ومن الفلاسفة والعلماء من اعتقدوا بموضوعية الامتداد، وما له من مقدار وشكل وحركة وسكون، وأنكروا موضوعية ما نتصور فيه من ألوان وأصوات وروائح وطعوم وحرارة وبرودة، واعتبروها انفعالات ذاتية تحدث بتأثير حواسنا بالأشياء . هكذا ارتأى ديمقريطس واضع المذهب الآلي، وتابعه أبيقور، ثم أساطين الفكر الحديث، أمثال هوبس وجليليو وديكارت ولوك، قائلين إن العلم التجريبي لا يدرك في الأشياء سوى الامتداد والحركة، وإن سائر المدركات الحسية ترجع إلى الحركة وسرعتها واتجاهها. وأذاع لوك تسمية الطائفة الأولى من المدركات الأولية، والطائفة الثانية بالكيفيات الثانوية، وانتشر هذا الرأي حتى صار عاما بين رجال العلم والفلسفة ومن يلف لفهم.
وأول ما نلاحظه على هذا الرأي أن أصحابه بعد أن جعلوا القاعدة الكبرى في المنهج العلمي الاقتصار على ما تسجله الآلات ويقدر بأرقام، وعرفوا أن هذين الشرطين لا يتحققان إلا في الحركة؛ ظنوا أن ما عدا الامتداد والحركة فهو غير موجود. وشتان بين المعنيين؛ فقد يكون موجودا ولا يتناوله العلم لمغايرته لموضوع العلم ووسائله. هذا غلط في الاستدلال لا يغتفر. وثمة غلط لا يقل عن السابق جسامة: نعني قسمة المدركات الحسية إلى أولية موضوعية وثانوية ذاتية، مع أنها جميعا سواء في المحسوسية، وأن الثانوية منها تدرك موضوعية كالأولية. وإذا كانت بعض المحسوسات ذاتية فإن المنطق السليم يقضي بذاتية سائر المحسوسات، أو إذا كانت بعض المحسوسات موضوعية فإن المنطق السليم يقضي بذاتية سائر المحسوسات، أو إذا كانت بعض المحسوسات موضوعية فإن المنطق السليم يقضي بموضوعية سائر المحسوسات. وإذا فكرنا أن الكيفيات الأولية معلومة لنا بالثانوية أيقنا أن لا سبيل إلى تبرير هذه القسمة: فالمقدار والشكل يدركهما اللمس بالصلابة، ويدركهما البصر باللون، وتدرك الحركة والسكون والعدد باللمس أو بالبصر أو بالسمع، كل حاسة بواسطة موضوعها الخاص الذي هو كيفية من الكيفيات الثانوية. فأولى بنا أن نعتقد أن هذه الكيفيات موضوعية، وأنها تصل إلى علمنا بالتأثير الصادر عن الأشياء؛ فإن الحركة إذ تصدر عن الشيء الخارجي تصدر مشبعة بكيفياته ووفقا لها، وإلا فليفسروا لنا اختلاف الحركة اتجاها وسرعة وليس في الامتداد البحت اقتضاء اتجاه معين مطرد وسرعة معينة مطردة. فالواجب وضع الكيفية قبل الحركة لازمة من خصائص الأشياء غير منفكة عنها.
وقد حاول بعض علماء النفس من أشياع التصورية والأولية أن يعللوا الكيفيات؛ لا بتكيف الأشياء، بل بتكيف الأعصاب الحاسة الممتدة من أعضائنا الظاهرة إلى المراكز المخية، بحيث تكون إحساساتنا حالات خاصة بأعصابنا، لا ترجمة عن العالم الخارجي. تجربتان توضحان نظريتهم المعروفة بنظرية «القوة النوعية للأعصاب»: إحداهما أن الموجات الضوئية والصدمة الآلية والتيار الكهربي إذا وقعت على العصب البصري أحدثت إحساسا ضوئيا.
والتجربة الأخرى أن التيار الكهربي إذا سلط على العصب البصري أحدث إحساسا ضوئيا، وعلى العصب السمعي أحدث إحساسا سمعيا، وعلى العصب الذوقي أحدث إحساسا ذوقيا، وعلى البشرة أحدث إحساسا لمسيا. مما يدل على أن كل حس يجاوب مجاوبة واحدة، هي كيفية الخاصة أيا كان التأثير الواقع عليه. والجواب على هذا التدليل أن الذين يحرمون استعمال حاسة أو أكثر منذ ميلادهم أو في طفولتهم الأولى لا يحسون شيئا إذا ما هيج العصب الحسي أو المركز المخي أو وقع على العضو الظاهر تأثير آلي. مما يدل على أن التجارب التي من هذا القبيل لا تتحقق إلا في الحواس المستعملة، فإن التأثير الواقع عليها إذا ما بلغ إلى المركز المخي حيث تحفظ آثار الإحساسات، هاج في كل مركز إحساسا من نوعه. فهذه القوة النوعية مكتسبة وليست أصيلة. ثم إن الحاسة الواحدة تؤدي إلينا محسوسات مختلفة النوع لا ترد إلى محسوس واحد، كاختلاف الألوان فيما بينها واختلاف الطعون واختلاف الروائح، فما هي قوتها النوعية؟ وأخيرا: لم تكون الأعصاب مكيفة ولا تكون الأشياء مكيفة؟ ما الذي يمنع من يقبل الكيف في البعض أن يقبله في الكل؟ اللهم إلا أن يكون هو العناد المذهبي يهون معه التناقض والتهافت.
