بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وَبِه ثقتي
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الأوحد الزَّاهِد أَبُو مُحَمَّد عبد الْحق بن عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله الْأَزْدِيّ الإشبيلي الْمَالِكِي ﵁
الْحَمد لله الَّذِي أذلّ بِالْمَوْتِ رِقَاب الْجَبَابِرَة وَكسر بصدمته ظُهُور الأكاسرة وَقصر ببغتته أمال القياصرة الَّذِي أدَار عَلَيْهِم حلقته الدائرة وَأَخذهم بِيَدِهِ الْقَاهِرَة فقذفهم فِي ظلمات الحافرة وصيرهم بهَا رهنا إِلَى وَقْفَة الساهرة فَأَصْبحُوا قد خسروا الدُّنْيَا وَلم يحصلوا على شَيْء من الْآخِرَة
مصيبتهم وَالله لَا يجْبر مصابها وَلَا يتجرع صابها وَلَا تَنْقَضِي آلامها وَلَا أوصابها
لم يمنعهُم مَا حصنوه من المعاقل والحصون وَلَا حرسهم مَا بعثوه من الحرس والعيون وَلَا فداهم من ريب الْمنون مَا ادخروه من علق مصون وَذهب مخزون
بل صدمهم بركنه الشَّديد وصبحهم بجيشه المديد وأنفذ فيهم مَا كتب عَلَيْهِم من الْوَعيد
نقلهم من لين المهود إِلَى خشونة اللحود وصيرهم بَين حجرها المنضود وجندلها الْمَعْقُود أكلا للهوام وطعما للدود
نظر إِلَيْهِم بِعَيْنِه الشوساء وَأرْسل عَلَيْهِم كتيبته الخرساء فأذل عزتهم
1 / 23
القعساء وأبدل من نعمتهم بؤسا وأنطق بالعويل أَلْسِنَة خرسا وصيرهم حَدِيثا يذكر على مر الزَّمَان وَلَا ينسى
نزلُوا عَن الأرائك والكلال والأسرة والحجال إِلَى الْحِجَارَة والرمال والأراقم والصلال وشظف الْعَيْش وضيق المجال وحلوا بِربع غير محلال بِحَيْثُ لَا زَوَال وَلَا انْتِقَال وَلَا عَثْرَة تقال وَلَا يسمع فِيهَا مقَال وَلَا يلْتَفت عِنْدهَا إِلَى من قَالَ
أرسل عَلَيْهِم رَبك جُنُوده العاتية وَأَخذهم أَخَذته الرابية وسلك بهم مَسْلَك الْأُمَم الخالية والقرون الْمَاضِيَة فَهَل تحس مِنْهُم من أحد أَو هَل ترى لَهُم من بَاقِيَة وَفِيهِمْ قيل وَفِي أمثالهم
حدث حَدِيث الْقَوْم من فَارس ... وَمن بني قبط ويونان
وَمن بني الْأَصْفَر أعجب بهم ... وَسيد الأتراك خاقَان
والأقدمين الأعظمين الألى ... من حمير أَبنَاء قحطان
من تبع الْعَرَب وَمن قَيْصر ... الرّوم وكسرى آل ساسان
من كل قرم شامخ أَنفه ... وكل فِرْعَوْن وهامان
وَإِن نسيت الْيَوْم شَيْئا فَلَا ... تنس نبطا أُخْت كلدان
وَاذْكُر مُلُوك الأَرْض من بعدهمْ ... من عرب صيد وعجمان
من كل مَنْصُور اللوا أروع ... سليل أطواق وتيجان
مُجْتَمع الشمل على عزة ... شيدت بأساس وأركان
قد زلزل الأَرْض وراع الورى ... من جَيْشه الضخم بطوفان
وذلل الْخلق بسلطانه ... كَأَنَّهُ رب لَهُم ثَان
انْظُر إِلَيْهِم هَل ترى مِنْهُم ... غير أَحَادِيث بأفنان
1 / 24
وَانْظُر إِلَى الْمَوْت وأعماله ... فيهم ترى الهلك ببرهان
وَأبْصر الْقَوْم وماذا لقوا ... بِالْمَوْتِ من ذل وخسران
قد صفعتهم يَده صفعة ... خروا لآناف وأذقان
ودك فِي الأَرْض بيتجانهم ... وألبسوا تيجان صمان
من حجر صلد ورخو وَمن ... ترب وحصباء وصيدان
وأنزلوا بطن الثرى بَعْدَمَا ... كَانُوا قعُودا فَوق كيوان
واطعم الديدان لَحْمًا نهم ... ويالك من لحم وديدان
فكم هُنَاكُم من فَتى ناعم ... وَمن فتاة ذَات أردان
وَمن هزبر مرح فِي الوغى ... وظبية تسرح فِي بَان
كَانُوا كَذَا ثمَّ اغتدوا عِبْرَة ... لنازح الدَّار وللدان
وَلم يدافع عَنْهُم جحفل ... قد طبق الأَرْض بفرسان
وَلَا بيُوت ملئت كلهَا ... من لُؤْلُؤ بحت وعقيان
بل مر ذاكم كُله مسرعا ... كَالرِّيحِ مرت بَين قضبان
وَأصْبح الْملك لمن ملكه ... بَاقٍ وكل غَيره فان
فسبحان من تفرد بِالْعِزَّةِ والكبرياء وتوحد بالديمومة والبقاء وطوق عباده بطوق الفناء وفرقهم بِمَا كتب عَلَيْهِ من السَّعَادَة والشقاء وَجعل الْمَوْت مخلصا لأوليائه السُّعَدَاء وهلكا لأعدائه الأشقياء
خلق خذلانا وَقدر تَوْفِيقًا وأنهج سَبِيلا وأوضح طَرِيقا فهدى إِلَيْهِ فريقا وأضل عَنهُ فريقا لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون فسبحان الَّذِي بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء وَإِلَيْهِ ترجعون
وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة من وفْق لَهَا فِي الْأَزَل وَكتب لَهُ بهَا فِي الْقسم الأول فَفتح لَهَا كل بَاب وهتك دونهَا كل حجاب وخلصها من الشُّبْهَة والارتياب وَظَهَرت عَلَيْهِ فِيهَا نعْمَة الْعَزِيز الْوَهَّاب الغفور التواب ملك الْمُلُوك وَرب الأرباب
1 / 25
٢
- وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الْمَرْفُوع عَلَيْهِ علم التَّحْقِيق الْمُخْتَص بخصائص التَّوْفِيق الدَّاعِي إِلَى أنهج سَبِيل وأوضح طَرِيق
صلى الله عَلَيْهِ صَلَاة تزيده شرفا وترفعه زلفى وتوردنا مورده الَّذِي عذب وَصفا وعَلى آله الطيبين وصحابته الأكرمين وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين وَسلم وكرم وَشرف وَعظم
أما بعد فَإِن الْمَوْت أَمر كبار لمن أنجد وأغار وكأس تدار فِيمَن أَقَامَ أَو سَار وَبَاب تسوقك إِلَيْهِ يَد الأقدار ويزعجك فِيهِ حكم الِاضْطِرَار وَيخرج بك إِمَّا إِلَى الْجنَّة وَإِمَّا إِلَى النَّار
خبر علم الله يصم الأسماع ويغير الطباع وَيكثر من الآلام والأوجاع
وَاعْلَمُوا أَنه لَو لم يكن فِي الْمَوْت إِلَّا الإعدام وانحلال الْأَجْسَام ونسيانك أُخْرَى اللَّيَالِي وَالْأَيَّام لَكَانَ وَالله لأهل اللَّذَّات مكدرا ولأصحاب النَّعيم مغيرا و٢ لأرباب الْعُقُول عَن الرَّغْبَة فِي هَذِه الدَّار زاجرا ومنفرا كَمَا قَالَ مطرف بن عبد الله بن الشخير
إِن هَذَا الْمَوْت نغص على أهل النَّعيم نعيمهم فَاطْلُبُوا نعيما لَا موت فِيهِ فَكيف ووراءه يَوْم يعْدم فِيهِ الْجَواب وتدهش فِيهِ الْأَلْبَاب وتفنى فِي شَرحه الأقلام وَالْكتاب وَيتْرك النّظر فِيهِ والاهتمام بِهِ الْأَوْلِيَاء والأحباب
وَاعْلَمُوا رحمكم الله أَن النَّاس فِي ذكر الْمَوْت على ضروب فَمنهمْ المنهمك فِي لذاته المثابر على شهواته المضيع فِيهَا مَالا يرجع من أوقاته لَا يخْطر الْمَوْت لَهُ على بَال وَلَا يحدث نَفسه بِزَوَال قد أطرح أخراه واكب على دُنْيَاهُ وَاتخذ إلهه هَوَاهُ فأصمه ذَلِك وأعماه وأهلكه وأرداه
فَإِن ذكر لَهُ الْمَوْت نفر وشرد وَإِن وعظ أنف وَبعد وَقَامَ فِي أمره الأول وَقعد قد حاد عَن سَوَاء نهجه ونكب عَن طَرِيق فلجه وَأَقْبل على بَطْنه وفرجه تبت يَدَاهُ وخاب مسعاه وَكَأَنَّهُ لم يسمع قَول الله ﷿ ﴿كل نفس﴾
1 / 26
ذائقة الْمَوْت وَلَا سمع قَول الْقَائِل فِيهِ وَفِي أَمْثَاله حَيْثُ قَالَ
يَا رَاكب الروع للذاته ... كَأَنَّهُ فِي أتن عير
وآكلا كل الَّذِي يَشْتَهِي ... كَأَنَّهُ فِي كلأ ثَوْر
وناهضا إِن يدع دَاعِي الْهوى ... كَأَنَّهُ من خفَّة طير
وكل مَا يسمع أَو مَا يرى ... كَأَنَّمَا يعْنى بِهِ الْغَيْر
إِن كؤوس الْمَوْت بَين الورى ... دَائِرَة قد حثها السّير
وَقد تيقنت وَإِن أَبْطَأت ... أَن سَوف يَأْتِيك بهَا الدّور
وَمن يكن فِي سيره جائرا ... تالله مَا فِي سَيرهَا جور
ثمَّ رُبمَا أخطر الْمَوْت بخاطره وَجعله من بعض خواطره فَلَا يهيج مِنْهُ إِلَّا غما وَلَا يثير من قلبه إِلَّا حزنا مَخَافَة أَن يقطعهُ عَمَّا يؤمل أَو يفطمه عَن لَذَّة فِي الْمُسْتَقْبل وَرُبمَا فر بفكره مِنْهُ وَدفع ذَلِك الخاطر عَنهُ وَيَا ويحه كَأَنَّهُ لم يسمع قَول الله ﷿ ﴿قل إِن الْمَوْت الَّذِي تفرون مِنْهُ فَإِنَّهُ ملاقيكم﴾ وَلَا قَول الْقَائِل
فر من الْمَوْت أَو اثْبتْ لَهُ ... لَا بُد من أَنَّك تَلقاهُ
واكتب بهذي الدَّار مَا شئته ... فَإِن فِي تِلْكَ ستقراه
وَكَذَلِكَ من كَانَ قلبه مُتَعَلقا بالدنيا وهمه فِيهَا وَنَظره مصروفا إِلَيْهَا وسعيه كُله لَهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِك من طلابها المحرومين وأبنائها المكدودين لم ينل مِنْهَا حظا وَلَا رقى مِنْهَا مرقى وَلَا نجح لَهُ فِيهَا مسعى إِن ذكر لَهُ الْمَوْت تصامم عَن ذكره وَلم يُمكنهُ من فكره وَتَمَادَى على أول أمره رَجَاء أَن يبلغ مَا أمل أَو يدْرك
1 / 27
بعض مَا تخيل فعمره ينقص وحرصه يزِيد وجسمه يخلق وأمله جَدِيد وحتفه قريب ومطلبه بعيد
يحرص حرص مُقيم ويسير إِلَى الْآخِرَة سير مجد كَأَن الدُّنْيَا حق الْيَقِين وَالْآخِرَة ظن من الظنون وَفِي مثل هَذَا قيل
أتحرص يَا ابْن آدم حرص بَاقٍ ... وَأَنت تمر وَيحك كل حِين
وتعمل طول دهرك فِي ظنون ... وَأَنت من الْمنون على يَقِين
وَهَذَا إِذا ذكر الْمَوْت أَو ذكر بِهِ لم يخف أَن يقطع عَلَيْهِ مهما من الْأَغْرَاض قد كَانَ حصله وَلَا عَظِيما من الآمال فِي نَفسه قد كَانَ أدْركهُ لِأَنَّهُ لم يصل إِلَيْهِ وَلَا قدر عَلَيْهِ لكنه يخَاف أَن يقطعهُ فِي الْمُسْتَقْبل عَن بُلُوغ أمل يحدث بِهِ نَفسه ويخدع بِهِ حسه وَهُوَ يرى فِيهِ يَوْمه كَمَا قد رأى فِيهِ أمسه
قد مَلأ قلبه بِتِلْكَ الْأَحَادِيث المشغلة والأماني المرذلة والوساوس المتلفة قد جعلهَا ديدنه وَدينه وإيمانه ويقينه
