كذلك للتربة دور هام أيضا في عملية بناء الدولة في نورديا، بل وبصورة يندر وجود مثيل لها في العالم، ولا شك أن قوة الدولة ترجع في جانب كبير منها إلى نجاح وثبات مزروعاتها، وهذا يرتبط بمدى خصوبة وإنتاجية التربة، وعلى هذا نجد أن مركز القوة في كل من دول نورديا الخمس قد يكون في إقليم يتميز بتربة جيدة، ويصبح هذا المركز قلب الدولة أو نواتها، ففي النرويج كانت الإرسابات الناجمة عن التعرية السهلة لصخور الكمبري والسيللوري في المجاري الدنيا للأنهار الشرقية + الطين البحري على شواطئ فيورد أوسلو قد جعلت منطقة أوسلو مهد أولى الممالك المحلية في النرويج، وفي السويد كانت رسوبات الطين البحري في السهول الوسطى هي مصدر القوة التي أنشئت عليها الأمتين السويدية والقوطية، وفي فنلندا كان وما زال مركز القوة مرتبطا بالسهول الطينية الساحلية على خليج فنلندا وبوثنيا، وبرغم أن كل جزيرة رئيسية أو شبه جزيرة في الدنمارك قد نمت فيها سلطات سياسية خاصة، فإن واحدة من هذه السلطات لم تتخذ لها من غرب جتلند الفقيرة التربة مركزا للحكم، وحتى أيسلندا التي لم تصل إلى مرحلة الدولة المنتجة للمحاصيل فإن مركز القوة السياسية فيها كان محصورا دائما في السهول الجنوبية، وهي أحسن مناطق الجزيرة إنتاجا.
ولقد لعب وجود المعدن دورا هاما في التطور السياسي لدولة واحدة من نورديا هي السويد، فمنذ العصور الوسطى كانت للسويد شهرة في تصدير خام النحاس والحديد، وقد ساعد دخل السويد من هذا النوع من التجارة، بالإضافة إلى إمكان صناعة السلاح محليا، على أن تصبح السويد دولة كبيرة قبل سنة 1700، ولكن نقصان الوقود المعدني في نورديا - الذي أشرنا إليه سابقا - كان بدون شك عاملا حاسما في هبوط النفوذ السياسي لنورديا ككل بالنسبة لأوروبا منذ بدء العصر الصناعي، ففقدان الخامات والوقود قد منع هذه الدول من الاندفاع للتصنيع مبكرا كغيرهم من الأوروبيين وليس بالسرعة ذاتها كغيرهم من دول العالم، ولكن تأخر دخول الصناعة إلى نورديا كان له آثار حسنة، ذلك أن هذا التأخر في التصنيع قد ساعد على حدوث هجرات نوردية كبيرة بالنسبة لعدد سكانها الأكثر من أية دولة أوروبية أخرى عبر الأطلنطي، فالكثير من أبناء الريف الذين لم يجدوا عملا بالمدن قد هاجروا باستمرار إلى أمريكا، وقد وصلت الهجرة إلى قمتها في الثمانيات من القرن الماضي، ولو أن هذه الهجرة وصفت بأنها ذات آثار خطيرة بالنسبة لسكان الدول النوردية؛ لأنها اشتملت على شباب وشابات الريف، إلا أنها كانت صمام أمن خلال فترة اقتصادية حرجة في نورديا - هي فترة عدم نشوء الصناعة، ولو لم «تتخلص» هذه الدول من ذاك الضغط السكاني على هذه الصورة في الماضي القريب لكان هناك شك كبير في أن يصل النورديون إلى ما وصلوا إليه الآن من ارتفاع عظيم في مستواهم الاقتصادي.
ولقد ارتبط نمو الصناعة في نورديا بتطوير فكرة استغلال الموارد المائية لإنتاج الطاقة، ولهذا فإن التوزع الصناعي يوضح نمط الانتشار والتناثر بدلا من التمركز المكاني في أحواض أو مناطق محدودة مثل ألمانيا وبريطانيا «حول حقول الفحم»، وبدلا من نشوء تجمعات صناعية عملاقة ومدن ضخمة مليونية فإن الصناعة غزت أقاليم سكندنافيا بطريقة أرقى وأحسن، فالفحم الأبيض لا ينتج المؤثرات الصحية السيئة التي تظهر في الأقاليم السوداء، والاتساع والانتشار يمنع تدهور المساكن لضيق الحيز ويمنع نشوء الأحياء العمالية الفقيرة، وكثير من صناعات سكندنافيا تمت في إطار صحي: أقاليم ريفية - بحيرات - غابات، وليست هناك مشاكل ازدحام ومواصلات كما هو الحال في مناطق الصناعة الألمانية أو البلجيكية أو الإنجليزية، أو حتى بتسبورج، ولم يترتب على ذلك نشوء الفوارق الاجتماعية والسكنية والصحية العميقة التي تتميز بها الأمم الصناعية الأوروبية.
الفصل الثاني
الأوضاع الحضارية
على الرغم من الاختلافات الطبيعية التي شهدناها في نورديا، فإن دول هذا الإقليم تتشابه حضاريا كل في داخلها وكل مع الأخرى تشابها منسجما، ففي هذه المنطقة تسكن مجموعتان أساسيتان هما جماعة الجرمان وجماعة الفينو أوجري، وفي مناطق التقاء هاتين المجموعتين كما في فنلندا ولابلاند، فإن الاندماج والانصهار يسير تدريجيا منذ قرون، وقد حدث أيضا في الماضي نوع من الاندماج على هوامش الإقليم النوردي، مثل اندماج الكلتيين مع النورديين في أيسلندا أو الانصهار بين النورديين والإسكيمو الذي يكون الآخر جزءا من سكان جرينلاند. (1) لغات نورديا
كل لغات نورديا مشتقة من الجرمانية، وفي خلال عهد الفايكنج كانت اللغة هي لغة النورسمن القديمة
Old Norse
التي تطورت إلى النورس الشرقية في السويد والدنمارك، والنورس الغربية في النرويج وفاروا وأيسلندا، وفي العصور الوسطى ازداد تفرق اللغات الثلاث في السويد والدنمارك والنرويج، ففي السويد كان لنفوذ دول الهانزا على التجارة والتعدين وإدارة المدن أثر واضح في دخول كثير من المفردات الألمانية في اللغة السويدية، وفي النرويج كان للسيطرة والنفوذ الدنماركي على الحياة الاقتصادية والسياسية أثر عكسي، فقد أدى إلى خلق هوة لغوية ما زالت قائمة حتى اليوم، ففي الأقاليم الجنوبية والشرقية من النرويج تطورت لغة نرويجية دنماركية، تختلف عن النورس القديمة التي ظلت اللغة السائدة في الوديان والفيوردات المنعزلة، وأصبحت اللغة الخليطة تعرف باسم اللغة القومية والثانية عرفت باسم لغة الريف، ولكن هذه التعريفات لم تكن صحيحة؛ لأن الأولى لم تكن قومية ولا الثانية كانت لغة أهل الريف فقط، خاصة بعد هجرة الريف إلى المدينة على نطاق واسع، واليوم فإن تعريف كل منهما قد تغير إلى «اللغة الأدبية أو لغة الكتابة» بدلا من «اللغة القومية» وإلى «النرويجية الجديدة» بدلا من «لغة الريف» اللغة الأدبية =
Bokmal
অজানা পৃষ্ঠা