26
ولما ترجم الغربيون إلى اللاتينية كتاب الشفاء لابن سينا، في أواخر القرن الثاني عشر، وشروح ابن رشد على كتب أرسطو، في أوائل القرن التالي، واطلع فيها اللاهوتيون على منطوق المسألة ومختلف الآراء، راقتهم نظرية ابن سينا واتخذوها أصلا يبنون عليه ويفرعون منه، مع تفاوت في التعمق والإحكام. فكان القديس توما الإكويني أبعدهم غورا وأسدهم رأيا كما كان شأنه في سائر المسائل، رأى في قسمة الموجود إلى واجب وممكن رجوعا إلى التعريف الوارد في التوراة، وبيانا للفارق الأول الحاسم بين الله والمخلوقات؛ لقيام هذا الفارق على أول المعاني وأشملها، وهو معنى الوجود، الله هو العلية الأولى، والعلة الأولى موجودة بذاتها ضرورة، فلا تغاير في الله بين ماهية ووجود، بينما المخلوقات ممكنات فقط، ليس الوجود متضمنا في ماهياتها، وإذا أضيف إليها فالإضافة خارجة عن الماهية لا ذاتية لها. وآية إمكانها بادية فيها: فإنها متغيرة قابلة للأعراض، والتغير انتقال من القوة إلى الفعل، وما يخالطه شيء بالقوة فليس يوجد بذاته؛ لأن الموجود بذاته حاصل على كل وجوده فلا يتغير، ولو كان وجودها من ماهياتها لوجدت دائما وعلى حال واحدة كالماهية. وقبل الأعراض لازم من التغير، ونسبة القابل إلى المقبول كنسبة القوة إلى العقل.
وعلى ذلك يقر الإكويني ابن سينا على إثبات التمايز الحقيقي بين الماهية والوجود في المخلوق، ويجد أنه كان قليل التوفيق في جعله الوجود عرضا للماهية، وفي تصوره الإمكان كأنه قوة فعلية كأولئك الفريق من المتكلمين. فيقر ابن رشد على نقيض هاتين الدعوتين، ويلاحظ أن الإمكان لا يعتبر وسطا بين العقل والقوة، وإنما هو قابلية صرف للوجود، ووجوده متعلق بالإرادة الإلهية. وقد يجوز القول بمعنى واسع إن الوجود عرض للماهية من حيث إنه غير داخل في حدها، إلا أن إضافة الوجود إلى الماهية تختلف عن إضافة العرض إلى الجوهر: العرض وجه معين للجوهر، بينما الوجود تحقيق الجوهر ماهيته وملابساتها، وفي الموجود المتحقق بالفعل، ليس الوجود والماهية شيئين تامين متجاورين؛ إذ ليست الماهية موجودة دون الوجود، وليس الوجود شيئا ما دون الماهية، وإنما الوجود فعلية الماهية، أي كونها بالفعل. فنسبة الوجود إلى الماهية نسبة فعل إلى قوة، فاجتماعهما في المخلوق اتحاد تام يجعل منه كائنا ذا وحدة تامة من حيث إن كلا منهما ضروري للآخر متمم له. وهذا تطبيق لنظرية الفعل والقوة بين أهميتها الجلية.
ذلك رأي القديس توما الإكويني في المسألة، فيه شيء من أوائل المفكرين المسيحيين، وشيء من ابن سينا، وشيء منه هو. إن فكرة الخلق هي التي أثارتها ووجهت إلى هذا الحل. لذا لم تخطر للفلاسفة القدماء، أو لم تخطر إلا للذين منهم اعتقدوا بالحدوث في الموجودات وبالقدر الذي تصوروه منه فيها، كما رأينا أفلاطون يتبع الآلهة والماديات لصنع الإله الصانع من مادة موجودة بدونه. ولذا لا يثيرها أصحاب وحدة الوجود إلا قالوا: إن تمايز الوجود والماهية هو في الذهن فقط، من حيث إنهم لا يميزون بين خالق ومخلوق إلا تمييزا ذهنيا، وإنهم يؤلهون الوجود أجمع فيمحون الحدوث ويحلون الوجوب في كل ماهية. ولذا أيضا لا يثيرها أصحاب المذهب الحسي أو الاسمي، من حيث إن التمييز الحقيق بين الماهية والوجود أعمق من أن يظهر للحواس، ولا ينفذ إليه إلا العقل الذي ينكرونه. فهذه المسألة تطبيق فلسفي لعقيدة الخلق، وبيان لتركيب المخلوق وتبعيته في مقابلة بساطة الخالق واستقلاله. هي إحدى المسائل العقلية التي كان العقل غافلا عنها، فنزل بها الوحي، فعالجها العقل بتطبيق نظرية الفعل والقوة من جهة الوجود، فحصل على تركيب في المخلوق هو أعمق وأسبق كل تركيب، ودخلت المسألة هكذا في عداد المسائل العقلية، واستغنت عن شهادة الوحي في إثارتها وفي تأييدها.