وَرُبمَا ضَاقَ ذرعه بالدنيا وَطَالَ همه فِيهَا من تعذر مُرَاده عَلَيْهِ وَقلة تَأتيه لَهُ فتمنى الْمَوْت إِذْ ذَاك ليستريح بِزَعْمِهِ وَهَذَا من جَهله بِالْمَوْتِ وَبِمَا بعد الْمَوْت وَالَّذِي يستريح بِالْمَوْتِ غَيره وَالَّذِي يفرح بِهِ سواهُ إِنَّمَا الْفَرح من وَرَاء الصِّرَاط والراحة بعد الْمَغْفِرَة
توفيت امْرَأَة كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ يمازحونها وَيضْحَكُونَ مَعهَا فَقَالَت عَائِشَة ﵂ لقد استراحت فَقَالَ رَسُول الله ﷺ إِنَّمَا يستريح من غفر لَهُ ذكره أَبُو بكر الْبَزَّار فِي مُسْنده
فَلَا يزَال هَذَا البائس يتَحَمَّل من الدُّنْيَا بؤسها ويتلقى نحوسها ويلبس
1 / 28
لكل شدَّة لبوسها وَهُوَ يتعلل بعسى وَلَعَلَّ وَيرى جنده الأفل وَحزبه الْأَقَل وناصره الْأَذَل فَلَا يرعوي وَلَا يزدجر وَلَا يفكر وَلَا يعْتَبر وَلَا ينظر وَلَا يستبصر حَتَّى إِذا وَقعت رايته وَقَامَت قِيَامَته وهجمت عَلَيْهِ منيته وأحاطت بِهِ خطيئته فانكشف لَهُ الغطاء وتبدت لَهُ موارد الشَّقَاء صَاح واخيبتاه واثكل أُمَّاهُ واسوء منقلباه
هَيْهَات هَيْهَات نَدم وَالله حَيْثُ لَا يَنْفَعهُ النَّدَم وَأَرَادَ التثبيت بَعْدَمَا زلت بِهِ الْقدَم فَخر صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ إِلَى حَيْثُ أَلْقَت رَحلهَا أم قشعم فنعوذ بِاللَّه من الحرمان وَمن ضحك الْعَدو وشماتة الشَّيْطَان
وَهَذَا وَالَّذِي قبله إِن لم يكن لَهما عناية أزلية وسابقة أولية فَيمسك عَلَيْهِمَا الْإِيمَان وَيخْتم لَهما بِالْإِسْلَامِ وَإِلَّا فقد هلكا كل الْهَلَاك ووقعا بِحَيْثُ لَا دراك وَلَا مخلص وَلَا إنفكاك
فنعوذ بِاللَّه من سوء الْقَضَاء ودرك الشَّقَاء بفضله وَرَحمته
وَرجل أخر وَقَلِيل مَا هم من أزيل من عينه قذاها وكشف عَن بصيرته عماها وَعرضت عَلَيْهِ الْحَقِيقَة فرآها وَأبْصر نَفسه وهواها فزجرها ونهاها وأبغضها وقلاها فلبى الْمُنَادِي وَأجَاب الدَّاعِي وشمر لتلافي مَا فَاتَ وَالنَّظَر فِيمَا هُوَ آتٍ وتأهب لهجوم الْمَمَات وحلول الشتات والانتقال إِلَى محلّة الْأَمْوَات
وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ يكره الْمَوْت أَن يشْهد وقائعه أَو يرى طلائعه أَو يكون ذَاكِرًا حَدِيثه أَو سامعه وَلَيْسَ يكره الْمَوْت لذاته وَلَا لِأَنَّهُ هَادِم لذاته وَلَكِن يخَاف أَن يقطعهُ عَن الاستعداد ليَوْم الْمعَاد والاكتساب ليَوْم الْحساب وَيكرهُ أَن تطوى صحيفَة عمله قبل بُلُوغ أمله وَأَن يُبَادر بأجله قبل إصْلَاح خلله وتدارك زلله فَهُوَ يُرِيد الْبَقَاء فِي هَذِه الدَّار لقَضَاء هَذِه الأوطار وَالْإِقَامَة بِهَذِهِ الْمحلة بِسَبَب هَذِه الْعلَّة
1 / 29
كَمَا روى عَن بعض الْعَالمين وَقد بَكَى عِنْد الْمَوْت فَقيل لَهُ مَا يبكيك فَقَالَ وَالله مَا أبكى لفراق هَذِه الدَّار حرصا على غرس الْأَشْجَار وإجراء الْأَنْهَار لَكِن على مَا يفوتني من الادخار ليَوْم الافتقار والاكتساب ليَوْم الْحساب
قَالَ فِي هَذَا أَو مَعْنَاهُ
أَهْون بداركم الدُّنْيَا وأهليها ... وَاضْرِبْ بهَا صفحات من محبيها
الله يعلم أَنِّي لست وامقها ... وَلَا أُرِيد بَقَاء سَاعَة فِيهَا
لَكِن تمرغت فِي أدناسها حقبا ... وَبت أنشرها حينا وأطويها
أَيَّام أسحب ذيلي فِي ملاعبها ... جهلا وأهدم من ديني وأبنيها
وَكم تحملت فِيهَا غير مكترث ... من شامخات ذنُوب لست أحصيها
فَقلت أبقى لعَلي أهدم مَا ... بنيت مِنْهَا وأدناسي أنقيها
وَمن ورائي عِقَاب لست أقطعها ... حَتَّى أخفف أحمالي وألقيها
يَا ويلتي وبحار الْعَفو زاخرة ... إِن لم تصبني برش فِي تثنيها
وَهَذَا إِذا مَاتَ فيالله دره من ميت مَا أفضل حَيَاته وَأطيب مماته وَأعظم سعادته وَأكْرم وفادته وَأتم سروره وأكمل حبوره
وَاعْلَم أَن هَذَا لَا يدْخل تَحت قَوْله ﵊ من كره لِقَاء الله كره الله لقاءه لِأَن هَذَا لم يكره لِقَاء الله تَعَالَى لذات اللِّقَاء إِنَّمَا كره أَن يقدم على الله ﷿ متدنسا بأوضاره ثقيل الظّهْر بأوزاره ملأن من عاره وشناره فَأَرَادَ أَن يتطيب للقاء ويستعد لفصل الْقَضَاء
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِي قلت لأم هَارُون العابدة أتحبين أَن تموتي قَالَت لَا قلت وَلم قَالَت وَالله لَو عصيت مخلوقا لكرهت لقاءه فَكيف بالخالق ﷻ
1 / 30
