ج:
عنيت هذا وعنيت ذاك من المعاني. وعاد الشاب إلى بيته وهو يسمع دقات قلبه في صدره لأنه خلق لحياة هادئة ولم يكن من هدوء الحياة ما تعرض له، ذلك اليوم، وكان سؤاله لنفسه شبيها بسؤال هاملت: أتريدها حياة أم تريدها ضربا من الموت؟ لا، لا بل أريدها حياة، إذن فلأحمل تبعات الحياة، المسئولة، وسوف أمضي.
وذلك هو عصرنا في أضداده التي بشر بها؛ إذ أعطى الإنسان الفرد بيمينه حق الحرية المسئولة، ثم أسرع فمحاها حين نادى بوجوب المشاركة المتساوية برغم ما قد فرق الله سبحانه وتعالى بين عباده فجعلهم درجات ؛ في قوة العضل وفي قدرة العقل وفي الهدى، وفي كل جانب من جوانب حياتهم.
ويقترن بهذا التضاد بين حق الإنسان فردا وحقه عضوا في جماعة تضاد آخر على نطاق أوسع، وهو أن نادى بضرورة استقلالية الشعوب من قبضة مستعمريها ونادى إلى جانب ذلك بضرورة اجتماع الشعوب في هيئة دولية تكون لتلك الشعوب وسيطا للمحاورة والمشاورة فيما قد يعترضها من مشكلات. إلى هنا والكلام معقول لا ينبئ بالتناقض، إلا أن هذا التناقض سرعان ما يظهر في صورتين؛ الأولى هي أن وفود الدول الأعضاء إذ هي في طريقها إلى مجمع الصفاء والإخاء والمحاورة والمشاورة، إنما تحمل في حقائبها روحا قومية متزمتة متعصبة، تعتزم أن تقول ما عندها، وألا تنصت إلى ما يقوله الآخرون، وتنتهي الجلسات ولا إخاء ولا صفاء ولا محاورة ولا مشاورة. وأما الصورة الثانية فهي أقسى وأبشع، وخلاصتها أن خمس دول كبرى قد خصت نفسها بحق، هو أن ترفض أي قرار تصل إليه سائر الدول، ولا تراه في صالحها، على أن رفضها هذا لا ينصب عليها وحدها، بل هو كاف لهدم القرار من أساسه بالنسبة إلى الجميع، وما معنى هذا؟ معناه أن تلك الدول الكبرى الخمس بمثابة من يقول لعشرات الدول الأخرى: نحن أيها السادة إخوة متساوون، إلا أننا نحن الدول الكبرى سادة وحدنا ما نفعنا يقوم وما ليس ينفعنا ينهدم، ولعنة الله على من يجرؤ فيدعي بأن التناقض أمر تأباه فطرة العقول - وهذا هو عصرنا.
هذه - إذن - واحدة. وأما الأخرى فهي عن فكرة «العدالة» مقرونة بالمساواة، وهي - كحق الحرية للأفراد وللشعوب - من أهم الحقوق الإنسانية التي ركز عليها «إعلان حقوق الإنسان» الذي صدر عن هيئة الأمم المتحدة في باريس في ديسمبر سنة 1948م، أي إنها حقوق يريد لها عصرنا أن تتحقق، لكن ما أبعد المسافة بين الأمنية وتطبيقها! نعم إنها لمن حسنات عصرنا أن نجد ضميره الاجتماعي العام أشد يقظة مما عرفه الإنسان في القرون الماضية، بدليل أنه قد أصبح مألوفا لنا أن نجد هيئات تسهم عن طواعية في الدفاع عن حقوق الإنسان في غير أوطانها، كما هي الحال - مثلا - في مؤسسة العفو الدولية - ومقرها في إنجلترا - تتعقب بدقة في كل أقطار العالم حالات الاعتداء على تلك الحقوق من قبل الحكومات لتعلن عنها بكل وسائل الإعلان ردعا للمعتدي. كما أصبح مألوفا لنا أن نجد حركات تعاونية تنشط تلقائيا في أي مكان من العالم لتعمل على إعانة الشعوب المنكوبة في وجه من وجوه حياتها، كما قد حدث في أقطار كثيرة لمعونة الشعوب الأفريقية إزاء ما أصابها من جفاف، وما حدث كذلك من جهود دولية لمساعدة السودان عندما نكب بالسيول وفيضان النيل في صيف 1988م.
