ولكن السؤال الذي يطرح نفسه عند هذه النقطة هو: هل تجهل أمريكا هذه الحقائق؟ هل هي بلد مثالي توجد لديه كل النوايا الطيبة إزاء الآخرين، ولكن سوء حظه هو الذي يجعله فاشلا دائما مع الآخرين؟ إن المسألة، بالطبع، أبعد ما تكون عن ذلك؛ فأمريكا تعلم تمام العلم أن نظامها لا يصلح إلا لها، وأنه في حالة البلاد الفقيرة بالذات يؤدي إلى الفشل التام. ولكنها، ببساطة، لا تكترث بما يحدث للآخرين.
إنها تسلك بطريقة برجماتية (وهي كلمة تعبر عن الاتجاه الفلسفي المسيطر على الفكر والسلوك الأمريكيين، وتعني ببساطة: البحث عن النجاح العملي، بغض النظر عن المبادئ ذاتها) فقد كانت، في إيران مثلا، ترى الفقر المدقع والظلم الفادح والثراء الفاحش جنبا إلى جنب، ولكنها لم تهتم، وإنما ركزت جهودها على التحالف مع الحاكم ومع طبقة المنتفعين المحيطة به، وشجعته على التمادي في استبداده وتجاهل مطالب شعبه، بل هي التي علمت زبانيته كيف يتقنون فنون التجسس والتعذيب وانتزاع الاعترافات ... إلخ، وما دام الحاكم قادرا على أن يحكم قبضته على شعبه بيد من حديد ويقوده رغما عنه إلى طريق يحقق مصالحها هي، فلا يهم على الإطلاق ماذا يحدث لهذا الشعب.
ولكن عبرة التاريخ البليغة تثبت لنا أن الانقياد للنموذج الأمريكي يقود الحكام أنفسهم، لا شعوبهم المغلوبة على أمرها فحسب إلى الهاوية. فكيف ينظر المسئولون الأمريكيون إلى كارثة الشاه بعد حدوثها؟ إنهم نادمون لأنهم لم يتنبهوا إلى قوة المعارضة، ولم يتداركوها في الوقت المناسب، ولم يساعدوا الحاكم الطاغية على التخلص منها. ولكنا لم نسمع اعتراضا من مسئول أمريكي واحد على السياسة التي يتبعها الشاه، ولم نلمس لدى أحد منهم ندما على أنهم تركوه يطغى ويستبد ويستبيح أموال شعبه دون أن يقدموا إليه نصيحة تخفف من غلوائه. ومعنى ذلك أن الحاكم، حتى حين يعادي شعبه في سبيل المصالح الأمريكية، لا يجد من أمريكا مساعدة إلا على التمادي في الطغيان، ولا يلقى منها أي توجيه يرده إلى صوابه أو يقلل من إمعانه في الظلم. وبالاختصار فإن أمريكا تجر أصدقاءها حتما إلى الهاوية. وهذه - كما أدرك بعد فوات الأوان حكام تهاوت تيجانهم في الآونة الأخيرة - عبرة لمن يعتبر.
أعود، في نهاية هذه الدراسة، فأقول إن المسألة ليست على الإطلاق مسألة أخلاقية؛ فليست أمريكا، في عالمنا المعاصر، هي الفتى القوي الشرير، الذي يجر أصدقاءه معه إلى هاوية الفساد، وإنما الموضوع في أساسه موضوع نظام لا يملك إلا أن يسير في هذا الطريق؛ لأنه هكذا بدأ، وهكذا نما وتوسع، وهكذا يتحتم عليه أن يسير.
إن أمريكا، بحكم تكوينها ومصالحها الحيوية، لا تستطيع إلا أن تكون كذلك. أما نحن فما زالت أمامنا فرصة للاختيار، وليس هناك على الإطلاق ما يرغمنا على أن نختار طريقا ثبت لنا أنه لن ينفع بلادنا الغنية ولا الفقيرة، ولن يوجه من ينقاد له إلا إلى طريق الهاوية.
অজানা পৃষ্ঠা