لم تكن مسألة الإثنية مسألة جدلية في الأزمنة القديمة فحسب، بل ظلت هكذا إلى اليوم، وليس بين الباحثين فحسب، بل في أعين بعض اليونانيين المحدثين. ترجع معظم الصعوبة في معرفة طبيعة العلاقة إلى غياب أنواع معينة ضرورية من الشواهد؛ فعلى سبيل المثال: اللغة مفتاح أساسي من مفاتيح الهوية (معرفة هل كانت لغة شعب ما - سامية أو هندية-أوروبية أو آسيوية - مؤشرا مهما على الإثنية)، لكن هذه الشواهد تكاد تنعدم فيما يخص التاريخ المقدوني المبكر. وعندما تبدأ النقوش في الظهور في السجل الأثري، نجد روابط تجمع سكان مقدونيا باليونان، وتتجلى في كتابة النقوش بالألفبائية الإغريقية. غير أن استخدام الحروف الإغريقية ربما لم يكن أكثر من طريقة ملائمة لهذه النقوش المعينة، أو ربما استخدمت هذه الحروف، كما في حالة النقوش الألفبائية الإغريقية في تراقيا، لأنه لم يكن هناك بعد نظام كتابة أصلي. وهناك احتمال آخر، وهو أن اللغة الإغريقية كانت آخذة في التحول إلى نظام الكتابة السائد أو المشترك في مناطق تتجاوز حدود المناطق الإغريقية الأولية قبل مجيء الفترة الهلنستية. بل إن المعلومات عن لغة المقدونيين المنطوقة أشح؛ حيث وجد «لوح لعنة» وحيد في بيلا ربما يكون مكتوبا بلهجة «مقدونية» من لهجات اللغة الإغريقية. الاستنتاج الوحيد اليقيني هو أن المقدونية المنطوقة تختلف أحيانا عن الإغريقية.
من ناحية أخرى، تدعم أسماء الأعلام المقدونية التي توجد في القصائد الهوميرية الرابط بين المقدونية والإغريقية، ومن بينها اسم السلالة الملكية «الأرغية». وتشير مصادر متأخرة إلى أن فيليب والإسكندر، بل ملوك أرغيون أبكر منهما أيضا، كانوا يتحدثون بسهولة مع كل من المقدونيين والإغريق. بالطبع يمكن تعلم لغات أخرى، لكن كما سنرى، تشي تأريخات السلالة الأرغية الواردة في المصادر الإغريقية بأصلها الإغريقي.
يروي هيرودوت حكاية ثلاثة إخوة مضوا في طريقهم - بعد طردهم من أرجوس في بيلوبونيز - إلى مقدونيا حيث صار أصغرهم، وهو بيرديكاس الأول، في النهاية وفيما يشبه المعجزة، زعيما لجماعة من المقدونيين تعرف باسم الأرغيين، وهم السلالة المالكة (الكتاب الثامن، 136-139). ربما تكون هناك حقيقة في نمط التنقل (بل في الواقع التنقلات) من اليونان إلى مقدونيا؛ إذ في زمن متأخر، وتحديدا في القرن الخامس، اتخذ مواطنون من مدينة مسينيا الإغريقية، التي كانت ذات يوم متألقة، من مقدونيا موطنا جديدا لهم عندما دمرت أرضهم على يد مدينة أرجوس؛ وعندما استولى الأثينيون على مدينة هيستيايا في جزيرة وابية وطردوا سكانها، أعيد توطين اللاجئين في مقدونيا أثناء حكم بيرديكاس الثاني. وعلى نحو ما أسلفنا، فإن موقع مقدونيا ملائم تماما للانتقال إلى المنطقة، وكان المقدونيون يعتبرون أنفسهم مهاجرين. الشيء غير المؤكد هو المكان الذي جاء منه الأرغيون، وقبول حقيقة الارتحال إلى مقدونيا الدنيا لا يقدم تفسيرا نهائيا للهوية المقدونية.
الخريطة 1: أقاليم مقدونيا ومعالمها الطبيعية ومواقعها.
المنتجات المادية خيط آخر يقودنا إلى هوية أي شعب بعينه؛ إذ يمكن أن تكشف الأساليب المعينة في صناعة الفخار والعمارة والنحت والقطع النقدية والمشغولات المعنية الأخرى عن تراث ثقافي مشترك. مما يؤسف له أن إقليمية مقدونيا تمخضت عن مزيج من الأساليب التي تأثرت غالبا بمختلف الجيران، كالإغريق في الجنوب، والتراقيين في الشرق، ومختلف الشعوب البلقانية في الشمال والغرب. ولم يتمخض التحليل الأنثروبولوجي للبقايا البشرية عن إجابة قاطعة عن هذا السؤال بعد، وإن كان تحليل الحمض النووي يبشر بتقديم أدلة أتم في المستقبل.
ريثما تتوافر أدلة جديدة، يبدو من الأوفق أن نستخدم المصطلح الذي استخدمه هيرودوت لتصنيف سكان مملكة مقدون، وهو المكدونيون (الكتاب الأول، 56، 3)، وأن نصنفهم أيضا كهنود -أوروبيين. ومن الجائز تماما أن المهاجرين الذين وفدوا على مقدونيا الدنيا كانت تجمعهم صلة قرابة. وقاد الانتقال إلى المناطق الشرقية بعض المكدونيين، بقيادة عشيرة تسمى الأرغية، إلى السهل الساحلي على الشاطئ الغربي للخليج الثيرمي، ويوما بعد يوم بسط الوافدون الجدد سيطرتهم على المنطقة الممتدة شمال جبل الأوليمب إلى رأس الخليج؛ أما الجماعات الأخرى فظلت تسكن العديد من المناطق الأخرى الأبعد من ذلك شمالا وغربا، التي كانت منفصلة بعضها عن بعض كما رأينا بفعل المعالم الطبيعية التي تميز جنوب إقليم البلقان. لكن استنباط شواهد من طبيعة لغات هذه الجماعات يظل أمرا صعبا.
