وتذكر غرفة ضخمة حالكة الظلام، تحتوي على أشياء خشبية كبيرة ترتبط بحبال رفيعة، وتقف حولها ثلة من النساء - يصنعن الأغطية كما تقول لندا، وطلبت إليه أن يجلس في ركن الغرفة مع الأطفال الآخرين؛ كي تذهب هي إلى النسوة وتمد إليهن يد المعونة، وظل يلعب مع الأطفال مدة طويلة، ثم بدأ الناس يتحدثون فجأة بصوت مرتفع، ودفع النسوة لندا بعيدا عنهن، فصاحت وتوجهت نحو الباب فتبعها، وسألها فيم غضبهن، فأجابت: «لأني كسرت شيئا.» ثم غضبت هي كذلك، وقالت: «كيف أعرف أن أنسج مثلهن، هؤلاء الهمج المتوحشون؟» فسألها ما تعني بالمتوحشين، ولما عادا إلى البيت كان بوبي بانتظارهما لدى الباب، فدخل معهما، وكانت معه جرة كبيرة ملأى بمادة تشبه الماء وليست به، هي مادة ذات رائحة كريهة تحرق في الشارب وتجعله يسعل، وقد تناولت منها لندا قليلا، كما تناول بوبي، ثم قهقهت لندا بالضحك وتكلمت بصوت مرتفع، ثم رافقت بوبي إلى الغرفة الأخرى، ولما انصرف بوبي، توجه إلى الغرفة فألفى لندا في الفراش مستغرقة في النوم، ولم يستطع إيقاظها.
واعتاد بوبي أن يتردد على البيت، وقال: «إن المادة التي كانت تحتويها الجرة تسمى «مسكال»»، ولكن لندا قالت: «إنها يجب أن تسمى سوما»، غير أنها تصيب الشارب بالمرض، وكان الولد يكره بوبي، بل كان يكره كل الرجال الذين يأتون لزيارة لندا، وفي عصر ذات يوم - يذكر أنه كان باردا، وأن الثلوج كانت تعمم الجبال - اشترك مع الأطفال الآخرين في اللعب، ثم عاد إلى البيت وسمع في غرفة النوم أصواتا غاضبة، وكانت أصوات جماعة من النسوة يتفوهن بكلمات لم يفقه لها معنى، ولكنه عرف أنها كلمات مريعة، وإذا بشيء ينقلب فجأة ويحدث صوتا عاليا فهاج الناس وماجوا، ثم حدث الصوت مرة أخرى، وأعقبه ضجيج كضجيج البغل قليل العظام حين يضرب، وصاحت لندا «لا تفعلوا، لا تفعلوا، لا تفعلوا!» وجرى نحو الصوت فإذا بثلاث نساء متشحات بإزار أسود، وكانت لندا على فراشها، وإحدى النساء تمسكها من معصميها، والأخرى ترقد فوق ساقيها وتمنعها من الركل بقدميها، والثالثة تضربها بالسوط، وقد ضربتها ثلاث ضربات ضجت منها لندا بالعويل، فتعلق الولد بذيل رداء هذه المرأة، وأخذ يصيح قائلا: «أرجوك وأتوسل إليك!» فدفعته بعيدا عنها بيدها الطليقة، وهبط السوط مرة أخرى فولولت لندا ثانية، فأمسك بين يديه بيد المرأة وهي يد ضخمة سمراء اللون، وعضها بكل قوته، فصاحت وخلصت يدها ودفعته دفعة قوية، خر لإثرها طريحا فوق الأرض، وضربته بالسوط ثلاث ضربات وهو مستلق فوق الأديم، وشعر بألم لم يشعر بمثله من قبل - كأنه النار، ثم نهض، ووقع عليه السوط مرة أخرى فخر ثانية، ولكن لندا هي التي صاحت هذه المرة.
