وننقل هذا القول نفسه إلى مستوى «العلم» - و«العلم» في هذه الحالة هو علم النفس - فيصبح كما يلي: أننا إذا حللنا الحياة الإنسانية إلى أصغر وحداتها، وجدنا تلك الوحدة الأولية طريقا مؤلفا من ثلاث حلقات، اثنتان منها ظاهرتان لمن شاء أن يرى، والثالثة مطوية في جوف الإنسان، فأولى الحلقات هي أن يتلقى الإنسان من العالم الذي حوله «مؤثرات» تقع على حواسه المختلفة، من بصر أو سمع أو غيرهما من أعضاء الحس، كأن تتلقى العين ضوءا أو أن تتلقى الأذن صوتا، وهكذا، والحلقة الثانية هي أن تفعل تلك المؤثرات فعلها في مكنونات الكيان العضوي، مما قد يسهل تحليله وتحديده أو يتعذر، والذي يهمنا في سياق حديثنا هذا، هو أن هنالك مجموعة ضخمة ومعقدة ومتشابكة من عناصر تكمن في بواطننا؛ منها الغرائز، ومنها المشاعر، ومنها ذكريات عما قد تعلمناه ونشأنا عليه، ومنها اعتقادات وعقائد آمنا بها حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من نفوسنا، ومنها «قيم» بثت فينا منذ كنا رضعا على حجور أمهاتنا، تراكمت فأصبحت في توجيهنا مثل الدفة في السفينة، وهي هي نفسها التي نجملها كلها في كائن موحد ونطلق عليه اسم «الضمير». هذه المكنونات كلها التي تكمن طي نفوسنا هي التي تتلقى المؤثرات الآتية إلينا من العالم المحيط بنا، فتتأثر على نحو ما، يختلف باختلاف الأفراد في الأسرة الواحدة، أو في الشعب الواحد، ثم تختلف بين الشعب الواحد المعين وسائر الشعوب، وأخيرا تجيء الحلقة الثالثة، وهي النمط السلوكي الذي ينتج عن الطريقة التي تأثرنا بها في الحلقة الثانية؛ فقد يرى شخصان شيئا ما (وهذه هي الحلقة الأولى) فيتأثر كل منهما بما يراه على نحو متفق مع مكنونه النفسي (وهذه هي الحلقة الثانية)، وأخيرا يسلك كل منهما وفق ما يوجهه إليه ذلك التأثر الباطني (وهذه هي الحلقة الثالثة). وخذ مثلا لذلك زعيما يهيب بأمته أن تثور على ما يحيق بها من استعباد أو استبداد وظلم، فيتلقى صيحته مواطنوه، كما يتلقاها المستعبد لهؤلاء المواطنين، فيكون الأثر الداخلي عند المواطنين تمجيدا لصيحة زعيمهم واستجابة لها، في حين يكون الأثر للصيحة نفسها عند من استعبد واستبد وظلم، فزعا ونفورا، فإذا ما انتقل الفريقان من مرحلة التأثر الداخلي إلى مرحلة السلوك الخارجي رأينا «ثورة» من الفريق الأول - فريق المواطنين - ورأينا «مقاومة للثورة» عند الفريق الثاني - فريق المتسلطين استعبادا واستبدادا وظلما - وهكذا نرى المؤثر الواحد المعين، يلتقي بنوعين من مكنون النفس، فيخرج نمطان مختلفان للسلوك. وقد يكون من الضروري هنا، أن يعلم القارئ بأن رد الحياة الإنسانية بكل تعقيداتها، إلى وحدات ثلاثية الحلقات، مسألة لا يجمع عليها كل علماء النفس المحدثين والمعاصرين؛ إذ قد يردها فريق منهم إلى وحدات ثنائية الحلقات، بحيث لا يكون هناك إلا «مؤثر» يقع على حواس الإنسان من خارج. و«استجابة» سلوكية تنبني عليه، فهذا الرأي يسقط من حسابه ما هو مكنون في الكيان العضوي، وعذرهم في ذلك هو إصرارهم على أن يصبح علم النفس «علما» كأي علم آخر يبحث في ظاهرة تخضع للمشاهدة والحساب فهم لا يريدون أن ينكروا أن للنفس مكنونها، لكنهم لا يريدون أن يقيموا عليه «علما» لأنه خاف مجهول؛ شأنهم في ذلك شأن عالم في الفيزياء أو الكيمياء، يرصد ما «يظهر» ويستخرج قوانينه، مسقطا من حسابه ما يخفى سواء عليه أكان ذلك الخافي موجودا أم كان معدوما، فأمره موكول إلى غير «العلم» من مجالات الاهتمام.