كل ذلك محسوب للعصر الراهن، لكنه لا ينفي صورا من الظلم الظالم الذي يلحق شعوبا أو فئات مظلومة ولا يتحرك لها ضمير؛ فالإرهاب تقترفه دولة معززة عند حماة العصر وهداته غير الإرهاب تؤديه جماعة ليس لها نصيب من الرضى عند هؤلاء الحماة الهداة. حدث لهذا الكاتب أن ذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال العام الجامعي 1953-1954م، أستاذا زائرا بناء على اتفاقية عقدت عامئذ بين أمريكا ومصر لتبادل الأساتذة، فكان نصيبه أن يقع الاختيار عليه، وهناك عينت له خلال الفصل الدراسي الأول، جامعة من جامعات الجنوب، حيث التفرقة العنصرية كانت على أشدها. لقد كان يعلم قبل سفره كثيرا من تلك التفرقة بين البيض والسود (أو «الزنوج» كما وجدتهم يقولون) لكن محال على خيال أن يتخيل ماذا تعني تلك التفرقة في الواقع العملي حتى يراه بعينه. وتصادف أن قرأ صاحبنا في صحيفة يومية تصدر في البلد الذي كان يقضي فيه النصف الأول من مهمته خبرا يروي عن محاكمة مواطن أبيض قتل مواطنا أسود في حانة، ولنلحظ هنا أنه بينما يسمح للبيض أن يرتادوا أماكن السود فإنه لا يسمح للسود أن يرتادوا أماكن البيض. وجاء في الخبر المنشور في الصحيفة عن محاكمة القاتل الأبيض، نص العبارة التي نطق بها القاضي بحكمه، وفيه يقول مخاطبا المتهم ما معناه: لقد قضت المحكمة بسجنك سنتين، لا لأنك قتلت رجلا أسود؛ بل لأنك سمحت لنفسك أن تخالط السود، فوصلت بذلك جنسين أراد لهما الله أن ينفصلا . قرأ صاحبنا هذه العبارة فنقلها نقلا حرفيا في مذكراته لأنه كان يعد مادة لكتاب يصدره عن أيامه في أمريكا خلال زيارته الأولى. ولم يمض بعد ذلك يومان، حتى اجتمع صاحبنا مع مدير الجامعة في حفل عشاء وجلس معه على المائدة وفي سمر تبادلاه، سأل مدير الجامعة الضيف المصري قائلا: بماذا انطبعت نفسك عن بلادنا؟ فأجاب الأستاذ إجابة تعمد أن يورد فيها دهشته لحكم المحكمة في قضية الأبيض قاتل الأسود؛ ففضلا عن غرابة أن يحكم على جريمة قتل متعمد بالسجن سنتين، فقد كان الأغرب هو حيثيات الحكم. وهنا أطرق مدير الجامعة لحظة، ثم قال: لقد عوقب القاضي الذي أصدر هذا الحكم - وأود أن أذكر القارئ بأن ذلك كان منذ خمسة وثلاثين عاما (ونحن الآن في سنة 1988م) ولا أدري إلى أي حد قد تغيرت الصورة بالنسبة إلى التفرقة العنصرية في أمريكا.
وما دام الحديث قد انتهى بنا إلى التفرقة العنصرية فلا يجد هذا الكاتب بدا من ذكر الموقف في جنوب أفريقيا بين الأقلية البيضاء الحاكمة والأكثرية السوداء صاحبة الحق الأول في أرضها. وليس من القراء من لا يعلم حقيقة ما يجري هناك من تفرقة عنصرية بين اللونين، وشيء كهذا يراود خيال اليهود في إسرائيل بالنسبة إلى عرب الأرض المحتلة؛ فلقد ظلم اليهود على أيدي النازية في ألمانيا الهتلرية، وليس في العالم كله منصف لم يغضب لهذا الظلم، فهل يعقل أن ينتقم اليهودي المظلوم في حكم النازي لنفسه من الفلسطيني في بلده؟ وكان حماة العصر وهداته من أنصار العدالة والمساواة قد ضجوا وحق لهم أن يضجوا للوحشية النازية، وما زالوا حتى هذه الساعة يتسابقون إلى العمل على مواساة اليهود فيما نكبوا به وهو واجب يشكرون على أدائه، ولكن انظر إليهم وقد دارت الدوائر نفسها على عرب فلسطين وعلى أيدي من؟ على أيدي من ذاقوا مثل هذا العذاب، فماذا صنع حماة العدالة والحرية والحق في عصرنا؟ صموا آذانهم وأغمضوا أعينهم ، واكتفوا بعبارات مكسوة بميوعة الدبلوماسية التي تتكلم ولا تقول شيئا؛ فهذا هو تعريف الدبلوماسي الماهر - كما يقال - ومثل هذا الكيل بكيلين ومعالجة الأمور الخطيرة بوجهين هو من ملامح عصرنا.
