وفي هذه الفترة خيل إلى قائد الروم أنه قادر على أخذ العرب بالمباغتة كما يأخذونه، فتأهب للهجوم على جيش عمرو في قاعدته الكبرى بعين شمس، وكانت تلك المعركة التي أسلفنا الإشارة إليها ودارت فيها الدائرة على الروم، فتجلت فيها مهارة عمرو في القيادة، كما تجلت فيها يقظته لحركة أعدائه وثباته لقوتهم وهي أضعاف قوته في الرجال والسلاح.
وانقضت السنة ومضت أشهر من السنة التالية، والحصن صامد لا يسلم، ولا يزال الذين فيه يخرجون من حين إلى حين لمناوشة جند المسلمين والعودة إليه، وكان النيل قد هبط في أثناء ذلك، فاستطاع عمرو أن يرسل فرقا من جيشه إلى مصر السفلى لتعويق حركات الروم قبل التقدم إليه، فكان يهزمهم تارة ويرتد عنهم تارة أخرى، بغير كبير طائل لهذا الفريق أو لذاك.
وظل الفاروق في المدينة يرقب جيشه الزاحف بعين لا تغفل وقلب لا يوجل، ولم يزل يمدهم ويسأل عن أخبارهم ويتفقدهم، فلا يرى شيئا هو أحق عنده بالتفقد من سلاحهم الماضي قبل كل سلاح، وعدتهم اللازمة قبل كل عدة ، وهي الإيمان أو قوة الروح، فلما أبطأ الفتح المبين لم يرجع بإبطائه إلى قلة العدد أو قوة العدو، بل رجع به إلى نقص الإيمان ودخل النيات، وكتب إلى المسلمين يقول: «عجبت لإبطائكم فتح مصر، تقاتلونهم منذ سنتين وما ذاك إلا لما أحدثتم وأصبتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تعالى لا ينصر قوما إلا بصدق ثباتهم.»
ولهذا الاستبطاء معناه التاريخي الجليل في فهم خطط المسلمين صدر الإسلام، وفهم التردد الذي بدا من الخليفة يوم أن عرض عليه عمرو مسيره إلى مصر لفتحها بعد فتح فلسطين، فإن هذا الاستبطاء دليل على أنه لم يتردد في تسيير الجيش إلى مصر استهوالا لخطب الروم، أو استعظاما لفتحها على جيش المسلمين، ولكنه تردد على سنته في اجتناب الغزو إلا لدفع خطر، أو اتقاء عدوان منتظر، ولولا ذلك لكان استبطاؤه الفتح بعد استهواله إياه من أعجب الأمور.
وحدث في أثناء ذلك أن مات العاهل هرقل، وشاعت الدسائس في البلاط بعده، وفشا المرض في حامية الحصن حتى هلك به خلق كثير، وتغلب حزب الصلح بعد موت العاهل الذي كان يأباه، واعتز جيش المسلمين بإمداد من الفرسان المغاوير يقدر الواحد منهم بألف مقاتل ولا مغالاة؛ لأن تقديره بألف مقاتل لا يعني أنه يساويهم في العدة والكثرة، بل يعني أنه يبث الشجاعة في الجيش بقدرته ويقينه، فيقاتل الجيش كأنه قد زيد ألف مقاتل، ولم يكن قصاراه زيادة فارس واحد، وليس هذا بعجيب في جيش تقوم عدته الكبرى على الثقة واليقين.
من هؤلاء الزبير بن العوام الذي جاء في بعض الروايات أنه تسور الحصن يتبعه جماعة من المستشهدين، فأوقع الرعب في قلوب الحامية وهي تعاني ما تعاني من اليأس والخوف والسقام، فأسرع أنصار الصلح إلى التسليم بعد ممانعة قليلة من المعارضين، وكان ذلك يوم الجمعة السابق ليوم القيامة سنة (641).
وبادر عمرو بعد سقوط الحصن إلى إقامة المعابر على النيل لعبوره قبل فيضانه، ثم مضى في طريقه إلى الإسكندرية يقاتل من لقيه من فالة الروم أو جموعهم المتربصة في حصون المدن الكبيرة بين بابليون وشاطئ بحر الروم، وضرب الحصار على المدينة الكبيرة، بينما كانت جنوده وهو على رأسهم في بعض الأحيان يشنون الغارة على مدينة بعد أخرى من مدن مصر السفلى، حتى كان أول المحرم سنة 21 للهجرة/10 ديسمبر سنة 641، فسلمت الإسكندرية يأسا وخورا وهي قادرة على مواصلة القتال سنوات، وانعقد الصلح على أن تؤدى الجزية دينارين عن كل رجل قادر على العمل، وأن تستمر الهدنة أحد عشر شهرا تجلو الجيوش الرومانية في خلالها عن المدينة، وتحمل معها من متاعها ما تشاء، وأن تباح للمسيحيين عبادتهم، وتصان لهم معابدهم، وأن يؤذن لليهود بالبقاء في الإسكندرية، وأن يضع الروم عند المسلمين رهائن لضمان نفاذ الاتفاق مائة وخمسين من المقاتلين، وخمسين من السراة غير المقاتلين.
وكان هذا الصلح على هوى المقوقس، ولم يكن على هوى الكثيرين من غلاة الجند وأصحاب الأموال في العاصمة التجارية الكبرى فثاروا بالمقوقس، وأحاطوا بقصره متوعدين منذرين، وخرج لهم باكيا يعتذر لهم بمشيئة الله من أزل الآزال ولا راد لقضاء الله، فاستمعوا إلى الرجل الذي يكلمهم بلسان الدين ولسان الدنيا وشاركوه في البكاء!
تقدمت الإشارة إلى بسالة عمرو في حصار الإسكندرية، ومجازفته بنفسه في اقتحام حصونها مع طلائع المقتحمين، فما هو صحيح من أنباء تلك البسالة فهو شاهد بخلق قد شهدت به معارك كثيرة ومآزق شتى، وما ليس بصحيح فهو من مبالغة الخيال في تكبير الواقع، وليس مما ينقص ذلك الخلق المتفق عليه.
على أن العظمة التي ثبتت لعمرو بن العاص بعد فتح مصر لا تقل عن عظمة الفاتح الجريء ولا عظمة القائد الضليع بفنون الخدعة والإقدام.
অজানা পৃষ্ঠা