على أننا لا نقصد بالموضوعية وجود الكيفيات في الأشياء كوجودها في الإحساس، وأن في الشيء الملون «إحساسا» باللون وفي الشيء الحلو «إحساسا» بالحلاوة، كما توهم باركلي. فمن الواضح أن اللون لا يرى إذا لم يكن هناك عين تراه فعلا، وأنه في البصر يختلف عنه في الشيء الخارجي من حيث إن وجوده في الشيء فيزيقي وفي البصر معنوي. وإنما نقصد أن في الشيء كيفية لا تتعلق بإدراكنا، إذا ما أثرت في العضو الحاس أحدثت إدراكا. ولا نقصد أن الحواس تمثل لنا الكيفيات دائما كما هي؛ فإن الحاسة مركبة من قوة مدركة وعضو قابل للتأثير الخارجي، فلها من جانب مادة العضو كيفيات خاصة تمنع من قبولها الكيفيات الخارجية قبولا خالصا. يضاف إلى ذلك أن بين الشيء والحاسة وسطا، وهذا ظاهر للعيان في البصر والسمع والشم، وثابت للذوق واللمس؛ فإنه هو اللحم تحت الجلد لأن عضويهما ليسا على سطح الجسم بل في الداخل. وللوسط كيفياته وتغيراته تتأثر بها الحواس، فإذا اعتبرنا هذين الوجهين، وهما: مادة العضو الحاس ومادة الوسط، وذكرنا أن المحسوسات المدركة مباشرة هي الوصلة إلى أطراف أعصاب الحواس خلال الوسط؛ أدركنا أن الإحساس نسبي إلى حد ليس بالقليل: فعضو الشم قد يكون دائما متأثرا بذرات لها رائحتها لاصقة به، فيتعدل بها إدراك الروائح المتواردة عليه. والطعوم المدركة مباشرة هي المتحللة على اللسان، أي الأمزجة الناتجة من تحلل المطعومات في اللعاب، وقد يكون اللسان متأثرا دائما ببعض بقايا الطعام وبأخلاط الجسم، فيعتدل بها إدراك الطعم. وليست حرارة الأشياء هي المدركة في ذاتها؛ لأن لجسمنا حرارته، فلا ندرك سوى الزيادة في حرارة الأشياء على حرارتنا. وعلى ذلك فنحن لا نحجم عن الإقرار بأن المعرفة الحسية في مرتبة دنيا، وأن معنى المعرفة لا يتحقق فيها إلا بنسبة وتفاوت من جراء المادة. ولكنا نقول أيضا إن العقل يصححها بالمضاهاة وبالاستدلال، وإن مسألة المعرفة هي في الحقيقة مسألة العقل لا مسألة الحواس، كما سبقت الإشارة.
فمن الشطط اتهام الحواس إطلاقا. وإذا عدنا على ما رددنا به على الشكاك زيادة في الإيضاح، قلنا: إن الحواس صادقة في إدراك الكيفيات الثانوية؛ لأن هذه الكيفيات هي موضوعاتها الخاصة، فلا تخطئ فيها إلا عرضا ونادرا. وذلك متى اعتل العضو فلم يقبل المحسوس على ما ينبغي: فالمحموم يجد العسل مرا لفساد لسانه، والمصاب باليرقان يرى الأشياء صفراء لاصفرار عينيه، والمصاب بالدلتونية
2
لا يميز بين الأحمر والأخضر وصحح الخطأ هنا بالرجوع إلى سابق التجربة وإلى شهادة الآخرين. والحواس صادقة في إدراك الكيفيات الأولية. وإلا أن هذه الكيفيات محسوسات خاصة للمس، ومحسوسات بالتبعية لسائر الحواس؛ فاللمس صادق في إدراكها ما لم يعتره مرض، وسائر الحواس قد تخطئ في إدراكها. والواقع أننا كثيرا ما نخطئ في إدراك أبعاد الأشياء وأحجامها وأوضاعها؛ لتعويلنا على حس منها وتصديقه في غير موضوعه الخاص. والسبيل إلى تصحيح الخطأ هنا مراجعة الحس المختص أو حس آخر، وبخاصة الاسترشاد بالعقل: فاللمس مثلا يصحح خطأ البصر الذي يرى العصا في الماء منكسرة لانحراف الضوء وتغير الوسط. ولولا العقل والبحث العلمي لاعتقدنا أن الشمس لا يزيد قطرها على قدم واحدة، وأنها هي المتحركة لا الأرض التي نراها منها؛ فإن البصر يمثل الشيء كما يرد عليه خلال الوسط، ويمثل تغير موضع المرئي بالنسبة إلى العين. أما أن المرئي يتحرك أو أن الرائي هو الذي يتحرك، فأمر خارج عن موضوع البصر. لذا لا تعتبر هذه الأمثلة وما يشابهها أخطاء له؛ فإن فيها جميعا يسجل ما يصل إليه. وهذا شأن جميع الحواس، وما يسمى أخطاء الحواس معظمه في الحقيقة أخطاء تأويل، فالحواس صادقة في إدراكها الخاص بالشروط التي بيناها، وما علينا إلا أن ننتبه إلى مواطن الخطأ فنتفاداه.
3
الفصل الثالث
অজানা পৃষ্ঠা