فماذا بعد ذلك؟
كنا عندئذ قد قطعنا من شوط الثقافة العربية - بعد ظهور الإسلام - تسعة قرون، وكانت قد بقيت، بدءا من لحظة التوهج الأخيرة إلى وقتنا هذا، نحو خمسة قرون. وإني لأزعم أن ثقافتنا العربية - خلال تلك القرون الخمسة - قد جاءت على نمط شديد الشبه في تعاقب مراحله، بالنمط الذي سارت عليه القرون العشرة الأولى، بفارق هام بين الحالتين؛ ففي القديم كان السائد هو صحة الأقوياء، وفي الحديث بات السائد هو مرض الضعفاء، في القديم كان الأخذ عن الآخرين، أخذا يشبه التغذي بالغذاء الذي يزيد الدماء الفتية الشابة فتوة وشبابا، وفي الحديث أصبح الأخذ عن الآخرين أخذا يشبه حقن الكسيح بأمصال لعله يستقيم على قدميه.
فالقرون الثلاثة الأولى من الحقبة الحديثة، وأعني: الفترة الممتدة بين أوائل العاشر الهجري والثالث عشر (وهي المقابلة لما بين أوائل السادس عشر وأوائل التاسع عشر بالتاريخ الميلادي) يمكن النظر إليها على أنها مرحلة قامت بالدور الذي قام به القرن الثاني الهجري، وذلك من حيث هي فترة حاول فيها العربي المسلم أن يتمكن بالدراسة من أصول لغته وأصول عقيدته، على ألا ننسى الفرق بين الحالتين، فشتان بين عالم ينتج العلم إنتاجا مما يشبه العدم، وتلميذ يتناول بالدرس والحفظ والشرح ذلك الإنتاج، فإذا كان القرن الثاني الهجري قد شهد علماء اللغة ينشئون لأول مرة شيئا اسمه علوم اللغة، وشهد فقهاء الدين ينتجون لأول مرة شيئا اسمه علوم الدين، فقد جاءت فترة القرون الثلاثة الأولى من تاريخنا الحديث، لتتعلم علم هؤلاء، وتحاول استيعابه وفهمه وتطبيقه ما كانت لتطبيقه وسيلة.
على أننا نود هنا أن نلحظ شيئا هاما في المقارنة بين فترة القديم المبدع وفترة الحديث الحاكي، وهو أن القديم سار شوطه الثقافي «صعودا» خطوة بعد خطوة، فكانت الخطوة التالية تضيف جديدا إلى ما جاءت به الخطوة السابقة، وأما في الحديث، فقد سارت أمورنا خطوطا تتوازى من أول الطريق إلى آخر الطريق، وكل الاختلاف بعد ذلك هو تفاوت الخط الواحد - قوة وضعفا - بحسب الظروف التاريخية الطارئة حينا بعد حين، فإذا كنا قد جعلنا القرون الثلاثة الأولى في مرحلة الحديث من تاريخنا الثقافي، فلم نقصد بذلك أن طابعها المميز قد انتهى بانتهائها، بل ظل ذلك الطابع قائما فينا إلى يوم الناس هذا، وما هو ذلك الطابع المميز؟ هو أن نقف عند حد الحفظ ومحاولة الفهم والشرح والتطبيق لما أبدعه الآباء الأولون.
وجاء القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي) لينقلنا إلى مناخ ثقافي جديد، هو المناخ الذي أصبح فيه للعلم الطبيعي الجديد وجود بيننا، وهو كذلك المناخ الذي أخذ النتاج الفكري في الغرب يتسلل إلينا عن طريق الترجمة. إذن فلقد دخلنا فيما يشبه القرن الثالث الهجري، الذي قلنا فيه إنه فتح النوافذ لتدخل ثقافات الآخرين إلى الساحة العربية. ومرة أخرى ننبه حتى لا ننسى الفارق بين «الروح» السائدة في عملية النقل عن الآخرين في الحالة الأولى، والروح التي سادت تلك العملية نفسها في الحالة الثانية؛ فلقد كنا في الحالة الأولى ننقل لنكون سادة على ما نقلناه، بمعنى ألا ننظر إلى المنقول نظرة الفقير إلى ما ينعم به الأغنياء، بل كنا ننظر إليه نظرة القوي يضيف باختياره قوة إلى قوته، وأما في الحالة الثانية فقد أخذنا ننقل عن الآخرين نقل المعوز عمن عنده القوت.
