48

কান চামড়

عن عمد … اسمع تسمع‎

জনগুলি

رماديات

تلفت حولي أقرأ الوجوه. لم يكن بها أثر لحزن ما، كان كل وجه يرى ويسمع ويصغي إليك بل ويحادثك، ولكنك تحس أنه مجرد قناع، وأن الوجه الحقيقي غارق في بحر خاص لا قرار له؛ غريب هذا! لقد تغيرنا، لا أقصد كمجتمع وإنما كأفراد وكتصرفات أفراد. أذكر منذ عشر سنوات أو أكثر قليلا أن أشرف زميل لنا على الموت في المستشفى، وما كاد الخبر يعرف حتى غصت طرقات المستشفى والحجرات المجاورة لحجرته بعشرات - ولا أقول بمئات - من الزملاء والكتاب والفنانين والفنانات. جزعهم جزع حقيقي نابع من القلب، وفجيعتهم حين مات فجيعة حقيقية.

ثم ها نحن الآن! يموت أعز الناس فلا يستغرق الحزن عليه دقائق. حتى أقرب المقربين يحزنون، هذا صحيح، ولكن طاقتهم على الحزن محدودة سرعان ما تستنفد ليعود كل منهم يغوص في خضم حياته ومشاكله. حتى الفرح ! لم نعد نفرح فرحا كالبحر الهائج عارما صادقا صادرا عن القلب بلا أي مانع أو حاجز. نفرح! هذا صحيح، ولكنه ذلك الفرح المحدود الضئيل الذي نحاول تضخيمه بإحالته إلى قهقهة، ولكنها قهقهة تخرج عالية صاخبة إنما بغير روح. حتى ضحكات الجمهور في مسارح القطاع الخاص، ضحكات عالية ولكنها مغتصبة، مشنجة، حنجرية، وكأنما يجاملون بها الممثلين على المسرح. أيكون قد مضى بنا زمن البراءة والفطرة، وأن الحياة قد تعقدت وتشابكت. كثرت بحيث لم يعد هناك مكان لعاطفة ما، مفرطة بحيث لم يعد للأسود الفاقع أو الأبيض الناصع وجود في حياتنا، إنما هو الرمادي يصبغ كل شيء. برمادية نتلقى بزوغ الشمس في الصباح، برمادية نحتسي كوب الشاي، بعيون رمادية نبدأ العمل، نحب ونتزوج ونجوع بلا مبالغة أو تفريط، إنما برمادية باهتة نفعل. أين عواطفنا الجامحة؟ أين الطموح العظيم؟ أين الإقدام النهم على الحياة؟ أين الحب وحتى آخر قطرة دم؟ أين الشجاعة والأريحية والشهامة؟ أين الصديق؟

يخيل لي أننا قد أصبحنا نعيش بعواطف أخرى، باشتباكات مصالح، بقيم مختلفة تماما، بكم من العواطف ما أشد ضآلته.

كل الدلائل تشير إلى أننا اجتزنا أشد المصاعب وعبرنا أكبر العقبات، وأننا في طريقنا إلى الأحسن، ولكننا بشر. وأعتقد أن المحن الروحية التي خاضها إنساننا المصري خلال الأعوام القليلة الماضية، محن تشيب لهولها الولدان، محن كانت كفيلة بخنق كل نبضة حياة في أي منا، وبطولتنا أننا صمدنا واجتزناها. وها نحن الآن على الجانب الآخر، ولكننا شيوخ وصلنا، حتى أطفالنا شابت منهم الرءوس.

وأملي أن أعيش حتى يسترد كل شيء طعمه الخاص، حتى يعود للفرح فرحه، وللحزن روعته، وللقلب دقه، وللعواطف تدفقها، أسنعود من جديد نضحك ونبكي ونجوع ونحب، ونفعل هذا بكل ذرة في كياننا؟

إنني لا أملك سوى الرجاء.

وعن السينما أيضا

ونعود إلى السينما وصناعتها وماء نارها الكاوي. ممكن أن يقوم قطاع خاص في السينما هذا صحيح، ولكنه لا يمكن أن يقوم على شكل دكاكين البقالة الصغيرة التي انتشرت في حقل الإنتاج السينمائي هذه الأيام. ثمانون فيلما في العام! ليه؟ هوليود بجلالة قدرها لا تنتج هذا العدد، مفروض أن يكون مقابل هذه الأفلام الثمانين ثمانمائة ألف عربة، وخمسمائة ألف آلة وأوتوبيس، وأكوام من الإنتاج الصناعي والزراعي الحقيقي لا حصر لها. فما بالك إذا كانت ثمانون فيلما فيها على الأقل سبعون، يضيع الفيلم الواحد منها كل أثر لأي كتاب أو ثقافة أو تعليم أو ضمير، أفلام تجأر بالشكوى والأنين، أفلام لا بطولة فيها ولا مثل واحد يحتذى أو يرفع من قيمة الإنسان وقدره، أفلام إما بطلها جبان يضحك بجبنه أو صديق يخدع صديقه أو فتاة يطاردها ذئاب البشر وهي مسكينة غلبانة مجني عليها يا عيني. وما هذا الكلام الفارغ؟ إن الفن هو ضابط الإيقاع للمجتمع، وإذا كان الهلس يسود أفلامنا فمن المحتم أن يمتد إلى حياتنا يحيلها هلسا في هلس، ولا مبالاة في لا مبالاة، يقتل الطموح ويقتل القيم. إنني أتلقى خطابات كثيرة من القراء المصريين الذين يعملون في بلادنا العربية، كيف تندى جباههم خجلا وهم يرون مصر ونساءها وكيف تصور في أفلامنا. كتب قارئ يقول: أحس بكرامتي وإنسانيتي تنزف، وأن شرفي كمصري مستباح، وبالذات لأبناء البلد الذي أعمل فيه. حرام عليكم.

وأنا أقول «لبتوع» السينما عندنا: ليس حراما عليكم فقط، ولكن أقول لكم بصراحة: أنتم تقدمون لشعبنا سما زعافا في سبيل الربح، ولا بد أن نقيم عليكم وصاية شعبية أولا؛ فقد ثبت أن الرقابة الرسمية لا يمكن وحدها أن تقف أمام هذا الاكتساح الهلسي الرهيب، وإذا نحن تركنا إنساننا وإنسانتنا لهذا الهلس فالعوض على الله فينا كشعب وحتى كأمة عربية؛ لأننا نصنع لهذه الأمة سينمتها وحلقاتها. أنتم تريدون الربح والجمهور، ولكم حق في هذا، ولكن الربح على طريقة دكاكين البقالة ربح صغير، وهو الذي يدفعكم إلى الهلس كوسيلة لجذب المتفرج، والحل ليس مزيدا من الهلس، الحل هو الاندماج معا في شركات كبرى تحترم نفسها وتحترم ما تقدمه لمتفرجها وتربح أكثر حين تنفق على أفلامها أكثر.

অজানা পৃষ্ঠা