وأصلنا مع ذلك من الحيوان، ولنا غرائزه التي تعمل بعواطف نضبطها بالعقل وأحيانا لا نضبطها، وامتيازنا على جميع الحيوانات هو الدماغ الكبير الذي يستطيع ضبط عواطفنا أكثر مما يستطيعه الحيوان، وليس معنى هذا أنه ليس للحيوان الباقي دماغ، إنما معناه أن دماغنا أكبر وأضخم يتسع للتفكير الذي لا يصل إليه أرقى الحيوانات دوننا.
ويمكن أن نقول على وجه الإجمال: إن أحط الحيوان كالإسفنج أو المحار يقتصر نشاطه العصبي على الرجع الانعكاسي، كما يحدث لأحدنا عندما تطرف عينه؛ فإذا ارتقى الحيوان على ذلك أصبح نشاطه عاطفيا؛ يغضب فيقاتل، أو يخاف فيفر، كما نرى في السمك؛ فإذا ارتقى على ذلك صار للعقل قوة الضبط - قليلا أو كثيرا - لهذه العواطف، وهذا الضبط على أكثره في الإنسان.
وضبط العاطفة يعود إلى الوجدان؛ أي إلى تلك الوقفة أو الحالة التي لا نستسلم فيها لعاطفة الغضب مثلا، فلا نندفع إلى ضرب الخصم؛ بل نقف ونتأمل، وندري أننا نقف ونتأمل، ونفكر في الخطة المثلى التي يقتضيها الظرف؛ أي وجدان يؤدي إلى التفكير الذكي، بل هو التفكير الذكي.
وكثير من نشاطنا العصبي رجع انعكاسي؛ كما نرى في طرفة العين عند لقاء النور الساطع وتحرك اللعاب عند رؤية الطعام، وكثير منه رجع عاطفي؛ كما نرى في الغضب والحزن والاشمئزاز والفرح. وأساس العاطفة مع ذلك هو الرجع الانعكاسي، والقليل من نشاطنا العصبي وجداني حين نحاول حل مشكلة فنزن الاعتبارات المختلفة، وقد نصل إلى قرار ضد عواطفنا، كالشاب يحس عاطفة قوية نحو الفتاة ثم يفكر في الزواج بها، ولكنه ينتهي إلى الإحجام لاعتبارات اجتماعية أو اقتصادية.
نحن نمتاز على الحيوان بضخامة المخ ووفرة أخاديده وزيادة الوجدان؛ أي: زيادة التفكير.
وبالطبع هناك اعتبارات أخرى كثيرة جعلت الإنسان يمتاز بالرقي العقلي على الحيوان قبل ضخامة المخ وكثرة أخاديده؛ منها مثلا: أننا اعتمدنا على النظر دون الشم في التعرف إلى الأشياء والحيوان والنبات، وتفكيرنا - أو بالأحرى وجداننا - هو وجدان الرؤية، حتى إننا نقول: «يرى رأيا» كما لو كنا نقول: «يفكر تفكيرا»؛ فنحن نعرف الدنيا بالعين، في حين أن معظم الحيوانات يعرفها بالأنف؛ أي: الشم.
والرؤية تجعلنا نفهم الدنيا - إلى حد ما - فهما موضوعيا منفصلا من عواطفنا، أما الشم فيجعل الفهم - إلى حد كبير - ذاتيا؛ فالدنيا عند الكلب، هي مجموعة من الانعكاسات العصبية في فمه وأنفه، أما العين عندنا فترسم لنا خارطة تكاد تكون صحيحة للدنيا، ولكن الأنف والفم لا يرسمان خارطة صحيحة للكلب؛ ومن هنا كلماتنا في معاني التفكير: الرأي، النظر، التطلع، الاستطلاع، الرؤية، الرؤيا، الروية، التبصر، التشوف؛ فإنها كلها كلمات تدل على تفكير العين.
ونستطيع أن نزيد في المقارنة بيننا وبين الحيوان، فنقول: إن تعقل الحيوان - مثلا - حسي، وتعقلنا تصوري؛ هو يحس ويسلك بمقتضى إحساسه فقط، ونحن نحس ونسلك بمقتضى تصورنا وتخيلنا. وهذا أيضا كلام مجمل؛ لأن كثيرا من الحيوانات العليا تتصور وتتخيل، وإن لم تبلغ درجتنا.
واللغة عندنا تجعل كثيرا من التعقل تخيليا تصوريا. والحيوان محروم من اللغة، فلا يجد ما نجد من رسم الصور في أذهاننا والتفاهم بالكلمات عن الأشياء حين تنتقل الصور، وتتغير الأخيلة في أذهاننا بالحديث.
ولننظر نظرة أخرى، هي النظرة التطورية:
অজানা পৃষ্ঠা