وفي هذه الخطوة الثانية - شأنها في ذلك شأن ما كان في الخطوة التي سبقتها - جاء الموقف الذي اتخذناه، لا ليزول عند الانتقال بثقافتنا إلى الخطوة الثالثة، بل إنه جاء ليبقى خطا ممتدا مع سائر الخطوط في حياتنا الثقافية إلى يومنا هذا. وإنه لمما يستوقف النظر حقا، عند المقابلة بين تاريخنا الثقافي الحديث، وتاريخنا الثقافي القديم، أنه كما حدث في حقبة القديم أن أخذ «العرب» من المسلمين يحيون التراث الأدبي العربي الذي ورثوه عن العصر الجاهلي، اعتزازا منهم بالثقافة العربية الأصيلة، وبصفة خاصة في الشعر، وذلك في مواجهة «الموالي» - أي جماعة الفرس من المسلمين - الذين أثاروا روح التفاخر بماضيهم الثقافي (وهو ما يسمى في التاريخ ب «الشعوبية»). أقول إنه كما حدث في الماضي من إحياء للثقافة العربية الأصيلة ردا على من كانوا من غير الأرومة العربية يفاخرون بتراثهم، كذلك حدث هذا الإحياء للتراث العربي القديم، مع بدء حركة الترجمة عن الغرب الحديث، وكان ذلك في مدرسة الألسن، برئاسة الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، في ثلاثينيات القرن الماضي. وإنما أريد بإحياء التراث العربي أن يوازن ثقافة الغرب المنقولة إلينا بالترجمة.
إذن فهذان خطان في حياتنا الثقافية الحديثة، قد أخذا يسيران متوازيين منذ أوائل القرن الماضي؛ خط يحيي التراث للانتفاع به - أو لكي يقاس فيه - وخط ثان ينقل علوم الغرب وفكر الغرب. وهما الخطان اللذان شطرا حياتنا التعليمية شطرين؛ فشطر منهما يقصر دروسه على ميراثنا من الآباء الأولين، وأما الشطر الثاني فيكاد بدوره يقصر دروسه على المنقول من علوم الغرب وفكره. على أن بين هذين الشطرين نقطة التقاء هي غاية في الأهمية والخطورة، وتلك هي أن الدارس في أي من الشطرين ليس عليه إلا أن يحفظ ويفهم ويشرح ويطبق في الميدان الذي درس فيه؛ فدارس منقولات الغرب يحفظها تماما كما يحفظ دارس التراث ما يقدم إليه من بقايا تاريخه القديم، فلا فرق بين حفظ هنا وحفظ هناك إلا في مادة المحفوظ، فلا أهل التراث أبدعوا كما أبدع آباؤهم الذين خلفوا لهم ما خلفوه، ولا أهل المنقول عن الغرب أبدعوا وأضافوا الجديد كما يفعل من نقلوا عنهم ما نقلوه.
