كلمة تقديم
إلى قره ميدان
الليلة الأولى في السجن
التهريب
القراءة
المنع والترخيص
أخلاق (1)
أخلاق (2)
الوعظ
ليلة المستشفى
أحمد حمزة
التسلية في السجن
الزيارة أو برج بابل
الطعام ومطالب الجسد
الوقت
يوم الإفراج
بعض الشخصيات
الجريمة والعقاب
بعض الإصلاح
كلمة تقديم
إلى قره ميدان
الليلة الأولى في السجن
التهريب
القراءة
المنع والترخيص
أخلاق (1)
أخلاق (2)
الوعظ
ليلة المستشفى
أحمد حمزة
التسلية في السجن
الزيارة أو برج بابل
الطعام ومطالب الجسد
الوقت
يوم الإفراج
بعض الشخصيات
الجريمة والعقاب
بعض الإصلاح
عالم السدود والقيود
عالم السدود والقيود
تأليف
عباس محمود العقاد
كلمة تقديم
عالم السدود والقيود الآن - عندي وعند كل عابر بسبيله - هو ذلك البناء المعزول في ناحية منزوية إلى طرف من الأطراف في بعض أحياء القاهرة الواسعة الكثيرة، كأنه يحس نفرة الناس منه ونفرته من الناس، واسمه في سجلات الحكومة سجن مصر العمومي، واسمه الشائع على الألسنة «قره ميدان».
أما يوم كنت آوي إليه ولا أرى غيره ولا أسمع بالدنيا إلا من وراء جدرانه فلم يكن بناء معزولا ولا كانت الناحية التي هو فيها ناحية منزوية إلى طرف من الأطراف، ولكنه كان هو العالم بأسره وبأرضه وسمائه، وكان العالم الخارجي جزءا لاحقا به مضافا إليه، وتلك شيمة في النفس الإنسانية أن تنقل مركز الكون كله إلى حيث تكون، فالسجن وإن كان عند السجناء منزلا بغيضا يصبحون ويمسون على أمل الخلاص منه وكراهة الاستقرار فيه، هو مع ذلك محور العالم ما داموا بين جدرانه، وهو شط والدنيا كلها شط آخر يتقابلان ويتناظران، فلو ظهرت في السجن صحيفة كبيرة لكان لأخباره فيها مكان «الحوادث المحلية» الظاهر في صدور الصحف السيارة، ولكانت أخبار العالم فيه كأخبار الحوادث الخارجية ورسائل الأقاليم ومنقولات البرق والبريد، وإذا ارتقى بعضها إلى محل الرعاية والتنويه فإنما يرتقي إليه بالإضافة إلى سجين من السجناء أو حادث يدور حول عقره وحجراته وخباياه.
وهذه الصفحات هي خلاصة ما رأيته وأحسسته وفكرت فيه يوم كنت أنزل «عالم السدود والقيود» وأشعر به ذلك الشعور، وأنظر إلى العالم من ورائه ذلك النظر: لست أعني بها أن تكون قصة وإن كانت تشبه القصة في سرد حوادث ووصف شخوص، ولست أعني بها أن تكون بحثا في الإصلاح الاجتماعي وإن جاءت فيها إشارات لما عرض لي من وجوه ذلك الإصلاح، ولست أعني بها أن تكون رحلة وإن كانت كالرحلة في كل شيء إلا أنها مشاهدات في مكان واحد، ولا أن أستقصي كل ما رأيت وأحسست وإن كنت أقول بعد هذا إن الاستقصاء لا يزيد القارئ شعورا بما هناك، وإنه لا فرق بينه وبين الخلاصة إلا في التفصيل والتكرير، وإنما دعوى هذه الصفحات - بل خير دعواها - أنها تتكفل للقارئ بأن يستعرض عالم السجن كما استعرضته دون أن يقيم هناك تسعة شهور كما أقمت فيه.
فإن كانت الصفحات التالية عند دعواها فذاك وحده هو حقها من القراءة وشفاعتها عند القراء، وهي إذن قد اختصرت تسعة شهور طوالا في مدى ساعات معدودات يطويها القارئ بين دفتي هذا الكتاب الصغير وهو يتفكه ولا يضيق ذرعا بالسدود والقيود، وحسبها ذلك من نجاح.
عباس محمود العقاد
إلى قره ميدان
فتحت الكوة الصغيرة، ثم فتح باب الرتاج الكبير، ثم احتوانا البناء المخفور الذي يعرف في مصلحة السجون باسم «سجن مصر العمومي» ويعرف على ألسنة الناس باسم «قره ميدان»؛ أي الميدان الأسود، باللغة التركية!
وخطر لي - وأنا أخطو الخطوة الأولى في أرض السجن - قول الفيلسوف ابن سينا وهو يخطو مثل هذه الخطوة:
دخولي باليقين بلا امتراء
وكل الشك في أمر الخروج
فهو تقرير فلسفي صحيح للواقع! ...
أما الدخول فها هو ذا يقين لا شك فيه، وأما الشك كل الشك فهو في أمر الخروج متى يكون وإلى أين يكون؟ أإلى رجعة قريبة، من السجن وإليه؟ أم إلى عالم الحياة مرة أخرى؟ أم إلى عالم الأموات؟
في تلك اللحظة عاهدت نفسي لئن خرجت إلى عالم الحياة لتكونن زيارتي الأولى إلى عالم الأموات، أو إلى ساحة الخلد كما سميتها بعد ذلك؛ أي ضريح سعد زغلول. •••
ولم تقع مني هذه الرحلة بين الدار والسجن موقع المفاجأة؛ لأنني كنت أنتظرها منذ زمن طويل ولو على سبيل الحجز الذي ينتهي بإفراج سريع، ولكني كنت لا أرى فرقا بين أيام أو أسابيع أقضيها على ذمة التحقيق وبين مدة أقضيها في الحبس بحكم القضاء، لأنني كنت أقدر أن حبس التحقيق - وإن قصر - كاف لأن يصيبني بأكبر الضرر الذي يخشاه الناس من السجن، وهو ضرر العلة التي لا تزول.
وعلى توقعي الاتهام والحبس كانت الأنباء تتوالى علي بما يؤكد ذلك التوقع من جهات عدة، وسمعت النبأ اليقين في هذا الأمر من صديقنا المغفور له سينوت حنا بك، وقد لقيني مرة فاستوقفني وقال لي: «حذار يا أستاذ!» فقلت له باسما: «لا يغني الحذر من القدر!» قال لي: «إني أروي لك ما أعلم لا ما أظن: إن مقالاتك تراجع في بعض الدوائر مراجعة خاصة، وإنهم ينتظرون يوما معينا ربما كتبت فيه ما يساعد على تأييد التهمة، ثم يقدمونك إلى المحاكمة بما استجمعوا من أدلة قديمة وحديثة!»
وكان في نيتي أن أسافر صيف سنة 1930 إلى لندن مع وفد مجلس النواب لتمثيل مصر في مؤتمر المجالس النيابية الذي عقد تلك السنة في العاصمة الإنجليزية، وقد استخرجت جواز السفر السياسي، واشتريت دليل لندن ودليل العواصم الأوروبية التي كنت أنوي زيارتها، ولم يبق إلا تذكرة السفر والاتفاق على الموعد واللحاق بإخواننا الذين سبقونا إلى باريس ليشهدوا فيها الاحتفال بعيد الحرية، ثم بدا لي أنني إذا سافرت فقد أمهد بيدي وسيلة لنفيي في أوروبا سنوات بلا عمل، ولا قدرة على البقاء في ذلك الجو القارس أيام الشتاء، وربما كان منع عودتي أسهل على الوزارة من محاكمة قد تنتهي بالبراءة أو بعقوبة لا ترضيها، فعدلت عن السفر في اللحظة الأخيرة، وقلت: إن السجن أحب من النفي الذي لا عمل فيه ولا ضمان للصحة ولا الحياة!
وفي اليوم الثاني عشر من شهر أكتوبر دق الجرس أصيلا وأنا وحدي بالمنزل؛ لأن أخي كان معتقلا في قضية «البلطة» المشهورة متهما بالتآمر على حياة رئيس الوزارة، ولأن الخادم لم يعد من راحته الظهرية وصلاته العصرية، ففتحت الباب فإذا ضابط في رتبة «اليوزباشي» على ما أذكر يبادرني بالسؤال: هل حضرتك فلان؟
قلت: نعم.
فمد إلي ورقة من دفتر في يده على هيئة ذكرتني الكونت نيمور وهو يلقي القفاز في محضر لويس الحادي عشر.
قلت: «تفضل أولا فاجلس.»
فتردد في الدخول، ثم دخل وجلس، فتناولت الورقة وقرأت فيها دعوة من صاحب السعادة النائب العمومي للحضور إلى مكتبه في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي، ووقعت على الدفتر - كما طلب الضابط - بأنني تسلمت الورقة، وأخذت في إعداد الكتب التي سأقرؤها في السجن، والأدوية التي أتعاطاها، والملابس البيتية التي أحتاج إليها هناك، وزدت فأعددت الأغطية الصوفية التي تلزمني للفراش والغطاء؛ لأنني كنت حتى تلك الساعة أجهل «تقاليد السجون»، وأظن أن الأغطية الخاصة مسموح بها كالملابس الخاصة أثناء التحقيق وفي الفترة التي تسبق المحاكمة. ثم حضر الطاهي فأريته هذه الأشياء كلها وقلت له: إنه سيحضرها لي في السجن غدا عند اللزوم.
فظهر لي أنه لم يفهم، وأنه ينوي أن يقصد بها سجن الأجانب الذي كان أخي معتقلا فيه.
فقلت له: «بل هي لي أنا في السجن الذي سيخبرونك عنه غدا بدار النيابة!» ووصفت له الدار واجتهدت أن أفهمه جهد المستطاع، وذلك جهد يعرف العارفون بالشيخ «أحمد» أنه ليس باليسير!
وذهبت في الموعد المحدود إلى دار النيابة، واستغرق التحقيق ساعات، ثم قال لي حضرة المحقق: «إنني آسف لأننا سنضطر إلى إبقائك عندنا قليلا يا أستاذ!» وبدأ حضرات المحامين يوجهون نظر رجال النيابة الحاضرين إلى «الحيطة الصحية» الواجبة في هذه الحالة، ومنها اختيار السجن الذي يوافقني أثناء الحبس «الاحتياطي» أكثر من سواه.
وكان الأساتذة المحامون لحسن الحظ من الخبيرين بمزايا سجون القاهرة التي تردد عليها في سنوات الثورة السياسية معظم المشتغلين بالقانون والسياسة، فأضافوا خبرتهم بالسجن إلى خبرتهم بالمحكمة وقدرتهم على النصح السديد للمتهمين والموكلين، واستحسنوا أن يكون الحبس في «سجن مصر»؛ لأن الجو فيه أوفق لي من سجن الاستئناف، وقد كان.
فذهبت مع الضابط والجند في سيارة خاصة إلى «قره ميدان» وتخطيت الباب فإذا هدوء غير مألوف؛ لأن الوقت كان وقت الراحة عقب الغداء، وتوجه بي الضابط نحو حجرة الكتاب لتسليم ما عندي من الودائع وكتابة الأوراق التي لا بد منها لكل مسجون جديد، وما هي إلا لحظة حتى توافد الموظفون وكثر دخول السجانين ينظرون إلى القادم الذي سرى بينهم نبأ قدومه، وأخذ كاتب هناك مرح ثرثارة يداعبهم واحدا بعد واحد كلما مروا به وتصنعوا سؤاله عما يضمره لهم بريد اليوم. فيقول لأحدهم: «اطمئن ... فقد عينوك مديرا لمصلحة السجون ...» ثم يحدج ببصره كمن يستغرب سكوته، ويقول له: «ألا تصدق؟ آه يا ابن الحلال. معذور، فإنك في السجن ولست في البيمارستان ...»
أو يقول لغيره: «تعال هنا ... قرب أذنك! قرب أيضا» ... ثم يناديه بصوت يسمعه كل من في المكان: «افرح ... نقلوك إلى أسوان، لا تقل لأحد يا ولد!»
وهكذا في أثناء التسليم والتدوين، فاستعدت في ذهني موقف هملت وحفاري القبور إذ يغنون وهم في ذمار الموت!
الليلة الأولى في السجن
لم يكن مكتب الموظفين إلا بمثابة «الأعراف» التي تفصل بين نعيم الحرية وجحيم الاعتقال، ولكنها «أعراف» تنقل من النعيم إلى الجحيم كما تنقل من الجحيم إلى النعيم، وقد كانت في اليوم الذي سجلت فيه اسمي بين الداخلين تسجل أسماء شتى للخروج أو للإفراج كما يسمونه في لغة السجون! •••
وعبرنا مكتب الموظفين ومكتب المأمور مع ضابط العنبر في هذه المرة لا مع ضابط الشرطة الذي انتهى مقامه عند الباب.
فاتجه الضابط إلى عنبر «ب» وفتح الباب الحديدي ودخلنا العنبر فكان أول ما صادفنا فيه منظرا عجيبا لا تألفه العين: أناسا بملابسهم العادية جالسين القرفصاء في صمت لا يلتفت أحدهم يمنة ولا يسرة، ومن ورائهم نفر مكبون على الأرجل والأيدي كما تمشي الدواب يزحفون زحفا ويتغنى أحدهم بصوت خفيض والباقون يجيبونه بصدى - لا بكلام - يقولون فيه: «هيه هيه» ... أما المغني فالذي أذكره من أنشودته الآن عبارة واحدة: «رايحه له فين! ده عليه سنتين!»
فقلت: فأل جميل وايم الله ! وللفأل شأن كبير في «نفسيات» المسجونين كما سيرى القراء في بعض هذه الذكريات. •••
وكان لا بد لي من «فرجيل» يصاحبني كما صاحب الشاعر الإيطالي «دانتي» في طبقات الجحيم؛ ليدله على أنواع العذاب ودرجات المعذبين، فمن هؤلاء الجالسون القرفصاء؟ ومن هؤلاء المكبون على أربع؟ أهذا ضرب من العقاب في مكان العقوبات؟ وما بال أناس منهم يلبسون ثيابهم العادية على اختلافهم بين المعمم والمطربش ولابس «الطاقية»، ولا يلبسون كأهل السجون؟
على أنني لم ألبث طويلا حتى عثرت على الدليل الذي ينوب في جحيمنا عن فرجيل!
فقد كان على يسار الحجرة التي خصصت لي حجرة للصحفي الظريف علي أفندي شاهين رحمه الله، وكان محبوسا رهن المحاكمة في قضية مقالات ورسوم قذف بها بعض الوزراء وعلى رأسهم إسماعيل صدقي باشا كبير الوزراء في تلك الأيام، وكان واقفا عند باب حجرته ينتظرني بعد أن سبقت البشائر إلى العنبر بقدومي! فلقيني مرحبا، وعلى مقربة منه اثنان أو ثلاثة من أهل بولاق «دائرتي الانتخابية» كانوا في مؤخرة صفوف الجالسين القرفصاء، فنهضوا يحيونني ويهمون بالصياح لولا أن شاهدوا الضباط والسجانين فعادوا جالسين.
وعلمت بعد ذلك بهنيهة أن هؤلاء الجالسين القرفصاء هم المحبوسون على ذمة التحقيق ممن آثروا البقاء بملابسهم العادية، وأنهم جلسوا تلك الساعة في انتظار الخروج «للطابور» الذي هو موعد الرياضة المصطلح عليه مساء كل يوم، وللمحبوسين شوق إلى موعده يفرحون به أشد من فرح الطلقاء بنزهة الأصيل على شاطئ النيل وطريق الأهرام!
أما المكبون على أربع فهم أصحاب النوبة المنوط بهم تنظيف بلاط العنبر وتلميعه، وهم يتغيرون كل شهر مرة ويقومون بهذا العمل طول النهار، ويؤثرونه على أعمال السجن الأخرى؛ لأنهم ينطلقون فيه على مدى واسع بعض السعة، ولا يحبسون في الحجرات. •••
قال دليلي أو «فرجيلي» بعد الشرح المتقدم: «وإن هؤلاء المساكين يعانون هذا العناء من أثر دعوة النبي يوسف عليه السلام.»
قلت: «وما ذاك أفادك الله!»
قال: «لقد دعا يوسف ربه في السجن أن يغزر ترابه ويحلي طعامه ويقصر أيامه.» فالتراب لا ينقطع لحظة عن أمثال هذا المكان.
قلت: «يخيل إلي أن يوسف عليه السلام قال: اللهم غزر رغامه ولم يقل: غزر ترابه ... لأن السجعة تقضي بذلك!»
وما لبثت في السجن نصف ساعة حتى رأيت بعيني حرص الأقدار على إجابة ذلك الدعاء، فما هو إلا أن يزحف الماسحون من طرف العنبر إلى طرفه حتى يكون التراب قد سفا على المكان الذي تركوه. •••
وإلى هنا لم أكن قد تناولت طعام الغداء مع اهتمامي برعاية المواعيد في تناول الوجبات.
فأين الطعام؟ هل أحضره الطاهي أو نسي إحضاره وفهم غير ما تعبت بالأمس في إفهامه إياه؟
هنا ظهرت لي قيود السجن دفعة واحدة، فليس من المستطاع أن أعرف هذا الخبر الصغير إلا بعد أن أسأل السجان، وبعد أن يسأل السجان الضابط، وبعد أن يسأل الضابط البواب، وبعد أن يحال البواب إلى المأمور وأطباء المستشفى، وبعد أن ينقضي في ذلك كله وقت غير قصير.
ولم يكن الذنب في هذه المرة على ذكاء «الشيخ أحمد» كما توهمت لأول وهلة، فإنه قد أحضر الطعام بعد انصرافي من دار النيابة، ولكنهم حجزوه على الباب حتى يتلقوا أمرا بقبوله وانتظام حضوره، وحتى يراه الطبيب ويرى الأدوية التي معه، وحتى يتم الفحص عن حالتي الصحية وما يصلح لي من الدواء، ثم قبلوا الطعام والدواء وردوا الغطاء والفراش؛ لأن السجن كما قالوا فيه الكفاية من غطاء وفراش!
وفي هذه الأثناء بدأت أشعر بقشعريرة الرطوبة التي ينضح بها الأسفلت في أرض العنبر وسقوفه، ثم فرغ السجان وصاحب النوبة الموكل بحجرتي من إعداد سريرها وأدواتها ولوازمها، فألقيت نظرة على الغطاء الذي سيغنيني عن غطائي فلم أطمئن إليه كثيرا، ولكني قلت: لا بأس بالتجربة هذه الليلة، وبقيت متوجسا من هذه النافذة المفتوحة على رأسي يندفع منها الهواء طول ليل الخريف، فما العمل فيها؟
قال دليلي أو «فرجيلي» علي أفندي شاهين: «لا عليك من هذه النافذة! فسترى كيف نعالج خطبها.» والتفت إلى صاحب النوبة فأوصاه أن يسدها بالحصيرة المفروشة على أرض الحجرة كما يصنع في حجرته هو، ففعل صاحب النوبة توا ليريني كيف يحكم هذه الصناعة، وضحك شاهين أفندي ضحك العلم والمعرفة وهو يقول لي: «احمد الله على أنهم لم يختاروا لك سجن الاستئناف، فهناك النافذة أربعة أضعاف النافذة هنا ولا أمل في سدها بحال من الأحوال، فضلا عن الظلام المطبق من الصباح إلى المساء.»
قلت: «الحمد لله!»
وهبط ظلام الليل شيئا فشيئا، وعاد المسجونون قبل ذلك أفواجا إلى الحجرات، وتعالت بينهم ضجة كضجة السوق في يوم زحام، ثم توالى إغلاق الأبواب وإدارة المفاتيح في الأقفال، ثم بدأ «التتميم» أو المراجعة حجرة حجرة: كم يا ولد؟ عشرة!
كم يا ولد؟ أربعة ... وهكذا إلى نهاية الدور، وفي كل عنبر أربعة أدوار، ولن يبرح السجان دوره حتى يستوثق من مطابقة العدد الموجود للعدد المكتوب في سجله المعلق عند الباب.
وازدادت الضجة بعد انتهاء المراجعة فلم يكن للسامع أن يسمع إلا أسماء تتقاذف بها أفواه رجال ونساء، وصرخات وأهازيج وشتائم هي عندهم في منزلة التحيات المباركات! ثم سكنت الضجة بعض الشيء وتبين من هنا وهناك نداء مفهوم، وشرع اثنان في قافية من القوافي المعروفة في محافل الأعراس والموالد المصرية، وكأنهما علما بمقدم الصحفي الطارئ على السجن في تلك الليلة فجعلا للصحافة قسما من هذه المساجلات المحفوظة: الأولاد تنادي وراك وتقول: إيش معنى؟ - المؤيد! المؤيد ... وهو يعني «المقيد». ••• - فوق رأسك يا معلم علي. - إيش معنى؟ - المقطم!
وهذه حقيقة واقعة وليست بمجاز! لأن بناء السجن واقع في حضن جبل المقطم. ••• - الرغيف في سقف بيتكم. - إيش معنى؟ - كوكب! ••• - تطلع من هنا تقابلك في البيت. - إيش معنى؟ - الحمارة!
وقس على ذلك ما يقال، وما يسمع كرها ولا يقال.
أما أنا فقد أظلمت الحجرة عندي ظلامين؛ لأن النافذة المغلقة حجبت كل ضياء يتسلل إلى الحجرات من فناء السجن المنار بنوره الضئيل، فلم أستطع أن أعرف مكان الكوب ولا سلة الطعام في ذلك الظلام، ولبثت أسمع الأصوات تخفت وتخفت حتى انقطعت أو كادت في نحو الساعة التاسعة كما أنبأتني الساعة العربية التي تدق في مسجد القلعة، ولم يبق من مسموع إلا وقع أقدام الحراس على البلاط، وإلا صيحاتهم كل نصف ساعة يطيلونها ويتنافسون في إطالتها، فذكرتني مبيت ليلة على حدود الصحراء، أسمع فيها صياح الذئاب.
التهريب
تقدمت في علم السجن بعد يوم واحد خطوات سريعات، وعلمت مركز الدور الذي أنا فيه - وهو الدور الخامس - بين أدوار السجن عامة، وعلمت ما له من الشرف والوجاهة المرموقة في تلك المدينة الصغيرة التي يسكنها نحو أربعة آلاف، فإنه هو محور حركة التهريب والحيل والمناورات.
وليس التهريب في السجون بالشيء الهين ولا بالطلب اليسير؛ لأنه هو الدفاع الوحيد الذي ينتقم به المسجونون من الأسوار والقيود والحراس، وهو فسحة الحرية الباقية لمن فقدوا الحرية، فعليه وحده تنصب جميع الجهود والحيل والخبائث، وله وحده تجارة واسعة النطاق تجري على معاملات خاصة ولغة خاصة ومواصلات خاصة، لا يكفي للعلم بها يوم واحد، ولكن لا يمضي يوم واحد على السجين حتى يأخذ في العلم ببعضها، ثم لا يزال في الافتنان والمزيد ما شاء الله أن يهبه من سعة الفهم والنبوغ!
والتبغ والحلوى هما عماد المهربات جميعا في السجون، وهما السلعة التي يغالي بأثمانها من يطلبونها هناك حتى يبلغ ثمن اللفيفة الواحدة خمسة قروش، وثمن عود الثقاب قرشا أو أكثر، وثمن القطعة «من الحلاوة الطحينية» كثمن اللفيفة من التبغ وربما زاد عليها في بعض الأحيان.
ولكل سلعة من السلع المهربة، بل لكل شيء من الأشياء التي يتصل بها السجناء رمز من الرموز، يعرفه كل من في السجن ولكنهم لا يزالون مصطلحين عليه بعد انكشاف سره وافتضاح صفره، فالحارس يعلم أن «الزمارة» هي اللفيفة، وأن «العين» هي النار من ثقاب أو غير ثقاب، وأن «العربة» هي الحارس نفسه، وأن السجين الذي يقول لزميله: «حاسب العربة فايتة.» إنما يعني أن الحارس في الطريق، ولكن السجناء مع هذا قد ألفوا الكناية والتخفي والزوغان فنسوا الكلمات الواضحة وصمدوا على هذه المصطلحات والرموز.
والدور الخامس فيه سجناء المحاكم المختلطة أو «الحمايات» كما يسمونهم هناك، وهم مميزون بطعام غير طعام السجن يشتمل على الخضر واللحم والفاكهة والحلوى كل يوم، ولهم في الإفطار كوب كبير من الشاي وبيضتان، وفي المساء جبن أو ما شابهه من طعام محرم على سائر المسجونين.
وفي الدور الخامس قسم آخر من سكان السجن المجدودين في نظر الزملاء الآخرين، وهو قسم المحبوسين على ذمة التحقيق الذين يسمح لهم «النظام» بالطعام واللباس من المنازل، فيصل إليهم كل يوم دجاج ولحوم وخضر مطبوخة وفاكهة وحلوى وألوان من «الثمرات» المحرمة المشتهاة في ذلك الجحيم.
وهؤلاء يشتاقون «التبغ» إن كانوا من المدخنين فيجدون في «العنبر» من يشتاقون الحلوى واللحوم ويملكون اللفائف أو «الزمامير» للبيع والمقايضة، فتنعقد الصفقات وتظهر البراعة والافتنان في التوصيل والتسليم.
على أن البيع لا يجري كله بالمقايضة ولا غنى فيه عن «النقد» في كثير من الأحيان، أما حمل النقد فممنوع في نظام السجن ولكن هل يمنع بلع النقد واحتواؤه في الأجواف؟ هيهات! ومن هنا كانت العملة المختارة في السجن هي قطعة القرشين الفضية وقطعة «نصف الجنيه» الذهبية، وما عدا ذلك من القطع فهو شذوذ يتوقف عليه شذوذ المعدات والأمعاء، ومنها ما تصل طاقته في الشذوذ إلى ربع ريال، وقد تزيد على ما يقال! •••
ولم تمض علي ليلة في السجن حتى عرف الخبثاء المتربصون أن هناك فرصة للاستغلال لا ينبغي أن تضيع، فاستغلوا جهلي بكل ما استطاعوا من وسيلة وحيلة، وكانوا موفقين كل التوفيق.
جاءني خادم الحجرة في الصباح الأول بعد الإفطار، وأنا لا أعلم بطبيعة الحال شيئا عن المحظورات والمباحات وأولها إعطاء الطعام والفاكهة لخدام الحجرات، فأعطيته كل ما بقي من الموز والفاكهة في السلة، ففرح بها وتهلل وجهه وأسرع فخبأ بعضها تحت لبدته ولف بعضها في سرواله، وتسلل من الحجرة إلى حيث لا أعلم، فأدهشني أنه لم يأكل ما أعطيت وظننت أنه يخفيه عن أصحابه حتى ينفرد بأكله في ناحية، ولكني عرفت بعد ذلك أنه باع معظمه بزمارة! وقنع منه بأكل القليل.
وجاءني بعد ذلك فسألني: هل تعبت كثيرا من البق والبراغيث؟
قلت: كلا! لم أشعر لها بوجود.
قال: لكن هذه «الملاعين» ستظهر قريبا عندما تشم «نفس الناس» وتزعجك كثيرا، ومن العجيب أنها لم تظهر أمس والحجرة مهجورة والأغطية مخزونة، فلا بد من تطهير السرير وحدائد النافذة والباب للقضاء عليها ...
وطفق الخبيث يهول لي في فتك هذه الحشرات وألاعيبها في الاختفاء والظهور كأنها تحاور السجناء وتلاعبهم لعبة «الاستخفاء» عن عمد وتدبير.
وخشيت أن يكون ما قال حقا؛ لأن المزعجات كلها مسلطة على السجناء في اليقظة والرقاد.
فقلت: وكيف نقضي عليها ونستريح منها؟
قال: بالنار، اطلب سعادتك موقد الغاز من السجان وهو لا يضن به على مثلك، وقل له: إنك تريده لتطهير الحجرة من البق والبراغيث.
فشكرت له إخلاصه، وانتظرت حتى جاءني السجان فطلبت منه «الموقد» وذكرت له الغرض منه، فلم يضن به كما قال الرجل، بيد أني علمت بعد لحظات قليلة حقيقة ذلك الإخلاص الذي شكرت صاحبنا عليه!
فما هو إلا أن تسلم الموقد مشعلا حتى أسرع قبل كل شيء فأشعل منه لفة من خيوط الصوف ونظر إلى الدور الأعلى - وهو الدور السادس - فإذا بلبدة تسقط على مقربة منه كأنها سقطت عفوا بغير طلب، وإذا به يدس فيها اللفة المشعلة ويطويها طيا محكما ويقذف بها حيث سقطت، وهو يقول في صوت بين الهمس والنداء: «خذ التليفون؟»
والتليفون كما علمت بعد ذلك هو الخيط المهرب على هذا المنوال لإشعال الزمامير!
قلت: «يا شيطان! أهذا هو البق الذي تريد إحراقه؟»
فحاول أن يتمادى في الكتمان والزوغان، ولكنه ضحك على الرغم منه وأفصح لي بسر هذه «التهريبة» التي كانوا لا يظفرون بها إلا في الفلتات، وقال لي: إنهم كثيرا ما يشعلون خيط الصوف على طريقة قدح الزناد، ثم يقذفون به في الحجرة المجاورة فيتلقاه أحد السجناء على ذراعه الممدودة خارج «شعاع» الباب ثم يلقي به إلى جاره حتى يدور في الدور كله؛ ولذلك سموا هذا الخيط بالتليفون! •••
وماذا يصنع المدخن الذي يود التدخين لا محالة ومعدته خاوية من «ذات القرشين» أو من الزرار كما يسمون تلك القطعة في لغة الاصطلاح؟
أتراه يقلع عن تلك العادة؟ كلا ذلك آخر ما يفكر فيه، بل ذلك حديث لا يفكر فيه آخرا ولا أولا فيما يظهر، وإنما يعتمد على الثقة ومعاملات القرض والتسليف حتى يفرجها الله، وإنها لمعاملات معترف بها تسري بين السجناء سريانها بين الطلقاء، فلكل سجين «حسابه الجاري» الذي يليق بسمعته المالية وكفاءته «السجنية»، وهي على نقيض الكفاءة التي توجب الثقة في معاملات المصارف والمتاجر الخارجية؛ لأن أسوأ الناس سلوكا وأطولهم إقامة في السجن هو أحقهم بزيادة الاعتماد وحسن السمعة، وأما البريء أو المحكوم عليه في أمر يسير فذلك في حكم المفلس المعدم الذي لا يوثق به في التسليف من هنا إلى هناك!