وَقَالَ سُلَيْمَان بن عبد الْملك لأبي حَازِم يَا أَبَا حَازِم مَا لنا نكره الْمَوْت فَقَالَ لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم فَأنْتم تَكْرَهُونَ النقلَة من الْعمرَان إِلَى الخراب قَالَ كَيفَ الْقدوم على الله ﷿ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أما المحسن فكالغائب يَأْتِي أَهله فَرحا مَسْرُورا وَأما الْمُسِيء فكالعبد الابق يَأْتِي مَوْلَاهُ خَائفًا مَحْزُونا
قَالَ أَبُو بكر الكتاني كَانَ رجل يُحَاسب نَفسه فَحسب يَوْمًا سنيه فَوَجَدَهَا سِتِّينَ سنة فَحسب أَيَّامهَا فَوَجَدَهَا وَاحِدًا وَعشْرين ألف يَوْم وَخَمْسمِائة يَوْم فَصَرَخَ صرخة وخر مغشيا عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاق قَالَ يَا ويلتاه أَنا آتِي رَبِّي بِوَاحِد وَعشْرين ألف ذَنْب وَخَمْسمِائة ذَنْب
يَقُول هَذَا لَو كَانَ ذَنْب وَاحِد فِي كل يَوْم فَكيف بذنوب كَثِيرَة لَا تحصى
ثمَّ قَالَ: آه عَليّ عمرت دنياي وَخَربَتْ أخراي وعصيت مولَايَ ثمَّ لَا أشتهي النقلَة من الْعمرَان إِلَى الخراب وَكَيف أشتهي النقلَة إِلَى دَار الْكتاب والحساب والعتاب وَالْعَذَاب بِلَا عمل وَلَا ثَوَاب
وَأنْشد
منَازِل دنياك شيدتها ... وَخَربَتْ دَارك فِي الْآخِرَة
فَأَصْبَحت تكرهها للخراب ... وترغب فِي دَارك العامرة
ثمَّ شهق شهقة عَظِيمَة فحركوه فَإِذا هُوَ ميت
على أَن هَذَا الحَدِيث من كره لِقَاء الله كره الله لقاءه قد جَاءَ مُفَسرًا فَعَن عَائِشَة ﵂
قَالَ رَسُول الله ﷺ من أحب لِقَاء الله أحب الله لقاءه وَمن كره لِقَاء الله كره الله لقاءه فَقلت يَا نَبِي الله أكراهية الْمَوْت فكلنا نكره الْمَوْت قَالَ لَيْسَ كَذَلِك وَلَكِن الْمُؤمن إِذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لِقَاء الله فَأحب الله
1 / 31
لقاءه وَإِن الْكَافِر إِذا بشر بِعَذَاب الله وَسخطه وعقوبته كره لِقَاء الله فكره الله لقاءه
ذكره مُسلم بن الْحجَّاج
وَقَالَ البُخَارِيّ فِي هَذَا الحَدِيث وَلَكِن الْمُؤمن إِذا حَضَره الْمَوْت بشر برضوان الله وكرامته فَلَيْسَ شَيْء أحب إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامه فَأحب لِقَاء الله فَأحب الله لقاءه وَإِن الْكَافِر إِذا حَضَره الْمَوْت بشر بِعَذَاب الله وعقوبته فَلَيْسَ شَيْء أكره إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامه فكره لِقَاء الله فكره الله لقاءه
وَرجل أخر هُوَ من الْقَلِيل قَلِيل قد عرف الله تَعَالَى بأسمائه الْحسنى وَصِفَاته الْعلَا وَشَاهد مَا شَاهد من كَمَال الربوبية وجمال الحضرة الإلهية فملأت عينه وَقَلبه وأطاشت عقله ولبه فَهُوَ يحن إِلَى ذَلِك المشهد ويحوم على ذَلِك المورد ويستعجل إنجاز ذَلِك الْموعد وَقد علم أَن الْحَيَاة حجاب بَينه وَبَين محبوبه وَستر مسدل بَينه وَبَين مَطْلُوبه وَبَاب مغلق يمنعهُ من الْوُصُول إِلَى مرغوبه
فَلَو أصَاب سَبِيلا إِلَى هتك ذَلِك الْحجاب هتكه أَو رفع ذَلِك السّتْر رَفعه أَو كسر ذَلِك الْبَاب حطمه وكسره فعذابه فِي الْحَيَاة وراحته فِي الْمَمَات
كَمَا يرْوى أَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان ﵁ لما نزل بِهِ الْمَوْت قَالَ حبيب جَاءَ على فاقة
وَقد قيل إِن الْمَوْت جسر يُوصل الحبيب إِلَى الحبيب
وَأنْشد بَعضهم
يَا حبذا الْمَوْت وأهواله ... وسكرة مِنْهُ تلِي سكره
وزفرة فِي أَثَرهَا زفرَة ... كَأَنَّهَا فِي كَبِدِي جمره
وروعة تقطع مني الحشا ... كَأَنَّهَا فِي أضلعي شفره
يَا حبذا يَا حبذا كل مَا ... لاقيت من ضرّ وَمن عسره
أَهْون بِهِ ثمت أَهْون بِهِ ... وَلَو غَدا مثل الْحَصَى كثره
1 / 32
إِذْ كَانَ ذاكم معقبي نظرة ... فِي وَجه ذِي الْعِزّ وَذي الْقُدْرَة
يَا لأماني تمنيتها ... تفقد نَفسِي دونهَا حسرة
وَالْمَوْت جسر للقاء المنى ... فليعمل الغافل مَا سره
ويروى عَن عَليّ بن الْفَتْح أَنه رأى النَّاس فِي يَوْم عيد يَتَقَرَّبُون بقرابينهم يَعْنِي بضحاياهم فَقَالَ يَا رب وَأَنا أَتَقَرَّب إِلَيْك بأحزاني ثمَّ غشي عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاق قَالَ إلهي إِلَى كم ترددني فِي هَذِه الدُّنْيَا فَمَاتَ من سَاعَته
ومقدمات هَذَا وَأَمْثَاله تدل على مَا وَرَاءَهَا من الْوِصَال والاتصال والأنس بذلك الْجلَال وَالْجمال
وَآخر قد شَاهد مَا شَاهد ذَلِك وَرُبمَا زَاد عَلَيْهِ وَلكنه فوض الْأَمر إِلَى خالقه وَسلم الحكم لبارئه فَلم يرض إِلَّا مَا رَضِي لَهُ وَلم يرد إِلَّا مَا أُرِيد بِهِ وَلَا اخْتَار إِلَّا مَا حكم فِيهِ ان أبقاه فِي هَذِه الدَّار أبقاه وان أَخذه إِلَيْهِ أَخذه