ومع ذلك فقد انتقلت حياتنا الثقافية الحديثة إلى خطوتها الثالثة التي تقابل الخطوة المشابهة لها في تاريخ القدماء، وأعني بها خطوة «النضج» الذي تكاملت به الثمرة بعد مزج الوافد والأصيل في كيان ثقافي واحد، وهو النضج الذي وصفنا به حياة الأولين خلال القرن الرابع الهجري مع امتداد له في القرن الخامس (العاشر والحادي عشر بالتاريخ الميلادي). وأما في حياتنا الحديثة فمرحلة النضج الذي نشأ من مزج الثقافتين؛ الموروثة والمنقولة، فهي على وجه التحديد في عشرينيات هذا القرن مع امتداد في ثلاثينياته؛ فها هنا نجد أعلاما في شتى الميادين، كان أهم ما يميزهم الجمع الواعي بين الثقافتين؛ الموروثة والمنقولة، جمعا أتاح لهم أن تنقدح في أذهانهم وفي وجدانهم - نتيجة لتفاعل الثقافتين - شرارة الإبداع؛ فلأول مرة في تاريخ الثقافة العربية، ظهرت الرواية (قبل العشرينيات بقليل) وظهرت مسرحية الشعر، ومسرحية النثر، ولأول مرة في تاريخ الثقافة العربية في عصرها الحديث، ظهرت الفنون التشكيلية من تصوير ونحت، ولأول مرة سارت حركة النقد في اتجاهها الجديد، ودع عنك تلك الشعلة الملتهبة التي ظهر نورها في عشرينيات القرن وثلاثينياته من صراخ ينادي بحقوق الإنسان في الحرية، وفي العدالة وفي الفردية.
ولكننا نحذر مرة ثالثة من أن نسوي من حيث المضمون الثقافي، بين مرحلة النضج عند السلف ومرحلة النضج الحديثة التي أشرنا إليها، وإلا فأين فينا من هو أبو العلاء المعري؟ وأين فينا من هو ابن سينا؟ فالتشابه الذي نشير إليه بين القديم والحديث إنما هو تشابه لا يعدو الشكل الظاهري في تتابع الحلقات من السلسلة الواحدة.
كنا - إذن - إلى خاتمة الأربعينيات من هذا القرن، فيما جعلناه مرحلة النضج الثقافي، الذي عرف كيف يجمع تراثا عربيا إلى جديد آت من الغرب، وهو الشبيه المقابل لما حدث في القرن الرابع الهجري ممتدا إلى القرن الخامس، وهنا بالنسبة إلى تاريخنا الحديث. نشبت الحرب العالمية الثانية، فخرجنا منها كما خرج العالم بأسره، والروح تنتفض فزعا، وتلتهب رغبة في أن يتغير مجرى التاريخ. وكان من أهم جوانب التغير المطلوب في شتى الأقطار التي كانت حتى ذلك الحين ترزح تحت نير التسلط الغربي بأسمائه المختلفة، من حكم فعلي يسيطر به الاستعمار الغربي على هذا البلد أو ذاك، وإلى احتلال، إلى انتداب ، وما شئت من أسماء أخرى، تختلف لغة وتجتمع كلها عند معنى واحد، وهو أن يكون للغرب الأوروبي والأمريكي سيطرة على سائر أقطار الدنيا إلا قليلا منها، فكانت الرغبة حامية في نفوس الأقطار المغلوبة على أمرها، في أن تتحرر وتستقل وتصبح دولا ذوات سيادة، وهذا بالفعل ما أخذ يتحقق بسرعة غريبة. وجاء ذلك التحرر للشعوب في الوقت نفسه الذي اتجهت فيه القلوب والأنظار نحو أن ترتبط أمم الأرض في هيئة متحدة، تتولى حل مشكلاتها بطريق غير طريق الحرب؛ ومن ثم سارت تلك الأمم في ازدواجية تلفت النظر؛ فكل أمة منها ترسل وفودها إلى هيئة الأمم المتحدة وكأنها متحدة حقا، لكن كل أمة منها - في الوقت نفسه - تعمل جهدها على أن تعلن قوميتها الخاصة المتميزة لغة، وثقافة، وثيابا، وكل شيء؛ فبمقدار ما تجمعت الشعوب، عادت وتفرقت حرصا من كل شعب على سلامة هويته.
অজানা পৃষ্ঠা