والمؤمن بعقيدة التوحيد هو أقرب الناس إلى أن يتوحد شخصه ليتسق فعله مع عقيدته. وما أكثر ما أشارت آيات الكتاب الكريم إلى وجوب الصلة بين إيمان المؤمن وعمله الصالح ليتوافق فيه باطن الإيمان مع ظاهر العمل! فإذا كان محور ذلك الإيمان هو التوحيد، وجب أن يظهر انعكاس ذلك المحور التوحيدي في شخص المؤمن وهو يعمل، وبهذا يجيء كل فعل وكأنه تعبير عن المصالحة بين عناصر الفطرة البشرية التي كان يمكن لها أن تتنافر وتتصارع، لو أنها تركت مطلقة لا يضبطها قيد ولا ينظمها مبدأ وقانون. وانظر مليا فيما تتضمنه «الشهادة» التي هي أول أركان الإسلام؛ فهي تتضمن أربع زوايا؛ فهنالك شاهد يشهد، وهنالك مشهود أمامه بتلك الشهادة، وهنالك مشهود له، ثم هناك الصفة التي يشهد على وجودها. وتأمل هذه الجوانب الأربعة جانبا بعد جانب تجدها جميعا مؤدية بقائلها ومعلنها إلى نتيجة محتومة، شريطة أن يكون قد نطق بالشهادة عن وعي كامل بما قد انطوت عليه؛ فهو - أولا - يستخدم في كلمة «أشهد» ضمير المتكلم المفرد؛ أي إنه يلتزم ما يشهد به التزاما هو مسئول عنه، من حيث هو فرد قائم بذاته حتى لو أنكره سائر أفراد البشر جميعا؛ فركن الأساس في بنية المسلم أن يكون على وعي بفرديته الفريدة المسئولة أمام خالقه عز وجل، ومثل هذه الوقفة لا تكتمل لها مقوماتها إلا إذا كان ذلك الفرد الفريد غير منقسم على نفسه. على أن معنى الشهادة يتضمن فيما يتضمنه أن هنالك من أراد الشاهد أن يعلن شهادته أمامه، وفي ذلك إشارة ضمنية إلى أحد الطرفين أو إليهما معا؛ أولهما اعتراف بوجود أفراد المجتمع الآخرين وهو المجتمع الذي ينتمي إليه الشاهد، وثانيهما وجود «ضمير» كامن في فطرته، والشاهد يتعهد أمام ضميره بألا يتمرد على أوامره ونواهيه، وأمام ذلك الضمير قد التزم الشاهد بما التزم، ولماذا التزم؟ إنه التزم الإيمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى ، فهل أراد بذلك الإيمان ألا يجاوز اللفظ تنطق به شفتاه؟ لو كان ذلك كذلك لتساوى مع الببغاء الذي يسمعه فيحاكي لفظه المنطوق، كلا، بل لا بد لجوهر المعنى أن يسري في كيانه فيتشكل ذلك الكيان - فيما يشعر وفيما يسلك - بحالة التوحد التي شهد بها لله تعالى، لكنه بشر إذا هو أراد لنفسه اقترابا من الكمال المنشود، ففيه من جوانب النقص ما يوقفه عما قد أراد عند حد محدود. وهكذا ترى أن من آمن بالتوحيد فإنما آمن بعقيدة تميل به نحو أن تتوحد ذاته بقدر ما يستطيعه بشر لنفسه، برغم ما قد أقيمت عليه فطرة البشر من عناصر قابلة بطبعها لأن ينازع بعضها بعضا.