وعلى هذا الأساس العلمي في تحليل الحياة الإنسانية إلى وحداتها البسيطة، ننتقل بحديثنا إلى «الثقافات» وكيف تختص كل ثقافة بما يميزها، ثم كيف هي في الوقت نفسه تتفاعل مع ثقافات أخرى مما قد تلتقي به في حرب أو في سلم؛ ففي الحلقة الأولى من الحلقات الثلاث (إذا أخذنا بثلاثية الحلقات في الوحدات البسيطة) وأعني بالحلقة الأولى ما أسلفناه، وهو أنها مرحلة «إدراكية» يتلقى فيها الكائن الحي - إنسان وغير إنسان - مؤثرات بيئته المحيطة به، وهنا لا بد أن تختلف مجموعة المؤثرات في ساكن الصحراء عنها في ساكن الأرض المخضرة بزرعها، وأن تختلف مجموعة المؤثرات في ساكن السهل عنها في ساكن الجبل ، وفيمن تتصل حياته بالبحر عمن تتصل حياته باليابس. هذا كله من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشعوب أو الأفراد الذين يحيون في بيئة واحدة من حيث الظروف الطبيعية، يعودون فيختلفون فيما بينهم في هذه الحلقة الأولى - أعني مرحلة استقبال الإنسان للمؤثرات الخارجية - اختلافا تعليميا وتربويا، بمعنى أن تنشأ جماعة منهم على نمط من التعليم والتربية يفتح أعينهم وآذانهم وسائر حواسهم لما يجري حولهم، فيدركون منه ما لا تدركه جماعة أخرى تحيط بها الظروف الطبيعية نفسها، لكنها لم تجد تربية وتعليما يعملان على دقة الإدراك واتساع أفقه وعمق أغواره، مع أن المرئي هو نفسه المرئي عند الجماعة الأولى، والمسموع هو المسموع، فينتهي الأمر بالجماعتين إلى اختلاف ثقافي بعيد المدى، برغم تجانس المؤثرات الطبيعية التي تؤثر بها عوامل البيئة في كل منهما؛ ففي الجماعة الأولى نجد المعرفة الواعية قد غزرت وتنوعت، حتى لينتقل بها أصحابها إلى ارتقاء على مستوى العلوم المختلفة، وما يترتب على تلك العلوم من نتائج في دنيا العمل والتطبيق. وأما الجماعة الثانية فتصدمها المؤثرات نفسها، لكنها تكون كماء المطر ينزل على صخرة صماء فينحدر على سطحها دون أن تستجيب له الصخرة بنبتة خضراء. وتكون العلة في ذلك الجدب في الجماعة الثانية افتقارها إلى تربية وتعليم.
تلك - إذن - هي الحلقة الأولى من الحلقات الثلاث، وما قد تحدثه من تباين ثقافي بين الأفراد وبين الشعوب، وهو تباين تستطيع - كما ترى - أن تقول عنه إنه مما يمكن التغلب عليه إذا أردنا له أن يزول؛ لأنه تباين لم ينشأ عن ضرورة حتمية بقدر ما نشأ عن عوامل متغيرة، فإذا لاحظنا - مثلا - أن حياة الثقافة العربية الآن - التي هي حياتنا، نحياها كل يوم في ساعات العمل وفي ساعات الفراغ، أقول إننا إذا لاحظنا أن حياة الثقافة العربية قد بلغت من الفقر حدا لا يجوز لها معه أن تطمع في أن تكون ذات أثر في توجيه التيارات الفكرية في العالم، فلا هي تملك الأثر الفعال في سياسة ولا في اقتصاد ولا في عقيدة ، فالسياسة توضع هناك في مخابئ الشياطين، ولا ندري نحن إلا أن نجد الكوارث قد حلت توقعنا في حبائلها وقوع الأشل العاجز، والاقتصاد يضطرب بموجه صعودا وهبوطا هناك في أوكار الأبالسة، فما نحن إلا وقد رأينا العالم قد انقسم إلى شمال غني بموارد الجنوب بعد أن يخضعها للعلم والصناعة، وإلى جنوب باع موارده بثمن بخس واشترى صناعات الشمال بثمن مرتفع، ولم يعد يملك سوى أن يمد إلى أبالسة الشمال أكف الضراعة يطلب العون والقرض والصدقات، وفي دنيا العقائد ترانا وقد اتسعت في حياتنا فجوات واسعة وعميقة بين «إيمان» نصوغه لفظا و«عمل» لا يكاد يمت إلى ذلك الإيمان بسبب من الأسباب، أقول مرة أخرى: إننا إذا لاحظنا أن حياتنا الثقافية العربية قد بلغت هذا الحد من الضحالة والعوز، فليس يعني ذلك - ما دمنا عند الحلقة الأولى التي هي مرحلة الانطباع بما حولنا من مؤثرات - أننا أمام عقبة يستحيل علينا اقتحامها، بل الأمر فيها على غير ذلك؛ لأن نقص الإدراك نقيصة تعالجها في جيل واحد تربية سليمة وتعليم منتج، وليس في إصلاح المرحلة الإدراكية أو في تغييرها من حال الفقر إلى حال الغنى، ومن حالة الغموض إلى حالة الدقة، ليس في أي شيء من ذلك التغيير ما يمس شخصيتنا العربية بحيث نخشى أن يظهر من أولي أمرنا من يعارضه ويقاومه.
