قال «بحيرى»: فأنت في حاجة إلى أن تخلق خلقا جديدا، وتولد مرة أخرى، لترى الأمر كما نراه، وتفهمه على وجهه.
قال «كلكراتيس» وفي وجهه ابتسامة يائسة: إني لا أفهم عنك. لقد قرأت هذا في الإنجيل، قاله المسيح لرجل من يهود، كان يشك في أمره كما أشك أنا الآن، يرضى قلبه ويسخط عقله. ولكني لا أسألك كيف أولد مرة أخرى، وإنما أسألك كيف السبيل إلى أن أولد مرة أخرى؟ كيف السبيل إلى أن أغير هذا العقل فأرده إلى اليقين الذي يخرجه من الشك؟ أو كيف السبيل إلى أن أغير هذا القلب فأرده إلى الشك الذي يخرجه من اليقين؟ فأنا شقي بهذا التناقض الذي أجده بين عقلي وقلبي. وما أرى أني سأستريح إلا أن يشكا معا أو يطمئنا معا. فأما أن يذهب أحدهما نحو الشرق، ويذهب الآخر نحو الغرب، فهذا العذاب الذي لا يطاق، وهذه الحياة خير منها الموت.
قال «بحيرى»: إني لأرحمك وأرثي لك، ولكني لا أحب أن تيأس من رحمة الله، أو تقنط من روحه. فخذ نفسك بالصلاة، وأقم عليها ما استطعت فقد يمسك الله بجناح من رفقه وعطفه، فيخرجك من الظلمة إلى النور.
قال «كلكراتيس»: فإني لا أجد إلى الصلاة سبيلا، ولقد أخذت بها نفسي أخذا شديدا، فحاولت الصلاة صامتا، وحاولت الصلاة ناطقا، فجعلت كلما أدرت منها جملة في نفسي أدار عقلي، أو أدار الشيطان، جملة أخرى تكذبها وتنفيها.
قال «بحيرى»: فإني لا أملك لك من الله شيئا. وأكبر الظن أنك في حاجة إلى هذا الألم العنيف الذي يبهر العقل، ويملأ النفس، ويستغرق الضمير، والذي لا يأتي إلا من التجارب والخطوب. ثم أطرق لحظة كأنه يفكر وكأنه يدعو خواطره من بعيد، ثم رفع إلى رفيقه وجها مشرقا يصور نفسا مطمئنة، وقال في صوت خافت، كأنه صوت الصلاة: أرأيت أننا نصلي فنسأل الله أن يكفينا شر التجارب، ويعصمنا من مكر الدهر وآلام الخطوب! فمن يدري؟ لعل من الخير أن تصلي فتسأل الله أن يبلوك بالتجارب، ويمتحنك بالخطوب؛ فإن التجارب تمحص القلوب، وإن الخطوب تطهر النفس، وإن المحن تصفي الضمير، وإن هذه الآلام الطارئة على غير انتظار والملمة في غير رفق، تكف من غلواء العقل، وتخفف من كبريائه، وترده إلى التواضع، وتشفيه من داء الغرور.
قال «كلكراتيس»، وقد انهمرت من عينيه دموع غزار: عسى أن يكون ذلك! ولكني في حاجة إلى أن أرى لا إلى أن أسمع، وإلى أن أشهد لا إلى أن أقرأ في الكتب. ما قصدي إلى العراق، وإن همي لفي الحجاز! ما رحلتي إلى صديقك «نسطور»، وإن شفائي لعند ذلك الصبي العربي اليتيم!
11
وهل عرفت الفكرة اللازمة التي لا تريم، والخاطر الملح الذي لا يفصل عن صاحبه ولا يرفه عليه! فإني لا أعرف شيئا أشد منهما على النفس، ولا أشق منهما على العقل، ولا أفتك منهما بالأعصاب. وما أرى إلا أنك ترثي مثلي لهذا الفيلسوف الرومي الشاب حين علم أنه لم يكد يلقي إلى رفيقه جملته تلك حتى لزمته هذه الفكرة فلم تفارقه، وألح عليه هذا الخاطر، فلم يجد إلى التخلص منه سبيلا.
وجعلت هذه الجملة تذهب وتجيء في رأسه كما يذهب المنشار ويجيء في الخشبة التي يريد أن يشقها: «ما قصدي إلى العراق، وإن همي لفي الحجاز! ما رحلتي إلى «نسطور» وإن شفائي لعند ذلك الصبي العربي اليتيم!»
وهم الفتى ألف مرة ومرة أن يصرف عنها نفسه، ويحول عنها تفكيره، فلم يوفق من ذلك لشيء، وإنما جعلت هذه الجملة تدور في رأسه دورانا متصلا، حتى خيل إلى الفتى أنها لون من هذيان الحمى، وجعل يتصور في نفسه أنه مريض، وأن شفاءه في العناية بجسمه، لا في الذهاب إلى العراق ولا في التحول إلى الحجاز، ولا في الرحلة إلى «نسطور»، ولا في القصد إلى ذلك الصبي العربي اليتيم. وجعل الفتى يمتحن نفسه مغرقا في الصمت، ويمتحن نفسه مندفعا في الكلام، فإذا هو لا يستطيع أن يخلص من هذا الخاطر اللازم له الملح عليه.
অজানা পৃষ্ঠা