قَالَ أَحْمد بن أبي الْحوَاري قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِي
النَّاس رجلَانِ رجل أحب الله تَعَالَى فَأحب الْمَوْت شوقا إِلَى لِقَاء الله وَرجل أحب الْبَقَاء لإِقَامَة حق الله تَعَالَى
قَالَ فَوَثَبَ إِلَيْهِ غُلَام لم يَحْتَلِم فَقَالَ وَرجل ثَالِث أَو قَالَ وَرجل آخر فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان وَمن هُوَ يَا بني قَالَ من لم يخْتَر هَذَا وَلَا هَذَا اخْتَار مَا اخْتَار الله ﷿ لَهُ فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان احتفظوا بالغلام فانه صديق
وَاجْتمعَ يَوْمًا وهيب بن الْورْد وسُفْيَان الثَّوْريّ ويوسف بن أَسْبَاط رَحِمهم الله تَعَالَى فَقَالَ الثَّوْريّ كنت أكره موت الْفجأَة ووددت الْيَوْم أَنِّي مت فَقَالَ لَهُ يُوسُف بن أَسْبَاط لم قَالَ لما أَتَخَوَّف من الْفِتْنَة فِي الدّين فَقَالَ يُوسُف لكني أحب الْحَيَاة وَطول الْبَقَاء فَقَالَ لَهُ سُفْيَان لم قَالَ لعَلي أَن أصادف يَوْمًا أَتُوب فِيهِ وأعمل صَالحا
1 / 33
فَقيل لوهيب أَي شَيْء تَقول أَنْت فَقَالَ أَنا لَا أخْتَار شَيْئا أحب ذَلِك الي أحبه إِلَى الله ﷿ فَقبل الثَّوْريّ بَين عَيْنَيْهِ وَقَالَ روحانية وَرب الْكَعْبَة
وَقَالَ عَليّ بن جَهْضَم عَن عَليّ بن عُثْمَان بن سهل دخلت على عَمْرو بن عُثْمَان وَهُوَ فِي علته الَّتِي توفّي فِيهَا فَقلت لَهُ كَيفَ تجدك
فَقَالَ أجد سري وَاقِفًا مثل المَاء لَا يخْتَار النقلَة وَلَا الْمقَام
يَعْنِي مثل المَاء فِي الْإِنَاء أَو الْقَرار من الأَرْض يَقُول لَا يخْتَار الْحَيَاة وَلَا الْمَوْت وَقَالَ الْقَائِل فِي هَذَا الْمَعْنى الْمَعْنى
كل مَا يفعل الحبيب حبيب ... وَالَّذِي شَاءَ بِي فشيء عَجِيب
إِن سُكُون أَرَادَ بِي فَسُكُون ... أَو وحيب اراد بِي فوجيب
وَإِذا مَا أَرَادَ موتِي فموتي ... أَو حَياتِي لكل ذَاك أُجِيب
كل مَا كَانَ من قَضَاء فيحلو ... بفؤادي نُزُوله ويطيب
فَهَذَا إِذا مَاتَ لَا يسْأَل عَن حَاله وَلَا يُقَال مَا فعل بِهِ
وَمِنْهُم من يتَمَنَّى الْمَوْت ويشتهيه ويسأله ربه تَعَالَى ويرغب إِلَيْهِ فِيهِ وَقد علم أَن وَرَاءه يَوْمًا ثقيلا وحبسا طَويلا ومقاما يقوم فِيهِ ذليلا لَكِن لما رأى نَفسه مَنْصُوبًا للمحن معرضًا للفتن مرتهنا بِمَا هُوَ بِهِ مُرْتَهن وَأبْصر تفريطه فِي الزَّاد ليَوْم الْمعَاد وَفِي الاستعداد ليَوْم الْإِشْهَاد وَخَافَ أَن يقتطع عَن سَبِيل الْمُؤمنِينَ ويختلج عَن طَرِيق الْمُسلمين تمنى الْمَوْت لينجو من هَذَا الْخطر وَيسلم من هَذَا الْغرَر وَأَن يقدم على الله ﷿ بِالْإِيمَان كَائِنا مِنْهُ بعد ذَلِك مَا كَانَ وَهَذَا إِن شَاءَ الله إِذا مَاتَ خرجت لَهُ الْبُشْرَى بالأمان وَأَن يحتل فِي جوَار الرَّحْمَن حَيْثُ شَاءَ من دَار الْكَرَامَة والرضوان
وَاعْلَم أَن هَذَا لَا يدْخل تَحت قَوْله ﵇ لَا يتمنين أحدكُم الْمَوْت لضر نزل بِهِ فَإِنَّهُ ﵇ إِنَّمَا أَرَادَ الضَّرَر الدنيوي الَّذِي ينزل بالإنسان من محن الدُّنْيَا فِي النَّفس والأهل وَالْمَال وَهَذَا إِنَّمَا تمناه مَخَافَة أَن ينزل بِهِ الضَّرَر الأخروي وَأَن يقتطع بِالْمَعَاصِي عَن الله وَأَن يصد بالفتن عَن سَبِيل الله
1 / 34
وَبِالْجُمْلَةِ فالموت طَرِيق نجاة يركبهَا الْمُؤْمِنُونَ ومورد سَلامَة يردهَا الْمُسلمُونَ لقوا فِيهِ مَا لقوا وَسقوا مِنْهُ مَا سقوا كل ذَلِك يهون لما يُفْضِي بهم إِلَيْهِ من السَّعَادَة الأبدية والحياة السرمدية
نسْأَل الله جميل الخاتمة وَحسن الْعَاقِبَة ومردا غير مخز وَلَا فاضح برحمته لَا رب سواهُ
وَالْأَحَادِيث الَّتِي وَردت فِي النَّهْي عَن تمني الْمَوْت صَحِيحَة مَشْهُورَة ذكر مُسلم بن الْحجَّاج ﵀ من حَدِيث أنس بن مَالك قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ لَا يتمنين أحدكُم الْمَوْت لضر نزل بِهِ فَإِن كَانَ لَا بُد متمنيا فَلْيقل اللَّهُمَّ أحيني مَا كَانَت الْحَيَاة خيرا لي وتوفني إِذا كَانَت الْوَفَاة خيرا لي
وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ لَا يتمنين أحدكُم الْمَوْت وَلَا يدع بِهِ من قبل أَن يَأْتِيهِ إِنَّه إِذا مَاتَ أحدكُم انْقَطع عمله وَإنَّهُ لَا يزِيد الْمُؤمن عمره إِلَّا خيرا
وَذكر البُخَارِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ لَا يتمنين أحدكُم الْمَوْت إِمَّا محسنا فَلَعَلَّهُ أَن يزْدَاد وَإِمَّا مسيئا فَلَعَلَّهُ أَن يستعتب
