الوجه الأول:
تعجيز الشاك عن الدعوة إلى مذهبه، وذلك بأن نطلب إليه أن يبرر موقفه ويبرهن على صحة قوله إنه لا يستطيع أن يعلم شيئا علما يقينيا، فإن رفض الاستجابة إلى هذا المطلب خشية التورط في الإثبات والنفي، كان لنا أن ننكر دعواه ابتداء ونؤكد إمكان العلم اليقيني تأكيدا، من حيث إن ما يثبت جزافا ينفى جزافا، وإن حاول أن ينظم برهانا فمن الضرورة أن يقدم له بمقدمات يقينية فيناقض دعواه بامتناع اليقين.
الوجه الثاني:
أن في منطوق الشك المطلق تناقضا أساسيا يرده غير مطلق، أي يقضي بيقين واحد على الأقل، وذلك أن الشاك إما أن يعلم وجوب الشك في كل شيء علما يقينيا، فيعلم علما يقينيا هذه القضية، وهي أنه ينبغي الشك في كل شيء، ويعلم من ثمة علما يقينيا أنه لا ينبغي الشك في كل شيء. وإما أن يعلم علما يقينيا أن مذهبه راجح فقط، فلديه إذن سبب مرجح يأخذ به. وإما أن يعترف بأنه لا يعلم علما يقينيا ولا راجحا، وحينئذ فهو لا يضع الشك كمذهب، ويقر بالعجز.
الوجه الثالث:
أن في الشك نفسه ثلاث بديهيات يأبى كل عقل الشك فيها، بل يصدقها العقل حالما يتعقلها. هذه البديهيات هي: وجود الذات المفكرة، وعدم جواز التناقض، وكفاية العقل لمعرفة الحقيقة. أما وجود الذات المفكرة فبين بالفكر ذاته، والذي يفكر يصدق بالفعل أنه موجود فيقول: «أنا أفكر»، ولا يبرهن على وجود الذات المفكرة ولو بقياس إضماري كقولنا: «أنا أفكر فأنا إذن موجود»؛ فإن الوجود المطلوب البرهنة عليه مثبت في المقدمة «أنا أفكر». وأما عدم جواز التناقض، فالشاك يعلمه بداهة كذلك: إنه يعلم ما الشك وما العلم وما الجهل وما اليقيني وما الإنسان وما المثلث ... إلى غير ذلك من المعاني، ويعلم أن كل لفظ وكل معنى فهو يختلف عن ضده أو نقيضه، فلا يجمع بين الألفاظ وبين المعاني على ما يتفق؛ فيقر أن اليقين غير الشك، وأن الإنسان غير المثلث، وأن من غير المستطاع الإثبات والنفي في آن واحد ومن جهة واحدة. وأما كفاية العقل لمعرفة الحقيقة، فالشاك يعلمها في علمه بكل بديهية؛ كما قلنا في الرد على الحجة الرابعة، ويعلمها في نفس الشك. فإنه حين ينتهي إلى الشك إنما يعول على نقد العقل للعقل، وطالما أقام على الشك إنما يعول على حكم العقل بوجود الشك؛ فهو يذعن دائما لحكم العقل، فيقع في الدور الذي يتهم به خصومه. فهذه الحقائق الثلاثة متضمنة في كل تفكير، ولا يمكن أن يشك فيها شاك، ولولاها لما وجد شكه، والشك فيها وضع لها في الحقيقة.
2
لقد أصاب ذلك الشاك القديم الذي قال إن فلسفته ليست عقيدة وإنما هي منحى أو اتجاه، والواقع أن الشاك المطلق يحمل نفسه على الشك حملا، ويعاند البداهة بالإرادة، ويعلق حكمه داعيا هذا التعليق حكمة على الرغم من التناقض المطبق عليه من كل صوب، ومتى قلنا التناقض عنينا الإفحام والقضاء على التفكير حتى ينحدر الشاك إلى درك النبات.