تزداد مسألة اللغة والإثنية تعقيدا بما أن الشواهد على الإثنية المقدونية تأتي في المقام الأول من مصادر إغريقية، ولم تكن هناك رؤية إغريقية موحدة. الأكثر من ذلك أن تصور الإثنية المقدونية تغير على مر الزمان؛ إذ تغير الأساس السابق لتعريف الهوية الإغريقية على أساس الإثنية والانتساب إلى جد مشترك مفسحا المجال أمام المعايير الثقافية. علاوة على ذلك، كان حكم أي كاتب على انتماء المقدونيين إلى أصل إغريقي يعتمد على المعايير التي ينتقيها هذا الكاتب بعينه. وفي ضوء الشواهد الإشكالية في كل فئة من فئات الأدلة، لا نستغرب أن للنقاش حول «المسألة المقدونية» تاريخا طويلا ولم يوجد له حل.
وإذ نضع هذا التضارب في اعتبارنا، من المهم أن نقدر كلا من القربى والاختلافات مع الإغريق في فهم الإسكندر وعالمه. لقد تغلغلت التأثيرات الثقافية الإغريقية بدرجة متزايدة في التقاليد المقدونية حتى من قبل أن يضم فيليب اليونان إلى ملكه؛ ومن ناحية أخرى، فإن «آخرية» مقدونيا في نظر الإيجي الإغريقي تلعب دورا كبيرا في مسيرتي فيليب وابنه، وسوف نستجلي مسألة الروابط المقدونية باليونان على نحو أكثر استفاضة في الفصل الرابع. (2) إنشاء مملكة من مجموعة من القبائل
يوحي استخدام كلمة «مقدونيا» الأحادية بوجود كيان موحد، وهذا استنتاج غير دقيق فيما يخص جزءا كبيرا من تاريخ هذه المنطقة القديم، إن لم يكن معظمه؛ فلم تتسع السيطرة اتساعا كبيرا فيما وراء السهل الأوسط المطل على الخليج الثيرمي ببحر إيجة إلا في عهد فيليب الثاني، وسرعان ما تقوضت تلك الوحدة في إطار التنافس على السيطرة بعد موت الإسكندر. وعلى الرغم من نجاح الملوك السابقين على فيليب في إضافة أراض إلى الشمال من المستوطنة الأولى الصغيرة التي استوطنها المكدونيون في بيريا، فقد شهد استحواذهم على السلطة تحديا مستمرا وشديدا من كل الاتجاهات.
ويخص أقدم تأريخ موثوق فيه وصل إلى أيدينا حكم الملك أمينتاس الأول (540-498 قبل الميلاد)، الذي أقر له بالملك حتى الملوك الفرس فأقاموا علاقات دبلوماسية معه. لكن العلاقة لم تكن علاقة بين ندين متساويين، والواقع أنه يجوز تماما وصف مملكة مقدون بأنها كانت خاضعة للسلطة الفارسية أثناء تلك الفترة، حتى ولو لم تخضع رسميا تحت سيطرتها كولاية فارسية (مرزبة) أو إقليم. بعد ذلك بسنوات استغل أحشويرش مقدونيا كنقطة انطلاق لانقضاضته على الدول الإغريقية في 480-479. وعلى نحو ينطوي على شيء من التناقض، ربما يكون إعلاء مكانة التحالف الفارسي هو الذي سمح لأمينتاس بأن يضوي إيليميا وأوريستيس ولينكيستيس وبيلاجونيا تحت لواء تحالف اسمي مع مقدونيا. وأما ابنه وخليفته الإسكندر الأول، الذي يصفه هيرودوت بأنه كان على درجة عالية من الذكاء والقوة، فاستطاع ضم إقليم إضافي جهة الغرب تلقاء جبال بيندوس ويمتد شمالا بمحاذاة نهر أكسيوس، عند رأس الخليج الثيرمي، أثناء حكمه الممتد من 498 إلى 454. يصف ثوكيديدس، في معرض وصفه الحرب البيلوبونيزية في الثلث الأخير من القرن الخامس، اللنكستيين والإيليميين وغيرهما من الإثنيات في عمق الإقليم كرعايا للمقدونيين وحلفاء لهم (الكتاب الثاني، 99، 2). تعزى أيضا إلى الإسكندر الأول بعض الابتكارات المهمة في تكتيكات المشاة وعلاقة جنود المشاة بالملك المقدوني. كان الإسكندر قد شهد نجاح المشاة الثقيلة الإغريقية في مواجهة القوات الفارسية، وكانت مقدون يقينا في حاجة إلى قوة عسكرية قوية لبناء التحالف ثم الحفاظ عليه، ولدرء الجيران الآخرين العدوانيين، وللتصدي للأطماع الإغريقية المتزايدة، وخصوصا أطماع أثينا، في شمال المنطقة الإيجية أثناء عهد الإسكندر الأول وما بعده.
অজানা পৃষ্ঠা