ولا أزال أذكر صرخة الفزع التي سمعتها من أحد تجار التبغ المشهورين حين أبلغوه أن مدينه «فلانا» قد برئ في محكمة الاستئناف بعد أن كان ميئوسا من براءته وكان هو أول اليائسين المتفائلين ببقائه ... فقد صاح التاجر فيمن أبلغوه شامتين مستهزئين: «ويحكم ماذا تقولون؟ هل برءوه النذل الوضيع؟» ثم عاد فاستسلم وأناب وقال لمن حوله وكأنه يحدث نفسه: «ولكن الحق علي أنا المغفل الذي أثق بمثل هذا الكاركي الحقير!» وكان الأولى به أن يقول: «هذا البريء الحقير.» بدلا من كلمة الكاركي التي هي عندهم اصطلاح على من دخل السجن محكوما عليه لأول مرة، ولعلهم أخذوها من كلمة «الكاكي» الذي يشبه لونه لون العلامة الموضوعة على لبدة هذه الفئة من فئات المسجونين.
وربما تبادر إلى الذهن أن ديون السجن عرضة للغدر والاهتضام إذ كان صاحبها لا يجسر على المطالبة بها؛ خشية العقاب إذا هو أقر على نفسه بالتهريب والاتجار بالمحظورات، ولكن الحقيقة أن ديون السجن كديون الشرف عند جماعة المقامرين هي أحق الديون بالضياع وهي مع ذلك أبعد الديون عن الضياع، ولا شك أن الدائن يستميت في رد حقه على قدر حاجته إلى الاستماتة والمجازفة، وهو يحتاج إلى الاستماتة والمجازفة كلما قل اعتماده على المطالبة المشروعة والأصول المتفق عليها، فيذهب في طلب الدين المهرب إلى أقصى حدود العنف والإرهاب، ويلقي في روع غريمه أن رد المال أهون من الإصابة التي لا مفر منها إذا هو تذرع بالغدر والمحال، وربما استنكر «الرأي العام» بين هؤلاء اللصوص أن يأكل المدين مال الدائن في غيابة السجون، وهم جميعا لا يستنكرون الخطف والسطو والاختلاس في فضاء الله الرحيب؛ لأنهم يحتاجون في السجن إلى تجارة المهربات ويعلمون أنها تجارة قوامها الثقة والسداد، وإن كان هذا لا يمنعهم أن يعجبوا «بالشاطر» الناجح الذي يستدين ثم يتمكن من الزوغان!
ومن هؤلاء الأشقياء من يعجز عن معاملة التسليف فيهجم على التزييف وهو يتوقع ما وراءه من الخطر والعقوبة القاصمة.
رأيت من هؤلاء اثنين جاء بهما أحد السجانين إلى مكتب السجان الأول في انتظار عرضهما على حضرة المأمور، وكنت أجلس أثناء الرياضة في فناء السجن بين المكتبين المتقابلين.
فبسط لي السجان المصاحب لهما يده وقال: «انظر! هذا من تزييف هؤلاء المجرمين.» وعد أمامي ثماني عشرة قطعة من ذات القرشين صنعها ذانك السجينان في المعمل وأتقنا صنعها جد الإتقان، مع السرعة وقلة الأدوات وشدة الحذر من الرقباء، فلا تختلف القطعة الصحيحة إلا بالرنين وهو محك مأمون في داخل السجون، ومن ذا الذي «يرن» الزرار في لحظة التهريب؟ فالشياطين يعلمون أن صاحب البضاعة سرعان ما يتناول القطعة بيده حتى يقذف بها إلى معدته، ثم يختلط الصحيح بالزائف في ذلك الكيس الحي وتختفي الشبهة باختفاء القطعة بين أحشاء التاجر المخدوع.
قال أحدهما لصاحبه: «فيها خمس سنوات يا فلان.»
فاضطرب صاحبه، وقال: «قسمة ونصيب ... وكل هذا من أجل نفسين لا طلعا ولا نزلا.»
ثم التفت نحوي كالمستغيث سائلا: أصحيح أن الحكاية فيها خمس سنوات؟
قلت: لا أظن.
فنظر إلي الأول نظرة يتنازعها ادعاء العلم بأحوال السجون ولهفة الخلاص، وقال لي كأنه يتحدى ويستزيد من الاطمئنان في وقت واحد: وكيف هذا وقد رأيت بعيني جماعة عوقبوا بالسجن خمس سنوات لأنهم زيفوا النقود؟
فطاب لي أن أداعب مهارة هذين الشيطانين وأخذت أشرح لهما ما أعتقد من الفارق بين التزييف في الخارج والتزييف في داخل السجن، وقلت لهما: إن المزيف في الخارج يختلس حق الحكومة وحق الناس، ولكن المزيف هنا يختلس ما هو مختلس بطبيعته ومستحق للمصادرة عند ضبطه، وليس على هذا عقوبة أكثر من عشرين أو ثلاثين جلدة، وأيام أو أسابيع من سجن الانفراد والخبز القفار.
قال: لتكن مائة جلدة، وانطلق يدعو لي بالطمأنينة وارتقاء المراتب والصحة والعافية وكل شيء ...
قلت: هداك الله يا صاح، ولكن هذه الدعوات الصالحات هل تراها «عملة صحيحة» عند صيارفة السماء؟!
القراءة
يسمح النظام في «قره ميدان» بالقراءة للمحجوزين على ذمة التحقيق والمحكوم عليهم بالحبس البسيط، وتنحصر القراءة المسموح بها في الكتب الدينية والعلمية والأدبية التي «لا تخل بالنظام» ما عدا الروايات وكتب التسلية، ويرجع الأمر في التفريق بين ما هو جائز من المقروءات وما هو محظور إلى رأي الموظف «الكتابي» الذي يتفق وجوده ساعة وصول الكتاب؛ لأن الموظفين العسكريين يترفعون عن الخوض في هذه المسائل «الملكية» ولا يشعرون بغضاضة على أنفسهم من إلقائها على كاهل حملة الأقلام، ولكن ما الحكم في اللغات التي لا يعرفها الموظف الحاضر؟ وما الحكم في الروايات التي هي من صميم الأدب؟ وما الحكم في الكتب التي لا يلوح عليها أنها روايات إلا لمن قرأها وأحاط بتراجم أصحابها؟ وما الحكم فيما يخالف النظام من التصانيف إذا كان المراقب الفاضل لم يسمع قط باسم كارل ماركس ولا كروبتكين، ولا مانع عنده من إجازة كل تأليف لإخوان هذا الطراز؟
الحكم في ذلك كله للمصادفة والمزاج، فكثيرا ما يتوغل في السجن من أجل هذا كتاب يقشعر له بدن النظام الاجتماعي وكل نظام في الوجود، وكثيرا ما ينتظر الكتاب الإذن بعبور الجدران أياما وأسابيع حتى يرسل إلى الإدارة العامة ويعثر هناك على من يعرف الألمانية أو الأوردية أو الأرمنية وما شابهها إذا كان مكتوبا بإحدى هذه اللغات.
وقد وقع اختياري عندما وصل إلي إعلان دعوة التحقيق على كتابين في التاريخ والأدب، وهما الطبعة الجديدة من مختصر تاريخ العالم للمصلح الإنجليزي «ه.ج.ولز»، وسيرة بيرون للكاتب الفرنسي «أندريه موروا» مترجمة إلى الإنجليزية ، فأفردتهما جانبا ووضعت علامات على الكتب الأخرى التي سأطلبها بعد الفراغ من هذين الكتابين.
ولم يكن اختيارا في الحقيقة ذلك الذي هداني إلى اختصاص تاريخ العالم وسيرة بيرون بالقراءة في أيام السجن الأولى، ولكن الكتابين كانا قد وصلا إلي في البريد الأخير فوجدت الفرصة سانحة للفراغ منهما في هذه العزلة المقسورة!
على أنني لو تعمدت الاختيار المناسب «لمقتضى الحال» كما يقولون لما اخترت غير كتابين من هذا الباب وعلى هذه الوتيرة، فليس أحب إلى الإنسان من أن يعوض حركة الجسم إذا فقدها بحركة الخيال، وليس أقرب إلى المعقول من أن يلتمس في عالم القراءة ما يعز عليه في عالم الواقع، وأي قراءة أليق بالسجين على هذا الاعتبار من تاريخ يصاحب به حركة الإنسانية بأسرها من بداية نشأتها ومن قبل نشأتها إلى يومها الحاضر؟ أو من سيرة رجل قضى حياته كلها جامحا بين رحلات الخيال ورحلات السياحة ورحلات الهوى والمغامرة؟
فقد أحسن القدر الاختيار لي فيما أرى! ومن قبل ذلك بأعوام أذكر أنني كنت أنتقي ما أقرأ وأنا مريض يائس من الشفاء، فكانت يدي تتجه إلى نوعين من الكتب بينهما مسافة بعيدة من الاختلاف في الموضوع والوجهة، وأعني بهما الكتب التي تغلب عليها النزعة الجسدية والمتع المادية والكتب التي فيها بحث عما وراء الطبيعة واستكناه لحقائق الأرواح وعالم الغيب، وما أشد الاختلاف بين الموضوعين! وما أبعد المسافة بين النوعين! ولكن الصلة التي تجمع بينهما أقرب الجمع بعد ذلك هي «التعويض» النفسي الذي يشتركان فيه، فكلاهما كفيل بتعويض المريض الذي يحس من نفسه أنه سيفقد الحياة، وإنما يعوضانه في عالم الخيال والتفكير؛ لأن حياته الواقعية تريه مقدار الحاجة إلى عالم الحس كما تريه مقدار الحاجة إلى عالم الروح. •••
على أنني لم ألبث أن عرفت أن للكتاب في السجن فائدة غير فائدة القراءة، وربما كانت فائدته الأخرى هي المقصودة في كثير من الأحيان عند كثير من المسجونين، ولا سيما المصاحف وكتب الدين على اختلاف الأديان.
أما هذه الفائدة الأخرى فهي الاستخارة! وهي أن يفتح القارئ الكتاب على الصفحة اليمنى ثم يعد سبعة أسطر ويقرأ ما يصادفه في السطر السابع، فإذا هو المصير الذي ينتظره و«القرعة» التي تصيبه بغير تدبير ولا مجاملة ولا مداراة، فإذا كان الكتاب مصحفا أو سفرا دينيا كائنا ما كان فذاك إذن أشبه بالوحي السماوي وصوت النذير من عند الله.
ولا أظن أحدا من القراء لم يسمع قائلا يقول في دهشة وغضب: «أتريد أن أغالط نفسي؟ ...» كأن مغالطة النفس أبعد الأشياء! وكأن الإنسان لا يغالطه إلا الآخرون ولا يغالط هو إلا الآخرين.
ولكن ساعة من ساعات الضيق الشديد أو الحزن الشديد أو اللهفة الشديدة لترين الإنسان - كل إنسان - أن المغالطة الكبرى إنما تكون من جانب النفس لا من جانب الخادعين بين الأصدقاء والأعداء، فهو يصدق الرجاء أو العزاء؛ لأنه يحتاج إلى تصديقه، لا لأنه يقيم البرهان عليه ويتبين الوقائع التي ترجحه وتقويه، والمقياس الوحيد لصدق العزاء في ساعة الضيق أنه ضروري لازم لا أنه صحيح معزز بالبرهان، ولهذا يغتبط المسجونون بالبشارة التي تأتي من الاستخارة كأنها خبر وثيق لا كذب فيه، بل يغتبطون بها؛ لأنها خبر لا يضير فيه الكذب ما دام يسر، ولا يفتقر إلى تمحيص الغد ما دام مقبولا في حينه.
وقد كان بعض المسجونين الذين يلقونني عند الحلاق ويرونني في غفلة من الحراس يحدثونني ببشائر «الاستخارة» والأحلام كأنهم يتحدثون «بالأسانيد» والبينات، فأشكر لهم مودتهم، ولا أحب أن أزعزع فيهم ركنا من أركان العزاء، وما أوهى أركان العزاء جميعا عند بني الإنسان!
كان باب الحجرة عندي مفتوحا للتنظيف في صباح يوم، فجاءني زميلي ودليلي وجاري السيد علي شاهين يحمل مصحفه ويعلمني هذه الفائدة الجديدة من فوائد الكتب بين جدران السجون، ومن المصادفات المدهشة أنه أخذ في الاستخارة لنفسه، وانفتحت له إحدى الصفحات اليمنى من سورة يوسف فقرأ في السطر السابع:
سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم * قال هي راودتني .
فانتفض صاحبنا كأنما سمع الحكم بالسجن يتلى عليه! وحق له أن ينتفض لأن المصادفة في الحقيقة كانت من المدهشات التي قلما تتفق في هذه الاستخارات، إذ ليس في المصحف كله آية تناسب استخارة السجين الذي سيحكم عليه كما تناسبها هذه الآية، ولكن ما أعمق معين المغالطة في نفس الإنسان كلما احتاج إلى الرجاء والعزاء! فإن صاحبنا لم يقف عند السطر السابع بل زعم أن أصول الاستخارة تقضي بمتابعة المعنى إلى تمامه، وجعل يقرأ ويقرأ حتى وصل في ختام الصفحة التالية إلى الآية التي تقول:
فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم .
وكنت أقلب في كتاب «تاريخ العالم» فقال لي صاحبي: «ألا تستخير عندك؟»
قلت: «وهل تصلح الكتب الإفرنجية للاستخارة؟»
قال: «جرب!»
ولا أظن شيئا يبعث الأسى على تاريخ بني الإنسان المساكين كما تبعثه الاستخارة في كتاب تاريخ عام، فما أذكر أننا وقفنا على سطر إلا وكان فيه عراك أو نكبة أو معنى محزن إن كان فيه معنى على الإطلاق، وفي إحدى هذه الاستخارات ظهرت لنا آية قرآنية مترجمة علمت موضعها بقلم رصاص كان مع السيد علي شاهين، ولم أكن أنا أحمل قلما ولا رضيت أن يحمل إلي شيء من المهربات، فإذا السطر السابع منها هكذا:
Grieve at what had escaped you, nor at what befell you; and (Allah is aware of what you do).
وتمام هذه الآية من القرآن في سورة آل عمران:
إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون * ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم ... •••
وفي اليوم التالي لدخولي السجن أبلغت أن المصلحة ترخص لي في شراء الصحف التي أريدها على حسابي، فتعبنا جدا في إحضار صحف المساء قبل الغروب وإغلاق الحجرات - وهي توزع في ميدان القلعة نحو الساعة الرابعة - لأن البائع الخبيث علم أن هذه النسخ «مضمونة البيع» فالأولى به إذن أن يبدأ ببيع النسخ «غير المضمونة»! ولم يشأ من أجل هذا أن يحضر إلى السجن وفي ضوء النهار بقية، وأصر على ذلك مع تنبيهه مرة بعد أخرى، وإن كان هذا لا يمنعه أن يلقاني بالدعاء والابتهال كلما خرجت من السجن، وكلما عدت إليه في طريق التحقيق والمحاكمة!
وربما علم بعض حضرات القراء أنني شرعت في أيام سجني أتعلم اللغة الفرنسية، وهي مصادفة من المصادفات أيضا لم تكن تجول في نيتي عندما دخلت السجن واخترت كتب القراءة التي تقدمت الإشارة إليها، وإنما فكرت في ذلك على أثر تحية وجيزة لقيتها من رجل إيطالي مهاجر وضعوه في الحبس ريثما يتثبتون من «جنسيته» في الوكالة الإيطالية، فقد اقترب مني هذا الرجل يوما ورفع قبعته محييا وهو يقول بالفرنسية: «يا حضرة النائب ...» ثم شفع ذلك بكلام كل ما فهمته منه يومئذ أنه قرأ أخبار قضيتي، وأنه يسره أن يراني ويبلغني تحياته، فحاولت أن أفهمه جوابي بالإنجليزية فلم يفهم إلا قليلا لا يزيد على ما فهمت منه! فسألت نفسي: وما بالي لا أتعلم الفرنسية في هذه الفرصة؟ أمامي الآن نحو خمسة أشهر وهي مدة كافية للإلمام بالمبادئ، ولم يكن وقت التحقيق صالحا للشروع في هذا البرنامج؛ لأنه وقت غير محدود، فلنبدأ الآن فقد عرفنا بعد صدور الحكم بالحبس البسيط مدى ذلك الوقت المحدود. •••
وأنت أيها القارئ - وقاك الله - لا تعلم كما علمت أنا في السجن أن دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول «قلم» إلى حجرة سجين بإذن من مصلحة السجون، فإن الترخيص للسجين بحمل القلم يقتضيه كما قيل لي أن يكتب عريضة لإدارة السجن، وأن ترفع هذه العريضة إلى مدير المصلحة، وأن ترفع بعد ذلك إلى كل من وزير الداخلية ووزير الحقانية، وهناك يصدر الأمر بالرفض أو القبول إذا شملته رعاية خاصة، والأرجح أن يرفض لغير سبب إلا أن الرفض مباح للرئيس، وإنه في معظم الأحيان شرط من شروط الرئاسة.
ولم كل هذا العناء؟
نعم إن القلم ضروري لتعليم الأسطر كما تعودت في دراساتي ومطالعاتي، ثم تدوين الكلمات التي تراجع وتحفظ، ولكني استعضت منه بالظفر أحز به العلامة في الهامش وفي خلال السطور، وبثني الصفحات في مواضع المراجعة والإعادة، واستغنيت عن كتابة العرائض التي يقول فيها جبرائيل لميكائيل وميكائيل لإسرافيل وإسرافيل لعزرائيل، ثم لا ينتهي بعد ذلك إلى كثير ولا قليل.
ومن طرائف المقترحات التي سمعتها وأنا أبدأ دروس الفرنسية الأولى أن أدع هذه اللغة وأعد نفسي - بدرس الفقه والشريعة والتصوف - لأن أكون إماما واعظا في الأقطار الإسلامية! وأن أفطن للحكمة الإلهية التي قيضت لي محنة السجن، كما فطن لها صاحب الاقتراح الملهم بظهر الغيب.
وجعل صاحبي - أعني صاحب الاقتراح - يسأل ثم يجيب نفسه: هل تستحق أنت بلاء السجن؟ لا ولا ريب!
إذن لا يظلم ربك أحدا! وما أراد ربك بسجنك إلا نفعك ونفع المسلمين بك، وأن لا تكون غاية سعيك خدمة الوطنية المصرية دون الجامعة الإسلامية، فدع الفرنسية واقرأ في الأشهر الباقية كتب التفسير وأصول الدين، وتجرد لما جردك له الله، وثق أنك هنا لأمر عظيم.
وهكذا كان يحاورني من حين إلى حين رسول تلك البشارة المغموطة، والهداية التي تخلق الهداة على الرغم منهم! ورسولنا هذا هو هندي متورع محبوس في قسم الحمايات لتهمة اختلاس في تجارة كبيرة ينكرها أشد الإنكار، ويزعم أن عداوته للحكومة في الحركة الهندية هي علة تلفيق التهمة عليه، وكان لا ينقطع عن كتب التفسير والأحاديث يقرؤها بالعربية فيفهمها بعض الفهم، ولكنه يتكلم الإنجليزية إذا أراد التبسط في الحديث.
وفارق الرجل السجن وفارق مصر وهو بغصة المحسور على ذلك الإمام الذي هو واثق أنه إمام منتظر، وواثق كذلك أنه قد ضيع بيديه الإمامة التي أعده لها القدر، وما أعجب الجمع بين الثقتين!
المنع والترخيص
كل شيء في السجن ممنوع حتى يصدر الأمر بإباحته وإلغاء منعه.
فالأصل في السجن «المنع» لغير سبب وبغير تفسير، فإذا أبيح عمل من الأعمال وأجيز أمر من الأمور، فذاك الذي يحتاج إلى سبب ويحتاج بعد ذلك إلى ترخيص واستئذان.
وإن هذه القاعدة وحدها لكافية لأن تجعل السجن سجونا كثيرة بعضها أضيق وأثقل من بعض، ولكنها مع ذلك رحمة سماوية إذا قيست إلى الطريقة التي ينفذونها بها حرفا حرفا ومرة مرة، بغير تصرف ولا قياس ولا مراعاة للنظائر والمناسبات.
فإذا أبيح الشيء مرة فإنما يباح في حالة لا تسري إلى غيرها وفي وقت لا يمتد إلى ما بعده، فلا يمكن أن تتكرر الإباحة ولو تكررت الدواعي والمناسبات، ولا يمكن أن يباح الشيء الذي يشبهه تمام المشابهة ويجري مجراه في وصفه وفحواه ذهابا مع القياس والاستطراد، كلا! بل كل شيء مباح بحرفه ووسمه ووقته وشخص المقصود به، فإذا تغير الحرف أو الوسم أو الوقت أو الشخص فقد بطلت الإباحة وعاد المنع كما كان!
وبعض الأمثلة غني عن الإسهاب في هذا الباب.
كان قوام طعامي خارج السجن الفاكهة والخضار الطازج ولا سيما في الصباح والمساء، وقد ميزت من الخضار الجرجير والخس، ومن الفاكهة الكمثرى الإيطالية والجوافة؛ لأن هذه الفاكهة تشتمل على خلايا وبذور تساعد الهضم بخشونتها مساعدة لا تقوم بها الثمار الأخرى.
فأما الفاكهة فقد فصلت فيها مصلحة السجون من قديم عهدها الأول فصل أنبياء بني إسرائيل في المباح والمحظور من الطعام والشراب، فهذا حلال وهذا حرام، ولا نقض بعد ذلك ولا إبرام، وليست الكمثرى مما يسمح به ذلك «الحاخام»، أما الجوافة فلم يحن أوانها من العام!
واختلف الحال في الخضار فلم يتنزل في أمره تحريم كذلك التحريم بين آيات الكتاب العظيم، ولكن كهان الهيكل قد حجروا على ما أباح الكتاب واسعا فلبث «المنع» الأصيل في مكانه القديم لا يتراجع عنه ولا يريم!
كتبت اللجنة الطبية التي تقرر لي أصناف طعامي كل أسبوعين هذه العبارة في تذكرتي الصحية: «يصرف له خضار كالفجل والجرجير ...»
فمضت أيام وأنا لا أرى غير الفجل في كل غداء، والفجل، وقاك الله، صنف يحتمله الهضم الضعيف يوما، ثم لا بد له من أسبوع على الأقل لينساه ويجازف مرة أخرى بالرجوع إليه، فأما الفجل وحده ولا خضار غيره مطبوخا أو نيئا في كل غداء فذاك بلاء للهضم الضعيف وليس بغذاء أو دواء!
قلت: «فأين الجرجير؟»
قالوا: «إن الساعي الذي يذهب في طلب هذه الأصناف لا يجده في السوق، ولا يسعه أن ينتظره حتى يعبر به الباعة في الطريق.»
قلت: «وما باله لا يشتري الخس مثلا أو الكراث؟»
قالوا: «إن اللجنة الطبية لم تسمح بغير الفجل والجرجير!»
قلت: «بل سمحت بكل خضار لأنها لم تذكر الفجل والجرجير إلا على سبيل التمثيل.»
قالوا: «لا بد من سؤالها والاستئذان منها؛ لأنها لو شاءت لذكرت أسماء الأصناف الأخرى ولم تقصر الإشارة على هذين الصنفين.»
وبديه أن السجن مدرسة كما يقولون، ولكنه ليس بالمدرسة التي ألقي فيها درسا في معنى التمثيل بالكاف أو في معنى التخصيص والتعميم! •••
وسمحت لي اللجنة باللبن في طعام الإفطار، فكأنها قد سمحت لي بكوب فارغ لا شيء فيه؛ لأن اللبن الذي يصل إلي في الصباح الباكر لا يكون صالحا للغذاء، ولا ينبغي أن يصلح لغير الإهراق قبل ذلك بساعات.
وبيان ذلك أن اللبن الذي يجلبه المتعهد إلى مستشفى السجن إنما «يسلم» في الساعة العاشرة من كل صباح.
والساعة العاشرة موعد حسن لمن يتناولون اللبن في الغداء، وموعد لا بأس به لمن يتناولونه في العشاء، على شريطة أن يكون محلوبا في صباح يومه ولا يكون «بائتا» متخلفا من اليوم الذي قبله.
فأما في طعام الإفطار فأين هو المستشفى الذي يطعم مرضاه لبنا مضت عليه أربع وعشرون ساعة في الصيف أو في الشتاء؟
وخطر لوكيل السجن الذي خاطبته في هذه المسألة عند مروره بي ساعة الرياضة أن «يتصرف» فيها بعض التصرف على خلاف القاعدة المرعية هناك، فأمر رئيس الممرضين أن يضع المقدار اللازم لي من اللبن في «الثلاجة» من ساعة وصوله حتى ساعة تقديمه في صباح اليوم التالي، عسى أن يمنع ذلك فساده وتخثره ويبقيه سائغا سليما حتى موعد الإفطار.
لكن رئيس الممرضين ذهب إلى المأمور يستأذنه كما هي العادة في كل شيء، فأنكر المأمور هذا الحل «الهرطقي» لأنه بدعة عجيبة لم يتنزل بها الوحي في «الناموس» القديم، ووجب أن يهرق اللبن هدرا وأن يلغى الإفطار عليه حتى تعود اللجنة الطبية إلى فحص جديد.
وليس يخفى أن «النظام» لا يمكن أن يمنع وضع اللبن في ثلاجة المعمل الملحق بالمستشفى أو في أي مكان يحتويه، ولا يمكن أن يمنع صيانة اللبن من الفساد بغير كلفة ولا نفقة زائدة ما دام الثلج لا ينقطع عن المعمل في صيف ولا شتاء، بل صيانة اللبن أنفع للمستشفى وأقل نفقة عليه من شراء لبن جديد لي في الصباح الباكر قبل حضور الأطباء.
ولكن «الناموس» لم ينص بالحرف والوصف على قنينة من اللبن توضع في الثلاجة لأجل سجين يسمى عباس العقاد فهو قد نص إذن على المنع والتحريم! •••
على أن الأخطر والأغرب في باب الضحك والفكاهة، لولا ما فيه من مساس بالحياة، هو قصة انتقالي إلى المستشفى أو انتقال المستشفى إلي، ثم ما كان بعد ذلك من فصل حكيم في هذه المشكلة العضال التي ليس لها إلا ذكاء سليمان بن داود.
وسيعجب القارئ من «عنوان» هذه القصة كما أسلفته؛ لأنه لن يتخيل أن هناك مشكلة تقوم بين مريض ومستشفى لينتقل المريض إلى المستشفى أو ينتقل المستشفى إلى المريض.
ولكنه إذا عرف القصة على جليتها لم يستطع أن يتخذ لها عنوانا أصدق من ذلك العنوان، فهي في الواقع خلاف بيني وبين المستشفى قد انتهى - بحكمة سليمانية - على أن ينتقل هو إلي بدلا من انتقالي أنا إليه.
وجلية القصة أن الأطباء قرروا بعد أيام من دخولي السجن وجوب وضعي في مستشفاه ومعاملتي في اختيار الطعام والفراش وأوقات الرياضة معاملة المرضى.
ولكن ماذا حدث بعد هذا القرار؟ هل نقلت إلى المستشفى كما يقضي العقل و«النظام»؟
كلا! وإنما الذي حدث أنهم اعتبروا الحجرة التي أنا فيها ملحقة بالمستشفى وانفض الإشكال!
وقد أبلغوني ذلك الحل الحكيم فأضحكني على الرغم من مضض السجن وتعب الجسم وسوء العاقبة، وأصبحت أعذر ذلك العطار الذي حسب أنه استراح من النمل بكتابة كلمة الفلفل على حق السكر، فإن هذه الحيلة العطارية ليست بأغرب من حيلة السادة المشرفين على السجون الذين كتبوا اسم المستشفى على حجرة العنبر، فأصبحت بهذه المعجزة السحرية مكانا صالحا للعلاج، مشرقا بالضياء، متوهجا بحرارة الشمس، معزولا من الرطوبة! ولا أحسب الفرق عظيما بين من يحاول تضليل العناصر الطبيعية بكلمة على حق كبير، ومن يحاول تضليل النمل بكلمة على حق صغير، فهما ولا ريب في البراعة سواء ...
ولما قلت لهم: إن المستشفى فيه حجرة تدخلها الشمس ويتخللها الهواء وتصلح للإقامة فيها قالوا: «وكيف تقيم فيها؟ أليست فيها دواليب الملابس؟»
قلت: «وهل يستحيل نقل هذه الدواليب؟ أليست صحة مريض أولى بمكان في المستشفى من دولاب؟»
فدار البحث أياما بين السجن والإدارة العامة والأطباء والنيابة وغيرها من المراجع التي لا أدريها، ثم ظهر بعد طول البحث وشدة التنقيب أن الدولاب الأصيل أولى بمكانه في المستشفى من الإنسان الطارئ الغريب!
وغاية ما صنعوه بعد جهد جهيد أنهم نقلوني من الحجرة الأولى إلى حجرة أخرى في طرف العنبر مزيتها على زميلتها أن الشمس تنالها - في الظاهر - من حائطين اثنين بدلا من حائط واحد.
