نتيجة دور أوليمبياس الأمومي، لنا أن نتأكد من أن الإسكندر كان على بصيرة بنسبه البطولي، وببعض الصعوبات المتعلقة بدور الزواج، وبأن العالم الأرغي مفعم بالتنافس، وبأن الأصدقاء محل ترحيب لكنهم ليسوا موضع ثقة، وبأن وراثة الملك تتطلب يقظة عقلية مقرونة بمقدرة بدنية تتوجهما تشكيلة عظيمة من المهارات. كان يدين بفضل عظيم لأوليمبياس، وربما كان يخشاها بقدر ما كان يحتفي بحرصها على حياته.
الفصل الرابع
مجاورة اليونان
لم تكن اليونان غير واحد من جيران كثر مزعجين للمقدونيين، لكن الإغريق كان يمثلون مشكلات من نوع خاص، أبرزها طبيعتهم المتعددة؛ إذ اتخذت المجتمعات المحلية الصغيرة منذ العصر العتيق طابع الدول القومية المستقلة ذاتيا. وفي كل واحد من هذه المجتمعات المحلية، التي تسمى «بوليس» أو الدولة-المدينة، كانت الشواغل المشتركة تتغلب على المصالح الخاصة. كانت الآصرة بين الدولة-المدينة وأفرادها قوية؛ إذ كانت حاجات هؤلاء الأفراد ومصالحهم تنبع من العلاقة التي تجمعهم برقعة دولتهم الضيقة وتجمع بعضهم ببعض.
كان هدفهم الدافع جعل الدولة-المدينة مكتفية ذاتيا، وهي مهمة صعبة في اليونان بطبيعتها الجبلية؛ ومن ثم كان اجتياح أرض الدول-المدن المجاورة سبيلا طبيعيا إلى ذلك. وقد وضعت مؤخرا قائمة تعدد 1035 دولة-مدينة تنافست فيما بينها على مزيد من الأرض والنفوذ. ورأينا أن مقدونيا كانت تملك أرضا أحسن وموارد أوفر مما كانت تجود به اليونان، ومن ثم كان متوقعا من الدول الإغريقية، وخصوصا الشمالية، أن تقوم بمغامرات عبر نهر هالياكمون لتوسيع قاعدتها.
لكن الإغريق كانوا يضغطون على مقدونيا من اتجاهات أخرى أيضا؛ فمع ازدياد عدد السكان في القرنين التاسع والثامن، ضاقت الأرض المتاحة في غالبية جنوب اليونان بسكانها؛ فأدى البحث عن سبل لكسب العيش في أماكن أخرى إلى إقامة مستعمرات في بقاع نائية. وفي نهاية المطاف تناثرت الدول-المدن اليونانية على امتداد ساحل آسيا الصغرى الغربي وساحل البحر المتوسط، من شرقي إسبانيا إلى ساحل البحر الأسود الشرقي. تركز معظم أنشطة الاستعمار السابقة بالقرب من الديار، وذلك في شمال بحر إيجة، وخصوصا في شبه جزيرة خالكيذيكي، وحتى في محيط الخليج الثيرمي؛ فوجد المقدونيون دولا إغريقية مستقلة لا على بوابتهم الأمامية فحسب بل في عقر دارهم.
كان الإغريق يمثلون مشكلة من ناحية أخرى أيضا؛ إذ كانت عناصر الثقافة الإغريقية بثرائها المتزايد جذابة للآخرين. تبنى المقدونيون العناصر الهيلينية قبل عهدي فيليب والإسكندر، وأشرنا إلى أن معرفة الإسكندر الأول المباشرة بنجاح تشكيل الفلنكس الإغريقي في القرن الخامس ربما هي التي دفعته إلى إنشاء قوة «بيزهيتايروي» (بمعنى الصحابة المشاة). وكان أرخيلاوس يدعو أعيان الإغريق إلى عاصمته، مع مداومته على تضمين عناصر هيلينية في مملكته، بما في ذلك الألعاب الأوليمبية والمسابقات الدرامية على شرف زيوس وربات الفنون (آريانوس، الكتاب الأول، 11، 1). ولو كانت هذه التأثيرات عديدة وكبيرة، لكان بوسعها أن تطغى على ملامح طريقة الحياة المقدونية التقليدية.
أثرنا في الفصل الثاني القضايا المحيطة بمسألة الإثنية واللغة المقدونية، والاستنتاج العام نوعا ما الذي أوردناه هناك مفاده أن المقدونيين الذين وضعوا الأساس لمملكة فيليب والإسكندر كانت تربطهم صلة دم بجيرانهم الهنود-الأوروبيين في كل من تراقيا واليونان، فكانوا يتحدثون لغة قريبة أو ربما إحدى اللهجات الإغريقية كما ذهب بعض الباحثين. ومن ناحية أخرى فمن الواضح أن المؤسسات السياسية والاجتماعية كانت شديدة الاختلاف، وخصوصا في تاريخ المكدونيين الأبكر ، وأن ثقافة مقدونيا المادية تأثرت بعناصر أكثر بكثير من العناصر الإغريقية.
عندما بدأت الدولة الصغيرة، التي ستصبح المملكة الواسعة التي يحكمها فيليب الثاني والإسكندر الثالث، تتبلور في شريط ضيق من الأرض في بييريا وهيماثيا، يمتد لنحو ستين ميلا (نحو مائة كيلومتر) من الشمال إلى الجنوب في أوائل القرن السابع عشر؛ كان لزاما على المكدونيين تقبل المستوطنات الإغريقية وخصوصا القريبة منها إلى مركز المملكة، ونعني ميثوني وبدنا الواقعتين على الجانب الغربي للخليج الثيرمي، واللتين أسسهما إغريق من وابية قبل نهاية القرن الثامن. لم تكن هاتان المستوطنتان إلا اثنين من شواهد كثيرة على الوضع في اليونان في القرنين الثامن والسابع، الذي أجبر دولا كثيرة على إقامة «وطن بعيد» (بمعنى «أبويكيا» باللغة الإغريقية). تزامنت الزيادة السكانية مع إحياء السفر بحرا، الذي سبق أن اضمحل في مواجهة تفشي الدمار في أواخر العصر البرونزي. ربما كان المغامرون والتجار ومن يحتاجون إلى أرض لمحض الأغراض الزراعية يرجون النجاح في الإبحار إلى ما وراء مياه جنوبي بحر إيجة.
الخريطة 2: أهم المناطق والمواقع في المحيط الإغريقي.
অজানা পৃষ্ঠা