كذلك كان المقدونيون حديثي عهد بالمنطقة التي ستصير قلب المملكة؛ فبعد أن ارتحلت الشعوب المكدونية القديمة شرق جبال بيندوس، استقرت في شريط اليابسة الذي يعانق الخليج الثيرمي قرب نهاية القرن الثامن، وكانت بقيادة شيخ عشيرة تسمى العشيرة الأرغية. وكما هو الحال مع الفرس، تعايش الوافدون الجدد مع الشعوب الموجودة من قبلهم، وأوجدوا نمط حياة يقوم على الزراعة. وسبق أن نوهنا أن ظروف حكم مماثلة على أيدي شيوخ العشائر كانت تسود بين الشعوب الأخرى في مقدونيا العليا وفيما وراءها من مناطق. وحتى زمن فيليب الثاني والإسكندر، كانت لسلطة هؤلاء الحكام، الذين كانوا ذات يوم مستقلين، هيبتها وعن جدارة. وتشبه السلالة الأرغية الحاكمة السلالة الفارسية في تكاثر فروعها؛ إذ كان لفيليب منافسون لا يقتصرون على إخوته الثلاثة غير الأشقاء، بل يضاف إليهم أيضا أمينتاس ابن أخيه الملك بيرديكاس الثالث، الذي أدى موته أثناء قتاله ضد الإليريين إلى شغور العرش، فضلا عن اثنين من المدعين. هزم هذان المدعيان واختفيا من السجلات، ولجأ الإخوة غير الأشقاء إلى خارج مقدونيا، لكن أمينتاس ترك على قيد الحياة وعاش حتى زمن الإسكندر، لكن هذا الملك رأى أن موت أمينتاس قد يطيل بقاءه.
على الرغم من التهديد المحتمل النابع من العائلات الأرستقراطية وفروع السلالة الملكية الأخرى، اضطرت السيطرة على المملكتين المتسعتين الحكام الأخمينيين والأرغيين إلى الاعتماد على مساعدة أبناء هذه الأسر المتنفذة والثرية كمسئولين معاونين في المناصب المدنية والعسكرية على السواء. ونرى أمارة على أهمية هذا الدعم في القسم (يسمى بالفارسية القديمة «بندكه») المتبادل بين شيخ العشيرة والملك، والذي يهدف إلى توطيد الثقة بين الطرفين والحفاظ عليها. كانت هناك آصرة مماثلة بين المقدونيين؛ لأن الملك الأرغي اضطر هو الآخر إلى الاعتماد على كبراء العائلات الأخرى المهمة ليتخذ منهم مسئوليه. كانت الرفقة سمة تلك العلاقة؛ إذ كان رجال الملك أصحابه (يسمون «هيتايروي»). وربما كانت للمهرجان الذي يسمى «هيتايريديا» ويقام على شرف زيوس جذور قديمة جدا. ويبدو أن رفاق السلاح اقتصروا في القرن الخامس على العائلات التي يسمح لها ثراؤها بالمساهمة بفرسان نخبويين في الجيوش الجماعية؛ وبمجيء عهد فيليب كان الصحابة المشاة مهمين للجيش ولتعزيز السلطة الملكية على حد سواء. واتخذ الملوك الفرس والمقدونيون أيضا معاونين مؤتمنين، ليسوا بفرس أو مقدونيين بالميلاد، في ممارسة لن توفر مزيدا من المسئولين فحسب، بل ستقلص أيضا الاعتماد الكامل على الأسر النبيلة المحلية.
طور الأرغيون والأخمينيون على السواء سبلا للحد من سلطة الطبقة الأرستقراطية، ومن ذلك توظيف أجانب في المناصب المهمة، وتعليم الشباب النبلاء في بلاط الملك، وإلزامية حضور المناسبات التي تقام في المراكز الملكية، وجواز المحاسبة على خيانة العهد أو آصرة الرفقة المتأصلة، وكلها قلصت قوة من هم دون الملك. لكن حتى مع تقليص هذه القوة كان احتمال إلحاق ضرر خطير بالسلالة الملكية ماثلا على الدوام، سواء أكان ثورة مرزبانية ضد السلطة المركزية أم التهديدات التي تحيق بحياة الملك ذاته. وعلى نحو يشبه علاقة شخصية صعبة، لم يكن بوسع الملك التعايش في وئام مع من يدانونه في المنزلة، ولا كان يستطيع الاستغناء عنهم في الوقت عينه.