وسألها في تلك الليلة: «لماذا أرادوا إيذاءك يا لندا؟» وكان يبكي؛ لأن علامات السياط الحمراء فوق ظهره ما برحت شديدة الإيلام، ولكنه كان كذلك يبكي لأن الناس متوحشون ظالمون إلى حد كبير؛ ولأنه طفل صغير لم يستطع أن يفعل بهم شيئا، وكانت لندا كذلك تبكي، أجل لقد كانت كبيرة ولكنها لم تبلغ من الضخامة حدا يمكنها من العراك مع ثلاثة أشخاص، لقد ظلمها النسوة، وكرر الولد سؤاله: «لماذا أرادوا إيذاءك يا لندا؟» «لست أدري، وكيف أدري؟» وكان من العسير أن تسمع ما تقول؛ لأنها كانت مستلقية على بطنها ووجهها مطمور في الوسادة، وواصلت الحديث قائلة: «إنهن يزعمن أن أولئك الرجال رجالهن.» وكأنها لم تكن تتحدث إلى الصبي، بل كأنها تتحدث مع إنسان بداخلها، وألقت حديثا طويلا لم يفقه له معنى، وأخذت في النهاية تصرخ صراخا عاليا ليس لها به عهد. - «لا تصرخي يا لندا، لا تصرخي.»
وضمها إليه، وطوق جيدها بذراعه، فصاحت في وجهه لندا: «مهلا، مهلا، كتفي! أوه!» ودفعته بشدة بعيدا عنها، فاصطدم رأسه بالحائط، ثم صاحت: «يا لك من غر أحمق!» وبدأت تصفعه فجأة، وتوقع عليه الصفعات واحدة تلو الأخرى.
فصاح قائلا: «لندا، أماه، لا تفعلي.» - «لست أمك، ولن أكون لك أما.» «ولكن يا لندا ...» فصفعته على خده وصاحت: «لقد انقلبت امرأة همجية لي صغار كالحيوان، لولاك لذهبت إلى المفتش ولاستطعت الفرار، ولكني لن أفر ومعي طفل، إن هذا لعار كبير.»
ولاحظ أنها تهم بضربه ثانية فرفع ذراعه يحمي بها وجهه، وقال: «بربك لا تفعلي يا لندا.»
فجذبت ذراعه إلى أسفل وانكشف وجهه، وقالت له: «أيها الوحش الصغير.»
فأغمض عينيه وقال لها: «لا تفعلي يا لندا!» وقد توقع أن تضربه، ولكنها لم تفعل، وبعد برهة فتح عينيه ثانية ولاحظ أنها كانت تنظر إليه، وحاول أن يبتسم لها، وطوقته بذراعها بغتة وانهالت عليه بالقبلات.
وكانت لندا أحيانا تلزم الفراش أياما عدة وهي حزينة، وأحيانا تتعاطى شيئا من المادة التي أحضرها بوبي، وتضحك كثيرا ثم تستغرق في النوم، وأحيانا تنتابها العلة، وكثيرا ما كانت تنسى أن تغسل ابنها، ولم يكن لديه ما يأكله سوى الخبز المكسيكي البارد، وتذكر المرة الأولى التي وجدت فيها تلك الحيوانات الصغيرة في شعره، وتذكر كيف صاحت حينئذ وعلا صياحها.
وكانت أحب الأوقات إلى نفسه تلك التي كانت تحدثه فيها عن العالم الآخر، فسألها: «وهل يستطيع المرء حقا أن يطير حيثما شاء؟» «أجل حيثما شاء.» ثم تحدثه عن الموسيقى الحلوة التي تصدر عن صندوق، وعن الألعاب الجميلة كلها التي يستطيع أن يلعبها الإنسان، وما لذ من مأكل ومشرب، وعن الضوء الذي يظهر عندما يضغط المرء على شيء صغير في الحائط، وعن الصور التي تسمع حديثها وتحسها وتشم رائحتها، كما تستطيع أن تراها، وعن الصندوق الذي يصنع الروائح العطرة، وعن المنازل القرنفلية والخضراء والزرقاء والفضية التي تبلغ الجبال طولا، وكل امرئ سعيد، لا يحزن ولا يغضب، وكل فرد يتعلق بكل فرد آخر، وتحدثه عن الصناديق التي ترى فيها وتسمع ما يحدث في الجانب الآخر من العالم، وعن الأطفال في القوارير الجميلة النظيفة، وكل شيء بالغ النظافة، لا تشم رائحة كريهة، ولا تقع العين على قذارة، هناك لا يشكو الناس العزلة، بل يعيشون معا في سرور وسعادة، كما ترى الناس هنا في مالبي أيام الرقص في الصيف، بل أسعد كثيرا، لا تفارقهم السعادة في يوم من الأيام.
অজানা পৃষ্ঠা