هذا وقد خاض فيها بعض الفلاسفة المعاصرين من الوجوديين الملحدين الماديين، ولكن مع العبث بلفظ الماهية بنقله من معناه المتعارف إلى معنى الشخصية، فخلطوا خلطا غريبا. يقول «جان بور سارتر»: إن الاعتقاد بإله خالق هو الذي يوحي بفكرة الماهية النوعية وفكرة سبقها على الوجود، من حيث إن الخلق تحقيق شيء معلوم أولا. أما الذي لا يؤمن بالله ولا بالماهيات النوعية (مثله هو) فإنه يسلم بهذا السبق للموجودات الخاضعة خضوعا تاما للإنية الطبيعية والتي نجدها معينة في كيانها وأفعالها، ولا يسلم به بالنسبة للإنسان، فإن في الإنسان، وفيه وحده، عدم تعيين يتعين بفعل حريته فيكون الشخصية الخاصة بكل فرد من الأفراد والتي هي ماهيته. وبهذا المعنى يكون الوجود سابقا على الماهية، أي إن الإنسان يوجد ثم يصير جبانا أو جسورا، أمينا أو خائنا، عالما أو جاهلا ... إلى آخر ما يتعين به كل فرد. تلك هي الماهية حتى اطرحنا جانبا الماهية النوعية المشتركة بين كثيرين والمستلزمة عقلا يعلمها وإرادة توجدها، وظاهر أن هذا ليس هو المقصود بمسألتنا الميتافيزيقية. (5) العلة الفاعلية
القسمة السابقة إلى ماهية ووجود تقودنا رأسا إلى قسمة الوجود إلى علة ومعلول: ذلك بأنه متى انقسم الوجود إلى واجب بذاته ووجوده عين ماهيته، وإلى ممكن بذاته مركب من ماهية ووجود مفتقر إلى موجد؛ كان لكل موجود علة وجود إما ذاتية وإما خارجية. والإيجاد أو التحقيق أشهر معنى للعلية، ولكنه ليس المعنى الأوحد، ولا المعنى الأول أو الأعم. فالمعنى الأول والأعم أن العلة أو السبب (والاسمان مترادفان) «ما يلزم عنه شيء ما». وبهذا المعنى الأعم تنقسم العلة إلى منطقية ووجودية.
العلة المنطقية تبدو واضحة في القياس والاستقراء حيث المقدمتان علة النتيجة: متى اجتمعتا في العقل لزمت عنهما النتيجة، أي صدرت عنهما ضرورة، فكانت معلولة لهما تبدو كذلك في ارتباط خصائص الموجود بماهيته وتفسير الماهية للخصائص. مثل مساواة زوايا المثلث القائمتين، فإنها لازمة عن ماهية المثلث، وبهذه الماهية يبرهن عليها؛ ومثل العلم والفن والدين فإنها لازمة عن وجود العقل في الإنسان وتفسر به.
والعلة الوجودية: «كل ما يشارك في إيجاد الشيء إما في ذاته أو في وجوده»، فمن حيث ذاته نطلب تعليله بمادته وصورته، وهذا واضح في الصناعيات؛ إذ إننا نفسرها بالمادة المركبة منها، مع الخواص الطبيعية لهذه المادة، وبالصورة أي بهيئة أجزاء المادة، وتركيبها بعضها مع بعض، وتفاعلها بفضل هيئتها وتركيبها. بل هذا واضح نفس الوضوح في الموجودات الطبيعية المركبة، كأجساد الأحياء تفسرها الفسيولوجيا بالمادة والصورة على النحو المتقدم. فالمادة والصورة علتا طبيعة الشيء تجعلانه على ما هو عليه، ومن حيث وجوده نطلب العلة التي حققته، وهذه هي العلة الفاعلية تدل عليها، بقولنا: «كل ما يظهر للوجود فلظهوره علة»، وهذا أدق من قول القائلين: «لكل معلول علة»؛ فإن لفظ «المعلول» يتضمن معنى العلة، وهذا دور منطقي أو مصادرة على المطلوب. ويستقيم القصد إذا عنينا بلفظ «المعلول» ما ليس له بذاته علية ذاته، أي الممكن الذي شأن المعلولية. وأخيرا العلة الفاعلية لا تفعل إلا إذا حملت على الفعل بغاية تحققها، فالغاية علة من حيث إنه لولاها لما فعل الفاعل.