من النتائج التي ترتبت على ذلك المأسسة المتنامية للسلطة المركزية؛ ففي حالة بلاد فارس، كان التجميع المتزايد للسلطات مضافا إليه الاتصال بالدول الأكثر تنظيما في الشرق الأدنى القديم، قد تمخض عن درجة من المركزية بحلول منتصف القرن السادس. تطلبت سرعة اتساع السيطرة الفارسية في البداية إلغاء التبعية للميديين؛ وما يروى من أن أم قورش كانت ابنة الملك الميدي ربما يفسر دور قورش نفسه في نيل استقلال الفرس. ومن ناحية أخرى، فإن نجاحه في ساحة القتال عزز على الأرجح مطالبة من جاء بعده من أبناء الأسرة الأخمينية بحكم البلاد، وهو ما يتفق معه تعريف التنظيم الفارسي المبكر بأنه «ملك حربي». وقعت على عاتق داريوس الأول مسئولية توسيع هيكل الحكم الموروث من قورش وقمبيز كما أسلفنا في هذا الفصل. وكانت آليات الحكم المتطورة، التي ورثت من الممالك التي كانت ذات يوم مستقلة في بلاد ما بين النهرين والأناضول ومصر، نماذج مفيدة لإدارة الإمبراطورية التي صارت آنذاك مترامية الأطراف. من الرموز الأخرى الدالة على طبيعة الحكم الفارسي المؤسسية المتزايدة اتخاذ خليفة أحشويرش لقب أرتحششتا عند توليه العرش، واستحداثه نقش صور الملك على العملة النقدية التي تضربها المملكة، وستستمر كلتا الممارستين حتى نهاية الأسرة الأخمينية.
كانت مظاهر سلطة السلالة الملكية عظيمة الأبهة تكمن في شعاراتها المادية، كالقصور والمدافن والطرق والتماثيل والنقوش، وكانت هذه المظاهر تصاحب الملوك حتى أثناء الحملات؛ إذ يعدد هيرودوت الكنوز التي غنمت من معسكر الفرس بعد هزيمتهم في بلاتايا فيقول: «خيام مليئة بالأثاثات المصنوعة من الذهب والفضة، وأرائك مطعمة بالمعدنين النفيسين ذاتهما، وصحاف وكئوس وأكواب كلها من الذهب، وعربات محملة بأجولة مليئة بقصاع من الذهب والفضة ... فضلا عن الملابس الباذخة الموشاة التي تضاءلت قيمتها بجانب تلك الوفرة من النفائس العظيمة» (الكتاب التاسع، 80). كانت أعداد العاملين في المراكز الملكية أيضا من الرموز المذهلة؛ إذ يبلغ مجموع قائمة خدم المطبخ والمآدب في موكب داريوس الثالث 795 خادما (أثينايوس، الكتاب الحادي عشر، 781إف-782). وقد عثر على هذا الإحصاء في دمشق التي ترك فيها الملك هؤلاء الخدم، ومعهم النساء والأطفال المسافرون مع الجيش، وعجل بالعودة إلى مركز مملكته بعد هزيمة الفرس في إيسوس.
يجسد وصف الحاشية والجهاز المصاحبين لملوك فارس تغيرا آخر عما كانت عليه الحال عند نشأة المملكة في القرن السادس؛ فمع اتساع الهيكل الإداري تراجعت اللياقة الشخصية والنجاح في القيادة العسكرية. كان قورش قد أنشأ مملكة مترامية الأطراف بفضل قيادته الشخصية، وجرد داريوس الأول الحملات بنفسه وإن فوض أيضا السلطة العسكرية إلى الآخرين في ممارسة ستزداد شيوعا بمرور الوقت، ويعزو هيرودوت إلى أحشويرش القرارات التي اتخذت أثناء الهجوم الفارسي على البر الرئيس اليوناني، وأما في معركة ترموبيلي فكان الشاه يصدر أوامره إلى فرقه العسكرية دون مشاركته هو شخصيا في القتال، وكان يراقب المعركة البحرية التي دارت قبالة سلاميس من موقع على الناحية الأخرى من المضيق قبالة الجزيرة؛ ومن بعد ذلك لم يل ملك فارسي القيادة في الميدان حتى عهد داريوس الثاني. ومع أن داريوس الثالث قاد المعركتين اللتين دارتا ضد المقدونيين في إيسوس وجاوجاميلا بنفسه، فكان قد فوض السلطة إلى المرازبة في المواجهة الأولى مع الإسكندر.