ولما انتقلت إليها واقترحت عليهم أن يفتحوا في الحائط الآخر كوة صغيرة تنفذ منها الشمس إلى داخل الحجرة، حسبت من دهشتهم واستغرابهم أنني طلبت إليهم أن يفتحوا ثلمة في الدين أو ثلمة في نظام الدولة ... سامحني الله!
غير أنهم في هذه الحجرة الجديدة قربوا الشبه بينها وبين المستشفى من وجوه مختلفة غير كتابة العنوان على الباب، فأغلقوا شعاع الباب بالزجاج وجعلوا للنافذة رتاجا يفتح ويقفل، ومدوا إليها أسلاك النور الكهربائي الذي لا ينقطع طول الليل عن المستشفى الأصيل، ولم يفعلوا ذلك إلا بعدما استحال ترك الحجرة بغير نور، وبعدما ثبت أن بقائي في الظلام الحالك بلا قراءة ولا حديث ولا شاغل من الساعة الخامسة في المساء إلى الساعة السادسة في الصباح، أسبوعا بعد أسبوع وشهرا بعد شهر هو علاج وبيل لا ينصح به أحد من الأطباء.
ولكنها إباحات السجن ولا بد في طي كل إباحة من قيد أو قيود.
فالمفتاح الذي ينير ويطفئ النور لا بد أن يركب عند الباب من خارج الحجرة، ولا يصح في حكم النظام أو حكم «الناموس» أن يركب في داخلها لكي أفتحه وأقفله حين أحتاج إلى فتحه وإقفاله.
وهو في تركيبه خارج الحجرة يظل معرضا لكل سجين يعبر بالعنبر أو يمشي في الدور، ولا يكون معرضا لسجين واحد يحرص عليه؛ لأنه ينير له ويعينه على شأنه، ولكنه النظام ولا تفسير ولا تأويل لما يقضي به النظام!
فإذا فرغت من القراءة الساعة العاشرة أو الحادية عشرة أو الثانية عشرة، فسبيلي أن أقرع الباب السميك أستدعي الحارس ليتولى هو بيديه «شعائر إطفاء النور»، فإذا كان قريبا متيقظا في تلك الساعة فالخطب هين، والدعوة لا تطول إلا ريثما تجاب، أما إذا ابتعد أو نام فالحل الوحيد في حكم النظام هو إزعاج السجناء الذين معي في الدور جميعا لإدارة المفتاح الصغير، فإن لم يكن هذا فمبيتي سهران إلى الصباح؛ لأن أعصاب عيني لا تألف الغمض في الضياء.
أخلاق (1)
الألفة شرط المعرفة.
ولا تصدق هذه القاعدة على شيء كما تصدق على أخلاق الناس، واستطلاع أسرار الإنسانية التي لا تنكشف - وليس في الوسع أن تنكشف - من اللقاء الأول.
فنحن لا نعرف شعبا من الشعوب ولا فردا من الأفراد حق عرفانه حتى نقاربه ونعاشره، ونزيل ما بيننا وبينه من حجاب الغرابة الذي يمنعنا أن ننفذ إلى قرارة نفسه ونتغلغل إلى بواعث أعماله ومناشئ إحساسه، وما يراه هو طبيعيا عاديا في نظره ويراه الآخرون في أنظارهم غريبا أشد الغرابة بعيدا أشد البعد من العادات المألوفة.
لكن الصعوبة في الأمر أن الغرابة مانعة للمعرفة من جهة ولازمة لها من الجهة الأخرى.
مانعة للمعرفة؛ لأنها تحجب عنا الأسرار التي تنطوي وراء الظواهر ولا تنكشف إلا بانكشاف الأستار والحواجز.
ولازمة للمعرفة؛ لأن المعرفة هي التمييز والفصل بين الحدود، وكيف ترانا نميز إنسانا من إنسان، إذا نحن لم نشعر بوجود الاختلاف والغرابة بينه وبين غيره؟ أو نعتقد أنه مخلوق غير الخلائق الأخرى في دخيلته وظاهر أمره؟
لهذا كانت المعرفة الحقيقية أصعب الأشياء وأدعاها إلى اليقظة والانتباه؛ لأنها تفرض على النفس أن تجمع بين النقيضين في وقت واحد، وترى الشيء غريبا ومألوفا في حالة واحدة، وإنما يكون تذليل هذه الصعوبة بإشراك الشعور والخيال والعقل في البحث عن الأمور التي نبتغي عرفانها والنفاذ إلى بواطنها، فما يراه العقل متناقضا مختلفا يجمعه الشعور في نور واحد ويتولاه الخيال بالتقريب أو التبعيد حتى تتمكن النفس من إدراكه واستيعابه على حقيقته التي تخفى عن الحس والمشاهدة.
وفي السجن يعاني الباحث هذه الصعوبة بعض المعاناة حين يراقب أخلاق السجناء ويعالج التمييز بينهم وبين سائر الناس في الطبائع والعادات، فهو يراهم مئات وألوفا ولا يرى غيرهم في حالة تعارض حالتهم ومعيشة تفترق من معيشتهم، فيسبق إليه - من ثم - أنهم وسائر الناس على حد سواء في جملة الأحوال، وأنك تستطيع أن تبدل ألفا منهم في جنح الظلام بألف ممن يعيشون خارج السجن دون أن تحس الفارق بين هؤلاء وهؤلاء عند طلوع الصباح!
إلا أن هناك أمرا خليقا أن يهون هذه الصعوبة ويزيل اللبس والاختلاط بعض الإزالة، وذاك أن المسافة بين هذه البيئة «السجينة» وبين الباحث الغريب عنها تظل بعيدة مفصولة مهما يطل الوقت ويبطل الفارق في مكان الإقامة، فتبقى بينه وبينها على طول المدى وقرب الجوار مسافة كافية للرؤية الصحيحة والتمييز الواضح. •••
ومن السهل على من يراقب أحوال هؤلاء السجناء أن يقسمهم قسمة عاجلة إلى طائفتين من المجرمين مختلفتين في البواعث والأخلاق وضروب الإجرام.
فهناك مجرم الاعتداء الذي لا يبالي إيلام غيره.
وهناك مجرم الخسة الذي لا يبالي ما يجلبه على نفسه من العار والمهانة.
وأظهر ما يبدو من خلائق المجرم الأول - مجرم الاعتداء - أنه جامد الحس من ناحية الشعور بالألم على إطلاقه، فهو يتحدث عن أفجع المصائب وأشنع حوادث القتل والتعذيب كأنه يتحدث عن فكاهة لا إزعاج فيها للسامع ولا للمتكلم، وقلما يدرك استغرابك إذا أنت استغربت هذه اللهجة منه في وصف الفظائع والموجعات دون التفاف منه إلى وقعها أو مبالاة فرائسها أو المستمعين لقصصها، وقد كان في الدور السادس - وهو الدور الذي فوق دورنا الخامس في عنابر السجن - فتى من قرى الصعيد قتل أخته في القاهرة؛ لأنها هربت من أهلها ولاذت بدور البغاء، فتعقبها حتى عثر بها في الدار التي تسكنها، وراوغها أياما وهو يخفي عنها قصده حتى اطمأنت إليه وسالمته ومهدت له صنوف المتعة بصواحبها وجاراتها، وهو يتحين الفرصة لقتلها في غفلة عمن حولها، إلى أن سنحت له ذات يوم ففاجأها بطعنة سكين وانقض عليها بالطعنات دراكا حتى فارقت الحياة، ففي ليلة من ليالي السجن طاب له السمر واستدرجه زملاؤه في الحجرات المجاورة له إلى شرح قصته، فما راعني إلا أن أسمع هذا الفتى يصف قتل أخته، وكيف غرر بها، وكيف تناول الطعام معها وهو يخفي السكين في ثيابه، ثم كيف طعنها بعد ذلك، وكيف صاحت به تناديه باسم الأخوة وتناشده حرمة المشاركة في الأمومة، ثم كيف قضى عليها واحتز رأسها وسافر به إلى بلده ليريه أنداده وقرناءه الذين عيروه من قبل واستطالوا عليه. فلو أنه كان يتكلم عن ذبح شاة أو دجاجة لما اختلف الأمر ولا تباينت اللهجة، ولا كان أقل من ذلك مبالاة بما يقول واسترسالا في النكات والمزاح كلما عبث به أصحابه وتعمدوا إحراجه واستفزاز طبعه، وليس هذا كله من الغيرة على العرض والنخوة للكرامة، فإن الغيرة على العرض تثير الغضب والنقمة ولكنها لا تخلق البلادة ولا تعمي الإنسان عما صنع بعد فوات الثورة وسكون الهياج ويقظة النفس للذكرى والاستعبار والأسف على ما كان من سبب القتل والاضطرار إليه.
ومع هذا ربما كان لهذا الفتى القروي الجاهل الخشن عذره من عادات قومه وشدة الغيرة في نفسه، وربما كان يبالغ في الاستخفاف بفعلته لتخدير شعوره والأنفة من الندم على شيء هو من واجبه في شرع فتوته وفي شرع أبناء بلده، ولكني سمعت فتى متعلما يباهي بقليل ما تعلم من الدروس الابتدائية والثانوية ويكلم سجناء «الحماية» باللغة الإنجليزية ليدلهم على حظه من الدراسة، ويريهم أنه سليل طبقة غير طبقة المسجونين معه في مثل جرمه، وكان قد حكم عليه بالسجن خمس سنوات لاشتراكه في جماعة مؤلفة للسطو على الأغنياء، فلما استدرجوه ذات ليلة للكلام عن سبب سجنه لم يتردد في ذكر السبب الصحيح، ولم تبد على كلامه مسحة من الندم والخجل، وإنما كان يبدو عليه الزهو بانتمائه إلى جماعة لها فروع وقرارات ورؤساء أقسام واجتماعات ومداولات، وكان يتحدث عن قتل من تقرر عندهم قتله كأنه يتحدث عن عقبة يفخر بالمهارة في إزالتها، ولا يفرض لها حياة تصان وتتعلق بها الآلام والأحزان.
وقد كنت أسمي هذه البلادة في هؤلاء المنكوبين «أنانية» أو إمعانا في الأثرة العمياء لو كانوا يشعرون بالألم في نفوسهم ولا يشعرون بالألم في نفوس غيرهم، ولكنهم على ما علمت من أطوارهم الكثيرة محجوبون عن شعور الألم حيث كان، فلا يحسونه في أبدانهم ولا في ضمائرهم كما يحسه الآخرون فيما يعتريهم من المؤلمات الجسدية والفكرية، وربما ضرب أحدهم رأسه بالحائط ضربا عنيفا داميا ليتهم غيره بضربه، أو ربما وخز نفسه وعرض أعضاءه للتلف؛ من أجل أيام قليلة يطمع في قضائها بالمستشفى أو تحت الرقابة الطبية، وقد قطع أحدهم بضعة من جسمه بحديدة كليلة يكتبون عليها في السجن رقم السجين ولا تصلح للقطع إلا بجهد شديد؛ لأنه قدر أن هذه الفعلة قد توقع مأمور السجن في عقوبة أو شبهة إهمال!
فالآفة عند سجين الاعتداء إنما هي آفة نقص في وظائف الشعور وليست آفة «الأنانية» على معناها الشائع المفهوم، وليس ببعيد أن يجرم الإنسان لفرط الشعور بالألم كما يجرم لقلة الشعور به في نفسه وفي غيره، ولكن هذا الصنف من المجرمين نادر جد الندرة بين من شهدت في سجناء «قره ميدان».
أما مجرم الخسة الذي لا يبالي العار والمهانة فهو حقير بين ضراة المجرمين المعتدين، يقولون عنه إنه «نتن» يدخل السجن في غير طائل، ويصبر على الإهانة وسوء المعاملة من المساجين ولا يستثار.
ومعظم ما يقترفه هؤلاء المجرمون «الأخساء» مقصور على صغائر السرقات والاحتيال على الصغائر والأغرار وما إلى ذلك من جرائم النذالة والطمع الوضيع.
وهم في الحق «نتنون» كما يقول عنهم زملاؤهم من أصحاب الضراوة والاعتداء: شعورهم بالعار ضعيف وشعورهم بالزهو أضعف، ويعترفون على إخوانهم علانية بأقبح الرذائل في غير حياء ولا إحساس بفقدان الحياء، ومع هذا تأبى الطبيعة الإنسانية أن تحرم أحدا نصيبه من الزهو والمباهاة ولو كان من أدنى الأدنياء، فحتى هؤلاء يزهون فيما بينهم ببعض الخلال، ويأخذون على أنفسهم بعض العيوب، وبماذا يزهون؟ يزهون بالافتنان في أساليب النذالة والاحتيال الشائن المرذول، وعلى من يعيبون؟ يعيبون على الجهلاء بتلك الأساليب! وعلى المحدثين في الإجرام؛ لأنهم بلهاء لا يفهمون الخدع و«المصطلحات» التي يفطن لها ذوو الدراية بالسجون! وهم في كل حال لا يعدون الزهو الرخيص الذي لا يكلفهم جهدا من الجهود.
أخلاق (2)
من أصدق المقاييس التي تسبر بها طبائع النفوس الفكاهة والغناء.
فإنك لن تجد الفكاهة ولا الغناء في نفوس خلت كل الخلو من الخير والمحبة الإنسانية وصلاح الفطرة للعطف والمؤاخاة.
فالسليقة التي تعرف الفكاهة تعرف مواطن الضعف والتناقض من النفوس الإنسانية، أو تعرف - بعبارة أخرى - أسرار النفس وخفاياها وما تداريه وما تكشف عنه وما تقابل به الدنيا وما تحفظه في أعماق سريرتها، فكأنما تلك السليقة على اتصال أخوي حميم بجميع النفوس الآدمية، كاتصال الصديق بصديقه المطلع على دخائل قلبه وحقائق نياته، وكأنها على استعداد دائم لأن تضحك مع جميع النفوس ضحك السرور والمشاركة، وأن تضحك منها ضحك العطف والمداعبة، وتلك حالة نفسية لن تخلو من الخير والشعور الحسن من ناحية بني الإنسان.
أما السليقة التي تحسن الغناء أو تحب الإصغاء إليه فهي سليقة تحس وتعرف الوزن والنظام بشيء من الزكانة والإلهام، وهي - كتلك - سليقة تلتقي بالنفوس الأخرى في مجال العاطفة والذوق والشعور بالجمال.
وفي السجن لم أر إلا عددا يسيرا جدا يحسن الفكاهة، وإن كنت رأيت سجناء كثيرين هم موضوع فكاهة ومثار ضحك ودعابة، ولا أذكر أنني سمعت كلمات كثيرة تدل على فطنة للمواقف المضحكة والمساجلات النفسية اللطيفة، وإن كنت قد سمعت كثيرا من النكات المحفوظة والفكاهات المكررة التي يفوهون بها كما تفوه الببغاء بما يلقى إليها من الأصوات.
ولم أسمع قط غناء حسنا من سجناء الجرائم العنيفة أو سجناء الجرائم الخسيسة، ولكنني سمعت الغناء الحسن من بعض الفتيان المحكوم عليهم بالحبس في قضايا تهريب المخدرات وتعاطيها، وهم في أغلب الأحايين مسخرون ينقادون لكبرائهم المسيطرين عليهم، لم تنغرس فيهم بعد نذالة الجريمة العامدة المدبرة التي تطلب الكسب من وراء الإضرار بالناس، ومن كان منهم يتعاطى المخدرات فهو ضعيف يعتدي على نفسه وليس بمجرم من أولئك الجناة الأشرار الذين يعتدون على غيرهم عدوان المكيدة أو عدوان الضراوة.
فإذا اتخذنا الفكاهة والغناء مقياسا للخير والمحبة الإنسانية في نفوس السجناء فأهل الخير فيهم قليل، وهذا القليل الموجود يشف - في أغلبه وأعمه - عن معدن وضيع أو معدن مشوب، وإن لم يجز لنا أن نقول: إن الخير فيهم معدوم وإن صلاحهم ميئوس منه، ولا سيما حين يعالجون بما يناسبهم وحين يقترن حسن النية في علاجهم بالفكرة الرشيدة والعزم الصبور.
ويخطئ من يظن أن السجناء لا يغنون كما يغني الطلقاء والأبرياء كلما وجدوا فرصة للغناء، فإنهم ليهتفون ولا يقصرون في الهتاف ملء صدورهم كلما خلا لهم الجو تحت ستر من الليل، وربما كانوا أشد كلفا بالشدو والهتاف من الطليق المرسل على أرسانه؛ لأن رفع الصوت وسيلة من وسائل الشعور عندهم بالحرية وإرسال النفس على السجية، فهو مطلوب لهذا الغرض ولو لم يكن فيه طرب أو سلوى، ولا حاجة بالإنسان إلى دخول السجن لعرفان هذه الحقيقة بل لاستماع هذه الحقيقة الصارخة من مسافة بعيدة! فإن العبور على مقربة من السجن بين العشاء والساعة التاسعة كاف لاستماع ما يسمعه السجناء في الداخل من الغناء والهتاف، وقلما تمر ليلة واحدة دون أن يدوي السجن بأناشيد أهل الصعيد ومواويل أبناء البلد على اختلاط لا تمييز فيه بين السامع والمسموع، ولكن أهل الصعيد وأبناء البلد كما يعلم القراء يغنون كأنهم يتكلمون، أو هم يغنون ويصيحون حين يعوزهم السمر والكلام وتكل ألسنتهم من السكوت، وليس هذا الذي نعنيه بالغناء المبين عن الطبائع والأخلاق، وإنما نعني به الأوزان الفنية التي تتجلى فيها الأذواق وخلجات العواطف وألوان الإحساس، وهذا الذي نقول: إنه قليل نادر بين المجرمين. •••
وربما كان الأولى بي أن أتخذ مقياسا آخر للخير في طبائع زملائنا السابقين يعنيني أكثر مما تعنيني هذه المقاييس التي تعم جميع الباحثين في هذه المشاهدات؛ لأنني اختبرت من معاملة زملائنا صنوفا من البر والطيبة مختلفة المصادر والأسباب، فكنت أنا نفسي مقياسا محسوسا يقاس به ويقيس!
فمنهم - وهم القليل - من كان ينطوي على كرم مأثور، ويلوح لنا من بعض بوادره وتصرفاته أنه يقبل على نفسه حالة السجن ومضانكه وآلامه، ولا يقبل أن يعانيها رجل من ذوي الصناعة الفكرية، كأنه يحس في قرارة ضميره بفارق بين عمله وعملنا وسائقه إلى السجن وسائقنا، ولا يأنف أن يعترف بهذا الفارق ثم يرجح كفتنا على كفته عند الموازنة.
ومن هؤلاء من كان أساه لنا واهتمامه براحتنا والتسرية عنا يكلفانه المجازفة الجريئة والإقدام على العقوبة وتضييع حقه في الإعفاء من ربع المدة، وهو الحق الذي يناله كل من قضى مدة السجن بغير إخلال بقواعد النظام، ويزيد في فضلهم أنهم كانوا لا يطمعون منا في جزاء عاجل، ولا ينتظرون الجزاء بعد الإفراج عنهم وعنا، إذ كان موعدهم بمفارقة السجن بعد موعدنا بسنوات أو شهور طوال.
وقد كان بين هذا الفريق فتى يجيد الغناء بعض الإجادة، ويبث فيه شيئا من الحنين السائغ والبواعث الشجية، وكان يخشى الحراس إذا غنى مساء؛ لأنه معروف الصوت في السجن كله لا يختلط حيث كان بأحد غيره، فكنت أسمع بعض زملائه الذين يحضونه على الغناء يقولون له: إن «الأستاذ» - ويقصدونني أنا - هو الذي أوعز إلينا أن نقترح عليك كيت وكيت من الأدوار، فلا يتردد في الإجابة دون أن يعرفني أو أعرفه ودون أن يلقاني أو ألقاه.
ومنهم من لا يبلغ مبلغ هؤلاء في كرم الخليقة ولكنه يخدمنا ويبذل المعونة لنا عن غبطة منه بإنشاء العلاقة بينه وبين أناس يراهم أرجح منه منزلة وأكبر ممن تجمعه بهم علاقة الزمالة، ويرضيه أن يستحق من هؤلاء الناس كلمة الثناء وعرفان الجميل والشعور بفائدته لهم في حالة من الحالات، وتلك ولا ريب نية خير لا غبار عليها؛ لأنها دليل على طبيعة لم تتجرد من التطلع إلى حسن الظن وطيب الأحدوثة .
ومنهم من كان باعثه للخدمة والمعونة إعجابه بالجرأة كما يفهمها، ونظره إلينا كما ينظر إلى أنداده الجسورين في معارك الفتوة ومقاحم الضرب والمصارعة، وهو باعث لم نكن نغتبط به وإن كنا لا ننسى حسن النية فيه!
وكلهم كانوا يضمرون لنا شعور المودة ويخلصون الرغبة في بذل المعونة الميسرة لهم كلما أتيحت لهم وسيلة من وسائلها. •••
على أننا لم نخطئ في معظم السجناء عاطفة مصرية صميمة لاحظناها في جميع المصريين على تباعد الطبقات والأقاليم، ونعني بها «عاطفة العائلة» وما يتفرع عليها من رعاية الأرحام والأسنان.
رأيت مرة طفلا صغيرا من الأطفال الذين يودعونهم سجن مصر ريثما ينقلونهم إلى سجن الأحداث في الجيزة، وكان هذا الطفل مع أقرانه الصغار ينتظرون الترحيل في فناء السجن المعرض لأنظار الرؤساء والسجانين، فمر به سجين من العائدين في جريمة السرقة، فرفع له الطفل رأسه وناداه بلهجة المسكنة الطبيعية التي يستشعرها الصغير في غيبة أهله وقال له: (جوعان)!
فتمهل اللص العائد هنيهة ثم قال له: «وماذا أصنع لك يا بني؟!» وانصرف آسفا فظننته لا يعود ولا يفكر بعد ذلك في الطفل المستغيث، ولكنه ما لبث أن عاد بعد دقائق ومعه رغيف سرقه من المخبز فقسمه نصفين وأعطى الطفل نصفه واستبقى لنفسه النصف الآخر، ولو نظروه وهو يسرق الخبز لما نجا من الجلد الأليم أو من السجن على انفراد.
ورأيت رجلا شيخا نازلا من درج المستشفى وهو لا يقوى على الحركة، ولا يجد الممرض الموكل به وبغيره من يقوى على حمله، وكان على مقربة منه يافع لم يتجاوز السادسة عشرة لا يدل مرآه على ضلاعة ولا على صحة سليمة، فشق عليه أن يبصر الشيخ المريض يتعثر في خطاه ويئن من وجعه، وتقدم إليه فحمله ومشى به على جهد شديد حتى أعياه حمله دون أن يكفله الممرض ذلك أو يخطر له أنه قادر على هذا العبء الفادح ليافع مثله.
وتلاحى شيخ فان وفتى عارم مشهور بالشر والعربدة في السجن وفي الحي الذي يعيش فيه، فسبه الشيخ سبا لا يطيقه من كان فتى في سنه، ولا يأمن من يسبه به أن يستهدف لضربة قاسية، فما صنع الفتى المسبوب إلا أن بدا عليه الدهش والتردد لحظة، ثم هز رأسه وقال لمن حوله: «انظروا إلى الرجل الشايب يعيب ولا يخجل! ...» وقال للرجل الشايب: «لو غيرك قالها لقتلته! ولكن ماذا عسى أن أعمل لك وأنت أكبر من أبي؟»
وهذه على التحقيق ظاهرة اجتماعية ملحوظة في أخلاق الأمة المصرية بأسرها، سببها فيما أرى قدم العهد في هذه الأمة بحياة الأسرة والحياة الاجتماعية والبيتية على إجمالها، ولهذه الظاهرة في تكوين الأخلاق وتحويل العادات قرار عميق لا يغفل عنه المصلح الاجتماعي المشغول بأطوار هذه الأمة العريقة، ومن زمام هذا الخلق الأصيل ينبغي أن يتناول المصلح الاجتماعي أهم دواعي الإصلاح فيمن يحتاجون إليه من الضالين والزائغين، سواء كانوا من نزلاء السجون أو من الطلقاء الذين نجوا من العقاب ولم ينج الناس مما يجترحون عامدين وغير عامدين.
الوعظ
من المناظر - ولك أن تقول من المسامع - القليلة المؤنسة في السجن حلقات الوعظ التي يعقدونها بين حين وآخر، ففيها يتسنى لمن بالسجن أن ينظروا إلى اجتماع إنساني يخاطب فيه السجناء خطاب أصحاب النفوس التي قد يثمر فيها الكلام وقد يرجى لها العلاج!
رأيت أول حلقة من هذه الحلقات يوما من أيام الاثنين على ما أذكر، إذ كان بعض الحراس ينطلقون بين الحجرات ينادون: «المسيحيين المسيحيين» وأنا أعجب لهذا النداء ولا أدري لماذا يجمعون المسيحيين وحدهم دون بقية السجناء، وقبل أن أسأل أحدا عن القصة رأيت الواعظ المسيحي في ثيابه السود، فذكرت الوعظ في السجون وانتظرت أثناء الرياضة الصباحية حتى أسمع ما يقول باسم الدين لهؤلاء الخارجين على الشرع والقانون.
وما هي إلا لحظات معدودات حتى أقبل السجناء المسيحيون أفرادا متفرقين من مذاهب شتى لا تجمعها كنيسة واحدة، فجلسوا بين يدي الواعظ القرفصاء إلى زاوية مشمسة في فناء السجن، وجلس هو على كرسي وفتح التوراة وأخذ يقرأ منها ما صادفه من القصص، ويشرح معناها بصوت يعلو ثم يعلو حتى يسمعه من في الميدان القريب.
ومنذ ذلك اليوم كان يطيب لي أن أشهد هذه الحلقات وأسمع ذلك الواعظ كل يوم اثنين؛ لأنه كان يتحدث عن قصص التوراة حديث الحاشية المخلصة عن النوادر الملكية التي تقع بين كبار السلاطين وكبار الأتباع ذوي الدالة عليهم، وكان يروي التجارب التي يبلو بها الله أنبياء بني إسرائيل كأنها مفاجآت الأب الشيخ الحكيم حين يمتحن مدارك الأبناء الصغار، ويغتبط بما يراه من حيرتهم البريئة وضعفهم المستسلم، ويضحك أحيانا ضحك العطف والرجاء حين يكشف لهم عن دعواهم القاصرة وغرورهم المتعجل، فيطيب لي أن أرى التوراة منقولة إلى عالم الخيال الفطري والتصوير الشعري والتمثيل الفني الذي لا تكلف فيه.
وكان من عادته إذا فرغ من شرحه ووعظه أن يطلب إلى أحد السجناء أن ينهض للصلاة والدعاء ويجهر بما يجيش في نفسه ونفوس زملائه، فمنهم من يحسن الكلام ومنهم من يتعثر بالألفاظ المألوفة في الأدعية والصلوات، وكل أولئك مما يستحب الإصغاء إليه والتأمل في مغزاه.
ولا أحسب أن أحدا منهم كان يجيد الكلام في دعائه وصلاته كما كان يجيده رجل من أضراهم بالشر وأولاهم بالعقاب وأسوئهم سيرة بين السجناء، وإن شهدوا له بالبراعة والذكاء: وهو تاجر مخدرات مشهور.
سمعته مرة يصلي ويذكر خطايا الخاطئين وآثام بني الإنسان ... فسألت عنه فقيل لي هذا فلان صاحب الحيل المعروفة في ترويج المخدرات، وكنت قد سمعت عنه وعن قضاياه وأحابيله في إيقاع صرعاه، وإغرائهم بتناول السموم وإدمانها، فقلت: لو كان هذا المصلي الخاشع يدعو الله ليستجاب دعاؤه لما دخل السجن، ولا قام مقامه هذا للصلاة فيه! ولكنها حيلة جديدة من حيله الكثيرة، ولعلها أيضا من حيل التخدير! •••
ويتردد على سجن مصر عدة من الوعاظ المسلمين بين الصبيحة والظهيرة، ولكن في غير موعد مقرر أو يوم معلوم.
فإذا وصل أحدهم إلى السجن جمعوا له سجناء دور من الأدوار في ساحته الأرضية، وجلس هو على كرسي أمامهم ينصح لهم ويحذرهم عقاب الآخرة بعد عقاب الدنيا على طريقته في النصح والتحذير.
فبعضهم كان يحفظ خطبه ويعيدها كما هي كل مرة بعد تحوير طفيف لا يقدم ولا يؤخر، وهو يحاول أن يذهل سامعيه من السجناء عن هذا التكرار برفع الصوت والتلبس بالغضب والصرامة في الزجر والإنذار، ويمضي في تكراره مطمئنا إليه؛ لأنه يعظ في كل مرة سجناء دور واحد من أدوار السجن الكثيرة، وتنقضي مدة طويلة بين العظتين في الدور الواحد يخيل إليه أنها كفيلة بالتشكك والنسيان.
وبعضهم يتوخى الطريقة العصرية في اختيار المناسبات، واتخاذ المناسبة الأخيرة من بعض الحوادث الطارئة التي لها مساس بأحوال سامعيه.
وبعضهم يعتمد على التأثير بالسن والمهابة والسمت والثياب الفاخرة، ويحيط عظاته بمراسم طنانة كأنها مراسم أصحاب العزائم والتعاويذ.
وكان يعنيني أن أراقب السجناء حين يحضرون إلى العظات وحين ينصرفون، لأرى كيف يقبلون عليها وكيف ينصرفون عنها وكيف - فيما بين ذلك - يستمعون إليها؟
فبدا لي أن أناسا منهم يحضرونها بروح الهازئ المستخف الذي يتحدى الواعظ بشقاوته واستعصاء أمره، وكأنما يقول بينه وبين نفسه: (هلموا إلى ذلك الرجل الطيب الذي يحسب أنه يفهم من الأمور ما لا نفهم، لنرى كيف يعلمنا العقل والدربة، ويصلحنا بكلماته وتهويلاته.)
