كان عمدة الوجه البحري آمون مينا رجلا، كما وصفه يوحنا النخوي مدعيا غبيا، يمقت المصريين أشد المقت، بقي في منصبه بعد دخول مصر في حوزة العرب، وكان عمدة مصر الوسطى على أحد شواطئ النيل من ناحية المنيا يسمى فيرس ولا نعلم عنه شيئا إلا أنه اشترك في تسليم البلاد للمسلمين، وأما عمدة مصر العليا - أو بابليون - فاسمه في أوراق البردي جورج أو جرجس الذي نسميه المقوقس، وهؤلاء كانوا المديرين على أهم الأقاليم مع الدوق العسكري والحامية التي تتبعه، وإلى جانبهم قديما - أو بعد دخول العرب - مديران آخران أقل شأنا منهم، وهما: فولكسينوس بالفيوم، وشنودة بالريف.
وثلاثة من هؤلاء العمد مصريون وطنيون، بدليل أسمائهم التي لا تقبل الشك، وإن لم يكونوا من أتباع الكنيسة الوطنية، وإلا لما أمكن أن يشغلوا هذه المناصب، وإن المؤرخين الذين يذكرون المقوقس على أنه قبطي مصري لعلى صواب، ولكنهم مخطئون في زعمهم أنه تابع للكنيسة الوطنية التي تعرف الآن باسم الكنيسة القبطية، ولعله كان في قلبه يشايع كنيسة آبائه ولا يستطيع أن يصرح بالانتساب إليها، فهو موظف بيزنطي من أبناء مصر وهو من ثم خائن لإمبراطوره وخائن لبلاده وخائن لكنيسته.
وكان قد مضى عليه عهد بعيد في وظيفته على أيام الغزوة العربية، فأصبح أقوى المديرين جميعا لدخول بابليون في إقليمه على أقصى حده الشمالي، وتعود المصريون نحو عشرين سنة أن ينظروا إليه كأنه وحده حاكم وادي النيل، وقد علمتهم غارات الفرس أن البيزنطيين بغير حول ولا قوة، ثم ذهب الفرس وعاد البيزنطيون، واحتلت طائفة من جنودهم حصن بابليون وبعض الأمكنة في بني سويف والفيوم، ولم يشعر أبناء البلاد إلى الجنوب بآثار هذا التغيير، ولا فرقوا بين الجنود في ملابس الفرس أو الجنود في ملابس الرومان، وإنما كانوا يؤدون الضرائب بحكم العادة للعمدة أو المدير، ويكلون إليه أن يسلمها لمن يشاء، وانقضى زمن طويل والمدير القوي يتصرف فيها على أيسر وسيلة، فيستبقي له كل ما بقي من الأموال بعد توزيع المرتبات وتكاليف الحكومة في الإقليم، ولكنه ما عتم أن رأى هرقل يظن أن مقترحات التوفيق قد جمعت أبناء البلاد، ويريد الدليل المحسوس على سلطانه ويشدد في استقضاء الأموال حتى شهد الخطر فاغرا فمه أمام عينيه، وكان من قبل قد نظر إلى بعيد، وأرسل إلى الشمس الطالعة سفارة ودية تحمل الهدايا من العسل والعبيد إلى محمد زعيم القوم، وها هو ذا محمد قد مات، وها هي ذي وقائع النصر التي أحرزها هرقل تغمه وتشغل باله، فإذا نهضت الدولة القديمة وهزمت العرب أمامها كما هزمت الفرس، فهو أول من يساق لتقديم الحساب.