المنهج القويم في الفلسفة يبدأ إذن من اليقين الطبيعي بالبديهات. وفي الفلسفة الإسلامية «تجربة» جديرة بالذكر في هذا المضمار، هي تجربة الغزالي: فقد حكى في «المنقذ من الضلال» أنه عانى الشك في نفسه لما رأى من اختلاف الملل وكثرة الشبه، وأقواها هذه الشبهة: «أن المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكام ويكذبه حاكم العقل، فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر إذا تجلى يكذب العقل في حكمه، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته ...» إلى أن قال: «فحاولت لذلك علاجا، فلم يتيسر؛ إذ لم يمكن دفعه إلا بدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب المبادئ الأولية، فإذا لم تكن مسلمة لم يكن تركيب دليل. فأعضل هذا الداء ودام قريبا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة، حتى شفى الله تعالى ذلك المرض ورجعت الضرورات العقلية مقبولة موثقا بها؛ إذ إن الأوليات غير مطلوبة وإنما هي حاضرة لا يشك فيها. ولم يكن كل ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر.» يعني نور الحدس الذي به يدرك العقل الأوليات دفعة دون حاجة إلى برهان. وسواء كانت هذه الحكاية صادقة أم مركبة للتشويق والتفهيم، فإن الحل الذي تنتهي إليه هو الحل الصحيح.
ومتى أذعن العقل لنور الأوليات، أو بالأحرى: متى كفت الإرادة عن الافتتان بالشك وقهر العقل على الانصراف عن نور الأوليات، لم يعد أمامنا مانع من المضي في الفحص عن سائر المسائل لاقتناص ما يتيسر من يقين. إن دعوى الشكاك بأن الحياة لا تعطي يقينا ما لهي دعوى بينة البطلان، قادهم إليها مذهبهم الحسي الذي لا يعترف بغير المحسوسات ويستبعد ما فيها وما فيهما بينها بعضها البعض من أمور معقولة. إنهم هم الحسيون الأصليون الملتزمون منطق مذهبهم من مبدئه إلى منتهاه، ولكنهم كانوا واهمين. إن الواحد منهم ليعلم مثلا أنه إذا أكل شبع، وإذا لم يأكل ظل جائعا؛ وهو يأكل ويشرب، ويتذوق ما يأكل وما يشرب، ويتحاشى مواطن التهلكة وأسباب المرض، ويتعاطى الدواء استردادا للصحة. وفي كل ذلك حكم بأن كذا حق وكذا باطل، وأن الحق خير من الباطل، والأكل خير من الجوع، والصحة خير من المرض، والحياة خير من الموت، وهو يعلم أن القواعد الصحية مأخوذة من طبيعة الجسد الإنساني، وأن الأدوية مأخوذة من طبائع الأشياء ومما بين الأشياء وجسد الإنسان من نسبة. هذه بديهيات أخرى لا مفر من التسليم بها متى أخلص المرء لوحي عقله ولم يتشبث بالعناد. وكم ذا في الحياة من بديهيات لا يعتورها الخطأ لبساطتها وبيانها بذاتها، وإنما يخشى الخطأ في كل قضية أو واقعة لا تبدو بمثل هذا البيان، وبخاصة حين يحتاج الأمر إلى تكريب استدلال. ويؤمن الخطأ في الاستدلال بمراعاة القواعد المنطقية، والاحتراز من أسباب كثيرة خارجة عن فعل العقل ومؤثرة فيه مع ذلك: كاندفاع الهوى واضطراب الخيال والسهو وقلة البضاعة العلمية. ذلك هو المنهج القيوم في العلم والفلسفة، وذلك هو المنهج الذي يتبعه بالفعل العلم والفلسفة. وإن في قيام العلم الرياضي والعلم الطبيعي على الأقل لأقوى تفنيد للشك. (2) الشك المنهجي
অজানা পৃষ্ঠা