وأناس منهم يرحبون بساعة الوعظ كما يرحب التلميذ بساعة لعب يستريح فيها من حصة الدراسة، ويأنس فيها بالجلوس بين إخوانه في شيء من الطلاقة والسماحة.
وأناس آخرون يرحبون بساعة الوعظ؛ لأنهم يغتنمون فيها الفرصة حين يزجرهم الواعظ ويصب عليهم اللوم والتبكيت، ليبثوه الشكوى من قسوة الحراس وجور الأحكام، ويلقوا شيئا من اللوم على (النظام) وشيئا من اللوم على الأيام.
ولا تخلو جموعهم من أفراد تلمحهم عند انصرافهم منكسي الرءوس كاسفي البال من أثر الوعظ أو من تداعي الخواطر واسترسال الخيال، وربما سمعتهم يرثون لأنفسهم ويندمون على ما فرط منهم، ويودون لو هداهم الله وردهم أناسا كسائر خلقه لا يعرفون المحاكم والسجون، ولا يبتغون العيش إلا من الرزق الحلال، ناعمين وادعين بين الأمهات والآباء والأزواج والأبناء، ثم يعلقون ذلك كله على القدرة والاستطاعة، وهم مستقرون في ضمائرهم على أنهم لا يقدرون ولا يستطيعون؛ لأنهم لا بد لهم من العيش وكسب الرزق، وهم يشكون بوار الصناعات وشح الناس وندرة الأعمال. •••
على أن أثر الوعظ في الجملة ضعيف سريع الزوال، وقد يبلغ من ضعف أثره وسرعة زواله أن ينقضه بعض سامعيه في ساعة سماعه، وأن يصبح الواعظ نفسه هدفا يرميه أولئك الخبثاء، وصيدا يصيدونه، ودليلا يثبتون به أو يثبتون فيه بطلان وعظه وضياع جهده وعبث رجائه، حتى يخيل إلى الإنسان في هذه الحال أن حلقة الوعظ إنما هي حلقة سباق وصيال بين الجريمة والهداية، تلتقيان فيها لتنظر كلتاهما أيهما هي الأقدر على الظفر بالأخرى وتعريضها بين المتفرجين للهزيمة والسخرية! انتقاما منها لاعتدادها بنفسها وسوء ظنها بقوة غريمتها! وقلما تتمثل حلقة المباراة هذه في شيء كما تتمثل في القصة التالية التي سمعتها من أحد موظفي السجن، والعهدة على راويها.
أعرف واعظا مشهورا يطوف بلاد القطر ويحب أن يتخذ له أبناء من موعوظيه في كل بلدة وكل إقليم، يرعاهم رعاية أبوية ويسره أن يرى منهم حفاوة البنوة وتحيتها، ويمد يده للتقبيل كلما انتهى من وعظه غير ممتنع ولا ناظر إلى تقبيل يده إلا كما ينظر الأب إلى تحية الاعتراف والشكر من ولده.
وشاخ الواعظ الذي أعنيه وضعف عن الطواف في أنحاء القطر، ولكنه لم ينقطع كل الانقطاع عن الوعظ في السجون وإن أطال الفترة بين عظاته كلما تقدمت به السن.
وجاء الشيخ يوما وهو لا يكاد يقوى على الجلوس والحركة إلا بمعونة معين، فأسهب في نصائحه على عادته وملأ السجن بأصوات الدعوات يلقيها على سامعيه، ثم يطلب منهم تكريرها مرات متواليات بنغمة مرتلة يلقنهم إياها وهو يهتز بينهم على نغمة ترتيلها، أو يتركهم يعيدونها ويسبح في غيبوبته العلوية حتى يفيق منها!
فلما ختم عظاته وترتيلاته تدافع السجناء حوله يهمون بتقبيل يديه والتماس البركة منه فإذا هو يحجم عنهم ويصيح بهم صيحة منكرة: «مكانك يا ولد! إياك أن تقترب يا ولد! من بعيد يا ولد!» كأنه يرتل هذه الكلمات على طريقته في ترتيل النغمات!
قلت لبعض الموظفين ممن اتفق وجودهم على مقربة مني: «ما خطب الشيخ يأبى تقبيل اليد من هؤلاء؟ أزهادة منه في السجناء؟ أم زهادة في هذا الصنف من قبلات الأبناء؟»
قال: «لا هذا ولا ذاك، ولكنه معذور لأنهم سرقوه مرة ويخشى أن يعيدوا عليه الكرة، فهو يجانبهم هذه السنوات ويستعيض الله خيرا من تلك القبلات.»
قلت: «يا سوء هذا التقريظ! أيسرقون واعظهم وهم في دار العقاب؟!»
قال: «لقد فعلوا جزاهم الله من أبناء عققة، وفعلوها في يوم تجلى فيه الأستاذ فاختلب القلوب وأبكى العيون، وأرسل يديه لهم ينكبون عليهما بالتقبيل ويوسعونه من التمسيح والتبجيل، وهو يحسب أنهم ينتصحون ولا يسرقون، وينتفعون بما يفعلون، فقد أشبعهم وعظا وهداية فأشبعوه اعترافا ورعاية.»
وذهب إلى حجرة المأمور وقد رضي عن نفسه وأحب أن يكافئها بعطسة أو عطستين من عطسات الإيمان والتشميت برحمة الله. فضرب يده في جيبه الواسع فإذا علبة السعوط ضائعة، وأسرع إلى مكان الساعة الذهبية الثمينة فإذا الساعة ضائعة! وكيس النقود أين هو؟ لا ريب أنه لن يبقى في الجيب إذا فارقته الصاحبتان الحميمتان! «وطارت بقايا الوعظ من رأس مولانا، وصاح بالمأمور يستغيث، فأكبر الرجل أن يصاب الأستاذ في كفالته بهذه الخسارة الفادحة؛ لأنها خسارة في وعظه وفي ماله، فجمع السجناء الموعوظين ولما يستقروا بالحجرات، وأقسم لهم لينكلن بالسارق شر تنكيل إذا هو اهتدى إليه ولا بد أن يهتدي إليه، فلينقذ نفسه من شاء السلامة ولا عقاب عليه.
فأما علبة السعوط فقد عادت فارغة؛ لأن «الشطار» أحرص من أن يفلتوا من أيديهم شيئا فيه رائحة الدخان.
وأما الساعة فقد عادت لأنها لا تنفع، وعاد معها كيس النقود؛ لأن النقود التي فيه أكبر من أن تبلع، وسئل السارقون: كيف تجترئون على الأستاذ وتستحلون ماله وعتاده وتزدرون وعظه وإرشاده؟ فقال خبيث منهم: ما اجترأنا عليه ولا سرقناه، وإنما هي بركة من مولانا نغتنمها ونتقرب بها إلى الله!»
قال الموظف الذي يقص علي ما رآه: تلك قصة الشيخ. فهل يلام إذا هو ضن بهذا المال المبارك وفرط في القبلات؟ وهل عليه جناح إذا هو أشفق من هذا الإفراط في اختلاس البركات؟! •••
ونحسب أننا نظلم السجناء إذا أحلنا الذنب كله في فشل المواعظ على رداءة طباعهم واستعصاء أدوائهم، فالواقع أن المواعظ على أحسن حالاتها لا تشفي غلتهم ولا تخاطبهم بما يناسبهم ولا تتحرى دخائلهم ومواقع التأثير والإقناع من طواياهم، والواقع أن إصلاح الأخلاق عسير في السجون، وهي على نظامها القامع الذي يفرض الكبت على الطبائع، ويشل وظائف الحياة في جسوم قوية ونفوس لا تقصد العفة لطهارة أو قداسة حتى يقال إنها تستفيد بالرياضة وعلاج الشهوة والإرادة.
وأشد من ذلك إيذاء لأخلاق السجناء أنهم يفقدون في السجن الدرس الوحيد الذي هم مفتقرون إليه.
فهم أناس منحرفون يجزيهم القانون بما يجزيهم به حين يعتدون ويسلبون؛ لأنهم يؤمنون بالعنف والقوة ولا يؤمنون بالحقوق وآداب الاجتماع، ويعتقدون أنهم في حرب مع المجتمع من غلب فيها ظفر ولا جناح عليه، فإذا استطاع أحدهم شيئا فعله ولم يحسب حسابا لما يجوز له وما لا يجوز.
فماذا يلقون في السجن من معاملة السجانين؟ يلقون من معظمهم ما يثبت في نفوسهم تلك العقيدة ويزيدهم إيمانا بأن الأمر قائم على العنف والغشم واعتداء من يستطيع العدوان ويأس الضعيف المغلوب من إنصاف ذوي السلطان، فيبطل درس الشريعة والأدب ويبقى درس الواقع الذي شبوا عليه من نشأتهم الأولى ووجدوا مصداقه في السجن ومباءة الإصلاح والتوبة، وكيف يراد منهم أن يعدلوا عن ذلك الدرس ويرتابوا في صدقه وهم لا يجدون إلا ما يؤيده ويزكيه!
ليلة المستشفى
إذا كان السجين يستنفد كثيرا من الحيلة والخبث في تهريب الممنوعات فمن الحق أن نعلم أنه لا يستنفد حيلته كلها ولا خبثه كله في هذا المطلب العزيز، ولكنه يستبقي كثيرا منهما أيضا لتهريب صنف آخر عزيز عند السجناء وإن كان بغيضا أشد البغض عند الطلقاء، وهو المرض، قاتله الله.
نعم «المرض» أعني، ولا خطأ في الكتابة ولا في الطباعة! فإن الأمور لتنقلب أحيانا في السجن رأسا على عقب حتى يتمنى المرء فيه ما يتمنى الخلاص منه وراء جدرانه، والمرض بعض هذه الأمور .
إذا تيسر بقضاء من الله فذاك لطف من الله! وإذا لم يتيسر فالصناعة تغني هنا ما ليست تغنيه الطبيعة، والمرض الصناعي المقلد عزاء لمن فاته المرض الطبيعي الأصيل، حتى يأذن الله بما يشاء.
ولهذا برع السجناء في تقليد الأمراض على أنواعها وفي مقدمتها الأمراض الجلدية والأمراض التي ترتفع بها الحرارة، فليس أيسر عليهم من اصطناع الحمى أو اصطناع الجرب والبثور الكريهة وأعراض الإصابات السرية، وتسمع الواحد منهم يهمس لصاحبه في أثناء الرياضة أو يناديه بالليل إذا أمن الوشاية: «غدا حمى في العيادة يا فلان!» أو «غدا في قسم الجرب!» فإذا هو موعد يلتقيان فيه ساعة بل ساعات وقد يطول إلى يوم بل أيام؛ لأن المريض الذي يلتبس مرضه على الطبيب يحجز في قسم «الملاحظة الطبية» حتى تنجلي حقيقة دعواه وتسفر الملاحظة عن دخوله المستشفى أو إعادته إلى الحجرات، مع جرعة مريرة من العقاب.
وليس العقاب بالشيء المهم عند مصطنعي المرض وطلاب الراحة فترة من الزمن ولو أعقبها التعب المضاعف، فإن السجين إذا ظفر بالانتقال إلى قسم «الملاحظة الطبية» أياما فقد غنم الفراغ من العمل أولا، وغنم الطعام المقبول في بعض الحالات ثانيا، وغنم لقاء أصحابه الذين يحال بينه وبينهم في الحجرات والمصانع، وقد يسعده الحظ عند الطبيب فيغنم الصعود إلى ساحة الرضوان عند السجناء، وهو المستشفى!
وهذا المستشفى إذا رآه إنسان من الطلقاء عافه لأول نظرة، ولم يصبر على البقاء فيه ساعة واحدة، ولكنه مع ذلك أمنية لا يسعد بها إلا المجدود وصاحب الحيلة التي تتسع لصنوف كثيرة من المداورات والمراوغات ويعلمها بعض موظفي السجن وبعض الأطباء، ولكن لا يتسع المقام هنا للتفصيل والبيان.
أما كاتب هذه السطور فليس من السعداء المجدودين، ولكنه من الأشقياء المطرودين! لأنه وصل إلى المستشفى وفر منه تحت سواد الليل ولما تنقض عليه غير ساعات، وماذا عساك أن تصنع لمن يرقى إلى هذه الأمنية الغالية ثم يدركه البطر فيدفعها عنه بيديه؟
هكذا حصل، فقد علم القراء أنني دخلت السجن بذخيرة من السعادة في عرف السجناء تكفي عشرة منهم لو كان هناك عدل في القضاء!
دخلته بألوان من السقام فوق الاصطناع وفوق التقليد، ولم ألبث أن نقلت إلى المستشفى - حكما ورسما - وأنا لم أبرح حجرتي الأرضية التي لا تدخلها الشمس ولا تفارقها الرطوبة! فلما سألتهم: ألا توجد في المستشفى حجرة منفردة تدخلها الشمس وتفارقها الرطوبة؟ قالوا: نعم توجد هذه الحجرة، ولكنها مشغولة بدواليب الملابس، كما أسلفت في بعض هذه المقالات.
وعلى هذا لا بد من البقاء حيث أنا، أو الانتقال إلى إحدى الغرفتين الواسعتين في المستشفى للإقامة هنالك مع جمهرة من المرضى قد تبلغ العشرين.
فبقيت حيث أنا عدة أيام، وبقى الزكام يتقدم ويتقدم حتى احتبست الأنفاس وامتنع النوم وعيف الطعام وهبط وزن الجسم بضعة أرطال، ولم يبد من الظواهر ما يدل على تحسين قريب في الحجرة الأرضية المحسوبة من المستشفى، وهي معزولة عنه بحراس وأشداد.
لقد رأيت ذلك المستشفى - أي رأيت ساحة الرضوان بعيني - مرات في خلال زيارة الطبيب، ولكني لم أطمح إليه ولم أزل أتوقاه وأتحاماه، فلما طال الأمر وخيفت العاقبة ألا تجرب ساحة الرضوان مع المجربين؟ ألا تفتأ على زهدك في هذا الرجاء الموعود وفي كل رجاء عند القوم موعود؟
وجئتهم صباح يوم لم أنم في ليلته لحظة واحدة فأنبأتهم أنني أوثر غرفة المستشفى الواسعة بين أشتات المرضى على البقاء في هذه الحجرة المسقمة، فلما كان العصر جاء الإذن بالانتقال فانتقلت إلى غرفة المجروحين والمكسورين ومعي بعض الصحف والكتب والعقاقير والقوارير، وانقضت الساعات الأولى على ما يرام: نظرت من النافذة التي كان سريري يقابلها فإذا بي أرى ميدان القلعة والناس يذهبون فيه ويجيئون والمركبات تروح فيه ذات الشمال وذات اليمين، وهذه سعة - ولو نظرية - لا يشعر بها السجين بين حجرات العنابر الأرضية، فغالطت نفسي قليلا وقلت خير!
وهبط المساء فأضاءت المصابيح الضئيلة واستطعت أن أقضي هنيهة في قراءة الصحف المسائية، ولم أكن أستطيع ذلك في الحجرة الأرضية قبل إدخال النور إليها، فغالطت نفسي مرة أخرى وقلت خير، ولعله خيران!
وسكن ليل السجن إلا أصداء من الطريق فاستوى كل مريض على سريره، وأخذوا في السمر الطريف، وأي سمر طريف؟! هذا مدمن مخدرات قبضوا عليه وأودعوه سجن الاستئناف ريثما يفرغون من تحقيق أمره فألقى بنفسه من الدور الثاني إلى الأرض هربا من الدنيا التي يحرم فيها بلاء المخدرات! وهذا مدمن آخر يصف كيف يعالجونه من دائه بنقل الدم من جسمه إلى جسمه؛ لأن دمه لا يزال كالسم المخدر إذا سرى إليه أغناه عن الجرعة المشتهاة، وهذا يذكر أيامه في سجن طرة الكبير بين القتلة وقطاع الطريق وهو لا يخلو في ذكرياته من ازدراء حاضره والحنين إلى ماضيه، وهذا يتحدث بما عاناه في دخول المستشفى من العنت والبلاء، وبين ذلك كله جريح يئن وآخر يقضي ضروراته على مشهد ممن حوله، وآخر يستدعي صاحبه ليعينه على قضاء ضروراته عجزا منه عن القيام والحركة، وقس على ذلك ما عداه.
وكانت النوافذ مفتوحة في ساعات المساء الأولى، فلما أغلقت واحدة بعد أخرى فشت روائح الدواء، وما هو شر من الدواء في الغرفة المغلقة، وزاد الكرب حين هدأت الأصوات وخيم السكون فلم يكن يقطعه إلا أنين مقلق أو زفير مختنق من بعض أولئك المساكين، وإلا دقات الساعة الكبرى في مسجد القلعة، تتزايد في عدتها على الحساب العربي كأنها تستحث الليل الراكد الثقيل. •••
وجعلت أصابر الوقت لحظة بعد لحظة ولا سبيل إلى الإغفاء، وكلما ابتدأ نصف ساعة قلت سأنام قبل انتهائه وهو ينتهي وينتهي ما بعده ولا اختلاف بين الأنصاف ولا الساعات، وكنت أحصي الوقت على الحساب الإفرنجي بظهور الممرض صاحب النوبة وهو يفتح الباب كل نصف ساعة ويتسلل إلى آخر الغرفة ليدير مرصد الساعة الذي يسجل له مثابرته على السهر طول الليل، ومضيت أشغل الوقت خلال هذه الفترات بفكرة واحدة لا تتبدل وهي: هل من فائدة للانتظار؟ وهل أرجو أن أستقر في هذه الغرفة أياما وشهورا وتلك حالتها بضع ساعات؟ ثم انقضت الساعة الثانية فطاولت نفسي إلى الثالثة في انتظار نوم نافر لبثت أنتظره ليالي متعاقبات، وشعرت بمضض انتظاره تلك الليلة في كل لحظة لما خامرني من خيبة الأمل وما أحاط بي من التنغيص والإيذاء، فلما كانت الساعة الثالثة بلغ الصبر غاية مداه، ولما انتصفت الرابعة بادرت الممرض وهو يفتح الباب، وطلبت إليه أن يدعو ضابط الحراسة تلك الليلة، فتردد قليلا ثم لم ألبث أن سمعت قرقعة المفاتيح في هبوطه على السلم وصعوده بعد فترة ومعه ضابط الحراسة.
سألني الضابط مستغربا: ماذا جرى؟
قلت: لا شيء إلا أنني لا أطيق المكث بهذا المكان، ولا بد لي من العودة إلى الحجرة أو المبيت في أي مكان غير المستشفى.
فتبسم كأنما كان ينتظر هذه النتيجة وقال لي: وماذا كنت تصنع لو صادفتك القرعة في قسم الأمراض الباطنية؟
قلت: أهو شر من هذا؟
قال: بما لا يقاس.
قلت: شكرا لكم على هذه المرحمة؟ ولكن الحجرة على كل حال أرحم من الغرفتين؛ لأني أجد الأرق هنا وهناك ولكني آرق هناك ولا أسمع الأنين، ولا أشم هذه الروائح، ولا أرى ما يسوء.
وهكذا ودعت المستشفى غير آسف وطويت الليلة ساهدا إلى الصباح، ثم خرجت من السجن بعد عدة شهور، ولو أنني استعرضت ليالي فيه لما استطعت أن أذكر بينها ليلة أسوأ ولا أنكأ من ليلتي تلك في ... ساحة الرضوان.
أحمد حمزة
أحمد حمزة رجل بارع الذكاء، بل هو أبرع الناس ذكاء، إن كان المقصود من الإنسان أن يفهم عكس ما يفهمه الناس.
فإذا اتجه الفهم بين الناس من اليمين إلى الشمال، فالشيخ أحمد حمزة خير من يفهم من الشمال إلى اليمين، وكل ما هنالك - كما يرى القراء - اختلاف في اتجاه الفهم كالاختلاف في اتجاه الكتابة بين العرب والأوروبيين: فريق يبدأ السطر من يمينه وفريق يبدؤه من شماله، وكلهم يكتبون ويقرءون.
وأحمد حمزة هذا ليس بسجان ولا بموظف في السجن ولا بزميل فيه، ولكنه طاهي البيت عندي منذ عشر سنوات.
ولا يعرف القارئ كنه طريقته في الفهم إلا ببعض الأمثلة الواقعة، فإلى القارئ من هذه الأمثلة قليل من كثير.
أيسر طلب تطلبه منه يجري على هذا الأسلوب: هات قهوة يا شيخ أحمد. - نعم؟ - هات قهوة. - أجيء بماذا؟ - بقهوة! - بقهوة تقول حضرتك! - أي نعم بقهوة.
فيكتفي ولا يحوجك بعد ذلك - لذكائه - إلى يمين مغلظة ليصدق أنك تطلب قهوة! •••
وكنا على المائدة سبعة فطلبنا من الشيخ أحمد حمزة أن يضيف إلى كراسي المائدة الستة كرسيا سابعا من غرفة الاستقبال.
ثم كان الأسبوع التالي فكنا على المائدة أربعة، وكان كرسيان من كراسي المائدة خاليين، ولكن أحمد حمزة صف الكراسي الستة على حسب العادة، وجاء بالكرسي السابع من غرفة الاستقبال؛ لأن هذا المكان حق كسبه الكرسي بالاستعمال، ولما ضحكنا وأغرقنا في الضحك نظر الرجل إلى الكراسي ونظر إلى ما حوله وإلى نفسه في حيرة واستغراب لا يدري فيم يضحك هؤلاء الناس ولا ممن يضحكون. أينكرون عليه زيادة الكرسي وهم الذين أمروه بنقله قبل أسبوع؟ أيضحكون منه أن خالف ويضحكون منه أن أطاع؟ لا جرم يعقل هؤلاء الخلق من اليمين إلى الشمال حين ينبغي أن يكون العقل من الشمال إلى اليمين!
وكنت متعبا في بعض أيام التوعك والانحراف.
وكنا نهيئ مكانا في البيت لإحضار قطعة من الأثاث، ونحب أن نقيس المكان الذي توضع فيه على حسب المقاس المطلوب، فقلت له عليك يا شيخ أحمد بالمتر فقس الحائطين وقل لي أيهما أطول وأصلح لوضع الأثاث المنتظر؟ فمضى هنيهة ثم عاد يتمتم ويوسوس كمن يناجي الغيب.
قلت: ما الخبر يا شيخ أحمد؟! هل قست الحائطين؟
قال: نعم.
قلت: وكم الطول؟
قال مثلا: ثلاثة أمتار.
قلت: وكم العرض؟
قال: كذلك ثلاثة أمتار.
فعجبت للأمر؛ لأنني أعرف أن الحجرة ليست مربعة، ولكنها مستطيلة بعض الاستطالة، وسألته: أي الحوائط الأربعة قست؟
قال: الحائط الذي فيه الباب والحائط الذي أمامه! •••
وكان في المنزل ضيوف ذات يوم، وأنا أفضل إذا كان في المنزل ضيوف أن أغسل يدي في حوض المطبخ، وأدع لهم حوض الحمام، فدخلت المطبخ - حرم الشيخ أحمد - وطلبت منه صابونة فذهب وعاد بها وأنا أبدأ غسل يدي ووجهي على مهل، ولا أحسب أن هناك ما يدعو إلى العجلة، ثم خرجت فإذا بالضيوف كلهم عند حوض الحمام ينتظرون الصابون؛ لأن الشيخ أحمد أخذ الصابونة من ذلك الحوض، ولم يخطر له أن يسأل نفسه لماذا أجشم نفسي أن أغسل يدي ووجهي في المطبخ وأدع لهم الحمام، وإنما قيل له: هات صابونة فجاء بصابونة، وهذا هو المطلوب، ولماذا لا يجيء بها من حوض الحمام ولم يقل له أحد مؤكدا مشددا: إياك أن تجيء بها من حوض الحمام؟
أما معجزة الشيخ أحمد الكبرى فهي تلك التي صنعها بصورة قصر أنس الوجود وقد تركته هو وتركت المبيضين بالمنزل ونجوت بنفسي إلى مدينة أخرى؛ فرارا من ربكة الأثاث المشتت الذي لا يطاق معه قرار، فتجلت هنا عبقرية الشيخ أحمد التي تخلف كل ظن وتخرق كل حد وتخرج عن كل تقدير، لقد خطر لي أن أقصى ما يستطيعه الشيخ أحمد من إعجازه المعهود في هذه الحالة أن يضع الصور في غير مواضعها منحرفة نحو اليمين أو نحو الشمال وصاعدة إلى الأعلى أو هابطة إلى الأسفل، فقيدت مواضعها بمسامير لا تتحول وأوصيت المبيضين أن لا يخلعوا المسامير عند طلاء الجدران، ولكن أين يذهب بي سوء الظن بأفانين هذه العبقرية التي تهوى أبدا أن تداعب الظنون، وتتخطى الآماد مما تحيط به الأفكار والأوهام؟ فقد عدت من غيبتي القصيرة فوجدت الصور والحق يقال في مواضعها تماما بلا انحراف ولا تحريف، ولكنني وجدت أنس الوجود مقلوبا يقع فيه النيل موقع السماء وتقع فيه السماء موقع النيل!
وإنما يبدو لنا مدى هذا الإعجاز إذا علمنا أن الشيخ أحمد من أهل ذلك الإقليم الذي قام فيه أنس الوجود، فلو كانت «الرؤية» وحدها كافية لتصوير أثر من الآثار لكان الشيخ أحمد أولى من المصور الكبير «هدايت» بتصوير ذلك الهيكل غيبا بلا معاينة ولا استحضار!
وللشيخ أحمد ملكة نادرة في نسيان الأسماء، ثم تحريفها وتصحيفها عند التذكر أعجب تحريف وتصحيف.
فإذا تكلم «راشد» مثلا بالتلفون في غيبتي ثم سألته: من الذي تكلم، فمن المستحيل أن يكون المتكلم راشدا وإنما هو «منشة » على التحقيق أو التقريب!
وينتهي «جاماتي» عنده إلى «جماد»، والشجاعي إلى رجل من «كوم الشقافة»، والطناحي إلى الصنافي، وذو الفقار إلى زعفران! ... وقس على ذلك سائر الأسماء.
قلت: يا شيخ أحمد، أرحني أراحك الله بالكتابة، وأنت بحمد الله تعرفها على الأقل خيرا من معرفة الكلام، فإذا تكلم أحد فاكتب ولا تعتمد على الذاكرة بعد الآن.
وحضرت إلى المنزل فسألته: هل من أحد تكلم؟
قال: نعم، تكلم أربعة.
قلت: وهل كتبتهم عندما تكلموا؟
فقال لي: نعم، وأحضر لي الورقة فإذا فيها البيان الشافي على هذا النحو الوجيز، إذ ليس فيها إلا هذه السطور الأربعة سطرا فوق سطر وهي:
أحد تكلم.
أحد تكلم.
أحد تكلم.
أحد تكلم ...
ولما تنازعني الغيظ والضحك من هذا البيان الذي لا بيان فيه، وهذه الكتابة التي خير منها الكلام وخير منها النسيان، بدا عليه العجب والاحتجاج، وعلمت أنني المخطئ لا الشيخ أحمد المعصوم من الخطأ على طريقته العكسية الواضحة، فإنني حين أقول للشيخ أحمد: «إذا تكلم أحد فاكتب ...» فليس ينبغي لي أن أنتظر غير ما فعل، فقد تكلم أحد فقال: أحد تكلم، وأعاد الكرة كلما عادت الكرة، فأين الخطأ وأين المخالفة يا منصفون؟
هذه أمثلة يعرف إخواننا الذين خبروا الشيخ أحمد نظائر من طرازها البديع، والظريف في أمره بعد ذلك أنه جاءني يوما يستأذن في «إجازة» شهر للسفر إلى البلد على غير عادة.
فسألته: وفيم هذا السفر الغريب؟
قال: يا أستاذ، إنهم يوزعون الآن تعويضات الخزان، وأقاربي وأهل البلد يخشون الغبن وخطأ الحساب، فأرسلوا يستقدمونني ويلحون علي في شهود التوزيع.
قلت: ومن لها غيرك يا شيخ أحمد؟ سافر على بركة الله، كان الله في عون البلد الذي أنت هاديه، وألبق من فيه. •••
والشيخ أحمد كما علم القارئ ليس بسجان ولا موظف في السجن ولا زميل فيه، فما الذي زج به في هذا المأزق المكروه؟
الذي زج به فيه أننا تركنا له البيت وحده وأنا وأخي يوم كنا كلانا معتقلين، وقد ظل عمدتي الوحيد في كل ما له علاقة بتدبير شيء في المنزل، أو إحضار شيء منه حتى انتهت الشهور التسعة، ولا حاجة بي إلى أن أقول: إنه لم يقلع خلالها عن ذكائه البارع ولا عن تزويدنا بالأعاجيب من «وحائده» وأفانينه.
فقد استطاع الشيخ أحمد بذكائه الثاقب وتجربته السنين الطويلة أن يعلم أنني أتناول الغداء نحو الساعة الثانية، ولا أغير هذا الموعد إلا لسبب عارض، ولكنه لم يستطع أن يعلم أن مواعيد السجن غير مواعيد البيت، ولم يستطع أن يصدق السجانين حين قالوا له: إن الساعة الثانية عشرة هي موعد الغداء عندهم؛ لأنه لا يصدق إلا ما يسمعه من الأستاذ!
وتعبوا في إقناعه بغير جدوى، وعالجوا إفهامه أن «العنبر» يقفل عند الظهيرة وأن الموظفين المنوط بهم رقابة السجن ينصرفون في هذه الساعة، وهو لا يفهم ولا يزيدهم على أن يقول: «إن الأستاذ لم يتناول غداءه قط في الساعة الثانية عشرة، وقولوا ما شئتم، فأنا لا أصدق لكم كلاما حتى أسمع من لسانه!» وهيهات ذلك إلا بإذن وموعد زيارة وكتابات وردود.
