ولم يكد يتم يومه في القصر حتى عرف أن بقاءه في المدينة أمر لا سبيل إليه، وأن الموت آثر عنده وأحب إليه من هذه الحياة الحمراء اللاغطة الممزقة التي لا يرى فيها إلا دماء وأشلاء، ولا يسمع فيها إلا صلاة ودعاء وحشرجة ونداء. فلما جنه الليل وهدأ من حوله كل شيء وكل إنسان، خرج من القصر ينساب كأنه الحية، وينسل كأنه اللص، وأخذ يمضي في طرق المدينة متنقلا من طريق إلى طريق حتى جاوز أسوارها وأرباضها،
1
ودفع
2
إلى الفضاء الواسع، وإلى هذا الريف الذي تسكن فيه الطبيعة إذا تقدم الليل سكونا رهيبا، ولا يكاد يحس الإنسان فيه إلا هذه الأصوات الضئيلة التي تنبعث من حين إلى حين، عن بعض الحشرات المنبثة في ثنايا العشب والزرع، وعن بعض الطير المستقرة على الأغصان، حين يمر بها طائف الحلم فتهم بالغناء والتغريد، ثم يقطع عليها النوم غناءها وتغريدها، وإلا هذه الأصوات الخفية التي لا تسمعها الأذن وإنما تسمعها النفس؛ لأنها أدق من السمع، وألطف من الحس، وهي نجوى الهواء حين تتحدث أجزاؤه وطبقاته بعضها إلى بعض إذا سكن الليل وأطبق الظلام، كأنما يقص بعضها على بعض أحاديث الطبيعة في حياتها وحركتها قبل أن تنام، وقبل أن يضطرها الليل إلى السكون. ومع أن هذا الهدوء الرهيب، وهذا الصمت المهيب، يروعان أهل المدن إذا دفعوا إليها دفعا على غير تعود لهما، فإنهما لم يبعثا في نفس الفتى روعا، ولم يدخلا في قلبه رعبا؛ لأن نفسه كانت مشغولة حتى عن هذا الرعب وذلك الروع بما كان يزدحم فيها من الخواطر والأحاديث.
وكان الفتى يمضي أمامه لا يعنيه أمهتد هو قصد السبيل أم جائر هو عن هذا القصد؛ لأنه لم يكن في حقيقة الأمر يعرف إلى أين يريد، ولم يكن قد رسم لنفسه طريقا يسلكها أو غاية ينتهي إليها، إنما كان همه أن يفر من هذه المدينة التي جرت فيها الدماء أنهارا، وانتثرت فيها الأشلاء انتثارا، وجنى فيها بعض الناس على بعض هذه الجرائم والآثام. وكان حديث الآلهة قد ملأ نفسه دهشا وعجبا، واضطر إلى أن يسأل نفسه من حين إلى حين: إلى أين ذهب الآلهة. وأي طريق سلكوا، وفي أي مكان من الأرض أو من السماء أقاموا قصورهم الخالدة؟ وكيف هان على زوس أن يدع «أولمب» وما كان فيه من حياة فيها الجد الرائع والعبث اللذيذ؟! وكيف هان على أبلون أن يترك معبده الخالد في «دلف»؟ وكيف استطاعت «أتنا» أن تتعزى عن «الأكروبول»؟ وأين يجد «آريس» مدنا تقتتل وتحترب كما كانت مدن اليونان تقتتل وتحترب؟ وكان يسأل نفسه عن سلطان هؤلاء الآلهة الذين لم يستطيعوا أن يثبتوا لعدوان الإنسان على الإنسان، فضلا عن أن يمحوا هذا العدوان ويبطشوا بالمعتدين. وكان يسأل نفسه عن هذا الدين الجديد الذي يؤثره أصحابه على الحياة ولذاتها وآلامها، وعن هذا الإله الجديد الذي أخذ يغزو العالم اليوناني الروماني، فيحبب إلى أهله الألم والصبر والتضحية، ويزهد أهله في الثروة والغنى، ويزين في قلوبهم حب الفقر والإعدام، وينشئهم تنشيئا جديدا لا صلة بينه وبين ما ألف الناس منذ أنشدوا شعر «هوميروس»، وتغنوا شعر «سافو» و«بندار»، واستمتعوا بشعر سوفوكل وأرستوفان، وتفكروا في فلسفة سقراط وأرسطاطاليس، وكان يسأل نفسه وهو يمضي في طريقه لا يلوي على شيء، والليل من حوله مطبق قد غمر بظلمته المخيفة كل شيء: أماض هو في أثر الآلهة الذين ارتحلوا ليلحق بهم ويقيم معهم؛ لأنه لا يستطيع أن يعيش من دونهم، أم ساع هو إلى دار هذا الإله الجديد لعله يلقى من كهانه وقساوسته من يعلمه أسرار دينه؛ فقد سئم حياة اليونان، وتمنى لو ظفر بلون من الحياة جديد؟! وكان الفتى يمضي، وكانت هذه الخواطر تزدحم على نفسه وتضطرب فيها، وكان الليل يمضي هو أيضا في طريقه دون أن يتبين الفتى أكان سريعا في سيره أم بطيئا. وإنه لكذلك يسير ويسير، ويفكر ويفكر، قد نسي نفسه ونسي الليل، وإذا هو يثوب إلى نفسه لحظة فيقف ويرفع رأسه، وإذا الضوء قد غمره وغمر الأرض من حوله، وإذا هو ينظر أمامه فلا يرى إلا سهلا مشرقا، وينظر وراءه فلا يرى إلا سهلا مشرقا، وينظر من يمين وشمال فلا يرى إلا سهلا مشرقا، وإذا هو لا يدري من أين جاء ولا إلى أين يريد.
ينظر وراءه فلا يرى للعمران أثرا، وينظر من كل ناحية فلا يرى للعمران أثرا، قد انقطعت الصلات والأسباب بينه وبين مدينته التي خرج منها أمس حين أظلم الليل، فكأنه لم يعرف هذه المدينة ولم يعش فيها ولم يقاسم أهلها ما نعموا به من لذات وما ابتأسوا به من آلام، وكأنه لم يشهد فيها ما شهد، ولم ينكر من أهلها ما أنكر، وكأنه شيء فذ لا صلة بينه وبين شيء، وكأنه شيء ضائع بين هذه الأرض التي لا حد لها، وهذه السماء التي لا حد لها، وهذا الضوء الذي يضطرب بينهما إلى غير حد. هنالك أحس الفتى راحة لم يحسسها قط كأنه قد ألقى عن نفسه أعباء الحياة كلها، هذه الأعباء التي لا تختصر حياة الفرد وما لقي فيها من شر وخير فحسب، وإنما تختصر معها أيضا حياة هذه الأجيال التي سبقته وأورثته الحضارة أثقالها. أحس الفتى راحة قلما نستطيع نحن أن نتصورها، وأحس هدوءا ونشاطا قلما نستطيع نحن أن نذوقهما. ووقف يستمتع بهذه الراحة ويستلذ هذا النشاط وحاول أن يدعو إليه تلك الخواطر التي كانت تزدحم على نفسه في ظلمة الليل، فلم يستجب له منها خاطر واحد، كأنما طردها هذا الضوء المشرق مع ذلك الليل المظلم الكثيف.
