فعندما أتحدث عن أشياء (موضوعات) في الزمان والمكان، فإني لا أتحدث عن أشياء في ذاتها؛ إذ إني لا أعرف عن هذه شيئا، وإنما أتحدث عن أشياء ظاهرية؛ أي عن التجربة، بوصفها طريقة خاصة لمعرفة تلك الموضوعات، متاحة للإنسان وحده. وليس لي أن أقول عما أدركه في المكان والزمان إنه يوجد في ذاته، مستقلا عن أفكاري، في الزمان والمكان، وإلا لكنت مناقضا لنفسي؛ إذ إن الزمان والمكان، مع ما فيهما من ظواهر، لا وجود لهما في ذاتهما خارج تمثلاتي، وإنما هما مجرد طرق للتمثل، ومن التناقض الصريح أن يقال عما هو مجرد طريقة للتمثل، إنه يوجد دون تمثلنا. وإذن فموضوعات الحواس لا توجد إلا في التجربة، أما إذا أضفينا عليها وجودا قائما بذاته، مستقلا عن التجربة أو سابقا عليها، فإنا نكون أشبه بمن يتصور التجربة موجودة دون التجربة، أو قبلها.
فإذا ما تساءلت عن عظم العالم من حيث المكان والزمان، فمن المحال أن تتيح لي تصوراتي أن أقرر إن كان لا متناهيا أم متناهيا؛ إذ إن كلا القولين ليس متضمنا في التجربة؛ لأن من المستحيل أن تكون لدينا تجربة عن مكان لامتناه أو عن زمان لامتناه في مجراه، ولا عن تحدد العالم بمكان خاو؛ فهذه كلها لا تعدو أن تكون أفكارا. وعلى ذلك، فسواء أحددنا عظم العالم على هذا النحو أم ذاك، فسيكون من المحتم، بناء على ذلك، أن يوجد في ذاته، مستقلا عن كل تجربة. غير أن هذا يناقض تصور العالم المحسوس، الذي لا يعدو أن يكون مجموعة من المظاهر لا وجود لها ولا ارتباط بينها إلا في تمثلاتنا؛ أي في التجربة؛ إذ إن هذا العالم ليس شيئا في ذاته، وإنما مجرد طريقة للتمثل. ويترتب على ذلك أنه لما كان تصور عالم محسوس ذي وجود بذاته متناقضا مع نفسه، فإن حل المشكلة المتعلقة بعظمه باطل دائما، سواء جربناه إيجابا أم سلبا.
ومثل هذا يصدق على النقيضة الثانية، التي تتعلق بانقسام الظواهر؛ إذ إن هذه مجرد تمثلات، أجزاؤها لا توجد إلا في تمثلاتها، وبالتالي في الانقسام؛ أي في تجربة ممكنة تعطى فيها، بحيث لا يبلغ الانقسام إلا المدى الذي تبلغه التجربة الممكنة. فافتراضنا، مثلا، أن مظهرا كالجسم يحوي في ذاته، قبل كل تجربة، جميع الأجزاء التي يمكن أن تبلغها أي تجربة ممكنة، معناه أننا ننسب إلى مجرد مظهر، لا وجود له إلا في التجربة، وجودا فعليا سابقا على التجربة، أو نقول بإمكان وجود التمثلات الخالصة قبل أن يهتدى إليها في ملكتنا للتمثل، وهو قول مناقض لذاته، مثله في ذلك مثل كل حل لهذه المشكلة التي أسيء فهمها، سواء أقلنا فيه إن الأجسام في ذاتها تتألف من عدد لا متناه من الأجزاء، أو من عدد متناه من الأجزاء البسيطة. (القسم 53) : وموضع بطلان الفرض في الفئة الأولى من النقائض (الفئة الرياضية) هو في تمثل شيء مناقض لذاته (أي المظهر بوصفه شيئا في ذاته) على أنه يمكن أن يجتمع في تصور واحد. أما موضع بطلان الفرض في الألفية الثانية من النقائض (أي الفئة الدينامية)، فهو في تمثل ما يقبل التوفيق على أنه متناقض. وعلى ذلك، في حين كان القولان المتضادان باطلين في الحالة الأولى، فإنهما هنا يمكن أن يكونا صحيحين معا، ما دام التقابل بينهما يرتد إلى سوء فهم فحسب.
والواقع أن الارتباط الرياضي يفترض مقدما تجانس ما يجمع بينه (في تصور المقدار
Grösse ) في حين لا يلزم هذا في الارتباط الدينامي؛ فعندما يتعلق الأمر بمقدار ما هو ممتد، ينبغي أن تكون جميع الأجزاء متجانسة بعضها مع البعض ومع الكل، أما في حالة ارتباط العلة بالمعلول، فقد يوجد التجانس فعلا، غير أنه ليس ضروريا؛ إذ إن تصور العلية (الذي يتلو فيه شيء من شيء آخر مختلف عنه تماما) لا يستلزم التجانس قط.
ولو عدت موضوعات عالم الحس أشياء في ذاتها، وقوانين الطبيعة المشار إليها من قبل قوانين للأشياء في ذاتها، لأصبح التناقض أمرا لا مفر منه. وكذلك لو نظر إلى موضوع الحرية على أنه مجرد مظهر، شأنه شأن بقية الموضوعات، لكان التناقض هنا أيضا أمرا لا مفر منه؛ إذ إن محمولا واحدا سيثبت وينفى في هذه الحالة على موضوع واحد بنفس المعنى. أما إذا ألحقت الضرورة الطبيعية بالمظاهر وحدها، والحرية بالأشياء في ذاتها فحسب، فلن يكون ثمة تناقض في القول بنوعي العلية هذين في آن واحد، مهما كانت صعوبة أو استحالة تقريب النوع الأخير إلى الأذهان.
إن كل معلول بين المظاهر حادث؛ أي شيء يحدث في الزمان، وينبغي تبعا لقانون الطبيعة الشامل، أن يسبقه تحديد لسببية علته (
Kausilität ihrer Ursache )؛ أي حالة لهذه العلة، يتلو منها المعلول تبعا لقانون ثابت. غير أن هذا التحديد للعلة المؤدية إلى السببية (
Ursache zur Kausilität )، ينبغي أن يكون بدوره شيئا يقع أو يحدث، ولا بد أن تكون العلة قد «بدأت في الفعل»، وإلا لما أمكن تصور التعاقب الزمني بينها وبين المعلول، ولكان المعلول، وكذلك سببية العلة، موجودين على الدوام. وإذن فلا بد أن يكون تحديد علة الفعل قد نشأ بدوره بين المظاهر، ولا بد بالتالي أن يكون، مثل معلوله، حادثا، وهذا الأخير ينبغي أن تكون له علته، وهكذا دواليك، وإذن فلا بد أن تكون الضرورة الطبيعية هي الشرط الذي تحدد تبعا له العلل الفاعلة. أما لو نظر إلى الحرية على أنها صفة لبعض علل الظواهر، فلا بد أن تكون الحرية، بالنسبة إلى هذه الظواهر الأخيرة من حيث هي حوادث، قدرة على البدء بها تلقائيا؛ أي دون أن تقتضي ابتداء لسببية العلة ذاتها، ودون أن تحتاج إلى أي أساس آخر يحدد بدايتها. ولكن عندئذ لن تندرج العلة، من حيث سببيتها،
11
অজানা পৃষ্ঠা