وكان السجانون قد عرفوا الشيخ أحمد، وخبروا منهاجه في فهم الأمور، فولعوا بعناده واستثارته، وأنذروه يوما لئن لم يحضر غدا قبل الساعة الثانية عشرة ليدخلنه السجن ولا يخرجن منه بعد ذلك أبدا.
ولم يحفل الشيخ أحمد بوعيدهم ولم يتقدم لحظة عن الموعد الذي اختاره لحضوره. فلما دق الباب كان السجانون على أهبة القبض عليه، واتفق ثلاثة منهم على استدراجه وجذبه إلى داخل الباب، فأخذوا بيديه وشدوا عليه وهو يستعيذ بالله ويقاوم بقوة الجبارين وقوة الخائفين ثلاثة رجال ليسوا بالضعاف ولا بالهينين.
والشيخ أحمد لا يعلم أن دخول السجن إنما يكون بتحقيق وأمر بالقبض أو حكم من القضاء وإثبات في الأوراق والسجلات، بل كل ما يعلمه أن من جاوز عتبة البناء المرهوب فهو مسجون لا فكاك له حتى يشاء السجان!
فماذا ينتظر؟ أينتظر حتى يتغلب عليه هؤلاء الظلمة العتاة ويوقعوه في الفخ الذي ليس بينه وبينه إلا شبر واحد أو شبران اثنان؟
لا وحق الأولياء ومشايخ الطرق أجمعين! لقد حصلت بركتهم ونفخوا في عضلات مريدهم وربيبهم حتى حار السجانون من أين له كل هذه القوة التي دافعهم بها مجتمعين؟ فلم يستطيعوا أن يزحزحوه شبرا أو شبرين، وأفلتوه وقد غلبوا ضحكا، فانطلق كالسهم في ميدان القلعة لا يلوي على شيء ولا يصدق بالسلامة!
ولكن هل عدل عن الموعد وأقلع عن العناد؟
معاذ الله ومعاذ الذكاء! لم يعدل ولم يقلع ولم يزد على أن يدق الباب في الأيام التالية، ويضع الآنية على مقربة منه، ثم يرجع هو إلى حيث يضمن النجاة، ويأمن الظلمة العتاة! ولم يزل كذلك حتى بلغه عني مصداق ما يقول السجانون.
وعلى هذا جرى في إحضار الملابس لموعد الحمام، فهو لا يحضرها إلا أيام الحمام في البيت، ولا شأن له بما يقولون عن مواعيدهم ومواعيد البخار الذي لا يدار في أيام الجمع ولا يختلف عن الأوقات المرتبة له على حسب الحاجة إليه، وظل على عناده حتى أبلغته مواعيد الاستحمام كما أبلغته مواعيد الطعام.
ولا تسل عن المشقة في تعريف الشيخ أحمد بالملابس اللازمة حين يدعو الأمر إلى التدرج من الملابس الثقيلة إلى الملابس الخفيفة بين الفصول، فالتفرقة بين القميص الصوفي الأحمر والبرتقالي والرمادي عنده من المشكلات المعضلات، وهو مع ذلك لا يتورع عن طلاء ما يلقاه من تمثال أو صورة عندي بالألوان التي تروقه كلما تقشرت طبقة منها واحتاجت إلى طلاء، فتلك فنون لا يحجم عنها الشيخ أحمد ولا ينتظر إذني في عملها، ولا يحتفل بالتفكير فيها أقل احتفال، وإذا ضحك أصدقائي الفنانون صانعو تلك الصور أو تلك التماثيل من فنه في التلوين والتظليل فماذا يعنيه من ضحك الناس المغرمين بالضحك من كل شيء؟ لقد تعود منهم أن يضحكوا حين يصنع الشيء وحين يصنع نقيضه، فليضحكوا ما بدا لهم ما داموا لا يقطبون ولا يغضبون.
لكن بدائع الشيخ أحمد ليست كلها مضحكة ولا كلها سليمة، فربما كان منها ما يميت وما يغيظ، وقد جاد علينا بواحدة من هذه البدائع القاتلة في السجن ثم اكتفى بها ولم يشفعها بثانية ، ولله الحمد.
فأنا أتداوى من عوارض البرد بالماء الساخن أنغمس فيه بضع دقائق ثم أسرع إلى لبس البرنس في الصيف أو البرنسين معا في الشتاء بغير وناء، فإذا أبطأت ساءت العاقبة وجنيت جريرة هذا الإبطاء زكاما قد يلازمني الأسابيع، وقد يتجاوز الزكام إلى ما هو أشد وأقسى.
فلما كان يوم من أيام الحمام خرجت من الحوض الساخن والتمست البرنسين والملابس فإذا بالشيخ أحمد قد نسي أن يصلح بعض أكمامها وتركها مقلوبة تارة ومعدولة تارة أخرى، وهذه هفوة صغيرة ولكنها كافية! لأنني شعرت بالقشعريرة تسري في أوصال جسمي ورعدة البرد تملؤني، فأسرعت إلى الحوض الساخن مرة ثانية حتى عاودني الدفء وشملتني الحرارة، ولكن الوقت الذي قضيته في الحوض كان أطول مما يطاق، فلم ألبث أن خرجت منه حتى غشيني الإغماء، ولو أدركني في الماء قبيل ذلك بلمحة عين لكانت هي القاضية.
وإن نسية من هذه النسيات التي يتقنها الشيخ أحمد لكافية لتوديعه مدى الحياة، لولا أمانة عزيزة تشفع له وإخلاص وثيق يزكيه، وطول خدمة مذكورة تكافئ هذه النسيات.
التسلية في السجن
لو تمت «تعليمات» السجن بحرفها في معاملتنا نحن المحكوم علينا في قضايا النشر والصحافة، لكان معنى ذلك أنني قضيت تسعة شهور صامتا لا أنبس بكلمة واحدة، إلا أن تكون هذه الكلمة سؤالا أو جوابا لموظف من موظفي السجن في عمل من أعماله الرسمية، ثم ألوذ بالصمت «البوذي» الطويل عاكفا عليه ليلي ونهاري بلا صلاة ولا قربان!
لأن إدارة السجن أوصدت على كل مسجون في قضية صحفية أو قضية من قضايا النشر باب حجرة منفردة.
وأمرت أن ينفرد كل منا في أوقات الرياضة فلا نتلاقى بمكان واحد، ولا يمر أحد منا على حجرة الآخر.
بل أمرت أن يكون ذهاب كل منا إلى المستشفى لمقابلة الطبيب أو اللجنة الطبية في موعد غير موعد زملائه.
وعلى هذا كنا في «سجن انفرادي» كالذي يعاقبون به السجناء الأشقياء، ونحن لا ندري ولا إدارة السجن تدري، وكنا أسوأ حالا من شرار المجرمين؛ لأنهم يجتمعون في ساعة الرياضة عشرات عشرات، ويجتمعون في المصنع بضع ساعات، ويجتمعون في حجرة النوم خمسة خمسة أو عشرة عشرة أو عشرين عشرين حسب اتساع الحجرات.
وهذه نقيضة أخرى من نقائض السجن وأعاجيبه، وهو كمصر في رأي هيرودوت موطن النقائض والأعاجيب.
ومهما يكن من زهادة الإنسان في اللغو والكلام، وفي إخلاده إلى العزلة والسكون فليس السكوت تسعة شهور بالأمر المعقول ولا بالأمر الهين، وأي سكوت؟ إنه السكوت لغير عبادة يتعزى العابد بسلامها وثوابها، وإنه السكوت مع الفراغ من العمل، ومن النظر إلى الدنيا، ومن ضروب السلوة جميعها إلا القراءة ومراقبة النمل على الجدران!
لقد كنا نرى بعض المحبوسين من الموسرين القادرين على استئجار الحجرات المفروشة أثناء التحقيق يهجرون تلك الحجرات لانفرادها وعزلتها، ليشتركوا مع غيرهم في حجرة واحدة ينامون فيها على الأرض بغير فراش إلا الحصير من الليف الخشن، ويعملون بأيديهم في تنظيف الأرض وغسل الآنية كل صباح ويؤثرون ذلك على السرير وحشايا القطن، والراحة من الخدمة وامتهان النفس في الغسل والتنظيف؛ لأنهم يستطيعون الكلام هنا بغير عقوبة، ولكنهم يعاقبون إذا سمعهم الحارس يكلمون جارا لهم من النافذة أو فتحات الباب حين ينفردون في حجرة معزولة.
وقد كنت أنا من المشهود لهم «بحسن السير والسلوك» عند السجانين ورؤسائهم الموقرين؛ لأنني كنت لا أهتم بفتح باب الحجرة، ولا أسعى للتحدث إلى أحد، ولا أحاول الخروج أو المرور من غير مكاني المألوف، ومع هذا تخطئ إدارة السجن إذا هي ظنت أنني أستحق شهادتها بحسن السير والسلوك كل الاستحقاق، فلو أنني حوسبت بالعدل والقسطاس المستقيم في عرف النظام الأعوج، لخسرت كثيرا من الدرجات في تلك الشهادة.
فالحق أننا نتكلم ونتلاقى ونتسامع الأخبار على قصد وعلى غير قصد، وإن كان ذلك كله فلتات لا تخفف من قيود «السجن الانفرادي» المفروض علينا إلا بمقدار يسير.
أما شرار المجرمين فقد كان مباحا لهم كل ما هو محرم علينا، فما هو إلا أن توصد عليهم الأبواب نهارا، حتى يتجمعوا للعب بحجارة «الدومينة» أو بحجارة النرد أو ما شاءوا من الألعاب وضروب التسلية، وقد يسأل سائل: «ومن أين لهم حجارة النرد أو الدومينة؟ أتراهم يهربونها من خارج السجن كما يهربون التبغ والنقود؟» ألا فليعلم هذا السائل إذن أنه يسيء الظن ببراعة السجناء، فإنهم قد برعوا في صناعة هذه الحجارة داخل السجن حتى صنعوها من لباب الخبز الساخن وهم في حاجة إليه، فأثبتوا بذلك أنهم يعرفون كيف يجدون إذا هموا باللعب أو مخالفة النظام، وأثبتوا بذلك أيضا أن اللعب أحب إلى الإنسان من الطعام.
وليس يحلو اللعب للسجناء بغير رهان، فإذا كان نقد أو تبغ أو طعام ممنوع فذاك هو الرهان المفضل على هذا الترتيب، وإن لم يكن واحد منها فلا رهان بعد هذه المتع المشتهاة أحلى وأشهى من الضرب الوجيع والمبالغة في الإيجاع إظهارا للقوة والتذاذا بالسطوة، وربما كانت لذة الضرب الكبرى عند السجين أنه يمنحه القدرة على التغلب والتعذيب وتوقيع العقاب، في مكان لا يزال فيه مغلوبا معذبا خاضعا للعقاب.
أما الليل فالظلام يحول دون اللعب بالنرد والدومينة، ولكنه لا يحول دون اللغط والغناء والعربدة وكل ما يحلو لسكان الحجرة ما داموا في أمان من أعين الحراس وآذانهم، وهم على الأكثر في أمان! •••
وكانت تسليتي بالليل قبل أن تسمح إدارة السجن بإدخال النور الكهربائي إلى حجرتي أن أستمع إلى لغط اللاغطين حتى يهدأ: فأسمع مصارحات السجناء بأسرار حوادثهم ومراوغاتهم تارة، وأسمعهم يمثلون روايات التهريب وإخفاء الممنوعات تارة أخرى، وربما كان من هذه الروايات المضحك والفاجع والمقزز والمثير للسخط والنقمة، وربما كان منها ما يستمر ليلة كاملة ويشترك في تمثيله حجرات ثلاث بعضها فوق بعض، وكل منها في دور مختلف من أدوار العنبر، وأصلح هذه الروايات للتمثيل فيما أذكر رواية اشترك فيها أربعة أطفال، ومهرب كبير من عتاة المجرمين، وسجين من سجناء المحاكم المختلطة. فأما الأطفال - وهكذا يسمونهم في السجن وإن بلغوا الثامنة عشرة - فكانوا في الدور السادس؛ أي الدور الأوسط، وأما المهرب فكان في الدور السابع وهو أعلى من السادس، وأما سجين المحكمة المختلطة فكان إلى جانبي في الدور الأرضي ؛ أي الدور الخامس الممتاز بالأطعمة الخاصة، وشيء من التيسير في المعيشة.
وبدأت الرواية باتفاق بين المهرب والأطفال من جهة، وبين الأطفال وسجين المحكمة المختلطة من جهة أخرى، وفحوى الاتفاق أن يدلي الأطفال بخيط من خيوط الصوف التي ينزعونها من غطائهم أحيانا لتوصيل الرسائل والمهربات، فيربط فيه السجين في الدور الأرضي صرة صغيرة تحتوي قطعتين من ذوات القرشين وقليلا من الحلوى، وعندما تصل هذه الصرة إلى الأطفال ينادون المهرب فيسقط إليهم خيطا قد ربط فيه الصرة التي تحتوي لفائف التبغ المطلوبة، وإنما وثق الطرفان بأمانة الأطفال في هذه الرسالة؛ لأنهم أطفال مخلصون لا يعرفون الخباثة، ولا بد من توسيطهم بين البائع والشاري على كل حال لأنهم متوسطون بينهما بحكم المكان الذي لا يتحول، فاطمأن البائع والشاري إلى الصفقة وبات كل منهما يمني نفسه بليلة سعيدة، فالبائع يتلمظ شوقا إلى الحلوى ويترقب ثمن البضاعة التي يعاني ما يعاني في سبيل تهريبها وإخفائها، والشاري يحلم بالتدخين ويعد الأنفاس في انتظار أنفاسه الهنيئة! أما بقية الممثلين في الرواية - وهم الأطفال - فلم يكونوا عند حسن الظن أو عند سوء الظن بهم فهما في هذه الحالة سواء، ولكنهم أضمروا النية على شيء آخر وقرروا فيما بينهم أن ينوبوا عن الطرفين البائع والشاري في الاستمتاع بالتدخين والحلوى والقروش جميعا، وهكذا كان.
فلما أسقطوا الخيط إلى سجين المحكمة المختلطة المجاور لي لم يقصر الرجل في ربط الصرة، وهمس لهم أن يرفعوها فرفعوها وهم يغالبون الضحك، والرجل لا يستريب بضحكهم ولا يرى فيه إلا أنه من مرح الأطفال حين يلهون بأمثال هذه الألاعيب، ثم لبث الأطفال يضحكون هنيهة وانتظروا ريثما يتحققون من محصول الصرة ويطمئنون إلى نجاح الحيلة من ناحية الشاري، ثم نادوا المهرب فما توانى دون أن أجاب على الفور بإسقاط الحبل وفيه البضاعة النفيسة، ثم مضت لحظة، كنت أسمع خلالها همس الأطفال وضحكاتهم المخنوقة وشجارهم الأخوي على تقسيم الغنيمة فيما يظهر، فلما لم تصل اللفائف إلى سجين المحكمة المختلطة ولم تصل القروش والحلوى إلى المهرب، ناديا على الأطفال في وقت واحد وهما حذران متوجسان، ولم يخطر لهما أول وهلة أنهم قد غدروا بهما، وإنما خطر لكل منهما أن يرتاب في صاحبه ويسأله على الرغم مما في رفع الصوت من المجازفة والتعرض للعقوبة والمصادرة، فإذا بكل منهما يقسم أغلظ الأيمان على بره بوعده ويحرق الأرم غيظا من أولئك الصبية الملاعين! وأكد لهما الصدق فيما يقولان سكوت الصبية الملاعين وانفجارهم بالضحك كلما غلبهم وأعياهم أن يغالبوه، وانقلب النداء شتما ووعيدا وإلحافا شديدا، ولا فائدة لكل أولئك ولا جواب غير الهمس فالضحك المخنوق فالقهقهة الداوية من حين إلى حين، فلم يبق للرجلين إلا أن يتجرعا غصة اليأس ويستعيضا الله فيما كانا يحلمان به من لذة وهناءة، وسكتا وهما كظيمان مقهوران.
لكن الرواية لم تنته عند هذه النهاية، وإنما انقضت فترة قضاها الأطفال في سرور وفرح بالغنيمة ونجاح الألعوبة، ثم انبعث صوت جاد أو متكلف للجد من حجرتهم ينادي المهرب مرة بعد مرة، فخف المهرب إلى الجواب، ووثب إلى النافذة كأنه حسب أنهم ندموا على غدرهم وفكروا في رد الأمانة إليه، فقال متوددا: «ما بالك يا فلان؟ لم كنت لا تجيب؟» فضحك الغلام الخبيث وقال: «كنت نائما.» فأرسل المهرب عليه عشرات من التحيات لأبيه وأمه وصاح به: «أو تنام في غمضة عين؟ ومن ذا الذي كان يضحك ويقهقه منذ هنيهة؟» ثم أخذ في ملاطفته وعاد يسأله: «ماذا تريد؟ هل أسقط لك الخيط؟» قال الغلام الخبيث: «نعم ... وتسقط علينا.» أي كبريتا باصطلاح السجناء، فأدرك المهرب أنهم يعبثون به ويكايدونه! وقد كانوا حقا يكايدونه ويبالغون في المكايدة؛ لأنهم كانوا قد دخنوا اللفائف جميعا، وأشعلوها بالشرار الذي ينقدح في خيط الصوف من ضرب الأرض بصفيحة الرقم المعروفة هناك «بالدوسيه»، فلم تكن بهم حاجة إلى الكبريت ولا حاجة إلى النداء على المهرب من أجله، ولكنهم حرصوا على الاستمتاع باللعبة إلى آخرها، وتركوا صاحبهم يفرغ ما عنده من السباب والتهديد، وهم يمرحون ويمزحون.
وتلك رواية من روايات التهريب التامة لم يقاطعها أحد دون تمامها إلى الفصل الأخير منها كما يحدث أحيانا في أمثالها، ومسرح السجن غير ضنين بأشتات من هذه الروايات التي نشهدها نحن ليلة ويشهدها غيرنا ليلة أخرى، ولكنها لا تنقطع عن شهودها المتفرقين في معظم لياليه. •••
وتيسرت لي القراءة طرفا من الليل بعد دخول النور في الحجرة فكنت أقرأ حتى أمل الصفحات فألهو بمراقبة النمل على الجدران، ويطيب لي هذا النوع من اللهو؛ لأنني أستأنف به أياما من الطفولة كنت أقضيها في هذه المراقبة، وأكاد أصدق يومئذ أنني أعالج ضربا من الطلاسم التي كان يعرفها سليمان عليه السلام.
وذاك أن تلميذا من أصحابنا في المدرسة كان يقول لنا: إنه يحفظ قسما يتلوه على النمل ويرسم له خطا فلا يتعداه، ومن عصى القسم وحاول تعديه سقط وحلت به لعنة سليمان.
واحتلنا على صاحبنا التلميذ حتى باح لنا بذلك القسم، فإذا هو آيات يكررها القائل ثلاث مرات وهو متوضئ فتحصل المعجزة، وقد رأيناه فعلا يحز للنمل خطا على الحائط ويتلو القسم فيرجع النمل عن الخط أو يسقط دونه، وجربنا نحن القسم فصحت التجربة، وأيقنا برهة أننا نملك سرا من أسرار السحر المتصرف في خلق من خلائق الله، حتى خطر لنا يوما أن نرسم الخط ولا نتلو القسم، فما راعنا إلا أن تصح التجربة بغير تلاوة كما صحت بالوضوء والتلاوة، فعرفنا السر ولكنا أسفنا على السحر الذي فقدناه!
ومن ذلك اليوم ونحن نمتحن النمل بالخطوط لنعرف كيف «يفكر» في اجتياز العقبات واللف حول الدوائر والمربعات، وكنا نحيطه بدائرة مفتوحة ودائرة ثانية مفتوحة من جانب آخر، ونحيط الدائرة الثانية بدائرة ثالثة لا فتحة فيها، ونراقب كيف يهتدي إلى الفتحات في خروجه حتى يصل إلى الدائرة الكبيرة وكيف يهتدي إلى هذه الفتحات بعينها حين يرتد عن الدائرة المقفلة، ونكرر هذه التجربة عشرات المرات، فلا نرى نملة واحدة «تفكر» في الرجوع إلى طريق الفتحة التي تركتها منذ هنيهة، فانتهى بنا الأمر إلى أن فقدنا إعجابنا بذكاء النمل الموصوف كما فقدنا السحر أو الوهم الذي سلطنا على هذه المخلوقات، وساءنا أن نعلم أن هذه المخلوقات الموصوفة بالذكاء إنما تعمل بغير «تفكير»! كأنها من الآدميين! •••
وكانت التسلية بمراقبة الآدميين ميسرة كالتسلية بمراقبة النمل على الجدران، ولكن أين هم الآدميون الذين يستحقون المراقبة داخل السجون؟
إنهم أرقام كما وسمتهم إدارة السجن ولم تظلمهم كثيرا في هذه السمة، فقد يمر بك المئات بعد المئات من تلك الأرقام دون أن يبرز من بينها رقم واحد بشخصية إنسانية وملامح نفسية؛ لأن «التفاهة» لعنة غالبة على مجرمي «سجن مصر» إلا النادر الذي لا يقاس عليه، ومن كان منهم ذا «شخصية وملامح نفسية» فالأغلب أن يجيئه ذلك من طريق الجنون أو الشذوذ النافر، خلافا لسجناء طرة وأبي زعبل الذين يجتازون بسجن مصر في انتظار الإفراج بعد زمن قليل، فإن «الشخصيات» بين أصحاب الجرائم الكبيرة أكثر عدا من «شخصيات» السرقة الخسيسة والعدوان الوضيع، وقد رأيت من هؤلاء وهؤلاء نماذج قليلة سأرجع إلى الكلام عنها في بعض هذه الفصول.
على أن الإنسان يراقب الناس كما يراقب جميع الأشياء داخل السجن وهو «بنصف نفس» كما نقول في أحاديثنا العادية، أو يراقبهم وهو ينوي التأجيل، كمن يدخر الزاد المستطاب لساعة في المستقبل غير الساعة التي هو فيها، فينظر إليهم وكأنما بينه وبينهم مسافة أشهر وأيام، ويمتلئ بالمشاهد والتجارب وكأنه الجمل في الصحراء يختزن الماء في جوفه حتى يشربه مرة أخرى الشرب الذي ينتفع به ويشعر بريه، وربما ازدحم وعيه الباطن بالتجارب كأقوى وأثبت ما تكون التجربة، ولكن وعيه الظاهر لن يبرح كالجاهل أو المتجاهل الذي لم يسمع إلا بنصف الخبر ولم يشارف التجربة إلا من مسافة قصية.
الزيارة أو برج بابل
كان التعجب صعبا على أبنائنا الأولين على ما يظهر؛ لأنهم حصروا عجائب هذه الدنيا في سبع لا أكثر، وحسبوا من هذه العجائب «برج بابل» الذي كان سكانه لا يتفاهمون لأنهم يتكلمون بلغات كثيرة.
وكل بيت على الأرض هو «برج بابل» عجيب يأوي الناس منه إلى مكان واحد، ولا يتفاهمون فيما بينهم وإن تكلموا بلغة واحدة؛ لأنهم يفترقون في ألوان الحياة أبعد ما يختلف إنسان من إنسان: بين امرأة ورجل، وشيخ وطفل، ومهموم ولاعب، وقديم وحديث، ولا توجد أسباب للافتراق بين عقل وعقل وشعور وشعور أبعد ولا أوسع من هذه الأسباب التي تجتمع في بيت واحد.
كل بيت هو «برج بابل» لا يحتاج إلى أكثر من «قاموس واحد» ليصبح أعجوبة من تلك الأعاجيب التي أحصاها آباؤنا الأقدمون على أصابع يد واحدة وإصبعين اثنين من اليد الثانية!
ولكني أحسب أن برج بابل يحتاج إلى صورة هزلية تمثله كما نمثل بعض الناس في الصور الهزلية بأنف أطول من أنوفهم الطويلة، أو رجل أقصر من أرجلهم القصيرة، كلما تعمدنا المبالغة التي تعيننا على إبراز الحقيقة.
ولا أحسب أن فنانا يجد للبرج الداثر صورة هزلية أظرف وأصدق من ذلك المكان المعروف في كل سجن بقفص «الزيارة»؛ لأنه المكان الذي يتكلم فيه الناس بلغة واحدة، ويتكلمون بأعلى ما في وسعهم من زعيق وصريخ.
وتصغي إليهم على مسافة ثلاثة أشبار فلا تفهم ما تسمع ولا هم يفهمون ما يسمعون، وثق أنهم لا يتكلمون في الفلسفة، وما أنت في ذلك بحاجة إلى توكيد.
وثق أنهم لا يصطنعون الألغاز والمعميات في التعبير كما يصطنعها المتخاطبون أحيانا بالأصفار والرموز، ولكنهم يتكلمون في أبسط الأمور، ويجتهدون غاية الجهد في التوضيح والإنصات.
ومع ذلك كله لا يتفاهمون بالكلمات كما يتفاهمون بالظنون والإشارات.
وإذا شاء لك حسن الحظ - أو سوء الحظ - مرة واحدة أن تشهد قفص الزيارة عرفت سر هذه العجيبة، وعرفت أنها كسائر الأسرار من أبسط الأشياء؛ لأنها الشيء الذي لا يكون غيره، وهكذا ينبغي أن يكون.
أربعة أقفاص يقابلها من الجانب الآخر أربعة أقفاص مثلها على مسافة أشبار، وفي كل قفص رجل أو اثنان أو ثلاثة، وأمامهم جميعا دقائق معدودات يقولون فيها كل ما أعدوه للقول في شهور أو أسابيع، ويحب كل منهم أن يقول كل ما عنده وأن يسبق الآخر إلى إفراغ ما في جعبته، ويتواصى كل منهم قبل دخوله إلى القفص أن يخفض صوته ولا يغطي على صوت جاره.
ولكنهم لا يبدءون حتى يختلط بينهم الكلام وتأخذهم العجلة، فإذا هم من حيث لا يشعرون قد انتقلوا من الهمس إلى زعيق المصابين بالصمم المغلق، وإذا بالسامع من وراء الجدار يسمع سؤالا عن الزرع وجوابا عن السوق، وكلمة عن الأبناء والبنات وكلمة عن الماشية والأنعام، ولا يدري ماذا جواب ماذا ولا هم يدرون من السائل ومن المجيب، إلا أن يرى المتحدثين رأي العين، فيفهم بالظن من ملامحهم وإشاراتهم ما يتخاذل دونه الكلام، أو أكثر الكلام.
وهذه هي الزيارة التي يتشوف إليها المسجون ويحسب دوره فيها باليوم والساعة، لا لأنه يسمع ولكن لأنه يرى، ولا لأنه يعنى كثيرا بمن يراه ولكن لأنه ينفذ بهذه الرؤية إلى العالم الخارجي ولو بعض النفاذ.
وعلى هذا الشوق من المسجونين إلى أيام الزيارات لا تجد «مصلحة السجون» سريعة إلى شيء كسرعتها إلى انتحال الأعذار لإلغاء الزيارات عامة بحجة المرض تارة وبحجة الوباء تارة أخرى، فما هو إلا أن يشاع أن مرضا معديا ظهر في ناحية من أنحاء القطر حتى ينتهي خبر هذه الإشاعة إلى كل مسجون في كل زاوية من زوايا السجون؛ لأنه يصغي إلى «برج بابل» فلا يسمع فيه لغطا ولا ركزا، وما حاجته بعد ذلك إلى مطالعة الصحف ونشرات الأطباء!
قال لي مسجون من مدمني المخدرات حجبوه في اللحظة الأخيرة عن زيارة كان يتوقعها منذ أسابيع: إنني يوم ساقوني إلى السجن كان في بيتي اثنان مريضان بالحمى، فلماذا لم يغلقوا في وجهي باب السجن ذلك اليوم؟
قلت: إنه لمنطق سليم! فإن الحميات والأمراض وأوبئة العالم بأسره لن تحجب عن أبواب السجن هذا المدد الذي يتدفق كل يوم من خضم المجتمع الواسع، ولكن للمتهمين والجناة على ما يبدو من هذه التفرقة في المعاملة «خاطرا» عند مصلحة السجون ليس للزوار الأبرياء.
وفي حساب بعض السجناء أن «الزيارة» قيراط إذا كان الإفراج أربعة وعشرين.
قال بعضهم لواحد من أولئك السجناء الذين فجعتهم مصلحة السجون في بعض هذه القراريط: لا تعلم «المصلحة» هذا الحساب فتعطيك أربعا وعشرين زيارة و «تأكل عليك» الإفراج.
الطعام ومطالب الجسد
أيسر تجربة للمسائل العامة خليقة أن تؤكد لنا صحة هذه الحقيقة المأثورة، وهي أن المبدأ لذاته ليس بالمهم، أو ليس بالشيء الذي يستحق الجانب الأكبر من الاهتمام والدراسة، وإنما المهم قبل كل مهم هو تطبيق المبادئ وتنفيذها، فإن التطبيق في أيدي المصلحين قد يصلح المبادئ الفاسدة ويقوم اعوجاجها، كما أنه قد يفسد المبادئ الصالحة ويعكس مقاصدها إذا هو جرى على أيدي العجزة وأهل الفساد.
فليس الإصلاح إذن منوطا بالقاعدة والنظام، وإنما هو منوط بضمان التطبيق، وحسن الرقابة على التنفيذ.