وَذكر أَبُو بكر الْبَزَّار من حَدِيث جَابر بن عبد الله قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ لَا تَتَمَنَّوْا الْمَوْت فَإِن هول المطلع شَدِيد وَإِن من السَّعَادَة أَن يطول عمر العَبْد حَتَّى يرزقه الله الْإِنَابَة
وسأذكر لَك إِن شَاءَ الله جملَة كَافِيَة مِمَّا ورد فِي الْمَوْت وَمِمَّا يعين على ذكره والفكرة فِيهِ وَذكر الصَّالِحين لَهُ وَكَلَامهم عِنْد نُزُوله مَعَ كَلَام غَيرهم من
1 / 35
المغترين والجهلة المخدوعين وَمَا وَرَاءه من السُّؤَال والحساب وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب وَالله الْمُسْتَعَان وَعَلِيهِ التكلان وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
ولعلك تظن بِقَوْلِي هَذَا وَبِالْجُمْلَةِ فالموت طَرِيق نجاة يركبهَا الْمُؤْمِنُونَ الْكَلَام إِلَى آخِره إِنِّي إِنَّمَا أردْت بذلك تهوين الْمَوْت وتسهيل كربه وتحقير خطبه والازدراء بِشَأْنِهِ وَقلة المبالاة بِهِ كلا وَمن كتبه على الْبشر وَجعله عِبْرَة من العبر وَإِحْدَى آيَاته الْكبر مَا قلت ذَلِك لهَذَا وَإِنَّمَا قلته للحالة الَّتِي يؤول الْمُؤْمِنُونَ إِلَيْهَا ويقيمون عَلَيْهَا ويكرمون بهَا ويخلدون فِيهَا فَذَلِك يهون الْمَوْت وَمَا هُوَ أعظم من الْمَوْت بل الْإِقَامَة فِي سكراته وتجرع مراراته آلافا من السنين وأضعاف مَا تعده مئين
وَإِلَّا فالموت هُوَ الْخطب الأفظع وَالْأَمر الأشنع والكأس الَّتِي طعمها أكره وأبشع وَإنَّهُ الْحَادِث الهادم للذات والأقطع للراحات والأجلب للكريهات
وَإِن أمرا يقطع أوصالك وَيفرق أعضاءك ويفتت أعضادك ويهد أركانك لَهو الْأَمر الْعَظِيم والخطب الجسيم وَإِن يَوْمه لَهو الْيَوْم الْعَقِيم
وَمَا ظَنك رَحِمك الله بنازل ينزل بك فَيذْهب رونقك وبهاءك ويغير منظرك ورواءك ويمحو صُورَة جمالك وَيمْنَع من اجتماعك واتصالك ويردك بعد النِّعْمَة والنضرة والسطوة وَالْقُدْرَة والنخوة والعزة إِلَى حَالَة يُبَادر فِيهَا أحب النَّاس لَك وأرحمهم بك وأعطفهم عَلَيْك فيقذفك فِي حُفْرَة من الأَرْض قريبَة أنحاؤها مظْلمَة أرجاؤها مُحكم عَلَيْك حجرها وصيدانها متحكم فِيك هوامها وديدانها
ثمَّ بعد ذَلِك يتَمَكَّن مِنْك الإعدام وتختلط بالرغام وَتصير تُرَابا تطؤه الْأَقْدَام
1 / 36
وَرُبمَا ضرب مِنْك إِنَاء فخار أَو أحكم مِنْك بِنَاء جِدَار أَو طلي مِنْك محبس مَاء أَو موقد نَار كَمَا رُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب ﵁ أَنه أَتَى بِإِنَاء مَاء ليشْرب مِنْهُ فَأَخذه بِيَدِهِ وَنظر إِلَيْهِ وَقَالَ كم فِيك من عين كحيل وخد أسيل
وَكَانَ بقرطبة امْرَأَة صَالِحَة مَذْكُورَة بِالْخَيرِ مَعْرُوفَة اسْمهَا عزيزة بنت القلفيطي وَكَانَت لَهَا رُؤْيا صَادِقَة فرأت فِيمَا يرى النَّائِم كَأَنَّهَا خَارِجَة على بَاب الضاغط بقرطبة عَن يسَار الْخَارِج بنيانا من أَعْضَاء بني آدم وشعورهم وَلَهُم صياح وضجيج وَرجل طَوِيل وَاقِف وَعَلِيهِ ثِيَاب خضرَة نيرة ويداه على عَيْنَيْهِ وَهُوَ يَقُول عَيْنَايَ يَا قوم فِي الْحَائِط فَأخْبرت بِهَذَا الرُّؤْيَا أَبَا بكر بن مُؤمن رَحمَه الله تَعَالَى فَخرج إِلَى الْموضع فَوجدَ فِيهِ مَسْجِدا ودورا قد بنيت فِي طرف مَقْبرَة كَانَت هُنَالك تعرف بمقبرة عَبَّاس
وبنيت تِلْكَ الدّور وَالْمَسْجِد لمصْلحَة رأى الْجِيرَان فِي ذَلِك
ذَلِك حَدثنِي بِهَذِهِ الْحِكَايَة صاحبنا الْوَجِيه أَبُو الْحسن بن أبي بكر بن مُؤمن عَن أَبِيه وَعَن الْمَرْأَة أَيْضا وَقد سَمِعت أَيْضا الْحِكَايَة قبل هَذَا من أبي الْحسن بن كَامِل الصُّوفِي وَمن غَيره من أَصْحَابه
ويحكى أَن رجلَيْنِ تنَازعا وتخاصما فِي أَرض فانطق الله ﷿ لبنة فِي حَائِط من تِلْكَ الأَرْض فَقَالَت يَا هَذَانِ إِنِّي كنت ملكا من الْمُلُوك ملكت كَذَا وَكَذَا سنة ثمَّ مت وصرت تُرَابا فَبَقيت كَذَلِك ألف سنة ثمَّ أَخَذَنِي خزاف يَعْنِي فخارا فَعمل مني إناءا فاستعملت حَتَّى تَكَسَّرَتْ ثمَّ عدت تُرَابا فَبَقيت ألف سنة ثمَّ أَخَذَنِي رجل فَضرب مني لبنة فجعلني فِي هَذَا الْحَائِط فَفِيمَ تنازعكما وفيم تخاصمكما
وَهَذَا التَّغْيِير إِنَّمَا يحل بجسدك وَينزل ببدنك لَا بروحك لِأَن الرّوح لَهَا حكم آخر وَمَا مضى مِنْك فَغير مضاع وتفرقه لَا يمنعهُ من الِاجْتِمَاع
1 / 37
قَالَ الله تَعَالَى ﴿قد علمنَا مَا تنقص الأَرْض مِنْهُم وَعِنْدنَا كتاب حفيظ﴾
والحكايات فِي هَذَا الْبَاب أَكثر من هَذَا وَالْكَلَام فِيهِ متسع
