3
والأذواء منكرة له مزورة عنه. وقال قادتهم: لقد فارقتنا وأنت أبر أهل اليمن باليمن، وأحب حمير لآلهة حمير، وها أنت ذا تعود إلينا وقد آمنت لإله لا نعرفه وجحدت آلهتنا، وقد استوزرت غريبين من عدونا تسمع لهما وتطيع، وأعرضت عن رأي الأشراف والقادة من الأقيال والأذواء؛ فلن نخلي بينك وبين هذه البلاد التي أنكرت أهلها وجحدت آلهتها. فارجع أدراجك فاتخذ لك ملكا حول هذا البيت الذي لم يرضك أن تكسوه الوشي، حتى كسوته الحرير والديباج، أو اتخذ لك ملكا في يثرب حيث دم ابنك ينتظر من يثأر له، وحيث صدى
4
ابنك يدعو من يسقيه. قال الملك: يا قوم! لا تعجلوا ولا تسرفوا على أنفسكم، ولكن اسمعوا لي واسمعوا لهذين الحبرين، فلو قد علمتم ما نعلم ورأيتم ما نرى، لسلكتم سبيلنا، ولقبلتم ديننا، ولآمنتم بإلهنا الذي خلق السموات والأرض، وآمن له من فيها من الإنس والجن، ومن الحيوان والطير، ومن الماء والهواء، ومن الزهر والشجر. قالوا: ما نريد أن نسمع لك ولا لهما، فانصرفوا عنا. قال الحبران للملك: فما يمنعك أن تدعوهم إلى ما يتداعون إليه إذا شجر بينهم خلاف أوكانت بينهم فرقة؟ قال الملك: أوتعلمان هذا أيضا؟ قالا: نعم! أليسوا يختصمون إلى النار إذا اختلفوا؛ فخاصمهم إليها. قال الملك : يا قوم! هذا الحبران يدعوانكم إلى الإنصاف ويأخذانكم بالعدل. إنكم لتختصمون فيما بينكم فتحتكمون إلى ناركم تلك المقدسة، التي تخرج من أعماق الغار لها زفير وشهيق، وقد ارتفع لهبها في السماء، فلا يكاد يراها الظالم حتى يصعق، ولا يكاد يراها المظلوم حتى يحس المنعة والقوة. هلم فلنحتكم إليها، فأينا استطاع أن يثبت لها ويصبر على حرها فهو صاحب الأمر، وأينا فزع منها وفر من أوارها فهو الظالم المعتدي. فأدار القوم أمرهم بينهم ساعة، وقال بعضهم لبعض: لقد دعاكم الملك إلى الإنصاف، وما ينبغي أن نأبى على ملكنا ما لا يأباه أحد منا على صاحبه، وما لا تأباه ملوك اليمن على سوقها، فتعالوا نجبه إلى ما يدعونا إليه، وتعالوا نخاصمه إلى النار. ثم أجمعوا أمرهم ليختصمن إلى النار إذا كان الغد، وليقبلن كل فريق معه حجته وسلطانه.