وهذه الحقيقة تسري على مسألة الطعام في السجون أشد من سريانها على مسائل الدواوين الأخرى؛ لأن الإغراء حاضر والشكوى عسيرة وتحقيقها أعسر، وخوف السجناء من الشهادة الجريئة خوف غير مستغرب من أناس مهددين مملوكين في قبضة الحراس والرقباء، موسومين بالكذب والخداع عند المشرفين عليهم والموكلين بشئونهم، موصوفين بضعف الخلق، وضعف النخوة، وضعف الغيرة على الحق، وضعف الإبانة عنه، فإذا هم أحدهم بالشكاية ثناه ضعفه فأحجم، وإذا ألح عليه الضيم فأقدم بعد وجل وتردد لم يستطع الإفصاح ولا إقامة الدليل، ولم يجد من العطف والتشجيع ما يغنيه عن حسن البيان وقدرة الإثبات، وقد يخذله زملاؤه طلبا للسلامة وإيثارا للزلفى ومرضاة الحراس والرقباء، فالحاجة إلى مراقبة التنفيذ في مثل هذه الأحوال أشد وألزم، والثقة بالمبادئ والنظم أقل ثقة تعهد في مبدأ أو نظام.
ولو سئلت رأيي في تعديل طعام السجن من حيث المبدأ والنظام لما اقترحت من التعديل غير القليل: زيادة جزء من المواد السكرية وجزء من الفاكهة والسماح في الشتاء بالمشروبات الساخنة، وما عدا ذلك فهو غذاء صالح كما هو قائم الآن؛ لأنه يقوم على البقول عامة الأسبوع، والخضر النيئة مرتين في الأسبوع، وتستبدل الخضر المطبوخة مع اللحم بالبقول مرة أو مرتين على أقصى تقدير، وهذا على قلته كاف لحاجة الجسم ناف للضرر الذي يصيب الإنسان من نقص بعض الأصناف.
لكن الاهتمام جد الاهتمام إنما يكون بالرقابة على تنفيذ هذا النظام، فإن العدس قد يكون صحيحا وقد يكون منهوكا بالسوس، والخضر النيئة قد تكون ذابلة هزيلة وقد تكون ناضرة جزيلة، واللحم قد يكون لحم حيوان شائخ أعجف سقيم، وقد يكون لحم حيوان فتى فاره سليم، والسمن قد يكون مغشوشا مخلوطا وقد يكون من اللبن النقي الممخوض، والخبز قد يصنع من الدقيق النظيف وقد يصنع من الدقيق المشوب بالحصى والتراب، والفرق كل الفرق ما بين عدس وعدس وخضر وخضر، ولحم ولحم، وسمن وسمن، وخبز وخبز، وإن كانت كلها في العنوان سواء.
فالرقابة هنا هي أس النظام، والحذر من العبث والإهمال هو أولى الأمور باليقظة والانتباه.
كذلك المرضى المستحقون للبر والرحمة قد يصلون إلى مكانهم من المستشفى بغير عناء ولا كلفة إذا حسنت الرقابة واستقام الإشراف، وقد يحرم هذا الحظ من هو أهله ويعطاه من هو غير أهله إذا التوت الأمور واستفاض الخلل والإهمال.
ومن الحق علي أن أقرر هنا أنني شكوت مرة من بعض الخلل الخطير فلم ينقض يوم على الشكوى حتى أزيلت أسبابها وحيل بين المسيء وما يسيء، ومن الحق علي كذلك أن أشهد لكثير من الأطباء والموظفين في سجن مصر بالجد والأمانة والإخلاص وبذل الوسع في تخفيف الشقاء وتلطيف الآلام، فإذا قضيت هذا الحق وهو فرض لا أنساه فمن حق الضعفاء علي أن لا أنسى حاجتهم إلى الرقابة الناجعة، ولا أنسى سهولة الإجحاف بهم والقسوة عليهم، إذا آلت الأمور إلى غير القادرين وغير المخلصين. •••
على أن مسألة الطعام في السجن - سواء صلح نظامه أو افتقر إلى التعديل والتنقيح - مسألة لم تغب عن أذهان الحاكمين، ولم يغفلوا عن تقريرها بالمبدأ والقاعدة تارة وتعهدها بالرقابة والاستطلاع تارة أخرى، ولكن العجيب كل العجب أنهم قد غفلوا وتغافلوا جميعا في مصر وفي معظم بلاد العالم عن وظيفة جسدية ليست في صميمها بأقل من وظيفة التغذية، وقد ترجح عليها بما لها من الأثر السريع في الأخلاق والآداب، ونعني بها وظيفة الغريزة الجنسية وحاجة الرجل إلى المرأة في الشهور أو السنين الطوال التي يقضيها بمعزل عن النساء، فهل في وسع طبيب أن يجيز تعطيل هذه الوظيفة في جسد صحيح ميسور الغذاء؟ وهل في وسع حاكم أن يزعم أن السكوت عنها أو إسبال الستار عليها كاف لإلغائها وكفيل بمحوها وإخفائها؟ وهل في وسع الحاكم والطبيب أن يرضيا عن شذوذها وتحولها كما تشذ وتتحول في مئات من الأحوال ينتهي خبرها إلى الحراس والرقباء، وفي ألوف من الأحوال لا ينتهي خبرها إليهم وإن كانت في حكم المعلوم المفهوم؟
ليس السجناء نساكا ولا رهبانا فيطالبوا بزهد النساك والرهبان، وليس من الصلاح لهم أن يطالبوا بذلك وهم لا يؤمنون بنية الزهد ولا يستمرئون سلوى العفاف، ولا يقصدون النسك ولا الرهبانية، فمن أعجب الدلائل على كسل العقل الإنساني واعتياده أن يحل المشكلات بالإعراض والتغابي هذه الغفلة السادرة عن المسألة الجنسية في السجون، وهي مشكلة لا تحل بالسكوت ولا تحل بالشذوذ ولا بد لها من حل، وليس من يتصدى لحلها بين الرؤساء المسئولين كأنما هي شيء غير موجود!
حدث في بعض الليالي أن استيقظ السجن كله على ضجة هائلة لا يتميز منها صوت بين صليل عشرات من الجرادل والكيزان تتساقط على الأرض أو تصطدم بالجدران، ويتخلل ذلك صياح المجروحين وعويل المضروبين وزمجرة كزمجرة الوحوش وضحك كضحك المخبولين، ثم جاء ضابط السجن وفتح الحجرة التي انبعثت منها هذه الضجة فإذا بالذين فيها وعدتهم نحو الثلاثين ممن يسمونهم بالأحداث عرايا متهتكون وإذا بالحادث كله مسألة من مسائل الشذوذ.
ويتكرر هذا الحادث وإن لم تتكرر هذه الضجة، ويبطل الحياء منه لكثرة التكرار والابتذال فيرويه بعض المتهمين على مسمع من السجناء والحراس بصفاقة كأنها صفاقة الحيوان، ومنهم من كان يساق إلى الجلد فينعى على زميله أنه خائن وأنه حانث في يمينه، ولا يحسب أن في الأمر غير ذلك ما يشين، وربما وقعت هذه الحوادث وفي الحجرة أكثر من خمسة أو ستة؛ لأن الحياء منها يوشك أن يكون في حكم المعدوم.
ولست أذكر أنني قرأت كتابا واحدا عن ذكريات السجون إلا وفيه إشارة إلى الشذوذ الذي يدفع إليه كبت الغريزة الجنسية، فهو مذكور في كتاب دستيفسكي «منزل الأموات»، وفي كتاب مكارتني
Macrtney «الحيطان لها أفواه»، وفي كتاب الدكتور هامبلين سميث
Homblin Smith
عن حياة السجون، وفي كتاب بلير نيلز
Blair Niles
عن المسجونين بجزائر الشيطان، وفي كتاب جوزيف فيشمان
Fishman
عن المسألة الجنسية في السجون، وفي كتاب فكتور نلسون عن أيام السجن ولياليه، وفي الكتب والمجلات التي عقبت على بعض حوادث الإصلاحيات وسجن جوليت
Joliet
بالولايات المتحدة، وهي كتب تصف سجون آسيا وأوروبا وأفريقيا وأمريكا ولا تقتصر على بيئة واحدة ولا على زمن واحد، فالآفة إذن آفة السجن حيث كان، والأمر أعم من أن يعالج بالمداراة والنسيان.
وقد عولجت هذه الآفة بأساليب مختلفة في أمم شتى، فسمحت حكومة الفيلبين للسجين بعد قضاء فترة يسيرة أن ينتقل إلى مستعمرة تأديبية يتصل فيها بأهله وذويه.
وقررت حكومة سلفادور أن تسمح لمن تشاء من زوجات السجناء أن تزوره زيارات أسبوعية في حجرات مستقلة.
واعتمدت الولايتان الأمريكيتان ألاباما ومسيسيبي
Alabama and Mississippi
نظام الإجازات بين حين وحين لمن يحسن سلوكه من السجناء، ولم يختل في ملاحظة الموعد المضروب لانتهاء الإجازة غير سجين واحد من مئات يقضون إجازاتهم كل عام.
وأضافت ولاية مسيسيبي إلى ذلك أنها تمنح السجين فترة تجريبية من شهر إلى ستة أشهر إذا استقام في أثنائها واهتدى إلى عمل صالح يرتزق منه مدت له التجربة سنة فسنة إلى آخر المدة المحكوم بها، وأعفي من العقوبة.
أما في روسيا فقد عولجت هذه الآفة بطريقة لا يمكن أن تقرها حكومة تؤمن بالدين ونظام الاجتماع الذي خرج عليه الشيوعيون. قال الصحفي المشهور نيجلي فارسون
Negly Farson
في كتابه «طريق الفضولي»:
أخبروني في الإصلاحية التي بظاهر كييف أن تجربة السماح للسجناء - ومعظمهم من القتلة - بالذهاب إلى قراهم إبان الحصاد تجري على ما يرام، لأنهم يعودون بلا استثناء، وأمامهم تجربة أخرى وهي أن يأذنوا للسجين العامل في الحقول أن يملي على الحارس أسماء صديقاته البنات في كييف، فيجيز الحارس واحدة منهن إلى حيث تلقى السجين، وتدار الظهور وتغمض العيون عندما يوغل الفتى وفتاته في الغاب.
ويقال إنهم يعتمدون على هذه التجربة في محو الشذوذ الجنسي من السجون، فإن بقي منه أثر فكالذي يبقى في المجتمع الطليق بين المطبوعين عليه.
إلا أن الروسيين المحدثين قد عالجوا شذوذا بشذوذ، وأدنى من ذلك إلى العرف والفائدة أن يباح للسجناء الخروج من السجن في فترات محدودة، وأن يعتبر إطلاقهم حينئذ مكافأة لهم على حسن السلوك ولا سيما في المسائل الجنسية، ولا شك أن السجناء يحتاجون إلى ترك سجونهم فينة بعد فينة لمطالب كثيرة غير هذا المطلب، تنفعهم وتنفع ذويهم وقد تخفف أعباء الزيارات عليهم وعلى إدارات السجون، ولعل التجربة تنفعهم أيضا فيما لا يقع الآن في الحسبان من تقويم خلق وإحياء عبرة وتجديد ثقة وتشويق إلى نعمة الحرية، ومهما يكن في التجربة من حرج محتمل أو مقطوع به فهو دون الحرج الذي يصيب النفوس والأبدان من إكراه الغرائز وفرض الحرمان أو الشذوذ على من لا يحمده ولا يبتغيه.
الوقت
الوقت أعدى أعداء السجين، فلو اهتدى إلى طريقة يخلص بها من وقته لاهتدى إلى طريقة يخلص بها من سجنه.
الوقت في كل مكان من ذهب كما يقولون، إلا في السجن وما شابه السجن، فهو من رصاص إن أردت ثقلته وبشاعة اسمه، وهو من تراب إن أردت رخصه ومضايقته، والرغبة في كنسه!
الوقت أثقل شيء على «وجدان» السجين وأخف شيء على لسانه: كل دقيقة فيه محسوسة محسوبة، وكل دقيقة فيه حسبة يراد إسقاطها من الحساب، وما هكذا يكون الوقت في غير السجون.
سل من شئت بين ألوف السجناء عما بقي له من مدة سجنه وثق أنه يغالطك في الجواب، وثق أنه غالط نفسه قبل أن يغالطك مرات، بل ثق أنه لا يغالطك إلا ليستعين بذلك على مغالطة نفسه!
سألت أحدهم: كم بقي لك من السنين؟
فقال: ثلاث. وأنا أعلم أنه قد بقيت له خمس سنوات لا تنقص إلا بضعة أيام، وإنما القاعدة عندهم أن يسقط السنة التي هو فيها والسنة التي يخرج في نهايتها، ولا يحسب إلا ما بين السنتين!
ولهم في تقصير المدة على اللسان أساليب بعضها مصطلح عليه وبعضها من اختراع كل سجين على حسب ذكائه وملكة استنباطه.
سألت سجينا بقيت عليه سبعة شهور: كم بقي عليك من أشهر؟ فقال: الربيعان والجمادان ورجب وشعبان!
قلت: أو تخرج في شعبان؟
فقال: سأخرج في عفو العيد! أي في آخر رمضان.
فهو قد جمع الربيعين والجمادين في اسمين بدلا من أربعة أسماء، وأسقط شهر رمضان كله كأنه لا يعد في الزمان.
وأعرف سجينا كان سيخرج يوم الثلاثاء، فلما بقي على خروجه ثلاثة أشهر أخذ يحسب المدة الباقية بالأسابيع ويختم الأسبوع بيوم الأربعاء، حتى إذا وصل إلى الأربعاء الأخيرة لم يحسب ما بعدها وأسقط بذلك ستة أيام.
وكان لي جار مررت به أودعه قبل خروجي بيوم، فقال لي إنه سيخرج بعدي بخمسة عشر أسبوعا، وأشار إلى خطوط على الحائط إلى جوار النافذة بعدة الأسابيع الباقية، فعمدت إلى خطين منهما فمسحتهما وقلت له: إنني أسقطت عنك هذين الأسبوعين كرامة لهذا التوديع! فوالله لقد سر بذلك كأنني مسحت الأسبوعين في مدار الأيام، وشكرني على هذه النية أو هذه الأمنية، وأحسبه قد عالج مشقة مرهقة في إعادة الخطين إلى مكانهما؛ لأن هذه الإعادة تبدو له كأنها زيادة أسبوعين!
وعلى هذه المغالطة الشائعة لن تجد سجينا واحدا يجهل الحقيقة أو يجهل عدة ما بقي له من الأيام باليوم ولو كان الباقي عدة شهور، واسأل من شئت منهم على غرة: كم بقي لك من يوم؟ فإذا هو يجيبك توا بلا تفكير ولا إبطاء! وإياك أن تستكثر هذه الأيام أو تظهر بالدهشة والأسف ما يدل على استكثارها وإن كانت كثيرة، بل كل ما يمكن أن تقول في لهجة الاستخفاف: تهون! فيقول لك: لا هنت، أو يكرر الكلمة على مسمعك قائلا: تهون! تهون!
وإذا دخل الليمان سجين محكوم عليه بخمس سنوات أو نحو هذه المدة قالوا له: إنما أنت زائر! واحتقروه كما يحتقر ساكن البيت ساكن الخان النزيل! وأقنعوا أنفسهم بهذه المغالطة أن الخمس سنوات في الليمان خطب يسير.
والشأن في هذه الخصلة شأن جميع السجناء بلا استثناء عالم أو جاهل وذكي أو غبي ومجرب أو غرير، فكلهم يسوسون مشكلة الوقت على هذا المنوال، وكلهم يألفون المغالطة هذه الألفة، وكلهم يستكبرون ما مضى ويستصغرون ما سيأتي وسوف يأتي إلى يوم الإفراج، وهو يوم محقق الوصول عندهم جميعا كأنما الموت قدر مؤجل إلى ما بعد وفاء المدة، أو كأنما الإنسان لا يخرج من دنياه إلا بعد خروجه من سجنه أو منفاه!
قال الكاتب الروسي الكبير «دستيفسكي» يصف منفاه وسجنه في سيبيريا: «من اليوم الأول بدأت أحلم بيوم الخلاص، وجعلت هجيراي أن أحصي ألوفا وألوفا من المرات على ألوف وألوف من الطرائق والأنماط مقدار أيامي التي سأقضيها في المعتقل، وكنت أفكر في ذلك دون غيره، وكل من حرم الحرية فترة محدودة من الزمن فإنما يفكر على هذه الوتيرة، وإني من ذلك لعلى أتم يقين.»
وقال في وصف الأيام الأخيرة: «لقد نسيت أمورا كثيرة، ولكني أذكر - ويا لشدة ما أذكر - كم كانت الساعات في السنتين الأخيرتين بطيئة بطيئة وكم كانت الأيام حزينة حزينة، لا يلوح عليها أنها ستقترب من مساء ولا تزال كأنها خضم من الماء ينحدر قطرة فقطرة، وإني لأذكر كذاك أنني كنت مفعما بشوق طاغ إلى البعث والنشور من هذا القبر زودني بقوة على الصبر والانتظار والرجاء، ومن ثم تعودت الجلد والاحتمال وعشت على الترقب والأمل، وعددت كل يوم عابر، فإن بقي من الأيام ألف فقد أشعر بالارتياح؛ لأن يوما قد مضى ولم يبق إلا تسعمائة وتسعة وتسعون!»
وهكذا تعتصم النفوس بالمغالطات ويصيح المستغرب: هل أغالط نفسي؟! كأن الإنسان لا يغالط إلا غيره! وهو لنفسه في الحقيقة أول المغالطين!
يوم الإفراج
يوم الإفراج.
أو يوم البعث والنشور.
أو يوم الحرية.
أسماء كثيرة يسمى بها يوم الخروج من السجن، والناس يحسبونه أسعد أيام المسجون؛ لأنه اليوم الذي انتظره مئات الأيام أو ألوف الأيام، ويحسبون أن المسجون إذا قارب فجره لم تغتمض عيناه سرورا بلقياه وأوشك أن يطير فرحا بالوصول إليه! وهم على حق فيما يحسبون لو أن الشعور مما يقاس بأمثال هذه المقاييس التي تقاس بها الأحجام والأرقام، ولكن الشعور يجري على منطق غير هذا المنطق، وينقاد لأحكام غير هذه الأحكام، فيوم الإفراج يوم لا تهتز له نفس السجين بسرور عظيم ولا تقبل فيه على موعد جديد، وسبب ذلك هو بعينه السبب الذي يحسبونه جالبا للفرح واللهفة والتهلل والاغتباط، وهو أن السجين قد انتظره مئات الأيام أو ألوف الأيام.
يظل السجين ينتظره ويطيل انتظاره ويتأمله من كل جانب ويحسب المسافة بينه وبينه بالأشهر والأسابيع والأيام والساعات، ويقدر ما يصنعه فيه ويعيد التقدير ويعيد الإعادة ولا يفكر طوال ساعات الفراغ أو ساعات العمل في شيء غير هذا التفكير الدائم الدائب الذي يستنفد كل صورة وكل احتمال وكل خيال: حتى إذا جاء اليوم الموعود إذا بالسجين يراه كأنه وجه قديم طالما رآه وأدمن النظر إليه وعرف ملامحه وقسماته خفية وظاهرة وكبيرة وصغيرة، ولم تبق منه لمحة واحدة لم يرها ويحقق رؤيتها بدل المرة عشرات ومئات، فهو منظر من مناظر الماضي السحيق المتغلغل في القدم والألفة، وليس بمنظر ظريف ولا بموعد جديد.
والمساجين ينظرون كل يوم إلى المفرج عنهم ويعجبون لهم ما بالهم لا يطيرون ولا يبتهجون! ويحسبونهم يتوقرون ويكتمون ما يخامرهم من شعور، حتى إذا جاء يومهم في الإفراج عجبوا لأنفسهم بعد أن كانوا يعجبون للآخرين، وهكذا كان من حظ بني الإنسان أن يستنفدوا السرور بالمتعة التي تطول الرغبة فيها ويطول انتظارها، فلا يستشعرون السرور الصحيح إلا بأنصاف الآمال أو المفاجآت التي لا تخطر على البال!
ويخيل إلي أن أبخل البخلاء إذا انتظر مليون جنيه بعد عشر سنوات وهو على يقين من الوصول إليه عند موعد محقق لا خلاف فيه لأصبح هذا المليون وكأنه مبلغ في الخزانة داخل في الحساب، لا يشعر بالزيادة عند وروده ولا يشعر بفقده قبل يوم الموعد المنظور، فهو ضائع من حسبانه في حالتي الترقب والاستيلاء عليه، وهو أقل من مائة جنيه يغنمها ويشعر بزيادتها ولم يحسب لها ذلك الحساب الطويل.
على أن اليوم - سواء عددته من أيام السعادة أو من أيام الفتور وقلة المبالاة - هو يوم ينطبع في الذاكرة وينطبع معه كل ما يلازمه من المناظر والمسامع والأحاسيس، فهو محسوس به إحساسا عميقا شديدا راسخا في قرارة الوعي والبديهة، وذلك شيء أندر جدا من المسرات وأندر جدا من الأحزان.
وإذا أراد الإنسان أن يشعر بأغوار هذا العمق فما هو بقادر على ذلك إلا إذا فوجئ في اللحظة الأخيرة بتغيير في الموعد أو خروج عن خط الانتظار المرسوم: هنالك يعالج شعور الفقد والشك بعد شعور الاطمئنان واليقين، ويعلم أن تأخير ذلك اليوم ساعات معدودات هو بمثابة الحرمان المباغت من أعوام لا يحدها الإحصاء، وقد رأيت سجينا يركبه البؤس والكرب والقنوط؛ لأنهم أوشكوا أن يؤخروه يوما واحدا لخطأ في المضاهاة بين الأشهر العربية والأشهر الإفرنجية، فلما ردوا له ذلك اليوم الواحد إذا به يشعر بالخلاص منه أشد من شعوره الأخير بالخلاص من الأشهر والسنوات.
جاءني مأمور السجن عصر اليوم الذي سأغادر السجن في غده، وقال لي: إنه لا يعلم في أي ساعة سيكون الإفراج، فيحسن بي أن أكون على استعداد للخروج منذ الصباح الباكر، وإنه لهذا سيرسل لي الحلاق بعد هنيهة ليحلق رأسي ولحيتي التي مضت عليها ثلاثة أيام، ولا يحب رجال السجن أن يخرج السجين من عندهم على هذا الحال؛ لأن رؤية اللحية الطويلة تلقي في روع الناس أن السجين خارج من مكان يكثر فيه الإهمال وتقل النظافة والنظام.
والحلاقون في السجن هم حلاقون مسجونون يزاولون هذه الصناعة ويحسدهم أصحاب «الأشغال» الأخرى؛ لأنهم يرون أن الحلاقة عمل خفيف لطيف لا مشقة فيه، وكانوا يزوروننا في الحجرة مرتين كل أسبوع فتسمع منهم قصص السجن بجميع أنحائه؛ لأنهم يطوفون على جميع السجناء، والعجيب أن هؤلاء الحلاقين على كثرتهم كانوا من المتهمين في قضايا المخدرات إما بالتعاطي أو بالاتجار، وكانوا لهذا يعلمون من أخبار الحياة الاجتماعية العالية والوضيعة ما يشوق الاطلاع عليه، وقد نسوقهم إلى ذكره إن آثروا السكوت أو خشوا رقابة الحراس.
أما في هذه الحلاقة الأخيرة فقد كان يعنيني أن أفرغ منها في دقائق عاجلة؛ لأنني فوجئت بتغيير نظام الخروج، وكان لا بد لي من إبلاغ ذلك إلى أخي الذي كلفته أن ينتظرني بباقات الزهر على مقربة من السجن حوالي الظهر موعد الإفراج المعتاد، وقد كان ضريح «سعد» الذي أعددت له تلك الباقات على طريق «قره ميدان»، وكان يتردد بيني وبين أخي بالرسالة والجواب بعض الموظفين وهم ينصرفون بعد العصر بقليل، فإذا فاتني أن ألقى واحدا منهم قبل انصرافه فقد اختلف التقدير واختل الحساب، وقد أزور ضريح سعد عقب خروجي ولكن بغير أزهار، أو أزوره ومعي الأزهار، ولكن بعد أن يبطل معنى هذه الزيارة التي قصدت أن تكون أول ما أباشر من عمل الحرية.
وشاء الحلاق أن يبتليني في هذه الحلاقة الأخيرة بكل ما اشتهر به أبناء صناعته في أحاديث الغابرين والحاضرين من حذلقة، وثرثرة، ومضايقة، وإعنات.
والحق أنني كنت أسمع بهذه الشهرة وأقرأ روايات الرواة عنها في كتب العرب والإفرنج فأحسبها من مبالغات الهازلين؛ لأن الله لم ينكبني قبل ذلك بحلاق ثرثار، أما في ذلك اليوم فقد عرفت أن الحقيقة أكبر من مبالغات الجادين والهازلين في بعض الأحايين، وأخذ هذا الحلاق «الظالم» بحقوق جميع المظلومين من أبناء الصناعة!
وضع صاحبنا في ذهنه أنني خارج غدا وأن الناس سيلقونني فلا يلتفتون إلى شيء غير «حلاقتي» النظيفة وغير العجب من أن أظفر بهذه الحلاقة الفاخرة بين جدران السجون! وسيتحدثون ولا يسألون عن شيء في حديثهم إلا أن يعرفوا اسم ذلك «الفنان» المغمور المدفون في تلك الغيابة المظلمة، وسيلبثون منتظرين متشوفين حتى يأذن الله برده إلى حانوته المجهول فيتسابقوا إليه وينبذوا من كانوا يعبثون في رءوسهم ولحاهم من جهلاء الحلاقين، ويحمدوا الله أن سعدوا بجلسة تحت يدي هذا النابغة العظيم.
وضع صاحبنا في ذهنه هذا الخاطر فأحفى غاية الإحفاء وأمعن غاية الإمعان، وطفق يفهمني أنه ما من عدة يستعد بها الحلاقون في الأماكن المنتظمة إلا وهو قادر على الاستغناء عنها بحيلة من الحيل وبراعة من البراعات، ومضى يجرب تلك الحيل وتلك البراعات حيلة حيلة وبراعة براعة ليريني صدق ما يقول رأي العين، وأنا أقرظ وأزكي وأعيد التقريظ والتزكية، ولا جدوى ولا نجاة.
وأخذت أنبهه إلى أنني مستعجل وهو لا يتنبه، وأرجوه أن يسرع وهو لا يزيد على قوله «حاضر» ثم ينساها بعد لمحة، ويدأب على ما كان فيه كأبطأ ما يكون الإبطاء وأدق ما يكون التدقيق.
وتململت وهو لا يحفل، وتأففت وهو لا يكترث، وظن أخيرا أنه فهم لماذا أتململ وأتأفف وأن «الدنيا» حر وقد كانت «حرا» حقا؛ لأن الشهر شهر يوليو والساعة ساعة الأصيل، فلما قلت له: بل إنني «أنتفض» من البرودة ضحك وأغرب في الضحك وظن أنها «نكتة» وأنه وهو «واحد» من أبناء البلد لا يليق أن تفوته هذه النكتة دون أن يوفيها حظها من المزاح والتعليق!
فما العمل؟
كل شيء يمكن اقتضابه إلا أن ينطلق الإنسان بوجه نصفه محلوق ونصفه غير محلوق، فغالبت غيظي وضحكي المكظوم من هذا الغيظ، واتخذت كل ما يسعني اتخاذه من هيئة الجد والاهتمام وقلت: إنني لا أستطيع أن أصبر فوق ما صبرت، فاكتف بما صنعت واقنع بما أبدعت، واجعل همك أن تتركني بعد دقائق قليلة على حالة تصلح لمقابلة الناس، وأنا أتمم البقية غدا فسيكون عندي متسع للإتقان والإحفاء.
فاختلج كالمذعور وصاح بي: عيب يا أستاذ، ماذا يقولون عنا إذا شهدوا هذه «اللكلكة» وهذه العجلة بغير عناية؟ أيقولون إننا لا نقدر الأستاذ قدره، أم يقولون إننا صبيان في هذه الصناعة؟
وفطنت لما يدور بخاطره وما يمني به نفسه من ذلك الإعلان المأمول، فأحببت أن أفجعه بعض ما فجعني، وقلت له وكأنني أطمئنه وأهدئ روعه: لا تشغل بالك بهذا يا فلان! إنني لن أبوح لأحد باسمك! فعجل ما استطعت وأرحني أراحك الله!
فارتعب الرجل وخيل إلي أنه يوشك أن يدق صدره ويلطم خديه، وبدر على لسانه ما خبأ في جنانه، فصاح قائلا: ماذا يا أستاذ؟ أتحرمني هذا الشرف، وأنا أنازع رصفائي عليه منذ أيام؟ يا ضيعة المسعى ويا خيبة الرجاء؟ أتكتم اسمي كأنني أسأت وقصرت وأنا أقطع يدي وآتي بغاية ما عندي لأبلغ اليوم قصارى الإحسان والإتقان؟ ... لا لا ... يا أستاذ ... كلها نصف ساعة وينتهي كل شيء على ما يرام، ولا عليك من اقتراب موعد الإغلاق فإن الحراس لن يضنوا بفتح الباب لي إكراما لك، ولا سيما في عشية الوداع!
وكأنما كان هذا المنكود ملهما أن يثير قلقي ويذكرني ما أحذر وأتقي، فإن إشارته إلى «موعد الإغلاق» عصفت بالبقية الباقية من صبري فألقيت بالمنديل الذي ناطه بعنقي وهممت بالخروج إلى فناء السجن، فلم يثنني عن إنفاذ عزمي إلا أن الخروج على هذه الصورة يجمع حولي الحراس والموظفين، إن بقي أحد منهم إلى تلك الساعة، فلا يتيسر لي أن أتصل بمن أريد.