فإذا انتقلنا بأنظارنا إلى الحلقة الثانية، حيث مكنونات البواطن التي أسلفنا ذكرها، فها هنا نجد العقبة العصية التي تستدعي النظر الهادئ المتأمل؛ إذ ها هنا يكمن المصدر الحقيقي لما تتنوع به الثقافات المختلفة بين أفراد الشعب الواحد أولا، ثم بين شعب وسائر الشعوب ثانيا، فالمؤثرات التي ينطبع بها الإنسان آتية إليه من خارجه، لا قيمة لها في ذاتها معزولة عن وقوعها في ذلك المضمون الحشوي الذي يكمن في جوانح صدورنا. إن حدثا واحدا معينا قد يضحك إنسانا ويبكي إنسانا آخر، فالحدث هو نفسه الحدث عند كليهما، لكن كوامن النفس في أحدهما ليست هي كوامن النفس في الآخر. ضع لهبا من نار على ورقة تشتعل ، لكن ضع ذلك اللهب على ماء ينطفئ. وفي ذلك المضمون الحشوي تتشكل الرؤية الثقافية في الفرد الواحد، وفي مجموع الشعب، فإذا كان لأحد أن يغير من نفسه، أو من شعبه، رؤيته الثقافية، ليستبدل بالضعف قوة، وبالجهل علما، وبالفقر غنى، وبالمرض النفسي صحة وعافية، فقليل من ذلك ما يعتمد على مرحلة الإدراك الأولى، بالقياس إلى الكثير الصعب الذي لا بد من عمله لتغيير المضمون الحشوي الذي أشرنا إليه، والذي أشار إليه فلاسفة أقدمون - مثل أفلاطون وفرانسيس بيكون - بأنه بمنزلة كهف قعد فيه ساكنه بحيث أدار ظهره لفتحة الخروج، واتجه ببصره نحو الجدار الداخلي، فلا يعرف عن الدنيا الخارجية شيئا إلا ظلالا يراها تتحرك على الجدران منعكسة عن المارة في الطريق العام، مضافا إليها مخزون نفسه، ومع ذلك فالوهم يخيل له أنه يعرف عن الدنيا حقائقها.
ولكن متى وكيف يلجأ «العاقل» إلى تغيير مضمونه الحشوي هذا الذي بفعله تتشكل رؤية الإنسان؟ إن الجواب عن هذا السؤال مرهون بالحلقة الثالثة، التي هي مرحلة السلوك؛ فسلوك الإنسان - كما قلنا - هو محصلة تنشأ مما وقع عليه من مؤثرات خارجية، بعد أن تتلقاها مخزونات الباطن فتوجه فعلها بحسب ما يتفق مع عناصرها، وعندئذ تقتضي منا الحكمة أن نرقب سلوكنا هذا، الذي وجهته مخزونات نفوسنا، ليرى إلى أي النهايات ينتهي بنا؟ هو ينتهي بنا إلى ضعف أم إلى قوة؟ إلى مرض أم إلى عافية؟ إلى رفاهية أم إلى شظف العيش؟ فإن وجدناه سلوكا تتعثر به خطواتنا، وتنتكس به حياتنا، وجبت علينا عندئذ مراجعة نفوسنا وما قد انطوت عليه من مخزونات الأفكار التي قد تكون باطلة، والعواطف التي قد تكون مضللة والرغبات التي قد تكون مؤدية بنا إلى دمار، كان علينا أن نغير من طرائق التربية والتعليم، لنصوغ أبناءنا صياغة جديدة تبرأ مما أصبنا به نحن من معوقات.