ومع ذلك فهذا هو العصر الذي أنصف الملايين بعد عصور من الظلم والإهمال؛ ففيه قامت حركات اجتماعية إصلاحية على صورة فريدة في التاريخ كله؛ إذ هي حركات تجاوزت الحواجز الإقليمية والقومية ليجتمع بها الشبيه بشبيهه في رابطة متآزرة يشد بعضها أزر بعض في المطالبة بحقهم الضائع؛ فالعامل مع العامل مهما تباعدت بينهما المسافات واختلفت الأوطان، والمرأة مع المرأة والأديب مع الأديب، والرياضي مع الرياضي. وهكذا وبهذا التضامن المهني والحرفي عبر الحدود أمكن للأبصار أن ترى وللآذان أن تسمع حتى كسبت كل جماعة بعض حقوقها المشروعة؛ فالعمال في شتى أرجاء العالم قد انتقلوا من دائرة المحال إلى دائرة الممكن، أعني أنه بعد أن كان الرأي على امتداد التاريخ هو ألا يكون للعامل نصيب في الحكم والإدارة، أصبح ذلك ممكنا ومشروعا، بل أصبح واجبا مفروضا في كثير من الأحيان. والمرأة أضافت إلى حقوقها في البيت والأسرة حقوقا لم يكن معترفا بها، من حيث هي مواطنة تشارك بما تستطيع قدراتها ومواهبها أن تشارك به في شئون بلادها بجميع ميادينها. وهكذا قل في سائر الجماعات التي يرتبط أفرادها بما هو مشترك بينهم من مهنة أو عقيدة. على أن هنالك جماعتين لم يكونا موضع عناية في الضمير الجماعي العام، مع حقهما الصارخ في تلك العناية، إلا أنهما لم تكونا تنطقان لاستحالة النطق على إحداهما ولعجز في الصحة عند الثانية، فأما الأولى فهي «الأطفال» أينما كانوا، وأما الثانية فهي «الشيوخ»؛ فلكل من الجماعتين ضرورة ملحة في رعاية القادرين، لكنها ضرورة لم يكن يلتفت إليها أحد بالقدر الكافي على الصعيد الرسمي. وكان الفضل لعصرنا هذا أن جذب الانتباه إلى الجماعتين حتى أصبحتا اليوم موضع أرق في الضمائر.
وكذلك كان لعصرنا هذا فضل «التعاون» بين الشعوب على نحو لم تعرفه الإنسانية من قبل وذلك في أمور الثقافات المتنوعة في الشعوب المختلفة، كيف تضمن كل ثقافة منها أن تنمو على أسسها الخاصة مع إمكان تفاعلها مع سائر الثقافات، وهذه مهمة يضطلع بها في عصرنا مؤسسة اليونسكو التي هي جناح من أجنحة الأمم المتحدة. وهنالك أجنحة أخرى لكل منها شأن تختص برعايته على مدار العالم بغير تفرقة بين شعوبه؛ فكل الدول تساهم بنصيب في التمويل، على أن يكون الاتفاق مرهونا بالحاجة إليه في أي موضع نشأت تلك الحاجة. ومن هذا القبيل منظمة الصحة ومنظمة الزراعة ومنظمة العمل وهكذا.
لكن روح الإخاء التي أنشأت في عصرنا هذا التعاون بين مختلف الشعوب والاعتراف بحقوق الإنسان اعترافا أزاح نير العبودية والتبعية والخضوع، فتحررت «الألوان» البشرية بعد أن كانت السيادة للون واحد هو اللون الأبيض، ولذلك كتبت له السيادة في الحكم ولثقافته السيادة على سائر الثقافات، أقول: إن هذه الروح من الإخاء والحرية مع كل ما أثمرته في عصرنا من طيب الثمرات، لم تمنع أن يكمن وراءها روح مضادة ربما كانت أشد وأفعل أثرا، وهي روح العصبية العرقية والثقافية، وتظهر للناس في صورة التكتلات السياسية التي يتحصن بها كل فريق ضد غيره. وفي هذا المناخ المشحون بالحذر والتأهب اشتدت الحاجة إلى ترسيخ «الانتماء» ليكون كل فرد على وعي بمن هو أحق بمساندته في الشدائد. وإنه لمن عجب أن تكون هذه هي صورة العالم العصري وظروفه، كل يبحث عن مأمنه ليلوذ به إذا وقعت واقعة، والأمة العربية التي حباها الله بكل ما تحتاج إليه أمة من عوامل الوحدة ما زالت تتلفت حولها تتساءل إلى أي قطب ينتمي أبناؤها، وكأنما التاريخ لا يصرخ بأن هذا الوطن الممتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي يرتبط بثقافة واحدة في العقيدة والفن والأدب والتقاليد برغم التفاوت بين أجزائه في البعد التاريخي؛ فقد يضرب جزء منه في عمق التاريخ حتى يبلغ مطالع الضوء عند بزوغ فجره، وقد تتفاوت سائر الأجزاء بعد ذلك حداثة على صفحات التاريخ، لكن الشجرة الثقافية واحدة وطرحها ذو مذاق متشابه متقارب.
অজানা পৃষ্ঠা