لم يحدث تطور جذري مماثل في مقدونيا، لكن الملك كان يكتسب طابعا جديدا مقارنة بأصله ك «ملك حربي». والحقيقة أن جمعية الجيش كانت كما نوهنا تنادي بالملك ملكا، وأما أجهزة الحكم الأخرى فكانت كأقل ما يكون. ويبدو أنه كان هناك مجلس مستشارين يدعوه الملك تبعا لرغبته أو حاجته. أثار الاتصال بالشعوب المجاورة تطورات سياسية داخلية؛ إذ من الممكن تماما كما أشرنا في الفصل الثاني أن يكون نجاح المشاة الثقيلة الإغريقية في مواجهة الفرس في العقود الأولى من القرن الخامس، قد دفع الإسكندر الأول إلى توسيع قوات المشاة المقدونية، وهي خطوة عززت قوته في مواجهة قوة الأسر النبيلة الأخرى، ووسعت أيضا حجم الدولة المقدونية، مما تمخض من ثم عن الحاجة إلى وسائل للسيطرة على الأرض الجديدة. وأوضح التعامل مع دول تتلهف على الخشب المقدوني قيمة إبرام المعاهدات النافعة. أقيمت الحصون على الحدود لمنع الأغراب الطامعين في الاستيلاء على الموارد لا شرائها، وشقت الطرق لربط الأطراف بالقلب، وركزت الوظائف في العاصمة، وخصوصا على يد أرخيلاوس في أواخر القرن الخامس. ومع أن العقود الأربعة الأولى من القرن الرابع قوضت تطورات القرن الخامس، استعاد فيليب التدابير السابقة وأضاف إليها المزيد من عنده. كانت بيلا مقر إقامة ملكيا فوق تل مشرف على دواوين الحكم المحيطة بساحة عامة كبيرة، مع وجود أماكن مخصصة للأرشيف والرقابة على سك العملة وتصميم الأسلحة، وميادين لتدريب غلمان الملك، ومساكن خاصة يتضح من أطلالها أنها ليست بيوت عمال الطبقة الدنيا ومعابد. وقد اتخذ فيليب، سيرا على خطى أسلافه، صورته على العملات المعدنية المقدونية ولسان حاله يقول: «أنا الدولة!» توجد نقطة اختلاف مهمة بين الملكين، وهي أنه على الرغم من تنظيم الإدارة المتزايد، واصل الملوك المقدونيون قيادة قواتهم في المعارك بأنفسهم.
عززت استمرارية السلالة الملكية بالتحالفات الزوجية. كانت زيجات الملك وأبنائه غالبا من داخل الأسرة المالكة حتى حكم داريوس الثاني؛ إذ اتخذ داريوس الأول ست زوجات، اثنتان منهما من بنات قورش، وواحدة ابنة بارديا بن قورش، واتخذ داريوس الأول أيضا زوجتين من عائلتين أرستقراطيتين كبيرتين هما ابنتا غوبارو وأوتانيس، وهذه الأخيرة كانت من قبل زوجة لكل من قمبيز وبارديا.
وتشير الشواهد إلى اتخاذ أمينتاس الثالث أبي فيليب زوجتين، إحداهما يوريديكا أم فيليب وهي من أصل إليري ولنكستي، والأخرى جايجيا وهي من بنات السلالة الأرغية. يكشف هذان الاختياران عن دافعي الحفاظ على السلالة المالكة وكذلك إقامة تحالفات مع ممالك أخرى كانت مستقلة؛ ومن ثم منبع خطر محتمل. وتبرهن زيجات فيليب الثاني السبع على الدوافع ذاتها، وإن كان اتساع المملكة تمخض عن ست زيجات بنساء غير أرغيات وزيجة واحدة فقط بأرغية، والمثير للاهتمام أنها كانت زيجته الأخيرة. كانت زوجاته الأخريات من تيساليا (اثنتان من بنات عائلتين مهمتين) وإليريا وإيليميا وإبيروس وتراقيا. لم يتخذ الإسكندر الثالث سوى ثلاث زوجات، وهن رخسانة ابنة أحد أعيان باخترا، واثنتين من بنات داريوس الثالث.
بينما عززت روابط الزواج السيطرة على السلطة في سلالة واحدة؛ مما مكن من إقامة أواصر أوسع مع العائلات المهمة الأخرى داخل حدود المملكة وخارجها على السواء؛ أضفى دور الملك الديني جلالا وهيبة على علاقاته مع العناصر غير الأرستقراطية الأكثر عددا في الإمبراطورية؛ فأعلن داريوس الأول اعترافه الصريح بفضل أهورا مزدا عليه في النقش البيستوني المسجل على وجه أحد الجبال على الطريق المؤدي من بابل إلى إكباتان، ويقف فيه داريوس أمام أسرى في الأغلال، ويقف وراءه شخصان يمسك أحدهما بقوس والآخر برمح، ومن فوق الأسرى شخص متصل بقرص الشمس المجنح يمسك في يده اليسرى بطوق. نرى في الصورة داريوس يمد يمناه نحو الشخص والطوق؛ أي إن النقش يؤكد أن داريوس ملك نال الملك بفضل أهورا مزدا - قوة الحقيقة في الديانة الزرادشتية - الذي يحمي الملك الفارسي ويمكنه، فيحكم بدوره مملكته ويضمن أن تسود فيها الحقيقة. كانت المهرجانات الإمبراطورية وإقامة المعابد امتيازات ملكية تمتد لتشمل الإذن بإقامة معابد للديانات الأخرى غير الزرادشتية وتمويلها.
অজানা পৃষ্ঠা