وما يصدق في هذا الصدد على الفرد الواحد وهو في فردانيته يمتد مداه ليصدق على المجتمع الذي يكون ذلك الفرد عضوا فيه، وذلك إذا جاء جميع الأفراد على الصورة التربوية نفسها. وعندئذ تنضم شخصيات موحدة متكاملة بعضها إلى بعض، فينتج عن اجتماعها أمة موزونة النغم، مبرأة من النشاز. وأقوى ما يساعد الأمة الواحدة على إيجاد هذه الوحدة المتسقة المتناغمة بين أبنائها على اختلاف أعمالهم واهتماماتهم ومعارفهم، هو أن يكون لها هدف بعيد واحد تتجه نحوه. ولقد أوضح هذا الكاتب لقارئه في مناسبة أخرى كيف يمكن لميادين العلم المختلفة أن تتشابه في هدفها برغم اختلافها فيما تؤديه؛ فميادين الحياة الثقافية عند أمة معينة، وفي فترة معينة من تاريخها قد تنحو كلها نحو محور واحد تدور كلها حوله. وهنالك في تاريخ الناس عصور توحدت فيها ثقافتها بحيث رأيت الموسيقى والشعر وسائر ألوان الأدب والفن التشكيلي كالتصوير والنحت والفن التعبيري في المسرح وما يشبهه من سينما وغيرها والعمارة والنشاط العلمي وغيرها وغيرها من نظم التعليم والسياسة ونظم الحكم، كل هذه الفروع يحللها المحللون فيجدونها جميعا تنطوي على فكرة أساسية واحدة كالحرية أو التعقل أو العاطفة الوطنية وغير ذلك. وها هنا يبين النقاد القادرون على دقة التحليل، كيف تقول الموسيقى ما تقوله العمارة أو التصوير أو الشعر، فلو أن أمة التوحيد قد رسخت فيها هذه العقيدة حتى بلغت منها سويداء القلب ونخاع العظام لرأيت كل أوجه نشاطه دون أن تدري قد نطقت بلغة واحدة واستهدفت هدفا واحدا فتوحدت على النحو الذي أسلفناه وشرحناه.
ولا يقف أمر التوحد في حياة الناس عند حد الأفراد تتوحد شخصياتهم، وعند الحد الأوسع منه، الذي هو أن تتوحد الأمة التي تضم هؤلاء الأفراد، بل إن ذلك الميل نفسه لينعكس كذلك في ضروب النشاط التي ينشط بها الناس في مختلف ميادينهم، ويهمنا منها هنا مجال البحث العلمي؛ فنحن نعيش اليوم في عصر بلغ فيه التخصص العلمي حدا بعيدا، حتى لقد اضطر العلماء المتخصصون أن يقسموا العلم الواحد إلى عدة فروع، وأن يفتتوا كل فرع منها إلى فروع ثانوية؛ ومن هنا أصبح العالم المتخصص الواحد إذ هو يعمل في مجاله الخاص يكاد لا يدري شيئا مما شط به زملاؤه في سائر فروع علمه، وفي هذه الدقة ضمان لدقة النتائج العلمية، لكن فيها كذلك تمزيقا للعلم الواحد حتى يفقد هويته أو يكاد. ولم يكن علماء الماضي يتعرضون لهذا التمزق؛ لأن كل عالم منهم يتناول موضوع علمه من الألف إلى الياء، فيكون باحثا في «الكيمياء» وفي «النبات» وهكذا، فيلزم عن ذلك بقاء الموضوع الواحد موحدا، إلا أن هذا نفسه يقتضي أن يقف العلم عند أعماق قريبة الغور من حقيقة موضوعهم.
