وجلس الهمجي إلى جانب الفراش.
وهمس قائلا : «لندا» وأمسك بيدها.
وعندما سمعت اسمها ينادى التفتت، وأشرقت عيناها الغامضتان بدور المعرفة، فضغطت على يده، وتبسمت وتحركت شفتاها، ثم سقط رأسها إلى الأمام بغتة واستغرقت في النوم، وجلس يرقبها - يمعن النظر في جسمها المنهوك، فيتذكر ذلك الوجه الشاب المشرق الذي انحنى على طفولته في مالبي، وتذكر (وقد أغمض عينيه) صوتها وحركاتها، وكل ما حدث لهما في حياتهما معا، وتذكر أناشيد الطفولة التي كانت تغنيها له، ما كان أجمل غناءها! وتذكر تلك الأغاني الصبيانية، ما أعجب سحرها وغرابتها!
أ، ب، ج، فيتامين ء.
الدهن في الكبد، والحوت في البحر.
فأحس بالدمع الحار يتجمع خلف جفنيه وهو يتذكر هذه الكلمات، ويذكر صوت لندا وهي تكررها، ثم تذكر دروس المطالعة: «الشراب في الإناء، والقط فوق الحصير.» كما ذكر الإرشادات الأولية لعمال «ب» في مخزن الأجنة، والأمسية الطويلة بجوار النار، أو فوق سطح البيت الصغير في الصيف، حينما كانت تقص له تلك الأقاصيص بشأن العالم الآخر خارج منطقة المتوحشين؛ ذلك العالم الآخر الجميل! إن ذكر هذا العالم - كذكرى السماء - جنة جميلة فيحاء، ولقد احتفظ بها كاملة لم تمس، لم يدنسها الاحتكاك مع الحياة الواقعة في هذه المدينة الواقعة، لندن، وهؤلاء الرجال والنساء الواقعيون المتمدنون.
وسمع ضجة من أصوات خشنة مباغتة ففتح عينيه، وبعدما مسح دموعه على عجل تلفت حواليه، فإذا بتيار لا ينقطع من ذكور التوائم المتشابهين، الذين يبلغون من العمر ثماني سنوات يتدفق داخل الغرفة، ودخلوا توءما بعد توءم وكأنهم حلم مزعج، ووجوههم - أو قل وجههم المتكرر لأنهم كانوا جميعا على صورة واحدة - تحدق كالكلاب، كلها أنوف وعيون شاحبة محملقة، وكانوا يرتدون الكاكي، وأفواههم فاغرة، وولجوا الغرفة وهم يصرخون ويثرثرون، وفي لحظة واحدة اندس الحارس معهم كالسوسة، وتكأكئوا حول الأسرة، وتسلقوها وزحفوا تحتها، وتطلعوا داخل صناديق التلفزيون، وحركوا وجوههم للمرضى كي يزعجوهم.
وأدهشتهم لندا بل وأزعجتهم، فوقفت شرذمة منهم متجمعين عند مؤخرة سريرها، وحملقوا مذعورين كأنهم حيوانات غبية متطلعة، جابهها أمر مجهول مباغت.
وتحدثوا بأصوات منخفضة مروعة قائلين: «انظروا، انظروا، ما بها ؟ ولماذا هي بدينة جدا؟»
ولم يروا وجها كوجهها من قبل، لم يروا وجها غير شاب ولا نضر، ولم يروا جسما زالت عنه نحافته واستقامته، لقد كانوا جميعا في سنوات الموت - بين الستين والسبعين - ولا يزال مظهرهم كالفتيات الصغيرات، أما لندا فقد بدت في الرابعة والأربعين - بالمقارنة مع هؤلاء - وحشا مسنا مترهلا مشوها.
অজানা পৃষ্ঠা