل على ذلك، مثلا، أن الرق لم ينته بعد قبول المسيحية مباشرة، كما لم تسد الحرية بين الدول، ولم تتخذ الحكومات ولا الدساتير تنظيما عقليا، أو تعترف بالحرية أساسا لها. بل إن هذا التطبيق للمبدأ على العلاقات السياسية، وتشكيل هذا المبدأ لتركيب المجتمع وتغلغله فيه، هو ذاته ذلك المسار الطويل الأمد، الذي يكون التاريخ ذاته. ولقد سبق لي التنبيه إلى التمييز المتضمن هنا، بين المبدأ في ذاته وبين تطبيقه؛ أي الأخذ به وتنفيذه في الظواهر الفعلية للروح والحياة. وتلك نقطة لها أهميتها الكبرى في علمنا، وينبغي أن نذكر على الدوام أنها أساسية. وكما أن هذا التمييز قد استرعى الانتباه في صدد المبدأ المسيحي القائل إن الشعور بالذات والحرية شيء واحد، فإنه يتمثل أيضا بصورة أساسية في صدد مبدأ الحرية بوجه عام. وما تاريخ العالم إلا تقدم الشعور بالحرية، وهو التقدم الذي يتعين علينا هنا تتبعه في ضرورته الكامنة. •••
في رأينا أن مصير العالم الروحي، بل الغاية القصوى للعالم بأسره - إذ إن العالم الروحي هو العالم الأهم، في حين يظل العالم المادي خاضعا له، أو بلغة النظر الفلسفي، لا تكون له حقيقة في مقابل الروحي - إنما هو شعور الروح بحريتها، وبالتالي حقيقة هذه الحرية. غير أن العصور الحديثة قد أدركت بوضوح يفوق إدراك كل ما عداها من العصور، أن لفظ «الحرية» هذا، إن لم يلحقه وصف آخر، يظل لفظا غامضا، غير محدد، ولا يعول عليه. وأنه، في حين أن مدلوله هو أقصى ما يطمح في الوصول إليه، فإنه معرض لشتى أنواع سوء الفهم والخلط والخطأ، ومعرض لأن يكون موضوعا لجميع أنواع التطرف الخيالي. ومع ذلك فلزام علينا، في الوقت الحالي، أن نقنع باللفظ ذاته دون مزيد من التعريف. ولقد نبهنا أيضا إلى أهمية الفارق الهائل بين المبدأ مجردا، وبين تحقيقه عينيا. وفي مجالنا هذا سوف تعرض الطبيعة الأساسية للحرية - التي تنطوي في ذاتها على ضرورة مطلقة - على أنها الوصول إلى شعور بالذات (إذ إنها تبعا لتصورها ذاته معرفة بذاتها)، وعلى أنها تحقق بذلك وجودها؛ فهي ذاتها الهدف الذي تسعى إلى بلوغه والهدف الوحيد للروح. وتلك هي النتيجة التي ظلت عملية التاريخ العالمي تستهدفها على الدوام، والتي قدم من أجلها من القرابين ما ظل يوضع دون انقطاع على مذبح الأرض الواسعة، طوال الأحقاب التاريخية الطويلة.
وهذا هو الهدف الوحيد الذي يرى ذاته متحققا ومنفذا، وهو القطب الوحيد الساكن وسط التغير الدائم للحوادث والظروف، والمبدأ الوحيد الفعال الذي يسودها.
وهذه الغاية القصوى هي مقصد الله من العالم، غير أن الله موجود مطلق الكمال، ولا يمكن بالتالي أن يرغب في شيء سوى ذاته، وإرادته؛ فطبيعة إرادته؛ أي طبيعته ذاتها، هي ما نسميه هنا بفكرة الحرية، هذا إذا ترجمنا لغة الدين إلى لغة الفكر.
অজানা পৃষ্ঠা