أضافت سارة جملة أخيرة إلى دفتر مذكراتها قبل أن تخلد إلى أصحابها: كان شخصا مرعبا ومعقدا ... ولا يمكن فهمه مطلقا.
القبر: روضة من رياض الجنة
كنت وجمال الأمين، وهو الشرطي الذي تزوجني، نجلس عند الحديقة المتوحشة الصغيرة الداخلية للفندق العجوز المهجور، كان هذا الفندق في أزمنة الاستعمار الإنجليزي قصرا فخما لاستضافة كبار الشخصيات القادمين من العالم المسيطر، ذا قاعات وغرف شاسعة بسقوف عالية ترفعها أعمدة من الرخام في غطرسة وشموخ، تحول القصر بعد الاستقلال إلى فندق خمس نجوم، لم يغيروا فيه الكثير، ربما أضافوا إليه حديقة صغيرة في الجزء الخلفي، وهي التي نجلس عليها الآن، وعدلوا في نظام الصرف الخاص به؛ حيث إنه كان يعتمد على التفريغ اليدوي والميكانيكي، وتحول إلى نظام المجاري الذي يصب في النهر مباشرة وبدون أية معالجة. الفندق يقع على ضفة النهر الشرقية، ولا يفصله عنه سوى شارع النيل. لأسباب لا يعلمها أي من المواطنين الشرفاء تحول هذا الفندق إلى بيت من بيوت الأشباح، تستغله السلطات في أغراض أمنية بحتة.
كانت الإضاءة خافتة كما يفعل من لا نراهم دائما. حدثني عن عمله المرهق، قال إنه سينزل المعاش وسوف يأخذني إلى القاهرة لكي نعيش هناك في أمن وسلام، حيث نقدم للهجرة إلى كندا، أستراليا، فرنسا، أو إذا ضرب حظه وأصابه اللوتري الأمريكي، فيا حظنا! - فأنت شيوعية معروفة، وأنا بإمكاني أجيب ورق من رئاسة أمن الدولة بأنك كنت تحت الاعتقال، وثائق حقيقية من ملفك الشخصي مباشرة، وثائق تفتح قدامك أبواب الدول العظمى كلها في لحظة واحدة، بداية بإسرائيل نهاية بأمريكا، وبالتالي نبعد من البلد دي ومشاكلها.
قلت له وقد أحسست بإهانة بالغة تخنقني: أنت ساذج ولا بتفتكرني أنا ساذجة؟ - أنا بتكلم عن مصلحة، أنا زول عملي، وما عندي أية مصلحة في الحكومة دي، ولا البلد دي، ولا الناس ديل، في الحقيقة أنا زول غلبان زيك، لا أحلم بتغيير الكون ولا السيطرة على العالم، عايز أعيش وبس.
قلت له بجدية ووضوح تام: أنا عكسك تماما، أنا ما غلبانة، وعندي مصلحة في البلد دي وفي ناسها وحتى حيواناتها، وبحلم بتغيير العالم للأحسن، يعني أنا عارفة عايزة شنو، وبعمل في شنو؟ وأنت لولا أنك مستخدم سلطتك ضدي والله ما بسلم عليك في الشارع ... أنت زول تافه وزيك زي أي حثالة. - أنا؟
نهض فجأة في حركة مسرحية، دائما ما يقوم بها عندما تغلبه الحيلة فيحاول إخافتي.
إذ برجل عار يصرخ وهو يجري في الحديقة باحثا عن مخرج، يتجه نحونا صارخا طالبا النجدة، وإذا برجلين أبيضين ملتحيين سمينين كانا يتعقبانه، يلقيان به أرضا بضربة حرة في مؤخرة رأسه، يلحقها به أحدهما فيسقط متأوها، يجرانه على الأرض جرا، ثم يختفي الجميع في ظلامات الفندق العجوز المهجور، تتبعهم همهمة واستعطاف هزيلان. حدث ذلك كما لو كان شريطا سينمائيا سريعا، كما لو كان كابوسا طويلا، كما لو كان فيلما هتشكوكيا. - دا شنو؟
صرخت في رعب، قال ببرود وكأن شيئا لم يحدث: أحد الخونة هرب من الاستجواب.
قلت له في غيظ: من التعذيب ولا من الاستجواب؟
অজানা পৃষ্ঠা