فأجابها برنارد بقدر ما استطاع من إهمال قائلا : «كل ما في الأمر أنه عجوز !» وقد أصابه هو كذلك الذعر، غير أنه بذل الجهد في إخفاء تأثره.
فرددت لفظه قائلة: «عجوز؟ إن المدير عجوز، وكثير من الناس عجائز، ولكنهم ليسوا كهذا الرجل.» - «ذلك لأننا لا نسمح لهم أن يظهروا بهذا المظهر، فنحن نحميهم من الأمراض، ونحفظ لهم إفرازهم الداخلي بطريقة صناعية، على حاله كما كان أيام الشباب، إننا لا نسمح لما عندهم من مغنزيوم الكلسيوم أن يهبط نسبته إلى أقل مما كانت عليه في الثلاثين، إننا ننقل إليهم دماء الشباب، وكذلك نقوي فيهم دائما القدرة على تجديد ما يستهلكون من أبدانهم؛ ولذا فهم بالطبع لا يظهرون بهذا المظهر، ويرجع ذلك - إلى حد ما - إلى أن أكثرهم يموتون قبل أن يبلغوا سن هذا المخلوق العجوز، إنهم يحتفظون بفتوة الشباب كاملة حتى الستين، ثم تنتهي حياتهم فجأة.»
ولكن ليننا لم تصغ إليه، بل كانت ترقب العجوز وقد هبط في بطء شديد، ومست قدماه الأرض ثم التفت، ولمعت عيناه ببريق غير معهود، وهما غائرتان في محجريهما، وصوبهما نحوها برهة طويلة. لا يدلان على شيء، ولا يعبران عن دهشة، كأنها لم تكن هناك، ثم أخذ يحجل متباطئا إلى جوارهما ببطء شديد وبظهر محدودب، ثم اختفى.
فهمست ليننا قائلة: «إنه مريع، إنه مخيف، وما كان ينبغي لنا أن نأتي إلى هذا المكان.» وفتشت في جيبها عن السوما - فوجدت أنها تركت الزجاجة في الاستراحة سهوا، وهو ما لم يحدث لها من قبل، وكذلك كانت جيوب برنارد فارغة.
ولبثت ليننا في مالبي تواجه الفزع بغير معين، وقد تكاثرت أسباب الفزع حولها وتلاحقت، أخجلها مشهد سيدتين في سن الشباب، وقد قدما أثداءهما لصغارهما فأشاحت عنهما بوجهها، إنها لم تر في حياتها منظرا بشعا كهذا. ومما زاد الطين بلة أن برنارد بدلا من أن يتجاهله بلباقة، بدأ يعلق صراحة على هذا المنظر المنفر الذي يدل على التناسل بطريقة غير طريقة التفريخ، وكان أثر السوما قد زال، فأحس بالخجل من الضعف الذي أبداه في الفندق ذلك الصباح، وأراد أن يظهر قوته وعدم تقيده بالأصول المرعية .
وقال في ثورة متكلفة: «ما أجمل تلك العلاقة وما أحبها إلى النفوس، وما أغزر ذلك الشعور الذي تولده هذه العلاقة! لطالما جال بخاطري أن المرء يفقد شيئا ما إذا لم تكن له أم، ولربما فقدت الكثير يا ليننا؛ لأنك لم تكوني أما، تصوري نفسك جالسة هناك ومعك طفلك الصغير الخاص ...»
وقالت: «كيف تجرؤ على هذا القول يا برنارد؟» ثم صرفها عن غضبها مرور امرأة عجوز، مصابة بالرمد وبمرض جلدي.
ثم قالت: «دعنا ننصرف، إني لا أحب هذه المناظر.»
وعندئذ عاد مرشدهما وأشار إليهما أن يتقفيا أثره، ثم تقدمهما وسار نحو الطريق الضيق الذي يقع بين البيوت، وساروا جميعا حول أحد الأركان، وأبصرا كلبا ميتا ملقى على كومة من المخلفات القذرة، وامرأة تضخمت غدتها الدرقية تبحث عن القمل في شعر فتاة صغيرة، ثم وقف المرشد عند أسفل أحد السلالم المتنقلة، ورفع يده عمودية ثم دفعها أفقية إلى الأمام، وفعلا ما أمرهما به بالإشارة دون الكلام، فتسلقا السلم، وولجا الباب الذي يؤدي السلم إليه، فإذا بهما في غرفة طويلة ضيقة، مظلمة تنتشر فيها رائحة الدخان والدهن المطبوخ والملابس البالية القذرة، وكان في الطرف الآخر من الغربة باب آخر ينفذ منه شعاع من ضوء الشمس وضجيج الطبول القريبة.
ووطئت أقدامهما عتبة الباب فألفيا نفسهما في دهليز فسيح، وتحت أبصارهما ميدان القرية تتحوطه المنازل المرتفعة من جميع النواحي ويموج بالهنود، فلمحوا الأردية البراقة، والريش في الشعر الأسود، ولألأة الفيروز، والجلود السوداء التي تلمع وتشع الحرارة، فوضعت ليننا منديلها على أنفها مرة أخرى، وكان بالفضاء الذي يقع وسط الميدان رصيفان مستديران مشيدان من الصلصال المضغوط - ومن الواضح أن تلك كانت سطوح حجرات تحت الأرض؛ لأنهما شاهدا وسط كل رصيف بابا مفتوحا، يخرج منه سلم يبرز من الظلام السفلي، وطرق أسماعهما مزمار يعزف في باطن الأرض، غير أنه يكاد يتلاشى في دق الطبول الثابت المتصل الذي لم يعبأ بأحد.
অজানা পৃষ্ঠা