وَقد دونت فِي الْمَوْت الْأَخْبَار وصيغت فِيهِ الْأَشْعَار وَضربت بشدته الْأَمْثَال وَكثر فِيهِ القيل والقال وعملت بِسَبَبِهِ أَعمال وأعمال قَالَ بَعضهم
قَالُوا صف الْمَوْت يَا هَذَا وشدته ... فَقلت وامتد مني عِنْدهَا الصَّوْت
يكفيكم مِنْهُ أَن النَّاس إِن عجزوا ... عَن وصف ضَربهمْ قَالُوا هُوَ الْمَوْت
وَقد أَمر ﵊ بِذكر الْمَوْت وَأعَاد القَوْل فِيهِ تهويلا لأَمره وتعظيما لشأنه
ذكر النَّسَائِيّ عَن عَائِشَة ﵂ قَالَت قَالَ رَسُول الله ﷺ أَكْثرُوا ذكر هَادِم اللَّذَّات الْمَوْت
وَهَذَا كَلَام مُخْتَصر وجيز وَقد جمع التَّذْكِرَة وأبلغ فِي الموعظة فَإِن من ذكر الْمَوْت حَقِيقَة ذكره نغص عَلَيْهِ لذته الْحَاضِرَة وَمنعه من تمنيها فِي الْمُسْتَقْبل وزهده فِيمَا كَانَ مِنْهَا يؤمل
وَلَكِن النُّفُوس الراكدة والقلوب الغافلة تحْتَاج إِلَى تَطْوِيل الوعاظ وتزويق الْأَلْفَاظ وَإِلَّا فَفِيمَا ذكر من قَوْله ﵊ أَكْثرُوا من ذكر هَادِم اللَّذَّات الْمَوْت مَا يَكْفِي السَّامع لَهُ ويشغل النَّاظر فِيهِ
ويروى عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي أَنه قَالَ
مر رَسُول الله ﷺ بِمَجْلِس قد ارْتَفع فِيهِ الضحك فَقَالَ شوبوا مجلسكم بِذكر مكدر اللَّذَّات قَالُوا وَمَا مكدر اللَّذَّات قَالَ الْمَوْت
وَخرج يَوْمًا ﵊ إِلَى الْمَسْجِد فَإِذا قوم يتحدثون وَيضْحَكُونَ فَقَالَ اذْكروا الْمَوْت أما وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو تعلمُونَ مَا أعلم لضحكتم قَلِيلا ولبكيتم كثيرا
1 / 38
وَعَن ابْن عمر قَالَ أتيت رَسُول الله ﷺ عَاشر عشرَة فَقَالَ رجل من الْأَنْصَار يَا رَسُول الله من أَكيس النَّاس قَالَ أَكْثَرهم للْمَوْت ذكرا وَأَحْسَنهمْ لَهُ اسْتِعْدَادًا قبل أَن ينزل بِهِ أُولَئِكَ الأكياس ذَهَبُوا بشرف الدُّنْيَا وكرم الْآخِرَة
وَقَالَ ﵊ أَنا النذير وَالْمَوْت المغير والساعة الْموعد
ويروى عَنهُ ﵊ أَنه قَالَ تركت فِيكُم واعظين ناطقا وصامتا فالناطق الْقُرْآن والصامت الْمَوْت
ويروى أَن جِبْرِيل ﵇ قَالَ لرَسُول الله ﷺ عش مَا شِئْت فَإنَّك ميت وأحبب من شِئْت فَإنَّك مفارقه واعمل مَا شِئْت فَإنَّك مَجْزِي بِهِ
وَهَذِه الْأَحَادِيث رويتها من طَرِيق أبي بكر الْبَزَّار وَالْقَاضِي أبي الْحسن بن صَخْر وَأبي عَليّ الغساني وَغَيرهم
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء من أَكثر ذكر الْمَوْت قل فرحه وَقل حسده
وَقَالَ بعض أَصْحَاب الْحسن كُنَّا ندخل على الْحسن فَمَا هُوَ إِلَّا النَّار وَالْقِيَامَة وَالْآخِرَة وَذكر الْمَوْت
وَكَانَ ابْن سِيرِين إِذا ذكر عِنْده الْمَوْت مَاتَ كل عُضْو مِنْهُ على حِدته وَقَالَ التَّيْمِيّ ﵀ شَيْئَانِ قطعا عني لذاذة الدُّنْيَا ذكر الْمَوْت وَذكر الْوُقُوف بَين يَدي الله ﷿
وَقَالَ مطرف بن عبد الله رَأَيْت فِي مَا يرى النَّائِم كَأَن قَائِلا يَقُول فِي وسط جَامع الْبَصْرَة قطع ذكر الْمَوْت قُلُوب الْخَائِفِينَ فوَاللَّه مَا تراهم إِلَّا والهين محزونين
وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز ﵀ لَو فَارق ذكر الْمَوْت قلبِي ساع ة لفسد
1 / 39
وَقَالَ لعتبة أَكثر ذكر الْمَوْت فَإِن كنت وَاسع الْعَيْش ضيقه عَلَيْك وَإِن كنت ضيق الْعَيْش وَسعه عَلَيْك
وَكَانَ يزِيد الرقاشِي يَقُول لنَفسِهِ وَيحك يَا يزِيد من ذَا الَّذِي يُصَلِّي عَنْك بعد الْمَوْت من ذَا الَّذِي يَصُوم عَنْك بعد الْمَوْت من ذَا الَّذِي يُرْضِي عَنْك رَبك بعد الْمَوْت
ثمَّ يَقُول أَيهَا النَّاس أَلا تَبْكُونَ وتنوحون على أَنفسكُم بَاقِي حَيَاتكُم وَيَا من الْمَوْت موعده والقبر بَيته وَالثَّرَى فرَاشه والدود أنيسه وَهُوَ مَعَ هَذَا ينْتَظر الْفَزع الْأَكْبَر كَيفَ يكون حَاله ثمَّ يبكي حَتَّى يسْقط مغشيا عَلَيْهِ
ويروى أَن عِيسَى ﵇ كَانَ إِذا ذكر عِنْده الْمَوْت وَالْقِيَامَة يقطر جسده دَمًا
وَعَن دَاوُد ﵇ أَنه كَانَ إِذا ذكر عِنْده الْمَوْت وَالْقِيَامَة بَكَى حَتَّى تنخلع أوصاله فَإِذا ذكرت الرَّحْمَة رجعت
وَكَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز ﵀ يجمع الْفُقَهَاء فيتذاكرون الْمَوْت وَالْقِيَامَة وَالْآخِرَة فيبكون حَتَّى كَأَن بَين أَيْديهم جَنَازَة
وَأنْشد بَعضهم
يَا باكيا من خيفة الْمَوْت ... أصبت فارفع من مدى الصَّوْت
وناد يَا لهفي على فسحة ... فِي الْعُمر فَاتَت أَيّمَا فَوت
ضيعتها ظَالِم نَفسِي وَلم ... أصغ إِلَى موت وَلَا ميت