وما أشرقت شمس الغد حتى كان أقيال حمير وأذواؤها قد أقبلوا في عددهم وعدتهم، وفي حفلهم وزينتهم يحملون أوثانهم وأصنامهم، وأقبل الملك ومعه الحبران قد تقلدا مصاحف التوراة. وكانت نارهم المقدسة لا ترى ولا تحس من بعيد، وإنها تجيب إذا دعيت، وتخرج إذا نوديت. فلما دنوا من الغار الذي كانت تقيم فيه، دعوا وأطالوا الدعاء، ونادوا وألحوا في النداء. وإنهم لفي دعائهم وندائهم، وإذا دخان كثيف ضيق يخرج من الغار كأنه السهم، فلا يبلغ الهواء حتى يمتد طولا ويتسع عرضا، وحتى يملأ الجو كثيفا ثقيلا، قد حجب الشمس، وكاد يأخذ أنفاس الناس، وما يزال الدخان يخرج من الغار. ثم يمتد في الجو وينتشر، وحمير تتقهقر كلما ألح عليها، والملك والحبران قد ثبتوا في مكانهم لا يجدون ألما ولا يلقون ضرا، حتى أخذ صوت يسمع كأنه فحيح الحيات، ثم أخذ هذا الصوت يعظم كلما دنا من فوهة الغار؛ وإذا زفير وشهيق، ثم لهب يندلع من الغار ولا يلبث أن يحيط بكل شيء، ويلتهم كل شيء؛ وحمير جادة في الهرب قد تركت أوثانها وأصنامها، وتخففت من زينتها وسلاحها، والنار تتبعهم ملحة في اتباعهم ساعة من نهار ؛ ثم أخذت النار تتراجع شيئا فشيئا حتى دنت من فم الغار، وإذا هي تقصر وتضيق وتتضاءل حتى كأنها لسان الغار، ثم لا تلبث أن تختفي كأن الغار قد أطبق عليها شفتيه، وإذا الشمس مشرقة والجو صفو، والملك والحبران قائمون في مكانهم لم يصبهم أذى، ولم يمسسهم ضر، ولم تتغير نضرة وجوههم، ولم يفارق ثغورهم الابتسام. وتثوب حمير إلى ملكها مسرعة مذعنة، وقد افتقدت آلهتها وسلاحها وزينتها فلم تجد شيئا ما؛ لأن النار التهمت كل شيء.
هنالك هادت حمير وآمنت للملك والحبرين. ومنذ ذلك اليوم استقر في بلاد اليمن كتاب من كتب السماء.
الفصل السابع
الردة
عاش تبع ما شاء له الله أن يعيش، ومات تبع حين قضى الله عليه الموت. وكان قد أنفق حياته منذ عاد إلى اليمن في صلاح ونسك، وتفقه للتوراة ونشر للدين. فلما فارق هذه الدنيا نهض بملك حمير من بعده أكبر أبنائه حسان، وكان تقيا، وكان ورعا، وكان دبانا، وكان قد ورث عن أبيه وعن أجداده حبا للغزو وكلفا بالفتوح. وكان الناس يتنبئون قبل تهود أبيه بأنه سيكون أبعد ملوك اليمن أثرا في الغزو والفتح، وأعظمهم بسطة في الملك والسلطان. فلما هاد تبع اقتفى حسان أثره، فظهر عليه حب للنسك وانقطاع للعبادة، ورغبة في الفقه بالدين، خدع الناس عنه، وغير رغبتهم فيه. حتى إذا نهض بأمور الملك لم يشك أصحابه في أن اليمن ستنفق أياما هادئة وادعة، تنعم فيها بالأمن والسلم واللين. ولكن الميل القديم الذي كان يجده حسان إلى الحرب والتسلط، والميل الجديد الذي كان يجده إلى الفقه والدين، لم يلبثا أن التقيا وامتزجا، وأصبحا ميلا واحدا يوفق بين هاتين النزعتين المختلفتين أشد الاختلاف.
وأصبح حسان ذات يوم ماضي العزم، شديد البأس، عظيم النشاط، فلم يكد يخرج للناس حتى دعا إليه الحبرين، وكان لهما معظما يستشيرهما في كل ما يأتي من الأمر. فلما أدخلا عليه قام لهما وأدنى مكانهما، ثم قال: قد علمتما أني أعظم من أمركما ما كان يعظم أبي، وأشاوركما في كل ما أنشط له من هم قريب أو بعيد. وقد جعلت منذ أيام أسمع داعيا قويا ملحا لا يفارقني يقظان، ولا يفصل عني دائما، وهو يهيب بي في كل لحظة أن جرد نفسك وجيشك لجهاد الكافرين ونشر الدعوة إلى الدين، حتى يؤمن بكتاب الله أهل الشرق والغرب، وحتى يذعن لسلطان الله كل جيل في الأرض، وحتى يصبح حكم التوراة حكم الناس جميعا.
অজানা পৃষ্ঠা