البقاء بالقوة
كشفت أوصاف منطقة مقدونيا ومملكة مقدون في الفصول السابقة عن مواطن ضعف وعن مواطن قوة كامنة في موقعها ومواردها وعناصر ثقافتها. ومثلما يتبين من الخريطة تتموضع هذه المنطقة بين شبه الجزيرة اليونانية (جزء من حوض البحر المتوسط الأكبر) وقارة أوروبا. لم يكن المقدونيون سوى قوم من أقوام كثيرين سعوا إلى إنشاء دولة آمنة والحفاظ عليها في جزء من هذه المنطقة الكبيرة، ولم تكن مهمتهم سهلة كما رأينا.
كانت ملامح مقدونيا الطبيعية تقدم بعض العون، لكنها لم تقدم الحماية الكاملة؛ إذ كانت الجبال والأنهار الدائمة والخليج الثيرمي ببحر إيجة عناصر ردع لكل من تسول له نفسه التسلل إليها، لكن الممرات الجبلية ومجاري الأنهار والسفن كانت أبوابا مفضية إلى داخل المملكة، داوم الآخرون على استكشافها والاستفادة منها. وفوق ذلك كانت في موارد مقدونيا الوفيرة حوافز قوية للآخرين لكي يستغلوا هذه الطرق لمصلحتهم، ورأينا أن الغارات العدائية كانت متكررة كالمبادلات التجارية السلمية إن لم تكن أكثر. (1) جيران برابرة
كان الجيران البرابرة المحيطون بلب المملكة في مرحلتها المبكرة يتمتعون بميزة كبيرة على المقدونيين من حيث أعدادهم وقوتهم العسكرية المتفجرة التي كانت تثور دوما. وحتى الشواهد الضئيلة المتاحة تدل على وجود كثيرين جدا من هؤلاء الجيران المزعجين في مواجهة طريقة التفكير المقدونية، والحقيقة أن كثيرين منهم كانوا ذات يوم يشغلون أرضا في أجزاء من المنطقة التي ستصبح في النهاية قلب المملكة المقدونية. بدأت القبائل التراقية، التي استقرت في شرق بحر إيجة منذ العصر البرونزي، تتمدد غربا في العصر الحديدي متجاوزة نهر سترايمون إلى وادي نهر أكسيوس. وأقرب من التراقيين إلى قلب مقدونيا كان يوجد قوم (وهم البييريون) كهؤلاء ربما شغلوا منطقة بييريا بين نهري هالياكمون وبنيوس. كان البيونيون أيضا يشغلون الأرض الواقعة بمحاذاة أدنى وادي أكسيوس، إلى أن دفعهم زحف التراقيين غربا إلى الانتقال شمالا في منطقة البلقان. بدأ فيليب يتعامل مع التهديد التراقي في سنوات حكمه الأولى، وبعد مرور 16 سنة كانت قوات فيليب ما زالت تجرد حملات في تراقيا ، حتى آذنت سنة 342 بالمواجهة النهائية التي هزم فيها جيشا ملكين تراقيين وأطيحا من السلطة واستبدل بهما نائب لفيليب. لكن على الرغم من الخضوع اسميا للسيطرة المقدونية، تطلب الأمر تجريد مزيد من الحملات في منطقة شرق تراقيا.
كانت الشعوب التي دخلت إليريا واستقرت فيها بين القرنين العاشر والثامن تشكل تهديدا مستمرا حيث تمددت جنوبا وشرقا، وأخرج أمينتاس الثالث من مملكته بفعل واحدة من غزواتهم، وقتل ابنه بيرديكاس الثالث مع 4 آلاف من جنوده في معركة مع الغزاة الإليريين، وكانت من أولى مسئوليات خليفته فيليب الثاني حشد قوة قوامها 10 آلاف جندي مشاة و600 فارس لمواجهة قوات الملك الإليري بارديليس، وكان من شواغل الإسكندر العاجلة لدى توليه العرش تجريد جيشه لمواجهة الإليريين وغيرهم من الشعوب الشمالية. لم تكن غاراتهم وقائع مخيفة فحسب، بل كانت تحركاتهم تدفع شعوبا أخرى في اتجاهات جديدة.
من المجانب للصواب طبعا أن نظن أن هذه الشعوب كانت جماعات متلاحمة، بل كانت قبائل كثيرة، تراقية وإليرية وبيونية، وعلى رأس كل منها ملك. وسبق أن نوهنا إلى إلحاق المقدونيين هزيمة بجيشين تراقيين بقيادة ملكين. كان هناك خطر آخر وهو احتمال توحيد أعداء مقدون العديدين صفوفهم ضدها؛ إذ جمع تحالف قام سنة 356 بين جرابوس وشعبه الإليري، وليبيوس وشعبه البيوني، وكتريبوريس وشعبه التراقي، ودولة-مدينة أثينا (تود، الطبعة الثانية، 157 = النقوش الإغريقية، المجلد الثاني، الجزء الثاني، 127).
