validity ، وبين مبادئ المنطق الصوري والعلم التجريبي، يهدد بهدم بناء العلم الوضعي بأسره. ومع ذلك فهذا لا يدل على أكثر من ضعف أعصاب وخوف كامن من أن تعجز النظرة العلمية عن البقاء سليمة في سوق الأفكار الحرة. فالمرء لا يكون بالضرورة خائنا للمثل العليا للعلم إذا اعترف بوجوب إخضاع العلم لنقد من نفس النوع الذي ينبغي أن يخضع له أي نظام آخر. ولم يكن «إمانويل كانت» قد أدار ظهره للتنوير والمعقولية عندما سعى إلى إيجاد نقد للعقل النظري، يرسم في الوقت ذاته حدوده السليمة. بل إن الأمر على العكس من ذلك تماما، فقد كان يأمل من رسم هذه الحدود أن يدعم مطالبة العلم بالسيادة في مجاله الخاص. وإذا كانت مناهج العلم، أو «الفهم» هي الوسائل الوحيدة الصحيحة لاكتساب المعرفة الواقعية، فإن هذه القضية لم تكن واضحة بذاتها في كل عصر، وإنما ينبغي في كل جيل إيضاح هذه الوسائل من جديد، وإعادة تقدير قيمتها، والدفاع عنها ضد المعارضة وإساءة الفهم. ولكن إذا كان الدفاع عنها ممكنا، فإن نقدها أيضا ممكن، ولا مفر في كلا الحالين من «الفلسفة الأولى»، أو الميتافيزيقا، شاء المرء أم لم يشأ.
ولا جدال في أن فلاسفة القرن التاسع عشر قد أخفقوا في معظم الأحيان في مواجهة مقتضيات الوضوح والدقة التي تشترطها الفلسفة التحليلية المعاصرة. غير أن الدليل على إمكان مواجهة هذه المقتضيات دون التضحية بعمومية النظرة الفلسفية وشمولها، يمكن أن يتمثل في واحد على الأقل من الفلاسفة الذين عرضنا لهم، وهو كانت؛ فكانت يفي، من حيث المبدأ على الأقل، بقدر كبير من مطلبنا «الميتافيزيقي» للتكيف الوضعي التام مع بيئتنا الكاملة. غير أنه يفعل ذلك دون تضحية بالمطلب المقابل، مطلب التحليل المفصل، والنقد الدقيق للتصورات الخاصة. صحيح أن كثيرا من تحليلات كانت الخاصة لم تعد مقبولة للفلاسفة التحليليين، وأن مذهبه العام، بما فيه من فهم ثنائي عميق للطبيعة البشرية، ومن شيء في ذاته مجهول، ومن مصادرات للعقل العملي ضعيفة الأساس غير مقبولة، لم يعد يرضي الفلاسفة المعاصرين، غير أن كانت ما زال يعد المثل الأعلى لما يستطيع الذهن الفلسفي في أحسن أحواله أن يحققه؛ إذ يعترف بقصوره دون مرارة، ويدرك حدوده بوضوح وينتقدها، ولكنه يظل مع ذلك متعلقا بمعايير المعقولية والإنسانية التي يتخذ منها أساسا، ويتمسك بإخلاص بمبادئ التنوير البشري الذاتي، مع إدراكه أن التنوير الذاتي يتمشى مع احترام المبدأ القائل إن الإنسان كائن اجتماعي مسئول أمام الآخرين وعنهم، مثلما هو مسئول أمام نفسه عنها، وأخيرا فإنه يفسح مجالا لا لمقتضيات المعرفة فحسب، بل أيضا لتلك المطالب المشروعة للفن والأخلاق والدين.
وإن المرء ليشعر بإغراء لأن يعود ثانية فيهتف : «عودا إلى كانت!» غير أن هذا لا يقل عقما عن الهتاف المقابل «عودا إلى أفلاطون!» أو «عودا إلى أرسطو!» أو «عودا إلى الأكويني!» وهو الهتاف الذي نسمعه كثيرا في هذه الأيام. فمن المحال، كما علمنا هيجل، أن نعود القهقرى، وإنما الواجب علينا أن نحاول أن نقدم إلى أنفسنا وحضارتنا ما قدمه هؤلاء الرجال العظماء لعصورهم. ولو ظهر في عصرنا كانت جديد لتحتم أن يتخذ نقده العقل شكلا يختلف تماما عن نقد كانت ذاته. فعليه، على سبيل المثال، أن يجعل بين حياة العقل وبين السياقات الطبيعية والاجتماعية التي ينبغي ممارستها فيها روابط، أوثق مما استطاع كانت أن يقيمه بينها من الروابط؛ ذلك لأن العقل شكل للحياة، وليس قالبا مجردا. وفضلا عن ذلك فهو صورة للحياة تقوم، كما تعلمنا من اللاعقليين بطرقهم المضللة، على حاجات عاجلة فعالة هي وحدها التي تقدم لصورة الحياة هذه مبررا نهائيا. وليس في هذا القول استسلام للاعقل، وإنما فيه إنقاذ للمرء من المطالب العقيمة واللاعقلية في آخر الأمر؛ «للواقعية» و«العقلية
rationalism » التوكيدية. وما هو إلا اعتراف بأننا إذا لم نكن نستطيع العودة إلى كانت، فإننا لا نستطيع أيضا العودة إلى عصري «العقل» و«الإيمان» السابقين عليه؛ فالاعتراف بأن تنظيم الفكر والفعل البشريين هو عمل بشري محض، وبأن مبادئهما لا تكمن آخر الأمر إلا في التزامنا بهما، هو فكرة ناضجة تهذب النفس وتحد من غلوائها. ولكن فيها أيضا إدراكا طال انتظاره لمسئوليتنا الضخمة عن صون المثل العليا لمجتمع حر بحق، لا يكون لنقد العقل أي معنى حقيقي إلا في سبيله.
অজানা পৃষ্ঠা