يَا ليتها عَادَتْ وهيهات أَن ... يعود مَا قد فَاتَ يَا لَيْت
فَخَل عَن هذي الْأَمَانِي ودع ... خوضك فِي هَات وَفِي هيت
وبادر الْأَمر فَمَا غَائِب ... أسْرع إتيانا من الْمَوْت
كم شائد بَيْتا ليغنى بِهِ ... مَاتَ وَلم يفرغ من الْبَيْت
وَأعلم أَن كَثْرَة الْمَوْت تردع عَن الْمعاصِي وتلين الْقلب القاسي وَتذهب الْفَرح بالدنيا وتهون المصائب فِيهَا وَإِن من لم يخفه فِي هَذِه الدَّار رُبمَا تمناه فِي
1 / 40
الْآخِرَة فَلَا يؤتاه وَسَأَلَ فِيهِ وَلَا يعطاه
وَكتب رجل إِلَى بعض إخوانه
يَا أخي احذر الْمَوْت فِي هَذِه الدَّار من قبل أَن تصير إِلَى دَار تتمنى الْمَوْت فِيهَا فَلَا يُوجد وَيطْلب فِيهَا فَلَا يدْرك
ويروى أَن امْرَأَة شكت إِلَى عَائِشَة ﵂ قساوة فِي قَلبهَا فَقَالَت لَهَا اكثري من ذكر الْمَوْت يرق قَلْبك فَفعلت فرق قَلبهَا فَجَاءَت تشكر عَائِشَة
وَقَالَ الْحسن فَضَح الدُّنْيَا وَالله هَذَا الْمَوْت فَلم يتْرك فِيهَا لذِي لب فَرحا
وَقَالَ مَا رَأَيْت عَاقِلا قطّ إِلَّا وجدته حذرا من الْمَوْت حَزينًا من أَجله
وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار من ذكر الْمَوْت هَانَتْ عَلَيْهِ المصائب
وَقَالَ حَامِد اللفاف وَيْح ابْن أَدَم إِن أَمَامه ثَلَاثَة أَشْيَاء موت كريه المذاق ونار أليمة الْعَذَاب وجنة عَظِيمَة الثَّوَاب
وَأعلم أَن الْمَوْت لن يمنعهُ مِنْك مَانع وَلَا يَدْفَعهُ عَنْك دَافع وَإِن فِيهِ لزجرا للبيب وشغلا للأريب ومنبهة للنائم وتنشيطا للمستيقظ وانه للطَّالِب الْمدْرك والمتبع اللَّاحِق والمغير الَّذِي يبْعَث الطليعة ويعجل الرّجْعَة ويسبق النذير الْعُرْيَان لَا يردهُ الْبَاب الشَّديد وَلَا البرج المشيد وَلَا اللجب العرمرم وَلَا الْبَلَد الْبعيد
وروى خَيْثَمَة عَن سُلَيْمَان بن مهْرَان الْأَعْمَش قَالَ وَحدث بِهِ غَيره أَيْضا إِن رجلا كَانَ جَالِسا مَعَ نَبِي الله سُلَيْمَان ﵇ فَدخل عَلَيْهِ دَاخل فَجعل ينظر إِلَى الرجل الْجَالِس مَعَ سُلَيْمَان ويديم النّظر إِلَيْهِ فَلَمَّا خرج قَالَ لَهُ الرجل يَا نَبِي الله من هَذَا الرجل الدَّاخِل عَلَيْك
قَالَ ملك الْمَوْت قَالَ يَا نَبِي الله لقد رَأَيْته يديم النّظر إِلَيّ ويشخص فِي وَإِنِّي لأظنه يُرِيدنِي قَالَ فَمَا تُرِيدُ قَالَ يَا نَبِي الله أُرِيد أَن تَأمر الرّيح فتأخذني فتلقيني فِي أبعد جزائر الْبَحْر فَإِنَّهُ قد أطاش عَقْلِي وأذهب لبي وَنقض كل عُضْو
1 / 41
فِي بدني
فَأوحى الله تَعَالَى إِلَيّ سُلَيْمَان أَو ألْقى فِي نَفسه أَن يفعل ذَلِك فَأمر الرّيح فَأَخَذته فألقته حَيْثُ أَرَادَ فَمَا اسْتَقر بِالْأَرْضِ حَتَّى نزل عَلَيْهِ ملك الْمَوْت فَقبض روحه ثمَّ رَجَعَ إِلَى سُلَيْمَان فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان رَأَيْتُك تديم النّظر إِلَى جليسي قَالَ نعم كنت أتعجب مِنْهُ لِأَنِّي أمرت بِقَبض روحه فِي أبعد بِلَاد الْهِنْد فِي سَاعَة قريبَة من الْوَقْت الَّذِي كَانَ عنْدك فَمَا هُوَ إِلَّا أَن خرجت قيل لي انْزِلْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ بهَا فَنزلت عَلَيْهِ فَوَجَدته بهَا فقبضت روحه وَأنْشد بَعضهم
مَا أَنْت والرشأ الأحوى تغازله ... والركب تسْأَل عَنهُ بانة الواد
وَقد أظلك جَيش للردى لجب ... كالبحر يُوصل أمدادا بأمداد
من كل داهية لَو أَنَّهَا مثلت ... شخصا لأظلم مِنْهَا كل وقاد
لَا يمْنَع الْمَرْء مِنْهَا رَأس شاهقة ... وَلَا يرد شباها نسج زراد
وَأَنت غاد على ظهر الطَّرِيق وَمَا ... لديك من نَاصِر يُرْجَى وَلَا فاد
كأنني بك مصروعا لوطأته ... هَذَا أَو أَن مغار الْفَارِس الْعَاد
قُم قد أتيت وَلَا منجي وَلَا وزر ... للويل أَصبَحت من ركض وإنشاد
صَحَّ بالندى وبالقصر المشيد عَسى ... هَيْهَات هَيْهَات كَانَ الْقصر والناد
يَا رَاقِدًا وعيون الْمَوْت ساهرة ... لقد أعرت لأمر غير رقاد
وَأعلم أَن فِي النّظر إِلَى الْمَيِّت ومشاهدة حَاله وَسَكَرَاته ونزعاته وَتَأمل صورته بعد مماته مَا يقطع عَن النُّفُوس لذاتها ويطرد عَن الْقُلُوب مسراتها وَيمْنَع الأجفان من النّوم والأبدان من الرَّاحَة وَيبْعَث على الْعَمَل وَيزِيد فِي الِاجْتِهَاد والتعب
يرْوى أَن الْحسن الْبَصْرِيّ ﵀ دخل على مَرِيض يعودهُ فَوَجَدَهُ فِي سَكَرَات الْمَوْت فَنظر إِلَى كربه وعلته وَشدَّة مَا نزل بِهِ فَرجع إِلَى أَهله بِغَيْر اللَّوْن الَّذِي خرج بِهِ من عِنْدهم فَقَالُوا لَهُ الطَّعَام يَرْحَمك الله أتأكل فَقَالَ
1 / 42