والعلم لا يقتصر على موضوع واحد، بل يقسم نفسه موضوعات موضوعات، بحسب ما يتصوره رجال العلم عن ميادين البحث الممكنة. إن حولهم كونا متنوع الظواهر فسيح الأبعاد، وهم يريدون البحث عن القوانين التي تنتظم بها كل ظاهرة على حدة، فيقسمون تلك الظواهر فيما بينهم أقساما كبرى، ثم يتناول العلماء داخل كل قسم كبير موضوعهم بالتقسيم فيما بينهم وهكذا. ولكي أضع بين يدي القارئ صورة تقريبية لعملية التقسيم هذه كيف انتهى بها الطريق إلى مجموعة محددة المعالم من علوم مختلفة، أقول إنهم بادئ ذي بدء قد فرقوا بين علوم «صورية» وعلوم أخرى مادية الموضوعات، فأما العلوم الصورية فهي مجالان يتصلان يصعب إيجاد الفاصل الحاسم بينهما، وهما «علم المنطق» و«علوم الرياضة»، وهما قسمان «صوريان» بمعنى أنهما يبحثان في «علاقات» دون أن يعلما شيئا عن «الأشياء» التي ترتبط بتلك العلاقات في دنيا الواقع الفعلي؛ ففي علم المنطق تقول - مثلا - إنه إذا كانت (أ) هي (ب) هي (ج)؛ إذن تكون (أ) هي (ج) دون أن يسأل عالم المنطق نفسه ما هي الأشياء المعنية التي ترمز إليها بهذه الرموز، وذلك لأن «الصورة» المذكورة تصدق على جميع الحالات بغير استثناء. وفي الرياضة نقول: إنه إذا كانت 2 + 3 = 5 وكانت 1 + 4 = 5؛ إذن 2 + 3 = 1 + 4، فهذان علمان صوريان يكونان أسرة من العلوم متميزة مما عداها. تأتي بعدها أسرة أخرى من نوع آخر، هي أسرة العلوم التي يختص كل منها بظاهرة معينة من ظواهر الطبيعة لاستخراج قوانينها؛ فعدة فروع منها تكون علم الطبيعة، وعدة فروع أخرى تكون علم الكيمياء، وعدة فروع ثالثة تكون علوم الحياة من نبات وحيوان، وعدة فروع رابعة تكون العلوم الإنسانية.
إذن فنحن إذ ننظر إلى دنيا العلم، فإنما نواجه كثرة كثيرة من أقسام متباينة؛ فمن جهة نجد كل علم واحد على حدة ينقسم فروعا وفروعا للفروع، ومن جهة ثانية نجد ميادين العلوم الكبرى متعددة ومختلفة. وها هنا قد ترى من رجال العلم أنفسهم من لا يقلقه هذا «التعدد»، ويأخذه على أنه لازمة ضرورية من لوازم العلم. لكنك قد تجد كذلك من رجال العلم من لا تطمئن نفسه لهذا التجزؤ الذي إن صلح للفكر العلمي فهو لا يصلح للوحدة العقلية عند الإنسان؛ ومن ثم ينهض نفر من هؤلاء ليجعلوا همهم البحث في تلك الأقسام الكثيرة وفروعها الأكثر عما يوحدها، ولا تطمئن لهم نفس إلا إذا وقعوا على المبدأ الواحد الذي عنده تلتقي جميع تلك الأقسام والفروع. وهؤلاء العلماء الباحثون عن موضع التوحد بين ميادين البحث العلمي، هم الذين يطلق عليهم اسم «فلاسفة العلم». مع ملاحظة أن فيلسوف العلم في معظم الحالات هو نفسه الذي كان عالما متخصصا في أحد الأقسام أو في فرع واحد من فروع أحد الأقسام، وكل ما تميز به هو أنه قد أقلقته الكثرة فيما يعتقد أنه كون واحد موحد.
ومرة أخرى نقول إن من كانت عقيدته الدينية هي «التوحيد» وجد في نفسه دافعا أقوى مما يجد سواه من زملائه العلماء، نحو أن يبحث دائما عن الوحدة التي تؤلف بين الكثرة أيا كان الموضوع، فيبحث عن محور الوحدانية في الشخصية الإنسانية برغم اختلاف الجوانب الكثيرة في حياة الفرد الواحد، واختلاف العلوم الباحثة في تلك الجوانب، وكذلك يبحث عن محور الوحدانية في الكون مجتمعا كله في وجود واحد.
