ومعذرة لهذا الإسهاب في شرح الفكرة الرياضية، لكنها ضرورة تحتمها الرغبة في أن نفهم الهيكل الذي تبنى عليه كل فكرة أيا ما كان مجالها؛ إذ هي دائما صورة مجردة، قوامها «علاقات» أطراف بعضها ببعض. ولا بد لي هنا أن أنبه القارئ بألا يخلط بين الفكرة عندما تكون مجردة، كفكرة «بيت» - مثلا - دون أن تشير بها إلى بيت واحد معين، وأن تستعيد بالذاكرة صورة بيتك الخاص، أو بيت بذاته أيا كان؛ فليست أمثال هذه الصورة الذهنية التي تتذكرها مما وقع لنا في حياتنا الفعلية، هو ما نقصد إليه هنا، وإنما قصدنا إلى الأفكار، التي تشير كل فكرة منها إلى نوع بأسره من الكائنات.
وعلى ضوء من هذا الشرح نعود إلى أهل الغرب حين يجعلون المثل الأعلى «فكرة» مجردة، ولا يجعلونه فردا معينا من مجموعة الأفراد، كما هي الحال بالنسبة إلى ما تعنيه كلمة «مثال» أو «مثل أعلى» في اللغة العربية. إننا حين نقول عن طالب معين إنه «مثال» الطالب، فنحن - كما أسلفنا - نقارن كائنا مجسدا بسائر أفراد نوعه أو جنسه. وأما أهل الغرب حين يقولون عن طالب معين إنه «أيديال» فهم - استدلالا من الأساس اللغوي للمعنى - يقارنونه بالفكرة العقلية المجردة لما يصف الكمال في الطالب، والفكرة العقلية المجردة - كما قلنا - هي أشبه شيء بالمدركات الرياضية، أو قل إنها تمثل «التعريف» النظري الذي يحدد به الأركان الجوهرية للشيء الذي أردنا تعريفه.
ولكن ما أهمية هذه التفرقة بين قوم يجعلون «المثل الأعلى» في مجال معين، فردا من الأفراد يتميز بالدرجة في سلم التفاوت، وبين قوم آخرين يجعلونه فكرة عقلية مجردة، يقاس إليها الأفراد بعدا وقربا؟ وجوابنا هو أن الفرق آخر الأمر كبير، حين يصبح الموقف علاقات اجتماعية بين الناس وهم يتفاعلون بعضهم مع بعض؛ ففي الحالة الأولى، اتي يكون «المثل الأعلى» فيها واقعا ماديا، لا يتهم أحد بشطط أو إسراف أو عنت، إذا طالب كل الناس فردا فردا أن يحيوا حياتهم على صورة مثلى؛ لأن ما قد تحقق في فرد واحد منهم، لا يصبح مستحيلا عليه أن يتحقق في سائر الأفراد، وهذا المطلب هو بالفعل مدار الحكم الخلقي على الناس من وجهة النظر العربية، لكن حقيقة الإنسان أضعف من أن تمكن جميع أفراد المجتمع من أن يبلغوا ذروة استطاع بلوغها فرد واحد متميز؛ ومن هنا ينشأ للمواطن العربي في حياته العملية، ذلك المأزق الحرج الذي أشرنا إليه في عنوان هذا الحديث؛ لأنه سيجد نفسه دائما أمام احتمالين؛ فإما هو قادر على تجسيد الذروة الخلقية في سلوكه، كما استطاع بلوغها مواطن مثالي معين. وإما يجد طبيعته أضعف من أن تسعفه في ذلك المسعى. وهنا يغلب عليه التستر على ضعفه ذاك، حتى لا يكون موضع ازدراء من مواطنيه، فيلجأ إلى ازدواجية مأمونة العواقب في حياة دنياه، وذلك بمعنى أن يتظاهر أمام الناس بما هو أفضل، مما لا يقع تحت المؤاخذة الخلقية، ويرجئ إشباع جوانب ضعفه إلى حين يحتمي وراء الجدران فلا تقع عليه الأبصار. وفي مثل هذه الظروف التي تهيئ الفرصة لانتشار الازدواجية الخلقية، يكون من المرجح أن يسود الناس عدم التسامح مع من لا يبرع في ممارسة تلك الازدواجية على نحو محكم، بحيث يجعل نفسه على مرأى من الناس ومسمع، وقتما ينهزم أمام نوازعه، فيبدو للناس على غير صورة الكمال الخلقي المنشود.