هذه أربعة أنحاء من العلية: تختلف فيما بينها اختلافا كليا، ولو أن كل علة هي علة المعلول بأكمله، ولكن على وجه خاص يستحيل معه أن تقوم إحداها مقام الأخرى، ويتفق في صفة مشتركة تجعل كل واحدة منها علة، وهذه الصفة هي «التأثير»، ولكن على نحو خاص بكل منها: فالعلة الغائية تؤثر في العلة الفاعلية بالجذب أو الإغراء، والعلة الفاعلية تؤثر بالفعل والإيجاد، والعلتان المادية والصورية تكونان الماهية أو الطبيعية. وعلى ذلك فاسم العلة من الأسماء التي تقال بطريق التناسب، أي باتفاق من وجه واختلاف من وجه. ولما كانت المادة والصورة متعلقتين بالماديات، كان محل الكلام عنهما في الفلسفة الطبيعية التي نعرض لها في الكتاب التالي. أما الفاعل والغاية فيمتدان إلى كل موجود، فيرجعان إلى هذا المحل، الذي يضم المعاني المتعلقة بمطلق الوجود، ولقد كان كلاهما هدفا لحملات عنيفة التقت فيها المذاهب والأدلة في العقل وفي الوجود، فالخوض فيهما تلخيص لهذا الكتاب برمته.
هذا المبدأ البديهي الذي نطبقه عفوا وبلا انقطاع، ونبني عليه جميع شئوننا من مادية ومعنوية، قد حمل عليه جمع من الفلاسفة الحسيين والتصوريين، وبذلوا أقصى ما يستطاع بذله من دقة التحليل وبراعة النقاش في سبيل إبطال قيمته وتفسير منشئه. وها نحن أولاء نستعرض حججهم ونرد عليها، وفي هذا الرد نجلو معنى العلية الفاعلية ونوطد الثقة بموضوعيته. الحجة الأولى: تاريخيا ومنطقيا، تلك التي قدمها أناسيداموس، أحد أقطاب قدماء الشكاك، قال: الجسم لا يحدث جسما؛ إذ يستحيل أن يحدث شيء لم يكن موجودا وأن يصير اثنين بعد أن كان واحدا. ولا يحدث اللاجسمي لاجسميا؛ وذلك لنفس السبب، ولسبب آخر هو أن الفعل والانفعال يقتضيان المماسة، واللاجسمي منزه عنها. ولا يحدث الجسم لاجسميا ولا اللاجسمي يحدث جسما؛ لأنهما متغايران، لا الجسم يحتوي طبيعة اللاجسمي، ولا اللاجسمي يحتوي طبيعة الجسم، فالعلية ممتنعة. هذه الحجة ترجع إلى قدماء الطبيعيين وبارمنيدس وبروتاغوراس وسائر الذين لم يميزوا بين الفعل والقوة، فلم يفطنوا إلى إمكان إحداث جسم جسما، وأن يحدث لاجسمي لاجسميا؛ لتكافؤ الطرفين ولإمكان احتواء العلة على المعلول احتواء بالقوة. وإذا سلمنا أن الجسم لا يحدث لاجسميا، فلسنا نسلم أن اللاجسمي لا يحدث جسميا؛ فإن الأعلى إذا لم يحتو على الأدنى بالفعل، فقد يحتوي عليه بالقوة، وقد يحدثه دون حاجة إلى مماسة. وعلى كل حال تكفي كلمة واحدة لاستبعاد هذه الحجة: وهي أنها تنفي التغير من الوجود، والتغير واقع ولا يفسر إلا بالعلية.
অজানা পৃষ্ঠা