ومن الطبيعي، في هذه الحالة، أن يكون هناك ارتباط وثيق بين الأيديولوجيا - مفهومة بهذا المعنى - وبين قضية التنمية؛ فالتنمية ليست مجرد «نمو»، كما قد يوحي أصل اللفظ ذاته، وإنما هي مسيرة شاملة تسترشد في سعيها إلى التقدم بأفكار رئيسية توجهها، ومن واجب كل من يتصدى لعملية التنمية في مجتمعه أن يجيب عن أسئلة أساسية مثل: لمصلحة من تتم هذه التنمية؟ وهل تكون التنمية اقتصادية فحسب، أم تشمل المجال الاجتماعي والثقافي بدوره؟ وما نوع المجتمع الذي نريد أن نحققه عن طريق هذه التنمية؟ ولو أمعن المرء التفكير في هذه الأسئلة، لوجدها كلها أسئلة أيديولوجية، أي أسئلة تتعلق بمجموعة الأفكار التي يرسم بها المجتمع طريقه في الحياة. ومن هنا كانت التنمية التي تقوم على أساس رأسمالي، مثلا، مختلفة كل الاختلاف عن تلك التي تهدف إلى إقامة مجتمع اشتراكي؛ لأن الاختيار الأيديولوجي الذي ترتكز عليه التنمية مختلف في الحالتين. •••
على أساس هذه المقدمة الواضحة، نود أن نعالج الآن آخر الموضوعات التي سنعرض لها في هذه الدراسة، وهو في الوقت نفسه ربما كان أهم موضوعاتها جميعا؛ فالنموذج الأمريكي مطروح اليوم، بقوة وإلحاح، على العالم العربي بوصفه نموذجا مثاليا للتنمية، وأنصار هذا النموذج يؤمنون بالأيديولوجية الأمريكية، ويعتقدون أن الأسس التي ترتكز عليها تصلح للانطباق على المجتمعات العربية، بل إنها هي التي تحمل في طياتها إمكانات حل المشكلات المزمنة التي تعاني منها مجتمعاتنا. فما مدى صحة هذا الاعتقاد؟
في معالجتنا لهذا الموضوع الحيوي، لا بد أن ننظر إليه من زاويتين مختلفتين، هما زاويتا البلاد العربية الغنية والفقيرة، لأن مشكلات التنمية في كل منهما تختلف في نواح كثيرة. (1) الدول الغنية
هناك أسباب كثيرة تجعل الدول الغنية أكثر من غيرها تعرضا لإغراء النموذج الأمريكي في التنمية، وأكثر من غيرها ميلا إلى اختيار الأيديولوجيات الأمريكية. ولعل في واقع الثراء ذاته، وارتفاع مستوى الدخل القومي والفردي، ما يفسر هذه الظاهرة إلى حد بعيد. فالأيديولوجيات التي تسير أمريكا وفقا لها تفتح الباب على مصراعيه أمام فرص الإثراء، ولا تضع حدودا لما يمكن أن يملكه الفرد، على حين أن الأيديولوجية المضادة التي تحاربها أمريكا تحد من فرص الامتلاك وتضع مصالح المجتمع كضوابط وحدود لما يمكن أن يحرزه الفرد من ثروات.
ومع ذلك فإن من واجبنا أن ننفذ بنظرتنا إلى ما وراء السطح الخارجي للظواهر، وأن نتساءل: هل يصلح نمط التنمية الذي تشجعه أمريكا للانطباق على البلاد العربية الغنية، وهل يؤدي هذا النمط إلى خدمة المصالح الحقيقية لشعوب هذه البلاد؟
لكي نجيب عن هذا السؤال لا بد لنا من الإشارة إلى ثلاث حقائق أساسية:
الأولى:
هي أن ثروة البلاد العربية، في وضعها الحالي، توظف - فيما يتعلق بفوائضها ومدخراتها على الأقل - من أجل خدمة الاقتصاد الغربي، وعلى رأسه الاقتصاد الأمريكي. وعلى الرغم من كل الروابط المتينة، سياسيا واقتصاديا وتعليميا وثقافيا ... إلخ، بين الدول العربية البترولية وبين أمريكا، فإن هذه الأخيرة لم تسهم في وضع أي برنامج يساعد الدول الغنية على الانتفاع من أموالها في إرساء دعائم اقتصاد داخلي متين، معتمد على ذاته، قادر على مواجهة الظروف التي ستجد عندما تنضب موارد البترول.
هذه حقيقة مألوفة، نقرأ عنها في صحفنا كل يوم، ولكنها تظل - بالرغم من ذلك - شيئا يدعو إلى التأمل العميق؛ فكيف تكون هناك كل تلك الروابط الوثيقة بين البلاد العربية البترولية وبين أمريكا، دون أن تحاول هذه الأخيرة مساعدة الأولى في الإفادة من إمكاناتها الاقتصادية الهائلة؟ أي نوع من النموذج أو من المثل الذي تضربه تلك الدول الكبرى في علاقتها بدول صغيرة تحتاج إلى الإفادة من تجارب الآخرين كيما تشق لنفسها طريقا مستقلا؟ أليس ذلك هو نموذج الاستغلال فحسب - أعني الاستغلال الذي يخدم مصالح الطرف القوي ولا يكترث بالمطالب الحيوية البعيدة الأمد للطرف الضعيف؟ ولماذا لا تساعد أمريكا الدول العربية البترولية على وضع برنامج للتنمية توظف فيه معظم فوائضها المالية في الداخل بدلا من أن تودعها في بنوك غربية وأمريكية لخدمة اقتصاد هو أصلا قوي معتمد على ذاته؟ أليس هذا دليلا على التعارض بين النموذج الأمريكي وبين أبسط متطلبات المستقبل لدى الدول العربية الغنية؟
والحقيقة الثانية:
অজানা পৃষ্ঠা