ولما ذكرت أباها تذكرت حاله فتنهدت ثم استدركت فقالت: «إن وقتنا ثمين يا حبيبي. نعم يا حبيبي! سامحني إذا دعوتك بهذا اللقب قبل أن تدعوني أنت به. آه من سلطان الحب!»
فقال وقد هاجت أشجانه: «لا يحق لأحد أن يبدأ بهذا التصريح سواك، وقد فعلت حتى يكون لك فضل المتقدم. وهل أجسر أنا أن أدعوك به قبل أن أسمعه من فيك؟ فأحمد الله على ذلك. وحق لي الآن أن أسميك حبيبتي ... آه ما أشهى هذا اللفظ في فمي، وما أخفه على قلبي! لطالما كررته في خلواتي، وكم تمنيت أن أسمعه من فيك. وقد سمعته. فهل في العالم رجل أسعد مني؟!»
فأطرقت وهو لا يحول نظره عنها وكأنه يهم بأن يضمها بجفنيه تهيبا من أن يضمها بذراعيه، فلما رآها مطرقة وقد بدا الاهتمام في محياها اختلج قلبه في صدره وتوهم أنها ستخطف من بين يديه فقال: «ما بالك مطرقة يا حبيبتي؟»
فرفعت بصرها إليه وابتسمت وقد فهمت ما خالج خاطره وقالت: «لا تذهب بك المخاوف بعيدا. إني لم أسمك بهذا الاسم وأنا أخاف أحدا أو أخشى بأسا، ولا سيما بعد أن آنست من أبي ما آنسته من الارتياح إليك والتعلق بك، ولولا مرضه. آه لولا مرضه ...!» وسكتت.
فقال : «أرجو أن يشفى قريبا.» وسكت وعيناه تتفرسان في عينيها، وكل منهما يقرأ فكر صاحبه، ولعلها قرأت أكثر مما قرأ هو فقالت: «ضرغام، لا ينبغي أن يغلب الضعف على جهان حتى تخفي إحساسها عن حبيبها وتحمله على الشك في شيء من أمرها. لقد تعاشرنا أعواما وعرف كل منا صاحبه حتى امتزجت روحانا فما في الأرض قوة تستطيع التفريق بيننا، وأراني غير قادرة على الاستقلال بفكري أو حياتي عنك. فأنا أشعر بأنك مني وأنا منك. فإذا فكرت في شيء رأيت فكري يمر على تذكارات أنت قوامها، وإذا تخيلت أمرا كان خيالك نصب عيني يحول بيني وبينه، ولا ترتسم في عقلي صورة إلا وفيها شيء من صورتك. فهل بعد ذلك يستطيع البشر أن يفصلوا بيننا؟ وإذا استطاعوا التفريق بين هذين الثوبين الباليين فإنهم أعجز من أن يفصلوا بين روحينا وفكرينا. ولكننا مقبلون على أمر عظيم. فإذا تجاوزناه ...» وسكتت وحولت وجهها عنه خشية أن يبدو له ما يتردد في مآقيها.
أما هو فأسكره تعبيرها ومرآها، على أنه لم يفهم مرادها فقال: «وما الذي يخيفك؟ لا أعهدك تخافين، ولك من تعقلك وثبات جأشك حصن حصين. وهذه روحي بين يديك فارمي بها من تشائين.»
قالت: «سلمت روحك يا ضرغام. إني لا أخاف شيئا؛ إذ ليس في الأرض قوة تستطيع أن تبعدني عنك. وكنت أحاذر أن أجد من أبي تغيرا أو فتورا، فذهب حذري اليوم. ولكنه مريض، فعساه أن يشفى قريبا.»
قال: «يشفى بإذن الله. وهل تخافين شيئا آخر؟»
قالت: «أتوقع أمورا كثيرة تخيف غيري، ولكنني لا أخافها لأني أعدها أعراضا وأنت الجوهر، فإذا كنت لي فقد ملكت الدنيا وما فيها - اعذرني على هذا التصريح وخاطبني بمثله فإني لا أحب التكتم والتردد!»
فقال بلهفة وعزم ثابت: «تريدين أن أصرح بأني أحبك، أو بأني أترك الدنيا لأجلك؟ إن هذا لا حاجة لي إلى ذكره، والظمآن لا يطلب منه الاعتراف بحاجته إلى الماء، والتعس لا يسأل هل يتمنى السعادة. وأنا بغيرك ظمآن بلا ماء، وجسم بلا روح، وأنت سعادتي وحياتي وأنت كل شيء!»
অজানা পৃষ্ঠা