أشهد أنني شعرت بغبطة الإفراج كلها ساعة أفلت من يد ذلك الحلاق «راجي عفو الخلاق» لا عفا الله عنه، فإن حركة اليأس التي اندفعت إليها في غير عمد ولا روية قد أكرهته على قبول «التضحية» بفنه وإتقانه والرجاء في شهرته وعرفان قدره، فاستسلم للعجلة والندامة معا وانقلب إلى إبداء براعة السرعة وحذاقة الهرولة بعد براعة التؤدة وحذاقة الاستقصاء والأناة، وتبعني بعد أن تركته وهو يستحلفني ألا أنساه، وأنا أقسم له أنني لن أنساه وإن أردت نسيانه، ثم انتهيت إلى فناء السجن وقد تخلف فيه بعض الموظفين عمدا إلى ما بعد موعد الانصراف؛ لأنهم قد علموا من الحراس بما أنبأني به المأمور فانتظروني ريثما أخرج من الحجرة لعلي أفضي إليهم بنبأ أو رسالة، وقد تمهدت السبيل في اللحظة الأخيرة وخلا الجو للمقابلة والكلام، فأسررت إليهم بما عندي وعلمت بعد ذلك أنهم أدوا الرسالة في أمان، بل في إفراط من الأمان، لأنني علمت أيضا بعد ذلك أن أناسا من هؤلاء كان معهودا إليهم أن يتلقوا رسائلي الشفوية وينقلوها إلى مرجعين لا إلى مرجع واحد، وأنهم كانوا يوقعون بمن يخلصون في نقل رسائلي مخاطرين مستهدفين للغضب والعقاب، ليستأثروا وحدهم بهذا الواجب المشكور المأجور.
بت تلك الليلة كما أبيت كل ليلة، ونمت كما أنام كل ليلة ، وأصبح الصباح فلم أكد أفرغ من تناول الإفطار حتى وافاني الضابط في الحجرة يسألني هل أنا على استعداد؟ فقلت: على أتم الاستعداد إذا شئت أن أفارقكم وأنا بملابس البيت، أما إذا كرهتم ذلك فليس بيني وبين الاستعداد التام إلا خمس دقائق، ولاح عليه أن ينتظر هذه الدقائق وهو مشفق من إغضاب رؤسائه؛ لأنني لم ألبث في الحجرة الملاصقة لحجرة المأمور إلا دقائق معدودات تسلمت فيها ودائعي وانتقلنا بعدها مهرولين إلى سيارة مقفلة داخل السجن على أهبة المسير، فما هو إلا أن استقررنا بها حتى فتحت لها الأبواب وطارت إلى الميدان، فإلى شارع محمد علي وهي لا تلوي على شيء، وما زالت تعدو بهذه السرعة حتى بلغت سجن الاستئناف، وأسلمتني إسلاما جديدا إلى مأموره، فنقلني نقلا جديدا إلى حجرة خالية، واستنزلني بعدها إلى الفناء في ساعة الرياضة، وكانت نحو العاشرة، ولا يزال باقيا على موعد الإفراج عند الظهر ساعتان.
على أنني لم ألبث ربع ساعة في هذه الرياضة التي لا معنى لها في يوم الإفراج غير التزام القواعد والأصول، وإذا بكبير من موظفي السجون يقبل على عجل، ويسلمني ودائعي مرة أخرى، ويهنئني «بالفرج» ويتركني في كفالة ضابط يصاحبه رجل عملاق من رجال الشحنة الذين يعدونهم لأعمال العنف والتهديد، ويمضي الموظف الكبير لطيته، وأمضي أنا والضابط والعملاق إلى حجرات الموظفين بمحافظة العاصمة من طريق خلفية، ثم إلى مركبة تهرب بنا إلى منزلي بمصر الجديدة من ناحية شارع فاروق.
في أيام المحاكمة كانت الجلسات تبدأ الساعة العاشرة أو الحادية عشرة، وكانوا يحضرونني مع ذلك في إبان الشتاء القارس قبل الساعة الثامنة، وقبل أن يأذنوا لأحد بالدخول إلى قاعة الجلسة، وقد فهمت سر العناية بهذا التبكير، لأن النيابة كرهت أن أدخل القاعة وهي مزدحمة فيقف الحاضرون تبجيلا لهذا «المتهم» الذي يراد له الهوان، كما فعلوا في الجلسة الأولى.
وفي يوم الإفراج فهمت سر العناية بهذا التبكير وهو اتخاذ الحيطة للمظاهرات وزحام الاستطلاع.
أما الذي لم أفهمه ولا أزال أجهله فهو هذا العملاق المعد للعنف والتهديد ولا حاجة هناك لعنف ولا تهديد: إنني لن أهرب من المركبة الهاربة، ولا إخال أن عملاقا واحدا يخيف الجماهير إذا تعطلت المركبة ووقفت في الطريق، فلم يبق إلا أنه حكم الصنعة كما يقولون، وأن الشرطة لا يتخيلون لهم مهمة يؤدونها بغير تخويف؛ لأنهم لا يكونون شرطة بغير ذلك! وإلا فما الفرق بين المزاملة والحراسة؟ وما الفرق بين السطوة والإيناس؟
طارت بنا السيارة في مدينة معهودة غير معهودة، وشائقة غير شائقة، كأنني أطرأ عليها لأول مرة أو كأنني أستذكرها بعد غيبة طويلة، ولا يمنعني أن أتلفت إليها تلفت الغريب الطارئ إلا أنني في فسحة من الوقت بعد فترة وجيزة للتلفت والاستذكار.
ولا يحضرني أنني ألتفت إلى معالم الطريق غير مدرسة الصناعة بالعباسية الوسطى، فقد كانت حديثة البناء، فسألت عنها الضابط فقال لي: نعم هي حديثة، ولم يزد على ذلك.
ولما شارفنا المنزل دعوت الضابط والعملاق لتناول القهوة أو المرطبات فاعتذرا، لأنه حكم الصنعة كذاك!
ولم يمنعني كل هذا التحوط والروغان أن أعود من مصر الجديدة إلى حيث أنجز البرنامج الذي عولت عليه قبل مغادرة السجن، فرجعت من حيث أتيت، وزرت ضريح سعد وضريح ويصا، وتبين لي أن أخي وأصحابي كانوا يلاحقونني من مكان إلى مكان؛ لأنهم كانوا يعلمون بانتقالنا من كل موضع ومخبأ، على الرغم من التخفي، والإتاهة، والإسراع.
وجلست في المنزل كما كنت أجلس، ولقيت الأصحاب، وسمعت التهنئات، فأما الأصحاب فقد سرني لقاؤهم بعد وحشة، وأما التهنئات بالإفراج فكنت كأنما أصغي منها إلى حكاية قديمة أو حديث معاد.
هل مضت على آخر جلسة في هذا المكان تسعة أشهر؟ لا أظن، أو أظن أنها مضت ونسخت نفسها بانقضائها، فلم أمكث في المنزل ساعات حتى خيل إلي أنني رجعت إليه ذلك الضحى بعد أن فارقته ذلك الصباح!
بعض الشخصيات
لبثت في السجن وخرجت منه ولست أذكر من سكانه الذي يستحقون اسم «الشخصيات» غير ثلاثة أو أربعة من أربعة آلاف إنسان تحويهم جدرانه، وهو عدد يساوي عدد الرجال في عاصمة من عواصمنا المصرية المشهورة.
ذاك أن «الشخصيات» في سجن مصر نادرة.
فالسجناء هناك أرقام في حساب مصلحة السجون، وهم كذلك أرقام في حساب الطبيعة: كلهم مغمورون في بحر لجي من الضآلة، والخسة، والتفاهة، لا يعلو بينهم رأس فوق الغمار، ولا تتباين فيهم الخلائق والصفات، إلا كما تتباين الموجة والموجة في بحر هادئ ذليل، لا تضربه العواصف ولا يعج ولا يلتطم.
وهؤلاء «الشخصيات» الثلاثة أو الأربعة الذين أذكرهم من سكان السجن هم أيضا خلقاء أن يغرقوا في غماره، ويتواروا في خموله لولا بعض الغرابة الملحوظة على أثباج ذلك الخضم الواسع من التفاهة والفهاهة.
فالغرابة إذن؛ شفيعهم إلى الذكر والنباهة! وليس شفيعهم إلى الذكر والنباهة مزية إنسانية أو قدرة خارقة، أو صبغة مستملحة من ألوان الحياة الفريدة.
أحد هؤلاء «الشخصيات» مجنون يتنازعه السجن والبيمارستان.
والثاني مجنون أيضا ولكن على طراز آخر من الجنون.
والثالث مقعد مبتور الرجلين إلى الفخذين.
والرابع - إن كان لا بد من تحقيق قولة الثلاثة والأربعة - خليط من الجنون والعربدة والمكر والدماثة المصطنعة والجموح الصحيح.
وكلهم يسكنون السجن على انفراد؛ لأن الجمع بين واحد منهم وزميل آخر في حجرة واحدة مستحيل. •••
إنني لأتمشى ذات يوم في فناء السجن، إذا بشيطان أسود يقطر منه النفط القذر يعدو هنا وهناك ويفر منه الجند والموظفون.
من هذا؟
هذا هو المجنون الأول نقيب، ولنسمه بهذا الاسم القريب من اسمه ولا نذكره باسمه المشهور مخافة المساس بهذه الشهرة الحسنة والسمعة المبرورة! وخشية المقاضاة ورد الشرف والتعويض!
ولماذا صنع نقيب هذه الصنعة الكريهة بنفسه؟ ولماذا أغرق نفسه في حوض النفط وهو بغيض إلى الشم بغيض إلى الذوق بغيض إلى النظر، غير مأمون على البشرة والحواس والجوارح؟
مكره أخوك لا بطل!
هجم على المخبز لاختطاف رغيف ساخن ليس من حقه، فهجم عليه الحراس يوسعونه لكزا ولكما ويقودونه إلى «سعادة المأمور»، فخير ما يصنعه نقيب في هذه الحالة أن يقذف بنفسه إلى حوض النفط القذر لحظة واحدة يخرج بعدها كما رأيت شيطانا مرهوبا يفر منه من كانوا يطاردونه، ويتقي لمسته من كانوا يوسعونه ضربا ولا يرسلونه من قبضتهم طرفة عين!
وراح نقيب يصول ويجول ويعدو ذات اليمين وذات الشمال، وكل حارس حريص على كسوته يهرب من وجهه ويستغيث بالسجناء المطلقين في الفناء؛ لأنهم لا يخافون على كسوتهم كما يخاف الجندي والحارس، حتى شبع نقيب من الصيلان والجولان، وأنذره ضابط السجن بمسدسه فخضع واستكان.
ويجيئه المأمور الرجل الوقور ويصيح به: ما هذا يا هذا؟ إنني لا أريد أن أجن معك، إنني سأرسلك إلى البيمارستان! فينظر إليه نقيب في جد لا شائبة فيه من الهزل والمجانة، ويقول: معاذ الله يا سعادة البك! وهل نحن من أهل ذاك؟ •••
لا سمح الله!
ولنقيب مذهب في تقدير الجرائم والعقوبات يختلف من كل مذهب مأثور بين الناس في فلسفة الشرائع والقوانين.
كان على وفاق مع رجل قصير قميء من تجار المخدرات محبوس على ذمة التحقيق، وكان الرجل يستظرف نقيبا ويلطفه بلحوم الدجاج والضأن والديكة الرومية والفاكهة والحلوى والمطبوخات من كل صنف تتسع له ثروة المتجرين بالمخدرات.
ويسعى أهل الفساد بين نقيب والرجل فيمنع عنه بره وسلامه وكلامه، ويهيج نقيب هيجته الغضنفرية الحمارية الجامعة بين الزئير والنهيق، وهو لا يحتاج إلى أكثر من هذا السبب للغضب والثورة والوعيد.
فبعد أن يفرغ جعبته من الشتم والتعيير في بعض الأيام يسكت كمن يفكر ويتدبر ثم يقول: من أنت يأيها الحقير! إنني أمحقك ... إنني أسحقك ... إنني قد ضربت الدكتور فلانا وهو طول وعرض وقامة وهامة، وأخذت فيه أربعة أشهر. فأنا أقتلك وأنت «شبر نكد» ولا آخذ فيك أكثر من أسبوعين، ويشاور القاضي عقله بعد خروجي من المحكمة!
ولو اعتمد المشترعون مذهب نقيب في تقدير الجرائم والعقوبات لاستغنوا بمتر في كل محكمة عن كل هذه الأسفار والمجلدات، وكل هؤلاء المفسرين والشراح. •••
وتسمع في هدأة الليل لغطا وحركة، وتسمع الحارس يقول: من هذا؟ وأولى به أن يسأل: من هؤلاء؟
نعم من هؤلاء أولى؛ لأنك تسمع غناء عبده الحمولي، وتقريظ الحاشية حوله، وهتاف السامعين وضجة الطفيليين الراغبين في دخول الفرح وغشيان السامر ، وما هم من المدعوين إليه.
وكل هؤلاء هم «نقيب» وحده بلا مساعد ولا معين؛ لأن «نقيبا» كما ينبغي أن تعلم يحسن «التقليد والمحاكاة» بعض الإحسان، ويهوى الغناء من قديم، ولا يعجبه غناء بعد عبده الحمولي ومحمد عثمان، ويضاف إليهما يوسف المنيلاوي، مع التحفظ والعطف وزم الشفتين!
وتسأله كل مرة يتحدث فيها عن مجالس الطرب القديم في عهد إسماعيل: كم عمرك؟ فيصر في كل مرة على أنه لم يتجاوز الأربعين!
مع كل هذا الجنون عاقل!
أو مع ما فيه من العقل مجنون! •••
وإذا تكلم نقيب فليس من يلجئه إلى السكوت، وإذا سكت فليس من يلجئه إلى الكلام.
ولكن الخبثاء من سجناء المحاكم المختلطة - وأكثرهم تجار لبقون - يعرفون كيف يخرجونه من الصمت العنيد إذا احتاجوا إلى مناوشاته، وعربداته، وأغانيه، وهم أحوج ما يكونون إليها في غياب المسارح والسهرات.
هو يهذر ويحكي عن أهله، وينسى بعد ساعة واحدة كل ما قال.
وإنه لفي صمته العنيد ذات ليلة إذا بصائح يناديه: كيف حال بهية؟!
وإذا بصوت ينفجر من ناحية الحجرة التي فيها نقيب: بهية من يا ولد؟!
فيجيب التاجي الخبيث: بهية أختك! بهية ذات الشعر الأصفر! بهية ذات العينين النجلاوين! بهية ذات الردفين الثقيلين! بهية التي تلبس الرداء الأخضر! بهية التي تسكن في باب الشعرية! بهية يا حسرتي على بهية!
وكل هذه أوصاف سمعها التاجر، وسمعها «العنبر» كل ليلة من الليالي الغابرة من فم نقيب دون غيره، ونسيها نقيب.
ويصدق صاحبنا ما سمع، ويثوب إلى نفسه وكأنه يناجيها: «صدق من قال لا أمان للنساء!» ... والعجيب أن «بنت الكلب» أوشكت أن تدفعني إلى الموت؛ لأنها شكت إلي رجلا يغازلها ويسد المنافذ عليها، فبطشت به ولم ينقذه من يدي إلا عمره، لك حق يا فلان، اذهب فاصنع بها ما تشاء!
ثم يرجع ثائرا ويندم على هذا «التفويض» وينادي التاجر: إياك يا هذا أن تصنع بها شيئا، والله بعمرك! والله الحكاية كلها مشوار من هذه الحجرة التي أنا فيها إلى بيتك، ومن بيتك إلى هذه الحجرة التي أنا فيها، وعوض الله عليك في عمرك: أسمعت؟
نعم سمع، وسمع العنبر كله، وهذا هو المقصود. •••
وأعترف أنني قد عرفت من نقيبنا هذا شيئا كثيرا من طبيعة الشاعر القديم، أو الشاعر المداح الهجاء: عرفت أن كل ما يتوخاه ذلك الشاعر في فنه هو أن يقول لممدوحه: إنني أريد أن أرضيك بالثناء وترضيني بالعطاء، وهي صفقة معقودة علانية بعلم المادح والممدوح والسامعين، لا حاجة فيها إلى الصدق، ولا إلى المعاشرة، ولا إلى الإخلاص، ولا إلى شيء غير البضاعة والثمن، والبضاعة هي المدح الظاهر، والثمن هو العطاء الظاهر، وكان الله يحب المحسنين.
نقيب لم يكن يعرف أحدا من سجناء المحاكم المختلطة الذين كانوا يبرونه بالحلوى والجبن والإدام، ولكنه يعرف دائما أن الذي يعطيه قطعة من الحلاوة الطحينية أو شريحة من الجبن، رجل ثري يملك سيارة فاخرة تخطف الهواء، ويركبها الراكب وهو حذر على طربوشه أن يطير، وأنه يملك قصرا باذخا في بعض الضواحي دخله هو وأكل فيه، ولم ينفذ إلى حجرة استقباله إلا بعد أن عبر خمسة بوابين، ويعرف أن الحرير أبخس ما يلبسه الخدم في ذلك القصر الباذخ، فضلا عن السادة والسيدات! وهو يجهر بهذه المعرفة ليلة العطاء العلني المشهور المذكور بين سائر السجناء، وينادي أحد الزملاء ليحدثه جهرة بهذا كأنه يعني أن يكشف له سرا في غياب الممدوح، لأنه لا يخاطب الممدوح وإنما يخاطب سواه، فالكلام إذن؛ لا تمليق فيه ولا تزوير ولا محاولة إرضاء أو جزاء.
نعم، ويعرف نقيب تماما في اليوم التالي أو اليوم الذي بعده أن ممدوحه هذا بعينه صعلوك ابن صعلوك، لا يملك سيارة وإنما هو «حمار سبخ» لا يساوي شلنين! ولا يملك قصرا باذخا وإنما هو كوخ في عرب المحمدي ينبني وينهدم في يوم! ولا يلبس الحرير وإنما هي ملاءة الفراش القديمة يرقعها ويفصلها جلابيب، والظريف أن يكون جلباب الممدوح أو المهجو ذلك اليوم من نسيج منقوش بالمربعات التي تنقش بها ملاءات السرير، فالشاعر على هذا لا ينسى بعض الحقائق وبعض المناسبات! •••
ذاك هو المجنون الأول.
أما المجنون الثاني فقد كنا نعجب له كيف اتسع وقته لزيارة البيمارستان وهو لا يفارق السجن إلا ليعود إليه؟ وكيف يفارق البيمارستان إذا دخله مرة وهو أقرب إلى أهله من أهل السجون.
قال لي إنه قضى في السجن أكثر من عشر سنين، وقال لي أحد الحراس: إنه قضى فيه ثلاث عشرة سنة كلها أحكام مقطعة بين ثلاثة أشهر أو ستة أشهر أو سنة، وهو يعيد نفسه إلى السجن كلما أخرجوه عند انتهاء أمده على الرغم منه، وما عليه إلا أن يخطف ما يخطف، أو يضرب كل من صادفه أمامه صالحا «للانضراب» ثم يدع للمحكمة والشهود والمجني عليه أن يحلوا اللغز ويكشفوا عن سر الجريمة بين مضروب لا يعرف الضارب، وضارب لا يعرف المضروب.
وقد سرى إلى قرارة خلده شعور صادق بضرب من «الملكية» للسجن بحق المكث الطويل فيه، فسمعته يوما يتحدث مستخفا غاية الاستخفاف عن مأمور السجن الذي مضت عليه في الوظيفة سنوات، ويذكره باسمه وهو يناجي بعض أصحابه قائلا: من هو «فلان» المأمور هذا؟! إننا لا نسمع به إلا هذه الأيام!
وهذا - المخلوق - وليكن اسمه عساسا على طريقتنا في تسمية نقيب - هو النشوز بعينه لمن يراه، ولمن يسمعه، ولمن يراقب أحواله، ويستقصي أخباره.
وجهه ناشز، وصوته ناشز، وأخلاقه وأعماله نشوز في نشوز، ولكن المدهش في نشوزه أنه على استواء واحد، كأنما ينشز بقاعدة مرسومة، فإذا غنى اليوم وأعاد الأغنية بعد عشرة أيام فوقع النغمة في الأذن واحد، وهي مع ذلك ناشزة في كل مرة على نحو مختلف من النشوز، فليس التشابه في أغانيه كتشابه الأسطوانة التي تعاد، والدور الذي يضبط ويدار على لحن واحد، ولكنه مع ذلك تشابه لا يحكيه أحد سواه.
ولا ريب عندنا في أن عساسا هذا على حظ من مزاج الشاعرية يناسبه ويماثله في الهبوط والتفاهة، فهو إذا احتواه الليل بين أركان حجرته، رفع عقيرته وخاطب تلك الحجرة الجافية معددا لها شواهد حبه ودلائل غرامه، وإنها هي التي تعلق بها وتعلقت به ففيها مشتاه ومصيفه ، وإليها منقلبه ومآله، ولديها معتصمه وملاذه، من المأمور وغير المأمور، وعليه نظافتها وجلاؤها، وبينه وبينها ما ليس بين الزوج وزوجه من رحم ومودة.
ومن أجل هذه الأغاني سماه السجناء والحراس «عساس الأوضة»؛ لأنه يسمي الحجرة «أوضة» ولا يسميها زنزانة، كما تعرف في قاموس السجون.
وللجراية عنده أنشودة أخرى تجاري حركة التوزيع ساعة تفريق العدس والخبز عليه وعلى الزملاء: قرب يا شاويش وهات الجراية! واغرف يا شاويش وفرق الجراية، وانصفنا يا شاويش واشبعنا من الجراية ... وهكذا من قافية الشاويش إلى قافية الجراية حتى ينتهي التوزيع وينصرف السجناء، وهم يرددون ما لقنهم إياه شاعرهم عساس.
وتمام العلم بنشوز هذا المخلوق الغريب أن تعلم أنهم نقلوه من «أوضته» العزيزة عليه إلى قسم التأديب، فأراد أن ينتقم من المأمور فماذا صنع؟ عمد إلى الصفيحة التي تناط إلى صدره وعليها رقمه فشحذها وقطع بها إحدى خصيتيه! •••
أما ثالث الثلاثة أو الأربعة الذين يستحقون اسم «الشخصيات» بين أولئك النكرات، فليس هو بمجنون ولا بمخبول، ولا بشاعر أو فنان، ولكنه مقعد يمشي على خشبة ذات مكر، يدفعها بمقبض في كلتا يديه كما يدفع السابحون زوارق الحمام.
ولا يخاف السجناء مجنونا في ثورته كما يخافون ثورة هذا المقعد الكسيح.
ويخطئ القارئ إذا فهم من قولنا «ثورته» أن الرجل يثورها مهتاجا مغلوبا على أمره كما يثور الغاضب المحنق، أو الطائش الأحمق، كلا! فإن الرجل ليثور لأنه يريد أن يثور، بل محتاج إلى أن يثور، فثورته في كل مرة لا تأتي إلا بروية وتدبير وتقدير.
وجلية أمره أنه سجين مخدرات، وأنه في السجن ما زال يتجر بالممنوعات والمهربات، وأهمها وأنفسها التبغ والكبريت.
ولعله يكسب في السجن أضعاف ما يكسبه من السموم المهربة وهو طليق.
فإذا استضعفه أحد من عملائه، وظن أن هذا العاجز الكسيح أهون من أن يحسب له حساب أو يؤدي له حساب - فالويل للأحمق المأفون من عاقبة جهله وغروره: إنه لمغلوب ولو كان أقوى الأقوياء، وإنه لن ينجو من الجروح، والرضوض، وإن لم يظفر به الكسيح كل الظفر ، ولم يهزمه كل الهزيمة، فبينما الخصم القوي الواقف على قدميه لا يناله في مقتل، ولا مأمن، إذا بذلك الكسيح يتناول كل ما نالته يداه ويقفز ويندفع ويكر ويفر كأنه الديك الصائل، لا تمسكه العين في حركة واحدة أو موضع واحد، وسلاحه في كل ذلك تلك الخشبة التي يجلس عليها، وذلك المقبض الذي يحمله في كلتا يديه، ولا تنتهي المعركة إلا وهو أربح الخصمين وأسلم المضروبين.
هذا المخلوق هو مثال القوة التي تخلقها الحاجة إليها، واستضعاف الناس لمن لا يحسبونه من أهلها. •••
بقي الرابع المرشح لتكملة العدد، ولك أن تحسبه أو تسقطه من عداد هذه النخبة المباركة، فلست أعرف له من معالم «الشخصية» إلا أنه يضطرك إلى رؤيته، ويفرض عليك وجوده، فإذا أقبل شبح من بعيد في غرارة من غرارات العقاب المفتوحة عند الكتفين فغالبا ما يكون الشبح المقبل هو «الون» بعينه، وإذا رأيت كسوة حمراء من كسى التأديب تقترب في عنف وعجلة فأقرب الاحتمالات إلى الصواب أن «الون» هو صاحب تلك الكسوة الحمراء، وإذا لم يكن بين المصطفين للجلد فهو لا محالة بين المصطفين للتحقيق أو بين المصطفين للفحص الطبي في غير مرض ولا انحراف مزاج، وإذا لم تسمعه مغنيا في هذه الطبقة فهو ولا ريب صائح أو صاخب في الطبقة المجاورة، فليس هو «شخصية» لأنك تحب أن تراه أو يهمك أن تراه، ولكنه «شخصية» لأنك لا بد أن تراه وإن كرهت مرآه.
وأظرف عربداته الكثيرة أنه طرأ له يوما من الأيام أن يصطنع الخرس والصمم، فلا سمع ولا جواب، ولج في اصطناعه حتى حاول أن يعمي الأمر علي وهو يزعمني من أصدقائه وخلصائه، ولا يداري عني ما يداريه عن الضباط والحراس المبغضين، فلما سألته: أصحيح أنك لا تسمع ولا تتكلم؟ لمعت عيناه ولم ينبس بحرف، وتباله بسيماه كما يتباله الصم المغلقون، الذين لا يسمعون ولا ينطقون ولا يفقهون.
ولم تمض دقائق على هذا التمثيل الغبي حتى سمعته في غرفة العمليات الجراحية يردد بعض العبارات الإنجليزية بأعلى صوته، ويجيب الطبيب على كل سؤال يلقيه عليه، وإنما الفضل في شفاء خرسه المصطنع للدواء المرقد الذي خدره به الطبيب فحجب إرادته وأطلق لسانه! •••
وقد أظلم السجن إذا أنا جزمت بأن الأربعة الذين أجملت وصفهم هنا هم كل من فيه من ذوي «الشخصيات» والغرائب الملحوظة، فغاية ما أجزم به أنهم هم كل من أذكر الآن ممن رأيت، ولعل لهم أشباها ونظراء لم أرهم والحمد لله، ولا أسف على ما فات.
ذلك أنني بليت بمن لقيت من هؤلاء الأربعة بعد خروجي من السجن بلية لا يؤسف على فواتها، فمنهم من كان يلقاني في شوارع العاصمة فلا يدعني دون أن يتقاضاني ضريبة لقائه، ومنهم من كان يحييني تحية الزملاء الرصفاء كلما بصر بي في ناد أو طريق، وعرف أولهم «النقيب» طريق داري فحاصرني فيها مرارا لا يبرح الدار إذا حضر حتى أخرج أو أعود، وأسوأ ما في الأمر أنه لم يكن يحضر إلا وهو سكران طافح معقود اللسان مسترذل الحديث.
قلت له آخر يوم وقد دعوت له الشرطي: يا نقيب! إنك تحتاج إلى سجن لتكون ظريفا وقانا الله من ظرفك وأنت سجين ومن مضايقاتك وأنت طليق، فاذهب ولا تعد، وإلا أعدتك مع هذا الشرطي إلى حيث لا أراك.
وذهب ولم يعد حتى الآن، لا أعاده الله.
الجريمة والعقاب
سومرست موام
Somerset Maugham
كاتب إنجليزي مستفيض الشهرة، له مؤهلات كثيرة لمعرفة الطبيعة الإنسانية؛ لأنه كان طبيبا ومريضا في وقت واحد، فهو عليم بما في الإنسان من ضعف وما يشتمل عليه من أثرة وعطف، وهو كاتب قصاص يتتبع «الشخوص» وينقب عن أسرار الطبائع وبواعث الأخلاق، ودخائل الآداب المصطلح عليها بين الطبقات، وقد اشتغل «بالجاسوسية» أيام الحرب العظمى، فعاشر الساسة والمغامرين، وعرف كيف يستدرج الناس إلى إفشاء الأسرار والوشاية بالأعداء والأصدقاء، والوقوع في أشراك المطاردين والرقباء، وكيف يزل أصحاب الدعوات والمثل العليا من أجل مطمع أو مظهر أو شهوة أو غواية، وكيف يستهين بالحياة البشرية من ليس له غرض في إتلافها غير المال والمتاع، وكيف يقبل الشرفاء استخدام الأثمة والأخساء عندما تعن لهم المصلحة العامة أو المصلحة الخاصة، وكيف يتوارى الناس وراء دعوى الوطنية أو الغيرة على الحضارة والحرية لقضاء اللبانات وشفاء الحزازات والترات، وقد زاده علما بطبيعة الإنسان أنه ساح في الغرب والشرق سياحة متفرج، وسياحة مستطلع مستخبر، فأعانته هذه المؤهلات كلها مع الفطنة الوقادة والبديهة الحاضرة على استكناه النفوس والنفاذ إلى ما وراء الظواهر، واختبار دعوى الخير والشر في الصالحين والطالحين على حد سواء.
هذا الرجل الكيس اللبيب يروي بلسان مدير الشرطة في بعض البلاد الآسيوية قصة عن «أسرة موقرة» مؤلفة من أب وأم اشتركا في قتل زوج المرأة السابق، ولهما بنت هي بنت الخليل وإن كانت منسوبة إلى الحليل، وقد حدثت جريمة القتل؛ لأن المرأة حملت وزوجها السابق لا يشك في سفاحها إذا ظهر عليها الحمل، فدبرا الجريمة قبل أن يفتضح السر ونجحا في إخفائها، ثم انقضت الأيام والسنون والأسرة تعيش في سلام لا يعكر صفوها معكر ولا ينغص عليها العيش تبكيت الضمير ولا يجترئ أحد على الإيماء إليها بمسبة أو إهانة.