وأما في الحالة الثانية، التي هي حالة أهل الغرب حين يقيسون سلوك الناس إلى «فكرة» عقلية تصور ما ينبغي أن يكون عليه الأمر، من الناحية النظرية، فالمفهوم ضمنا في هذه الحالة، أن النزول بتلك الصورة العقلية المجردة إلى الأرض لتتجسد فعلا في مسالك الأفراد، هو أمر محال على البشر، ومع ذلك فهو أمر مرغوب فيه أن تقام أمام الناس صورة مثلى لما ينبغي أن يكون، ليحاول الإنسان ما استطاع أن يقترب من الهدف، وبقدر اقترابه يكون مقدار فضيلته، وهو موقف تنتج عنه نتيجتان اجتماعيتان؛ الأولى هي أن نسبية الحكم الخلقي أكثر حفزا للأفراد على محاولة الصعود نحو الأكمل، دون أن يصيبه إحباط عند الفشل. والثانية هي أن أفراد المجتمع يصبحون أكثر تسامحا بعضهم مع بعض في الأحكام الخلقية؛ لأن الأمر عندهم ليس هو إما الصواب كل الصواب وإما الخطأ، بل هو أن فعلا معينا أصوب من فعل آخر، وأن خطأ معينا أوغل في الخطيئة من خطأ آخر.
وخلاصة الفرق بيننا وبين أهل الغرب - فيما يبدو لنا - من حيث الرؤية الأخلاقية، هو أنه برغم اتفاقنا على إقامة تصور لمجموعة منسقة موحدة للقيم العليا المطلقة؛ أي التي تصل فيها كل قيمة من تلك القيم إلى ما لا نهاية له من الكمال، فصدق مطلق، وإرادة مطلقة، ورحمة مطلقة، وقدرة مطلقة، وعلم مطلق ... إلخ، كلها يجتمع معا في صورة موحدة، لتصبح أمامنا غاية الغايات، فنسعى إلى الارتفاع إليها بما نفكر وما نريد وما نسلك، دون أن نطمع في بلوغها، وإلا طمعنا في أن نبلغ مرتبة إلهية، وسبحان الله الذي لا إله إلا هو. أقول إننا في نظرتنا العربية، وأهل الغرب في نظرتهم، على اتفاق في الإيمان بوجود تلك القيم في لا نهائيتها، لكن أبناء الثقافة الغربية يقفون عند هذا الحد، ويجعلون تلك الصورة العليا غاية يقاس إليها الفعل الإنساني اقترابا منها أو ابتعادا عنها، فتكون الحالة الأولى توجها نحو الفضيلة يحمد عليه الإنسان، وتكون الحالة الثانية مجافاة للفضيلة يهبط بها الإنسان نحو الرذيلة. وقد أسلفنا لك القول بأن مثل هذا الموقف من شأنه أن يؤدي إلى شيء من المرونة في الأحكام الخلقية على الناس؛ لأن قياس عمل محدد معين إلى فكرة مجردة مطلقة لا يبين لنا الحدود واضحة وحاسمة وفاصلة.
ولا كذلك نظرة العربي؛ لأنه يضيف إلى إيمانه بتلك الصورة اللانهائية المطلقة، صورة مما يمكن أن يحياه الإنسان في حياته العملية، فتكون هي المعيار الذي يحاسب الفرد على أساسه فيما يفعل أو ما يمتنع عن فعله. ومن شاء أن يعرف - بالنسبة إلى المسلم - كيف يكون للإنسان في كل مواقف الحياة العملية «نموذج» يحب أن يسلك على غراره، فيقرأ كتاب «إحياء علوم الدين» لأبي حامد الغزالي. إذن فهذه المجموعة الكبرى من نماذج السلوك الصحيح هي التي تقام معيارا للحكم على الأفعال أهي مقبولة أم مرفوضة مرذولة. ولا أظن أن تحليلنا لحياة أهل الغرب يمكن أن يؤدي بنا إلى نماذج حاسمة الحدود تفرض على الفرد من الناس ليحتذيها في سلوكه وإلا حكم عليه بالفساد والضلال. ولسنا هنا في مقام التقويم والمفاضلة، لنقول أي الرؤيتين في عالم الأخلاق أصوب من الأخرى، بل نحاول مجرد الوصف الموضوعي لما هنالك مما تختلف به نظرة هنا عن نظرة هناك.
ولو أن أمثال تلك «النماذج» السلوكية الحادة في معالمها وفواصلها قد نزل بها الوحي الديني بكل هذا التحديد الجازم، أو ورد عنها حديث شريف، لوجب حقا أن تكون ملزمة. أما إذا وجد بينها ما ليس ملزما للفرد المؤمن، كان من حقنا أن نسأل عن جدواها إذا كانت مجدية، أو عن ضررها إن كانت ضارة. ووجوه الضرر واضحة، وأهمها حرمان الفرد الإنساني من حرية صياغته لسلوكه، كي يكون بحق مسئولا أمام الله يوم الحساب؛ إذ لا فضل لإنسان يسلك على نموذج أقيم له، حتى لو كان السلوك بمقتضاه سلوكا فاضلا؛ فالفضل الأول هنا لمن أقام النموذج وأوصى بالتحرك على منواله.