كان لزاما أن يكون الملك المقدوني مهيأ لطبيعة التهديدات النابعة من أعداء مثل «كيرسوبليبتيس، ملك التراقيين، الذي استمر في إخضاع المدن المحاذية للهلسبونت على حدود تراقيا، وفي الانتقام من تلك الأرض» (ديودورس، الكتاب السادس عشر، 71، 1). وهكذا يجب أن يكون الملك الأرغي مستعدا للتصرف مثلما فعل فيليب بهجومه «على إليريا بقوة عظيمة، وبعد أن دمر الأرض واستولى على بلدات كثيرة، عاد إلى مقدونيا ومعه الكثير من الغنائم» (الكتاب السادس عشر، 69، 7). لكن كان يجب أيضا على أي ملك مقدوني أن يكون مستعدا للاشتباك مع العدو في معركة ضارية استعد لها طرفاها، مثلما فعل بيرديكاس بمحاولته هزيمة الإليريين سنة 359. (2) تهديد الإمبراطورية
كان هناك نوع آخر من مواطن الضعف في المستوى الأعلى من التنظيم السياسي والاقتصادي لبعض جيران مقدونيا. كان قورش ملك الفرس قد فتح بحلول سنة 530 أقاليم شاسعة تمتد من وسط آسيا إلى البحر المتوسط، وكان الملك داريوس الأول قد نظم خلال حكمه الممتد من 522 إلى 486 هيكلا إداريا يقوم فيه على رأس المناطق المحلية مسئولون تعينهم وتسائلهم سلطة هرمية مركزية، على رأسها الشاه حاكم كل المملكة. كانت إنجازات إمبراطورية فارس، من حيث ثروتها وعدد رعاياها وتنسيق أنشطتها الاقتصادية والعسكرية، تتضاءل بجوارها الدول مثار الإعجاب السابقة لا في الشرق الأدنى القديم فحسب، بل أيضا في عموم العالم أجمع.
كان الفتوحات سريعة على زمن قورش الكبير، الذي وسع في عهده الذي دام 29 سنة حدوده من نهر السند شرقا، مرورا بأفغانستان الحديثة وإيران والعراق، إلى ساحل البحر المتوسط، وإلى الأناضول شمالا. وأضاف ابنه وخليفته قمبيز مصر إلى إمبراطوريته، وبدأ ثالث ملك يحمل لقب شاه، وهو داريوس الأول، زحفه إلى تراقيا عبر الهلسبونت؛ وهنا أحبط السكيثيون محاولات ضم أراض أخرى إلى الإمبراطورية. لكن هيرودوت يروي أن داريوس سعى إلى إقامة روابط مع ملك مقدون بإرسال رسل، ثم بعد ذلك من خلال تحالف زواج بين قائد عسكري فارسي وامرأة من العائلة الأرغية المالكة (الكتاب الخامس، 17-20). تباطأ النشاط الفارسي في شمال بحر إيجة نتيجة الهجوم على اليونان في 480-479، لكنه انبعث من جديد في ظروف القرن الرابع.
كانت للمواجهة المسلحة مع الفرس طبيعة مختلفة عن المواجهات مع الجيران القبليين؛ إذ كان الجيش الفارسي جيشا احترافيا في المقام الأول ويضم أبناء النخبة الفارسية المدربين للخدمة كقادة وضباط. وتمخضت مساحة الإمبراطورية الفارسية وتنوع شعوبها عن أعداد كبيرة من الجنود، فالتقدير المعقول للقوات الفارسية التي زحفت إلى اليونان سنة 480 هو 250 ألف رجل، ولم يكن تعداد سكان مقدون بأكملهم داخل المنطقة المستحوذ عليها فعليا إلا 228 ألف نسمة حتى بحلول نهاية القرن الخامس. كانت المواهب العسكرية التي ساهمت بها كل فرقة من الفرق العسكرية الفارسية متنوعة؛ إذ كان الفرس أنفسهم ذوي باع في الفروسية، وكان غيرهم مدربين كرماة مهرة، وكانت بعض الوحدات تقاتل بفئوس حربية، وكانت أخرى تحمل رماحا ثقيلة ورماحا خفيفة وخناجر. كان الملك الفارسي يملك أسطولا كبيرا وفعالا بالإضافة إلى جيشه، ولو استخدمنا مجددا الأرقام المستمدة من الحروب الفارسية في 480-479، لقلنا إن القوات البحرية ربما تألفت من نحو 1200 سفينة، وأما مقدون فلم تأخذ بناء السفن مأخذ الجد إلا على عهد فيليب الثاني.
অজানা পৃষ্ঠা