ويقول سامع القصة لمدير الشرطة سائلا: لا أظن الزوجين قد نسيا ما اقترفا؟
فيجيبه المدير: «إني لن أدهش إذا كانا قد نسياه، فإن الذاكرة الإنسانية قصيرة الأمد قصرا يستغرب، ولئن سألتني رأيي من الوجهة الفنية لم أحجم أن أبوح لك بأنني لا أعتقد أن الندم لاقتراف الجريمة يرين ثقيلا على ضمير إنسان، إذا كان على يقين من كتمان سره.»
ويعود سامع القصة فيسأل: «ألا تشعر بشيء من النفرة أو القلق وأنت جالس إلى هؤلاء القوم؟ أنا لا أرغب في انتقادك، ولكني أراني مضطرا أن أكاشفك بأنني لن أحسبهم مستطيعين أن يكونوا أناسا لطفاء!»
فيجيبه المدير: «إنك في هذا لأنت على خطأ، إنهم ناس جد لطفاء، وهم معدودون هاهنا بين خيار القوم، والسيدة كارتريت على الخصوص «معتبرة» أنيسة المحضر، ومن عملي أن أمنع الجريمة وأن أعتقل المذنب بعد وقوعها، ولكن خبرتي بالمجرمين أكبر من أن تدعني أظنهم على الجملة شرا من الآخرين، وقد تدفع الضرورات رجلا دمثا إلى اقتراف جرم محظور فيكشف ويناله الجزاء، إلا أنه لا يندر أن يظل بعد ذلك رجلا دمثا كما كان، نعم إن المجتمع يعاقبه على انتهاك قوانينه وهو حق لا نزاع فيه، ولكن أعمال الإنسان ليست في كل حين هي دليل باطنه الخفي وجوهره الصميم، ولو أنك زاولت صناعة الشرطي كما زاولتها عهدا طويلا لرأيت أن المهم في أمر الإنسان هو كيف يكون لا كيف يعمل، وماذا هو لا ماذا صنع ... ومن دواعي الغبطة أن الشرطي لا شأن له بأفكارهم وإنما شأنه كله متصل بأعمالهم، ولو كان الأمر على غير ذلك لاختلف جد الاختلاف ولعاد أصعب مما هو الآن بكثير.»
وخلاصة الرأي الذي يذهب إليه الكاتب الخبير أن كثيرا من المعاقبين يشبهون كثيرا من غير المعاقبين، وأن بعض الجناة إذا أفلتوا من الجزاء لم يميزهم أحد بوسم خاص أو علامة ظاهرة بين سائر الناس.
ولهذا الرأي أنصار كبار بين رجال القانون المؤهلين لدراسة هذه الأمور، وفي طليعتهم المحامي الأمريكي النابه «كلارنس دارو» صاحب كتاب «الجريمة وأسبابها ومعالجتها» وهو حجة في هذا الموضوع لسعة علمه ووفرة القضايا الجنائية التي درسها ودافع عن جناتها، والقضايا الجنائية في أمريكا مدرسة زاخرة بالمعارف والعظات، لا يتاح نظيرها في الأقطار الأوروبية أو الشرقية؛ لأن جرائم الحضارة الحديثة في أمريكا قد بلغت من الإتقان والتنوع مبلغ الفنون المحكمة التي تستنفد جهود المحققين والقضاة والمحامين.
وفي وسعنا - بل الواجب علينا - أن نفهم هذا الرأي دون أن يتقاضانا فهمه أن نتبعه ونسترسل معه إلى نتائجه البعيدة.
فمما لا شك فيه أننا نستطيع أن نؤمن بهذا الرأي، ونستطيع أن نؤمن معه بالحقائق الضرورية لمنع البغي على المجتمع، ومنع البغي على الجناة والمسيئين.
فمهما يقل القائلون في تساوي بعض المعاقبين وبعض الناجين من العقاب، فهناك حقيقتان ليس فيهما خلاف بين الباحثين في موضوع الجريمة والعقاب: أولاهما أن المجرمين الذين يشبهون سائر الناس يستحقون أن يعاقبوا؛ لأنهم مسئولون عن أعمالهم، والثانية أن المجرمين الموسومين بالشذوذ الخلقي يحتاجون إلى عناية الطب، كما يحتاجون إلى علاج الشريعة.
يرى «كانت» أن عقاب المجرم واجب وحق، ولو لم تكن له نتيجة غير جزاء العمل بمثله ومقابلة الأضرار بالأضرار، فإن العدل البديهي يأمر بأن من يؤلم يتألم ومن يسيء يسأ، والضمير الإنساني يأبى أن يرى شقيا معذبا، ومن يشقيه ويعذبه يغدو ويروح آمن السرب مستريح البال، ولو لم يتماد في الإيذاء والتعذيب.
أما أصحاب الفقه الحديث فلا يحسبون من عمل المجتمع أن يتولى تطبيق العدل البديهي على هذا المنوال، وإنما يطلب المجتمع عقاب المجرم لإصلاحه أو للوقاية من شره، وكل ما عدا ذلك عبث لا يفيد ولا يليق.
فمنذ أصبح عقاب المجرم حقا للمجتمع ولم يعد حقا للمعتدى عليه أصبح العقاب لمحض الانتقام والتشفي رذيلة لا تليق ولا تؤدي إلى المصلحة الاجتماعية، وليس يليق أيضا أن تعاقب المجرم لردع غيره وإرهاب الناس من مثل مصيره، فإن هذا معناه كما يقول المنكرون لمذهب الردع والتمثيل أنك تعذب زيدا لإصلاح خالد، وهذا إن صح أن العبرة بمصير المجرمين تردع أحدا ممن تسوقهم ضرورة الطبع أو ضرورة الحوادث إلى الإجرام، وهو في اعتقاد هؤلاء المنكرين غير صحيح.
فإذا كان الغرض من العقاب هو إصلاح المجرم وحماية المجتمع، فهل السجن على أحسن نظمه ومقاصده مما يحقق هذه الغاية ويكفل للمجرم الصلاح وللمجتمع الحماية؟
الحق أن فكرة «السجن» عتيقة جدا ظهرت في تاريخ الإنسان قبل أن تظهر فكرة العقاب للإصلاح والوقاية الاجتماعية بآلاف السنين، فقد كان السجن في بداية الأمر مكانا لاعتقال الأسرى أو المحكوم عليهم بالموت، ثم أصبح مكانا للتخلص من بعض المغضوب عليهم أو الواقفين في طريق ذوي السلطان، ثم جاء العصر الحديث فحسبنا أن استبقاء السجون واتخاذها مكانا للعقاب وتنفيذ القانون على سنة من سلف أمر لا محيص عنه ولا ضير فيه، مع أن قليلا من التدبر يرينا أن «فكرة السجن» قابلة لكثير من المناقشة والمراجعة في العصر الحديث، وأن الأمم قد يأتي عليها يوم تستغني فيه عن السجون بتة وتعدل عنها إلى طريقة أصلح منها لتنفيذ القانون ، وربما كان هذا اليوم غير بعيد بالقياس إلى ما غبر من تاريخ السجون.
أما إذا اتخذنا السجن «مستشفى» لعلاج المرضى المطبوعين على الجريمة فمن الواجب إذن؛ كما يقول «كلارنس دارو» أن نجعل توقيت العلاج في السجون كتوقيت العلاج في المستشفيات.
فنحن لا نرسل المريض إلى المستشفى ليبقى فيه سنة وإن شفي في ثلاثة أشهر، أو ليخرج بعد أيام وإن كان شفاؤه يحتاج إلى أعوام، فلا بد إذن من وسيلة لعرفان الوقت الذي يحسن فيه الإفراج عن السجين بغير ارتباط سابق بموعد معروف لا يقبل التعجيل والإرجاء.
إن تجربتي للمجرمين «المطبوعين» الذين يصلون إلى السجون دلتني على أنهم قلما يكونون إلا واحدا من اثنين: فإما رجل معطل الحس بآلام الناس، وقد يكون معطل الحس بآلام نفسه وأقرب الناس إليه، وإما رجل مختل الإرادة لا يضبط نزواته في ساعة الهياج أو ساعة الإغراء، وكلا هذين لا تنفعه السجون الحاضرة على أحسن ما ارتقت إليه من تنظيم وتعليم، وإن حاجته إلى العلاج والعناية النفسية لأشد من حاجته إلى العقاب والإيذاء؛ لأن الإيذاء يوسع الهوة بينه وبين المجتمع الإنساني وهو محتاج إلى من يقرب المسافة بينه وبين أبناء جنسه، ويمحو من نفسه أنه عدو يحارب الأعداء ويحاربونه.
ومن اليوم إلى اليوم الذي تلغى فيه السجون، ونهتدي فيه إلى طريقة أصلح منها لحماية المجتمع وتنفيذ القانون، يخيل إلي أننا لا نملك وسيلة للإصلاح في هذا الصدد خيرا من استخدام الرقي العلمي، والتقدم الصناعي، في مطاردة الجريمة، وكشف أسرارها قبل وقوعها وبعد وقوعها إلى زمن طويل، وقد نصل إلى المستطاع من تحقيق هذا المقصد إذا رفعنا طبقة الشرطة وزودناهم كما نزود المحققين بالأساليب العلمية التي تعين على مطاردة أعداء المجتمع، وتعقبهم قبل الإجرام في دور النية والشروع، وبعد الإجرام في دور الهرب والتضليل.
والآن تكفي لمسة للرصاصة التي في داخل المسدس؛ لإثبات علامة يسهل رسمها وتحقيق شخص اللامس الذي استخدم الرصاصة بمضاهاة الرسم على أصابع المتهمين، ويقال: إن بعض العقاقير إذا عولج بها المتهم حجبت إرادته وأفضى بدخيلة سره، ومن هذه العقاقير الكلورال والسكوبولامين “Scopolamine and Chloral”
وهي التي يقال: إن مكتب التحقيق في روسيا استخدمها لإقناع المتهمين في قضايا «الخيانة العظمى» بالاعتراف وإفشاء أسرار المؤامرات المزعومة، وقرأت في مجلة الفورم
Forum
وصفا لأساليب صناعية ونفسية يهتدي بها المحقق إلى المتهمين بغير خطأ كثير، ومنها أداة كهربائية يقبض عليها المتهم ويواجهه المحقق بالأسئلة المريبة وغير المريبة، فتسجل الأداة مقدار اضطرابه وإفراز جلده للعرق ولو كان يسيرا، لأن هذا الإفراز يضعف مقاومته لتيار الكهرباء فيظهر الأثر على الفور في موضع التسجيل، قال هنري مورثون روبنسون كاتب المقال:
سألت الأب «سمرز» أن يجرب معي هذه الأداة فعمد إلى تجربة خلاصتها أن يطلعني على عشر ورقات من ورق اللعب وأن أنتقي واحدة منها في ذهني ولا أبوح بها لغيري، فأخذت ورقة القلبين الاثنين ثم عرضت علي الأوراق واحدة بعد واحدة والأب سمرز يسألني أهذه ورقتك؟ فلما عرضت علي ورقتي تعمدت الإنكار وقلت: لا، وأنا أراقب موضع التسجيل على الأداة لأرى الأثر الذي يظهر عليه، وقد حاولت جهدي أن أحتفظ بسكينتي وقلة اكتراثي ولكن الأداة الكهربائية سجلت اضطرابي اليسير جدا مرة بعد مرة حتى اضطررت إلى الاعتراف.
وأشار الكاتب إلى أسلوب «نفسي» يعتمد على تداعي الخواطر للكشف عن سرائر المتهمين، فإذا كانت التهمة سرقة مائة دولار في محفظة سوداء من درج مكتب، وضع المحقق خمسين أو ستين كلمة وتلاها واحدة بعد واحدة على المتهم، وطلب منه أن يعقب على كل كلمة بغير روية، فإذا تريث المسئول أكثر من ثانيتين ونصف ثانية وهي المدة الطبيعية للتعليق فهناك وجه للريبة، وإذا تليت عليه بين الكلمات كلمة مائة دولار، ثم كلمة درج، ثم كلمة مكتب، ثم كلمة محفظة، ثم كلمة سوداء وأطال الوقوف عند كل منها، فهو إذن يعلم شيئا يريد إخفاءه ويجفل من ظهوره.
هذه أساليب مفيدة لا يحسن إهمالها وترك البحث فيها، ولكن ينبغي مع التوفر على دراستها أن نذكر: «أولا» أن العقاقير الحاجبة للإرادة قد تمكن المحقق من إملاء الاعتراف على المتهم وإرهابه حتى يخاف الإفضاء بسبب الاعتراف، وأن نذكر «ثانيا» أن العقول تختلف في قوة العارضة وسرعة الجواب، فيتلجلج المسئول وهو بريء ويخشى أن يحسب المحقق هذا التلجلج دليلا على اتهامه، فيضطرب ويزداد اضطرابه كلما ألح عليه هذا الخاطر ولمح من المحقق ما يؤيد وهمه، وربما أعانت سرعة الخاطر إنسانا آخر على تحضير الجواب المناسب دون أن يظهر عليه من الاضطراب ما يلفت النظر أو يريب.
وأن نذكر «ثالثا» أن إتقان أساليب التحقيق لا بد أن يقابله من الطرف الآخر إتقان أساليب الإجرام، وتخصص المجرمين في دراسة أساليب الشرطة، وأساليب المحققين والاستعداد لها بما يحبطها ويتغلب عليها، فتنشأ عصابات المجرمين المعروفين «بالمحترفين» والأخصائيين، ولا يبقى من المتهمين من تفلح معهم تلك الأساليب غير الأفراد المعروفين «بالهواة»؛ لأنهم لا يجيدون الحرفة ولا يتعاونون فيما بينهم على إتقانها.
فلا ينبغي أن ننسى أن الأساليب العلمية لن تستأصل الجريمة من الدنيا، ولكنها على كل ذلك ملازمة ونافعة؛ لأنها وسيلة لا يصح إهمالها، ولا محيص لنا من استخدام كل وسيلة مستطاعة في هذه الحرب التي بقيت منذ أوائل عهد الناس بالاجتماع، وستبقى على ما نرى من أحوالنا المعهودة إلى زمن لا تعرف له نهاية.
بعض الإصلاح
في إنجلترا يقسمون المسجونين لآجال بعيدة إلى أقسام: يمتد القسم الأول إلى ثمانية عشر شهرا، والثاني إلى سنتين ونصف سنة، والثالث أو القسم المخصوص ينتقل إليه السجين بعد أربع سنوات، ومزية هذا القسم أن يعطى فيه السجين بنسا كل يوم ويزاد كل سنة خمسي بنس إلى أن تكتمل الأجرة اليومية بنسين ولا يزاد عليها بعد ذلك، ويباح لسجين القسم المخصوص أن يشتري التبغ والحلوى من أجرته اليومية، وأن يشتري صحيفة أسبوعية، وما شاء من الكتب المباحة، سواء من أجرته أو من هدايا أصحابه.
ومزية القسم الثاني الذي هو دون القسم المخصوص، بعض التحسين في الملابس والفراش، والتوسعة في الرياضة والألعاب، وشراء الصحف وما إليها.
ويتوقف الكثير من هذه المزايا على درجات السلوك وهي ثماني درجات لكل يوم، ومن استوفى المقدار المطلوب من هذه الدرجات أسقط عنه ربع المدة، واستحق التوصية عليه بعد خروجه لتدبير عمل ومورد معيشة.
وفي السجون مكتبات تبلغ عدة الكتب في بعضها اثني عشر ألف مجلد، وتتلى على السجناء أخبار العالم مرة كل أسبوع ملخصة من الصحف السيارة، ويباح لهم سماع الإذاعة وأغاني «الحاكي» ولعب الشطرنج وبعض الألعاب الرياضية، وتلقى عليهم المحاضرات في موضوعات شتى يختارها مدير السجن أو قسيسه، ويسمح لهم بالتمثيل وتنظيم الحفلات في أيام الأعياد، وطعامهم على العموم خير في مادته وفي تنويعه من الطعام المسموح به للسجناء المصريين، أما العقوبات فهي كما في مصر الجلد، والسجن المنفرد، وغذاء الخبز والماء.
ويؤخذ من رواية هانس فلادا الألماني ومن بعض الرسائل الأوروبية أن حالة السجون في أوروبا تقرب من هذه الحالة وتشبهها كل المشابهة أو بعض المشابهة بغير اختلاف في الجوهر، إلا الروسيا فإن للسجن فيها نظاما مفرطا في التوسعة والترفيه، نعتمد في وصفه على كتاب السير جيمس برفس ستوارت «رحلة طبيب في روسيا» الشيوعية إذ يقول من كلامه على مدينة موسكو:
كل حجرة على بابها مذيع، والفراش نظيف ومريح، والنوافذ المشبكة بقضبان الحديد واسعة، والأبواب تترك مفتوحة إلا ما بين الساعة الواحدة والساعة السادسة، بحيث يتيسر للسجناء أن يتزاوروا كما يحبون، وقد مررنا بحجرة مغلقة أغلقها السجين باختياره، فلما شعر بنا فتح الباب ودعانا إلى زيارته وأخبرنا أنه حكم عليه بالسجن عشر سنوات؛ لاختلاسه واحدا وسبعين ألف روبل من مصنع سكر، وأنه مفرج عنه ذلك اليوم، وهو مغتبط متهلل بعد أن قضى في السجن ست سنوات وعشرة أشهر وخمسين يوما، وعوفي من قضاء المدة الباقية لاجتهاده وحسن سلوكه، وقال لنا: إنه وجد وظيفة كتابية في مصلحة التجارة بسبعمائة روبل مشاهرة، وسيبدأ العمل فيها على إثر خروجه.
ويأكل السجناء في حجراتهم ريثما تبنى في السجن حجرة واسعة للمائدة العامة، ويطلب من كل سجين أن يعمل ثماني ساعات كل يوم تتخللها ساعة للطعام، وينقسم السجناء إلى قسمين فمن كان منهم أميا يجهل الكتابة وجب أن يتعلمها على يد زملاء له من الذين كانوا مشتغلين بالتدريس خارج السجون، أما المتعلمون فيلحقون ببعض مصانع السجن؛ ليمارسوا صناعات يدوية معظمها من قبيل الغزل والنسيج والخياطة والزركشة، ولهم على ذلك مرتب يتراوح بين ثلاثين وخمسة وثلاثين روبلا مشاهرة، تودع بأسمائهم في خزانة السجن وتسلم إليهم يوم الإفراج، ويسمح للسجين أن ينفق حصة من مرتبه في شراء الملابس والتبغ واللوازم ما عدا المشروبات الروحية فهي محظورة، وله بعد قضاء سنة يوم إجازة كل أسبوع يقضيه في بيتهن وتزاد الإجازة إلى أسبوعين خلال السنوات التالية، أما إذا كان السجين فلاحا فله أن يقضي ثلاثة أشهر في قريته أثناء الحصاد، وللأصدقاء والأقارب أن يزوروا كل سجين مرة كل عشرة أيام أثناء السنة الأولى، ومرة كل خمسة أيام فيما يلي ذلك من السنين؛ لأنهم يختارون من بين السجناء وتعقد لهم لجنة لمعاقبة زملائهم الذين يخالفون النظام، وإنما يقصر حمل السلاح على الحراس الخارجيين، بل قد تشرف اللجنة على تصرفات موظفي السجن، وتقترح التعديل في بعض النظم المرسومة.
وهناك جماعة للتمثيل، وأخرى للشطرنج، وقسم للتصوير، وقسم للموسيقى، وقسم لهندسة الآلات، ومكتبة فيها ستة آلاف مجلد تشتمل على التاريخ، والصناعة، والأدب، والروايات، ويشرف عليها كتبي رقيق في الثالثة والعشرين يقضي سنتين؛ لاقترافه جريمة شهوية يخجل من التحدث عنها إلا بأنها تقع تحت طائلة المادة 182 من قانون العقوبات، وقد حولوا كنيسة السجن إلى مسرح جميل، وأزالوا الحواجز التي كانت تفصل كل سجين عن زميله عند شهود العظة الدينية.
وكل يوم من أيام العمل يحسن السجين أداءه يعفيه من يوم ونصف من أيام العقوبة، وأيام العمل خمسة والسادس للراحة، ومن يقصر أو يتكاسل يعاقبه زملاؤه بالحرمان من الإجازات والزيارات، والمسليات، وبعض المزايا الأخرى.
وفي السجن حمامات معتادة وحمامات تركية ساخنة، وقد شاهدت حجرة الحلاق يغشاها عدة سجناء للتزيين والتجميل، والأجرة عشرون كوبكا لحلاقة الذقن، وثلاثون لقص الشعر، وخمسة وأربعون للتدليك، وثلاثون للتعطير، وستون لحلق الرأس كله، أما قص الشعر كما يقص عادة في السجون فهو بالمجان.
وفي السجن صيدلية ومستشفى يديره طبيب «غير سجين» وممرضة، ويشرف على مطبخ المستشفى شيخ ظريف ذو عوارض وشوارب طوال يتلهى بلفها على أذنيه! وعقوبته عشر سنوات لقتله امرأته غيرة عليها! وطبيب الأسنان يقيم في الحجرة التي كانت من قبل حجرة سوداء، وهي الآن مضاءة واسعة النوافذ، ومن هنا وهناك في الأبهاء العامة والحجرات عمدان الدعاية، وصحف مصورة يكتبها السجناء ... إلخ إلخ.
هذا نظام السجن في موسكو كما وصفه الطبيب الإنجليزي الكبير، ولم يقل لنا ما هي نتائجه في الحياة العامة، ولكنه روى على أثر هذا الوصف أن السجناء لا يحاولون الفرار ولا ينصرفون من السجن في إجازة أو زيارة إلا عادوا إليه، وهذا طبيعي لا غرابة فيه بعد ذلك الوصف، وفي وسعنا أن نتخيله بغير مشاهدة ولا إخبار.
نقول: إن هذا النظام مفرط في التوسعة والترفيه؛ لأننا نعتقد أن ضرره أعظم من نفعه، إذ المقصود من الرحمة بالسجين أن نجتنب الإيلام الذي لا ضرورة له ولا منفعة فيه، وليس المقصود أن نحول السجن إلى متعة يشتهيها بعض الطلقاء، ويؤثرونها على حياة البيت ومتاعب الحرية.
ونتيجة هذه التوسعة على السجناء في الروسيا غير واضحة في الإحصاءات الرسمية لا في الكتابات التي اطلعنا عليها، ولكنا نستطيع أن نقيسها على ما حدث في الهند، وهي بلاد تشبه الروسيا وتشبه مصر في طبقة المعيشة، إذا صرفنا النظر عن نظام الحكم، وعن الرخاء الذي تمتاز به البلاد المصرية، قال مستر رايت
Wright
الذي كان مفتشا للشرطة في أقاليم الهند الوسطى:
أذكر في بعض أيام الشدة والكساد التي ندر فيها الغيث وجاع الفلاحون أنه رئي من المصلحة أن يشار على القضاة بإصدار أحكام الجلد على صغار السراق، بدلا من إرسالهم إلى السجون ... فنجح العلاج وأتى بالنتيجة المطلوبة، ثم تبين أن جرائم السلب والسطو التي هي أعنف من السرقة الصغيرة تكفل لمقترفيها قضاء العقوبة في السجون، فأخذت هذه الجرائم في الزيادة السريعة، وأذكر في الأيام التي هي أروج من ذلك وأرغد أن أناسا تعمدوا السرقة ليستريحوا في أكناف السجون ...
وقد رأيت في سجن مصر من اعترف لي بمثل ذلك، ورأيت سجينا آخر يتخفى ولا يجيب نداء الحارس الذي يدعو المطلقين كل يوم؛ لأنه يرجو أن ينساه الحارس، ويظل في السجن أياما أخرى بغير عقوبة! •••
إن «نسبة» السجناء في مصر تلفت النظر بالقياس إلى كثير من الأمم في أوروبا وآسيا وأفريقيا، ويؤخذ في الإحصاء التقريبي المقارن الذي جمعته لجنة «عصبة الأمم» الموكلة بشئون الجزاء والمسائل الجنائية ونشرته قبل بضعة أشهر أن عدد السجناء في مصر يبلغ مائة وستة وأربعين من كل مائة ألف من جملة السكان، في حين أن هذه النسبة تنقص إلى نحو تسعة عشر في حكومة أيرلندة الحرة، وسبعة عشر في فلسطين، وخمسة وستين في زنجبار وستة وخمسين في اليابان، وسبعة وخمسين في أستراليا، وهي تزيد في بعض الأمم حتى تبلغ ثلاثمائة وثلاثة وثمانين في «سيراليون» ومائتين وخمسة وسبعين في إستونيا، ومائتين واثنين وثلاثين في حكومة اتحاد أفريقية الجنوبية، وقريبا من هذه النسبة في بلاد شتى من أمم الحضارة، ولكن النسبة في مصر تلفت النظر مع هذا؛ لأن الأمة المصرية لم تشتهر بحب الإجرام كما اشتهرت بعض الأمم التي لم تألف الحضارة والنظام، فهل لإيثار معيشة السجن على معيشة البيت دخل في زيادة عدد السجناء ولو بين طبقة الأراذل والخلعاء؟
يجوز هذا في نطاق محدود وحالات قليلة، ولكن ازدياد النسبة عندنا مرجعه فيما نظن إلى سبب آخر غير إيثار معيشة السجن على معيشة البيت، وهذا السبب هو تعاقب عصور الظلم والعسف والاستبداد حتى أصبح ضحية القانون وطريدة الحاكم موضع العطف لا موضع الازدراء، وأصبح دخول السجن لا يعيب صاحبه كما يعيبه في عهود الحرية والإنصاف، وسيزول هذا السبب رويدا رويدا ويعجل به الزوال كلما فهم الجهلاء والمنبوذون أن الخروج على الشريعة عداوة للمجتمع وليست عداوة للحاكم الظالم والحكومة الطاغية، وسبيل ذلك هو التعليم والتربية الخلقية وإصلاح المعيشة الاجتماعية لا تصعيب معيشة السجون وتعمد القسوة على السجناء.
ونحن كما أسلفنا في حل من كل تحسين ينقذ السجناء من الإيلام الذي لا ضرورة له، والتنغيص الذي لا نفع فيه، ولا يغلو إلى الحد الذي يغري بالإجرام والاستخفاف بالعقوبة.
ومن هذا التحسين فرض الكتابة والقراءة على الأميين، وتدريب الصناع على صناعاتهم حسب الأصول الحديثة، وتعليم من لا يحسنون الصناعات حرفة يبتغون بها الرزق والمعيشة الشريفة، وتخصيص درجات لمن يجتهدون في نقص تعلم القراءة والكتابة، أو في تعلم الصناعات وإتقانها تحسب لهم في نقص مدة العقوبة وتوفير وسائل الراحة، وتخول من يحصل عليها عند خروجه من السجن أن تضمنه الحكومة في عمل أو وظيفة ولو جازفت ببعض المال لتعويض الخسائر ووفاء الضمانات، فقد ثبت أن البلاء الذي يعانيه السجين بعد السجن أشد وأنكى من بلائه بالاعتقال وضياع الحرية؛ لأن الناس ينفرون منه ويسيئون الظن به ولا يأتمنونه على سعي ولا تجارة، فإذا أمنوا عاقبة السرقة والاختلاس أقدموا على استخدامه وانتفعوا بكفاءته ولم يحذروا غدرات طبعه، واستطاع كثير من الموصومين أن يستعيدوا حظهم من حياة العمل النافع والمكانة الاجتماعية.
ولا ضير من إباحة التدخين، والأطعمة المنوعة، والملابس الخارجية، على أن يكون ذلك كله مزية يكافأ بها المستقيم، ويحرمه المقصر والمسيء، بل هذه المزايا خليقة أن توفر للحراس والرقباء أسباب العقوبة الزاجرة المعقولة، وهي حرمان السجين بعض المزايا المشتهاة إذا أساء وخالف النظام، بدلا من معاقبته بالجلد، والمشقة، والإعنات.
فقد رأيت كثيرا من السجناء يباهون بالقدرة على احتمال الجلد والمشقة، ولم أر سجينا واحدا يستخف بأكل الخبز والقفار ولزوم العزلة والحبس عن الرياضة، فإذا كثرت المزايا كثرت الرغبة فيها والاجتهاد في تحصيلها، وكثرت وسائل العقوبة الأدبية التي تليق ببني الإنسان، وقلت الحاجة إلى العقوبات البهيمية التي ترهق البدن ولا تصلح النفس، بل تعودها الفخر بما هو أدعى إلى المهانة.
والسجناء في سجون سيبريا وجزيرة الشيطان وأمثالها من سجون أمريكا الشمالية والجنوبية ينامون على أسرة خشبية، ولا ينامون على الأرض كما ينام جميع السجناء المصريين ما عدا المرضى والمحكوم عليهم في المحاكم المختلطة، فلماذا يجبر السجين المصري على الرقاد فوق «البرش» والأسفلت وهو لا شك فراش لا تحتمله بنية الهزيل المهدد بالأمراض، ولا تؤمن غوائله في الشتاء؟ إن الرقاد على لوح من الخشب ليس من الترف في شيء، ولكنه أصح وآمن وأدنى إلى الكرامة والتهذيب، فما نحن بحاجة إلى تعليم الفقراء المصريين فضيلة النوم على التراب!
هذه التحسينات كلها ميسورة لمصلحة السجون المصرية، ولها أن تظل على يقين أنها تستطيع توفيرها جميعا، ثم يبقى السجن بعد ذلك سجنا يخيف من يخاف ويهذب من يتهذب، بل يبقى سجنا ومدرسة ومستشفى! وهي الأماكن الثلاثة التي تعودنا أن نهرب منها ونحن صغار ونحن كبار!
অজানা পৃষ্ঠা