وليست هذه الحرية الضائعة هي كل ما يؤخذ على تقييد الحياة الفردية بنماذج موضوعة لم يرد في أصول العقيدة ما يوجبها؛ فقد نضيف إلى الحرية المفقودة ما تؤدي إليه من تحطيم للشخصية. إن تلك النماذج الموضوعة لا تلبث أن تتجمد وتتحجر في صور يتناقلها جيل عن جيل، فتصبح معوقات للتغيير إذا ما استحدثت ظروف معاشية تقتضي ذلك التغيير، فضلا عما يمكن أن يحدث - بل وقد حدث بالفعل في حياتنا وحياة غيرنا - أن تصبح تلك النماذج الموضوعة مقررات دراسية لبعض الدارسين، فتكتسي عندئذ بغلالة «العلم» فتنال توقيرا ليس من حقها أن تناله؛ فنحن نعلم كم تضعف الحاسة النقدية عند الكثرة الغالبة من الناس، بل ومن الدارسين أنفسهم، حتى ليكفي أن ترد جملة معينة في كتاب يدرسه الدارسون في معاهد العلم، ليلقى في روع المتلقي أن الذي بين يديه «علم» لا شبهة فيه. وتغيب التفرقة بين ما هو علم صحيح، وبين ما هو تاريخ يروي لنا أقوالا وردت في كتاب أخرجه ذات يوم مجتهد له علينا فضل اجتهاده، دون أن يكون علينا وجوب الحكم بصوابه.
وهنا أريد الوقوف، مع القارئ لحظة يسيرة، أذكره فيها بالخطوات التي خطوناها فيما قدمناه، حتى لا تفلت منه معالم الطريق؛ فقد كان السؤال الذي طرحناه باحثين له عن جواب، هو عن أسس الاختلاف الذي نشعر بوجوده بين وجهة النظر العربية من جهة، ووجهة النظر في ثقافة الغرب من جهة أخرى، وذلك في مجال «الأخلاق»، فأين تكمن مواضع ذلك الاختلاف؟ وذكرت للقارئ أن أحدنا - نحن الأصدقاء الثلاثة الذين أداروا فيما بينهم هذا السؤال - أقول إن أحدنا وقد عرف بسرعة الرجوع إلى «اللغة» للاهتداء بمعاني مفرداتها في الموضوع الذي يحدث له أن يكون مجالا للبحث، وكثيرا جدا ما وجد أن تعقب تلك المفردات اللغوية إلى جذور معانيها يكشف عما يمكن أن يفسر المشكلة المطروحة، فاقترح على زميليه أن ينصب التحليل والمقارنة على ما يطلق عليه العربي اسم «المثال» (بمعنى المثل الأعلى) في مقابل ما يطلق عليه ربيب ثقافة الغرب اسم «أيديال»؛ فمجرد المقارنة بين أصول هاتين الكلمتين سيلقي الضوء ما يهدي؛ ف «المثال» عند العربي يشير إلى شيء واقعي يتصف بدرجة من الكمال أعلى مما نجده في الأمثلة الفردية التي تقع مع ذلك المثال في نوع واحد، والمادة اللغوية في «مثل» وكل ما يشتق منها، تشير إلى ما هو مجسد من الأشياء التي تقع بالفعل في دنيا الأحداث، وأما كلمة «أيديال» فمأخوذة من أصل معناه «فكرة». إذن فبينما يجعل العربي مرجعه في الحكم الخلقي على «نموذج» من نماذج الواقع الفعلي، يجعل ابن الغرب مرجعه فكرة مجردة قوامها جملة مبادئ نظرية. واستدللنا من هذا الفارق بينهما في مرجع الحكم، أن العربي أكثر تقيدا من زميله. على ألا ننسى أن العربي كزميله يؤمن بالصورة العقلية المؤلفة من مبادئ الكمال المطلق، لكنه يضيف إليها تلك النماذج من صور الحياة البشرية كما تقع. وأبدينا للقارئ ما نشعر به إزاء تلك النماذج الموضوعة، إذا لم تكن ملزمة بحكم ورودها في أصول العقيدة الدينية؛ أي عندما تكون صياغة بشرية، فعندئذ رأينا أنها قد تضيف قيودا على حرية الفرد في صياغة سلوكه بنفسه ليكون مسئولا، وأنها قد يتقادم عليها العهد فتكتسب في نفوس الناس قوة ملزمة دون أن يكون ذلك من حقها.
ثم نمضي - بعد هذه المراجعة - فنستأنف السير في حديثنا، فنقول: إن المخاطر التي تنجم للعربي في حياته، عما قد تقرر له بأنه «مثل عليا» دون أن يكون لتلك المثل العليا حق الإلزام، لكونها كانت في أصل نشأتها من صنع أفراد من رجال الفكر يتعرضون للخطأ كما يتعرضون للصواب، إنما هي مخاطر بعيدة الأثر، حتى لقد تنتهي بنا إلى شلل في جرأة التفكير وخفة الحركة، فيمضي موكب الحضارة قدما ونحن وقوف مسمرة أقدمنا إلى الأرض، مغلولة عقولنا إلى «مثل عليا» لا هي «مثل» ولا هي «عليا».
অজানা পৃষ্ঠা