فقالت: «أعدي العشاء.» ومشت نحو غرفتها مشية البصير لا تعثر بشيء ولا يوقفها شيء، على عادة العميان الأذكياء. فدخلت غرفتها وغسلت وجهها وبدلت ثيابها وشغلت نفسها ببعض المهام حتى لا يطول عليها الانتظار.
وكان من توقد ذهنها ورقة شعورها أنها تتعرف مكان كل واحد من خدمها في الغرفة أو الحديقة وهي جالسة في مجلسها، فبعد أن فرغت من إصلاح شأنها جلست في الإيوان ومسعودة في المطبخ تهيئ الطعام تفكر في قدوم مولاها مفعمة سرورا لفرح مولاتها، فإذا بها تسمعها تنادي: «مسعودة ...»
فهرولت الجارية تقول: «أمرك يا مولاتي.»
قالت: «إن ضرغاما آت قولي للخدم يخرجوا لاستقباله.»
فعجبت مسعودة لكلامها؛ لأنها لم تكن ترى شيئا يدل على ذلك، فخرجت إلى الحديقة فلم تجد أحدا فعادت تقول: «لم يأت بعد ولكنه آت قريبا.»
قالت: «إني أسمع وقع حوافر جواد!»
وكانت مسعودة قد تعودت منها كثيرا من أدلة الشعور البعيد، فذهبت إلى البستان وأمرت الخدم بالخروج لاستقبال سيدهم وهي لا ترى أحدا قادما، ولكنها لم تبلغ البستان حتى نظرت الغبار من بعيد وسمعت وقع حوافر الخيل وتحققت قول سيدتها، ولم تمض هنيهة حتى رأت ضرغاما قادما على جواده بلباس السفر، ووراءه تابعه وردان على جواد آخر. فرجعت لتبشر سيدتها فرأتها قد سبقتها إلى باب الدار وعيناها شائعتان نحو الجهة التي تسمع الصوت منها وهما تجولان بين الأجفان كأنهما تريان شيئا. وإنما حركهما محرك البصيرة النقادة ولهفة الوالدة المشتاقة، ولم تمهلها فسبقتها إلى الكلام قائلة: «ألم أقل لك إنه جاء؟! وإني أشعر بوقع حوافر جواده يمشي في مفاصلي وكأني أحس بحرارة أنفاسه، حرسه الله.» قالت ذلك وكأنها تنطق بعينيها وحاجبيها ويديها وبكل جارحة من جوارحها، فأثر منظرها في مسعودة وخفق قلبها شفقة عليها، وودت لو تعيرها عينيها لترى بهما ابنها وتفرح بمنظره.
ولما وصل ضرغام إلى باب البستان ترجل وأعطى الخادم زمام جواده، ثم صعد درجات الدار حتى بلغ مكان أمه، فأكب على يديها يقبلهما. فضمته إلى صدرها وقبلته ومشت إلى الإيوان ترحب به وتكرر تقبيله وتستنشقه وتتفحص كتفيه وذراعيه وصدره وعنقه بيديها وتتحسس بأصابعها وجهه ولحيته وشاربيه وعينيه كأنها تحدق فيه بأناملها. حتى إذا دخل الإيوان جلست على وسادة وأجلسته بجانبها وهي تضمه وتشمه كأنها تخاف أن يخطفه أحد من بين يديها. بينما الدمع يتساقط من عينيها وهو لا يعترضها فيما تعمله ليسرها. ثم أخذت تسأله عن صحته، فطمأنها وشرح لها شوقه إليها وأنها لم تبرح من خاطره أثناء ذلك السفر الطويل. فأمرت مسعودة أن تهيئ المائدة، فاستأذنها ضرغام في تبديل ثيابه قبل الطعام فأذنت له، ثم قاموا إلى المائدة ففرغوا من الطعام نحو العشاء وقد أنير البيت بالشموع وهي أول ليلة أنير فيها منذ سفره؛ لأن آفتاب في غنى عن الضوء ولم يكن يزورها أحد فلم تكن تنار الشموع في غياب ضرغام إلا نادرا.
وبعد العشاء خلت آفتاب إلى ابنها وأخذا يتحدثان. فاتكأ ضرغام على وسادة، ووالدته بجانبه وهي قابضة بيدها على يده كأنها تعتاض عن المشاهدة باللمس، وأخذت تسأله عن سفره وهو يقص عليها ما شاهده في طريقه من الغرائب والأخطار حتى وصل سامرا في ذلك المساء فقالت: «وهل أقمت بفرغانة كثيرا؟»
فلما ذكرت فرغانة تذكر أشياء كثيرة فقال: «نعم، أقمت بها بضعة أيام.» وسكت مترددا في إخبارها بموت المرزبان فأدركت تردده من صوته فقالت: «قص علي ما رأيته هناك. ماذا جرى؟»
অজানা পৃষ্ঠা