على أننا إذ نرقب سلوكنا لنرى إلى أي النهايات ينتهي بنا، فلسنا نريد أن تكون المنفعة وحدها مدار الحكم بالنجاح والفشل، بل المدار هو مقومات «الشخصية» التي نريدها لأنفسنا، ومن تلك المقومات ما قد يتطلب منا النصيحة وليس النفع في صورته المادية من كسب أكثر وجاه أقوى، وها هنا تأتي نماذج البطولات في تاريخنا لتجعل منها هاديا يهدينا إلى ما ينبغي أن يتوافر لنا من عناصر الشخصية العربية المنشودة.
إنها هي الحلقة الوسطى التي تتطلب منا طول النظر وحسن التدبير؛ لأنها هي التي تتجمع فيها الدوافع الحركية نحو سلوك يتلاءم مع طبيعتها. إنه لا يكفي أن نملأ الذاكرة بمعارف ومعلومات لا ينجم عنها عاطفة دافعة نحو الهدف الذي نريده، والمهم هو أن نحرص على شحن المعرفة بالانفعال لها، كما هي الحال مع القصائد وهي في شدة حرارتها. ماذا يجدي أن تملأ وسائل الإعلام دنيانا صياحا بأغان وطنية إذا جاءت تلك الأغاني مثيرة للضحك من تفاهة معانيها؟ إنها على الأرجح تحدث عند المتلقي تأثيرا عكسيا لمجرد شعوره بأنه لا مؤلفها ولا ملحنها ولا مؤديها بالغناء صادق مع نفسه وهو يفعل ما يفعله. إن هناك جماعات من الناس لا تجد لها تاريخا فتصيد لنفسها أسطورة تحيا بها وتعرف كيف تجعلها أسطورة تحرك الناس إلى القوة، ونحن نحمل وراء ظهورنا تاريخا حقيقيا شهده الزمان وشهد له، وهو تاريخ لو تقسمه أهل الكوكب الأرضي جميعا لكفاهم دافعا شريفا نحو هدف شريف، ومع ذلك لم نستطع نحن أصحابه أن نستوحيه سداد العمل لنحقق القوة التي نعتصم بها من الهوى والهوان.
إنها هي الحلقة الوسطى التي تستحق منا كل العناية في تربيتنا لأبنائنا وبناتنا؛ ففيها ترسخ العقائد صحيحة أو مغلوطة مهوشة، وفيها تكمن «الإرادة» قوية أو ضعيفة، وفيها تنبت الميول والرغبات والأهواء والحب والكراهية والرضا والسخط والقلق والطمأنينة، وسائر تلك القوى الدافعة لصاحبها أو المانعة، الصاعدة بحاملها نحو الذرى أو الهابطة به إلى الحضيض، فإذا هي انحرفت انحرف صاحبها وإذا هي استقامت استقام، إنها هي الحلقة الثانية التي يتغير مخزونها فيتغير سلوكنا، وهي هي الحلقة التي لا يغير الله ما بنا من تخاذل وتفكك وتسيب ولا مبالاة، إلا إذا بدأنا نحن البشر فغيرناها بصلاح التربية وحسن التعليم ورشاد الإعلام.
وثقافة الفرد أو ثقافة الشعب في مجموعه، لم تخلق للزينة والزخرف والمباهاة والتفاخر، وإنما خلقت لتكون أداة فعل حقيقي على أرض الواقع وتحت سمائه، فعلا يمهد السبيل نحو الصحة والقوة والعزة والعلم والإبداع. إننا إذا رأينا أمتنا العربية قد وهنت عراها، وإذا وجدنا الأفراد في كل قطر واحد قد أعوزتهم أعز خصائص العربي كما هو مرسوم الملامح في ديننا وفي شعرنا وأدبنا وفي كثير جدا من ميادين الحياة، فذلك لأن الحلقة الثانية من خريطة حياتنا قد شاهت بما امتلأت به من عوامل الأنانية والطغيان والانحراف. ليس المهم في الحياة الثقافية أن نقول: هذه ثقافتنا وتلك ثقافة الغرباء. وإنما المهم هو أن نقول هذا عنصر ضعيف في بنائنا الثقافي لا يؤدي بنا إلى عزة، فلنستبدل به ذلك العنصر لأنه أفعل أثرا.
أرأيت إلى مدرس اللغة الإنجليزية الذي حدثتك عنه في أول هذا الحديث؟
অজানা পৃষ্ঠা