اليوم الحادي عشر من ربيع الأول سنة 904، وقد أخذت المدينة زينتها احتفالا بالمولد النبوي الشريف، ولا تزال أعظم ليالي القاهرة منذ كانت هي ليلة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ولا تزال أعظم حفلاتها شأنا هي حفلة السلطان في قصر القلعة، حيث يجتمع الخليفة والأمراء والوزراء والقضاة، وقادة الجند ورؤساء المماليك ... فما بال حفلة السلطان في هذا العام، ليس لها بهاء ولا رواء، فلم يصعد إلى القلعة للمشاركة في الاحتفال إلا كبير الأمناء الشيخ الأمير أزبك، وإلا تاني بك الجمالي أمير السلاح، وإلا طائفة من الشيوخ «متفضلين» لم يدعهم داع، ولم يستقبلهم مستقبل! حتى السلطان نفسه لم يعن به أحد فيسأل أين هو في هذه الليلة المشهودة! ومن يدري! لعله كان في تلك الليلة في سرحة من سرحاته العابثة في بولاق، أو عند بركة الرطلي، أو في قبة الأمير يشبك الدوادار، يهتك ويفتك ويسفك، على ما شاء له الهوى والشباب.
أولئك مماليك الطباق يسأل بعضهم بعضا: أين ما تعود السلاطين أن يوسعوا به عليهم في مثل تلك الليلة من طيبات الرزق؟! ولكن من ذا يجيب؟ وركبهم الشيطان فسول لهم، فانطلقوا يعيثون في الأرض الفساد، ويرجمون الأمراء من الطباق بالحجارة، ويلقون عليهم الماء المتنجس بالأقذار، ويخطفون عمائم الفقهاء ...
وانقضى يوم المولد في القاهرة على شر ما تنقضي الأيام، فلما كان الغد أصبح السلطان نشيطا معافى، فأعد عدته ليوم قصف وفرجة على شاطئ النيل، وسبقه متاعه وأثقاله، ونصبت الخيام وأعدت الكئوس، ونصت دكة المغاني ...
وبرز السلطان في طريقه تكتنفه طائفة قليلة من خاصته في موكب تتناهبه العيون، فلما كان عند بولاق ابتدر إليه اثنان، أما أحدهما فرجل في زي التجار قد لاث عمامته على رأس أشمط، ووجه مخدد، وعينين فيهما ذبول وانكسار، يناديه من خلفه طفلتان قد ارتسمت على وجهيهما آيات الرعب والفزع، وتقطعت أنفاسهما من البهر، فلا يكاد صياحهما يبلغ أذنيه، وأما الآخر فشاب في زي أمراء المماليك عليه ثياب الفرسان، قد ترجل عن حصانه وخطا إلى السلطان، وفي يده سيف مسلول ...
ذانك هما التاجر جلال الدين، والأمير طومان باي الدوادار الثاني ... واستبقا يريد كل منهما أن ينال السلطان بطعنة يشتفي بها من ذات صدره ...
وتدحرج رأس السلطان على التراب، وتعلق جسده بركاب فرسه متدليا ينزف دمه ... وبسط جلال الدين كفيه يتلقى قطرات الدم يلعقه بلسانه، ويمسح به وجهه ووجه ابنتيه، وهو يقهقه قهقهة المجانين، وقد جحظت عيناه من محجريهما كأنهما لا تصدقان ما تريان ...
وتقاذفت الرأس أقدام السابلة، ودوى الخبر في المدينة بمقتل السلطان ...
وصعد الظاهر قنصوه الخال إلى العرش، وخلع على طومان باي وجعله الدوادار الكبير ...
وتأيمت مصرباي ولم تنعم شهرا بمجد السلطان، وثكلت أصل باي ولدها، وهتفت خوند فاطمة بنت العلاء - أرملة السلطان قايتباي - فرحانة: لله أنت يا طومان باي! لله أنت!
ولكن طومان باي لم يكن قد بر بكل ما وعد ...
অজানা পৃষ্ঠা