ما أجمل هذا الشعور الذي امتلأت به نفس «كيمون» حين أحس أنه قد خلق خلقا جديدا! لقد امتزجت نفسه الجديدة بهذا النور الجديد، ولقد نسي الآلهة الذين كان يمضي في أثرهم، ونسي الإله الذي كان يسعى ليعلم علمه. وماله ولهذا الإله الجديد ولأولئك الآلهة القدماء، وقد استيقن أنه قد وجد في هذه الطبيعة المطلقة الحرة، التي لا تحصر ولا تحد آية أرشدته إلى إله ليس كما تعود أن يرى الآلهة؛ لا سبيل إلى أن يحصر ولا إلى أن يحد، ولا مطمع في أن يرقى إليه العقل، أو يتناوله الفكر بالدرس والبحث والتحليل. إنما هو قوة يكبرها ولا يفهمها، يجلها ولا يحيط بها، يشعر أنها تأخذه من كل مكان وتأخذ كل ما حوله، وأنه إن يمض أمامه فهو مقبل عليها، وإن يرجع أدراجه فهو خاضع لها، وأنى يذهب يمينا أو شمالا فهو في ظلها الظليل وفي كنفها الرحب. سبحانك اللهم! إن لم أجدك فقد وجدت آيتك، وإن لم أرك فقد رأيت خلقك! لك علي ألا أومن إلا لك، ولا أخاف إلا إياك!
ثم يمضي الفتى أمامه في شيء من الذهول ليس إلى تصويره من سبيل، حتى يشتد حر الشمس ويبلغ منه الإعياء، وهو على ذلك جلد صبور لا يحس كلالا ولا فتورا. وما يزال يمضي ويمضي، حتى يرفع له بناء يراه فيأنس ويتنكر له في وقت واحد: تأنس به طبيعته الفانية التي قد أحست الجهد والكد، وذاقت ألم الظمأ والجوع. وتتنكر له نفسه الخالدة التي تشفق أن يخرجها من هذه الحياة الروحية الراقية الحلوة التي لم تألفها من قبل. ويهم الفتى أن يقف، ولكن هذا البناء الذي يرفع له يدعوه إليه في إلحاح أن أقبل أيها الفتى ولا تخف؛ فليس عليك من بأس فيمضي الفتى صوب هذا البناء؛ حتى إذا دنا منه سمع أصواتا عذبة ترتل ترتيلا عذبا فيسرع إليها، وما هي إلا أن يلحق بجماعة من الرهبان يصلون ويرتلون، وإذا هو يصلي معهم ويرتل، لم ينكروه ولم ينكرهم، كأنه واحد منهم، وكأن العشرة بينه وبينهم متصلة منذ عهد بعيد. ذلك أنه قد وقع إلى دير من هذه الأديار التي كانت تقام في تلك الصحراء، حين كان النصارى يفرون إلى الصحراء بدينهم من تلك المدن التي كانت تسيطر عليها آلهة اليونان والرومان، وديانات روما والإمبراطور.
ثم سكت محدثي ساعة كأنه يفكر أو كأنه يستريح. فلما طال علي صمته قلت له في لهجة المشوق إلى ما عنده من الأنباء: هلم أنبئني كم لبث الفتى في الدير؟ وكيف كانت حياته فيه؟ قال محدثي: لو علمت ذلك ما بخلت به عليك، وقد سألت عنه أشياخنا كما سألتني، فكلهم أجابني بما أجبتك به، وكلهم قالوا هذه الجملة التي يقولها الرواة والمؤرخون إذا اضطرهم النسيان، وضياع الحوادث إلى الإجمال والإبهام: أقام «كيمون» في هذا الدير ما شاء الله أن يقيم. قلت لمحدثي: فإنك علمت من أشياخك في غير شك أطرافا من حياة هذا الفتى بين هؤلاء الرهبان، وعلمت منهم في غير شك أيضا إلى أي الأحوال صار أمره بعد أن عاشر أهل الدير وتعلم منهم دين المسيح؟ قال محدثي: لم أكد أعلم منهم شيئا؛ لأنهم كانوا لا يكادون يعلمون شيئا، وكانوا إذا انتهوا من حديث «كيمون» إلى حيث انتهيت، قالوا هذه الجملة التي تشبه ما تقوله العامة حين تنسى أو حين يعييها التفصيل: وما أسرع ما تقدم السن بأبناء الأحاديث.
অজানা পৃষ্ঠা