وقد التقت جيوش هرقل وعمر خليفة محمد في فلسطين، وأيقن جرجس أن مصر ستكون لا محالة نصيب الظافر من الفريقين، ولاح له من وقائع هرقل الأخيرة أنه قد يكون صاحب الكفة الراجحة، فبادر إلى العمل على حسب هذا التقدير، وكانت له فتاة حسناء تسمى أرمانوسة فخطر له خاطر بارع: أن يزوجها من قسطنطين بن هرقل ووارث عرشه الذي ماتت زوجته، وأن يزودها بجهاز يغريه بإهمال موضوع الأموال المتأخرة، وكان قسطنطين يومئذ في قيصرية، ويظهر أنه استراح إلى هذه الفكرة، وعلى هذا خرج من بابليون في أواخر سنة 630 موكب فخم يزف العروس المصرية إلى قرينها الملكي، وقيل: إن حراس الموكب بلغوا ألفي فارس عدا الحشم والخدم وحملة الذخائر والتحف المهداة، وما كاد يقترب من الحدود المصرية وينحو ناحية القنطرة فالعريش حتى نمى إلى أرمانوسة نبأ انتصار العرب ومحاصرتهم لقيصرية، وتأهبهم للهجوم على البلاد المصرية، فتصرفت المصرية الشابة بالشجاعة والفنطة الجديرتين بأسلافها العريقين، وقفلت إلى بلبيس مستعدة هنالك للدفاع، فأنفذت على الأثر حراسها إلى الفرما للمقاومة فيها إذا قدم العدو من جانبها كما كان مرجحا في تلك الأحوال، وأرسلت إلى أبيها تنذره، ولم تبرح بلبيس لتشجيع السكان على الثبات في وجه الكفار، على أن عمرا قائد المسلمين تجنب الفرما وتقدم رأسا إلى بلبيس، فضرب حولها الحصار فلبثت الفتاة الباسلة شهرا تصد العرب بفرقتها الصغيرة التي لم تدرب على القتال، وبعد خسارة عظيمة في الأرواح وقعت المدينة عنوة في قبضة عمرو، ومعها أرمانوسة وكل ما لديها من ذخائرها وكنوزها، فبعث بها إلى أبيها معززة مكرمة، إما لإعجابه ببسالتها ومحاولتها الدفاع والمقاومة، وإما لإدراكه جلالة العاقبة من ترك كل عمل يسيء إلى العمدة المقتدر في بابليون، فانحلت مشكلة المقوقس وبرح الخفاء في أمر الشمس الطالعة منذ ذلك الحين.»
وعلى هذا المنهج من تشويه الوقائع تمضي المؤرخة «المترومنة» وتتكلف من التحقيق والتمحيص ما يعينها على غرض واحد، وهو الحسرة على خروج مصر من الدولة الرومانية، وإلقاء التبعة في ذلك على المقوقس، وتعليل خيانته بجمع الضرائب لنفسه في الآونة التي انقضت بين استيلاء الفرس على مصر وخروجهم منها، وهي علة لا يعقلها جاهل بظواهر الأحوال، فضلا عن مؤرخ يتصدى لتفسير التواريخ واستخلاص الحقائق من وراء الشبهات، فإن الفرس لم يفتحوا مصر ليتركوا ضرائبها وخيراتها غنيمة للمقوقس، يعطي منها ما يعطيه ويستبقي منها ما يستبقيه، وإذا كانت علة الخيانة خوف المطالبة بالضرائب المتأخرة فأيسر شيء على المقوقس أن يقول: إن الفرس نهبوها ولم يعطوه «إيصالا» بما نهبوه بطبيعة الحال، وإذا عز عليه في دهائه - أو في بلاهته - أن يعتذر بهذا العذر الواضح، فقد كان خيرا له أن يبذل المال لهرقل أو لقسطنطين بدلا من إرساله تحفا وهدايا وجهازا وصداقا مع بنته المزعومة أرمانوسة، وهو لا يأمن أن تخرج مصر من يد هرقل، فيكون قد قذف بفتاته إلى النيران ووقع بين شقي الرحى من ناحية المهزومين وناحية المنتصرين، ولم يستفد من كل ذلك إبقاء المال ولا إبقاء فتاته لديه.
وقد قبلت المؤرخة «المترومنة» قصة أرمانوسة من قصص الواقدي على علاتها، ولم تبحث فيها أقل بحث يتطلب التعزيز والإسناد، ولم يحملها على قبول القصة إلا أنها ذريعة لتهمة من التهم تكال للمقوقس المسكين، على أن «بتلر» لم يرفض قصة أرمانوسة إنصافا للحقيقة، أو ذهابا مع التمحيص والتدقيق، بل رفضها لأنه اختار أن يكون المقوقس هو فيرس، واختار أن يكون فيرس راهبا لا يجوز له الزواج، وهو في ذلك لم يبلغ بالتمحيص غايته؛ لأن مسألة الزواج لم تكن يومئذ من الحرج والصرامة بحيث انتهت إليه بعد فصل الكنيسة القبطية من سلطان الرومان. وقد كان مستحبا للأسقف أن يكتفي بزوجة واحدة إذا خشي الفتنة على نفسه ولا يزيد عليها، قال ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونين، صاحب «سير البطارقة» في أثناء الكلام على ديمتريوس الثاني عشر: «وإذا قال قائل: كيف يجوز أن يكون بطرك متزوجا؟ نقول له: قد قال التلاميذ في قوانينهم: إذا كان الأسقف متزوجا امرأة واحدة فلا يمنع من ذلك؛ لأن الزوجة المؤمنة طاهرة وفراشها طاهر ولا ذنب عليه، والبطرك هو أسقف مدينة الإسكندرية، وله الرئاسة على أساقفة أعمالها؛ لأنه خليفة مار مرقس الرسول على إقليم مصر جميعه، الخمس مدن والنوبة والحبشة كل هذه خرجت من قسم الأب مرقس الرسول البشير ببشرى الإنجيل؛ ولهذا أوجب أن يكون حكم أسقف إسكندرية على جميعها.»