وفي مثل هذا النظر تتحقق «أسلمة» العلوم بمعناها الصحيح كما نراه؛ فليست «إسلامية» العلم المعين أو العلوم مجتمعة أن نبحث لكل علم معين كالطب أو غيره عن مصادر في القرآن الكريم، أو في الأحاديث النبوية الشريفة، بل إن إسلامية العلم هي في البحث عما يوحد قوانينه ومبادئه في أصل واحد، ثم أن نبحث في مختلف العلوم عن مبدأ واحد يوحدها، فإذا كشفنا عنه ولن يكشف عنه إلا رجال العلم الذي ألموا بقوانين العلم الواحد أو مجموعة العلوم إلماما يبين لهم موضع التجمع في أصل واحد. أقول إننا إذا انكشف لنا موضع التوحد أو قل مواضع التوحد التي نتدرج بها من الفرد الواحد أولا ثم العلم الواحد إلى أن تنتهي إلى توحد مجموعات العلوم في أساس واحد، جاءت عقيدتنا في التوحيد عميقة وقوية وناصعة.
لكن أمة التوحيد لم تعرف كيف توحد نفسها؛ فلا الفرد الواحد من أفرادها مستطيع أن يصل باطنه بظاهره حفاظا على وحدة شخصيته، ولا الشعب الواحد من شعوبها قادر على أن يجمع أبناءه تحت لواء واحد بالمعنى الصحيح الصادق لهذه الكلمات، ولا الأمة في مجموعها قد ضمت شعوبها تحت جناحيها كما تجمع الأم أبناءها. ولعل سرا من أسرار هذا التنافر المتعدد الدرجات هو أننا طالبنا أنفسنا بتحقيق المثل العليا في حياتنا العملية، واستحال علينا ذلك، ولا بد له أن يستحيل لضعف فطري في قدرات الإنسان، فقسم كل منا نفسه قسمين؛ يواجه الناس بقسم منهما فيسمعهم من اللفظ الأمثل ما يشتهون، حتى إذا ما توارى وراء الجدران استجاب لجوانب ضعفه آسفا أو غير آسف، ففقدنا بهذه الازدواجية شجاعة الصدق كما فقدنا الأمل في أن نحقق للشخصية العربية وحدتها وكيانها؛ لأن أول الطريق إلى بلوغ الهدف هو إدراك الحق وإعلانه فيعلم السائر في أي متجه يسير.
2
لا تقنط - يا ولدي - من رحمة الله، فإذا رأيتنا نتخبط بين الصواب والخطأ؛ فذلك هو الإنسان، لا يكون أبدا على صواب كل الصواب، كلا، ولا يكون أبدا على خطأ كل الخطأ. وحسبنا من نعمة الله علينا في هذا السبيل، أن من التزم منا النهج الصحيح، رجح عنده الصواب على الخطأ كلما امتدت به الأيام؛ ومن هنا جاءت حكمة الشيوخ؛ فخبرة الإنسان بحقائق العالم يصحح بعضها بعضا على مر الزمن، لكن لتلك الحكمة عند الشيخ ثمنها الباهظ؛ لأنها تجيء إليه مقرونة بالضعف فلا يقوى على خفة الحركة، وعندئذ يصبح وكأنه معرفة شلاء. وأما الشباب فإن يكن كثير الخطأ قليل الصواب، فهو بصوابه المحدود قادر على الحركة الساعية إلى العمل والتنفيذ، يصيب مرة ويخطئ مرتين، فينجز بقدر ما أصاب. وقديما قال الشاعر: «أواه لو عرف الشباب، وآه لو قدر المشيب.» نعم، فالشباب يقدر ولكنه تنقصه المعرفة، والشيخ يعرف ولكن تنقصه المقدرة، فما حيلتنا فيما أراد لنا الله؟ إنه لا حيلة لنا في ذلك إلا أن تتعاون شيخوخة وشبابا، وهكذا تسير الحياة دائما في خط صاعد. ولعل شيئا من هذا المعنى هو الذي يكمن في عقائد الإنسان الأول، حين كانت عقيدته هي أن الكون نور وظلمة يتصارعان، لكن النصر آخر الأمر للنور، أو أن الكون خير وشر يتنافسان، لكن الخير هو الغالب في آخر المطاف.
অজানা পৃষ্ঠা