فليست هناك علل حاسمة تصلح للاستناد إليها في التثبت من السير والأشخاص على هذه الطريقة التي توخاها بتلر، أو على تلك الطريقة التي توختها السيدة فيما اختارته أو نبذته من تاريخ تلك الآونة.
وكان خليقا بتاريخ هذه السيدة أن يهمل كل الإهمال، أو يترجم لتصحيحه وإبرائه من السخائف والأباطيل، ولكنه ترجم فبلغ من غباء مترجمه أن يصرف همه في الترجمة إلى توكيد سخائفه وتمكين أباطيله، واختراع القصص لتزييفه وتسويغه، ونبذة واحدة من الترجمة السقيمة تكفي لتصوير الجرأة على الهزل في مقام الجد مما يساق للناس في مقام التاريخ المحفوظ، وهذه النبذة هي هذه القصة التي اخترعت أو أضيفت إلى التاريخ من أساطير الخيال، وقد نقلها المترجم مما تقدم فقال:
من مميزات المقوقس أنه كان ذا وجهين، يتلون تلون الحرباء ويتقلب حيث شاء، ولسان حاله يقول: أنا مع الغالب فإنه لما انتصر هرقل على العرب في موقعة عند فلسطين، ظن جرجس أن النصر سيكون لهذا الإمبراطور؛ ولذلك سعى في التقرب إليه والتملق له عساه يتناسى عدوانه وطمعه، فدبر الطريقة الآتية، وهي أنه كانت له ابنة بارعة في الجمال اسمها أرمانوسة، فخطر على باله أن يزوجها بقسطنطين بن هرقل الأكبر ووريثه، وأمهرها بصداق وفير جعل هذا الأمير الذي كان حاكما في قيصرية أن يقبل طلب جرجس ويتنازل في المتأخرات الباقية عليه من ضرائب مصر التي لم يدفعها للخزينة الإمبراطورية، ففي سنة 639 سارت هذه العروس المصرية من بابليون بأبهة الملكات وفخفخة جداتها المصريات، يحف بها جيش جرار ويمشي في ركابها أمراء وأقيال، حتى بلغ مقدار الفرسان الذين كانوا في موكب زفافها ألفي فارس أو يزيدون، عدا العبيد والهدايا النفيسة والمطايا الفاخرة التي تليق بعروس مصرية لعريس روماني، ولكن عندما وصلت هذه الحسناء لحدود مصر، وكادت تعبر القنطرة عند الإسماعيلية إلى العريش، بلغها أن الغلبة كانت حليفة للعرب الذين شددوا الحصار على قيصرية، وهم يستعدون للهجوم على مصر، فلما طرق هذا الخبر آذان سليلة رعمسيس وابنة فرعون وكريمة أولئك الأجداد الكرام الذين دوخوا العالم واجتاحوه قبل أن يوجد العرب، طرحت حلي العرس وزينة الفرح، وتقلدت السيف بدل الوشاح، ولبست الدروع بدل الدمالج، وتمنطقت بمعدات الهلاك بدل أحزمة الذهب المرصعة باللآلئ ونزلت من مركبتها، وامتطت متن جواد أشهب، وقالت للذين يسيرون معها أن هيا نخضب أيدينا بدماء الأعداء بدل خضاب الأوانس، ونشرب بجماجمهم عوضا عن شربنا بكاسات الذهب وطاسات الإبريز، تعالوا نشنف آذاننا بصلصلة السيوف وصهيل الخيل، بدل وقع الدف ورنة العود! سيروا بنا نحو الأعادي، وهناك إذا وقعت العين على العين، وحمي وطيس الحرب وعلا سعير الطعن والضرب، وتقابلت مع الفرسان، تجدونني أردد ما قاله عنترتهم الأسود، وأنا فتاة بيضاء بضاء، وغادة هيفاء:
إذا كشف الزمان لك القناعا
অজানা পৃষ্ঠা