وكان ملباي هذا رجلا من أهل صمصوم، بالقرب من بلاد الكرج، قد استهواه المجد فخرج بأولاده الأربعة إلى مصر، يريد أن يهبهم للسلطان الأشرف قايتباي ليكونوا جندا من جنده ...
أربعة في سن الشباب، لم يدخلوا تحت رق قط، ولم ينتزعهم من أحضان أمهاتهم نخاس، يسعون مختارين، أو يسعى بهم أبوهم ليقدم أعناقهم للرق؛ طمعا في الإمارة والسلطان ...
أربعة أحرار، يحسدون الأرقاء على بعض ما أولاهم الله من نعمته، فيبيعون حريتهم طائعين ... يا عجبا! ولكن لماذا العجب ؟! أليس الرق هو الذي صنع كل أولئك السلاطين الذين يتوارثون عرش فرعون منذ أكثر من مائتي عام؟! فماذا يعيبهم أن يسلموا أعناقهم للرق؛ ليرتقي بهم الرق إلى العرش؟! ليس يعنيهم ماذا تكون الوسيلة ما دامت الغاية هي الإمارة والجاه والسلطان!
ولقي جقمق الأشرفي تاجر المماليك شركاءه في الغرفة، وعرف من أمرهم ما عرف، فابتسم مغتاظا وهو يقول لملباي: ولكنك يا سيدي تقامر بأولادك، فمن أين لك أن يصيروا كلهم أو بعضهم أمراء؟ أفلست تخشى أن يبقوا مماليك ويخلدوا في الرق، لا تفك رقابهم ولا يملكون أن يعودوا إلى الحرية؟ أم تحسب أن كل مملوك في «الطبقة» أهل للإمارة فلا بد أن يترقى حتى يبلغ العرش؟
وهم ملباي أن يجيب، ولكن ولده خاير ابتدر الحديث قائلا: يا سيدي، هذا كلام يقال، فهل تراني أو ترى أحدا من إخوتي هؤلاء أقل أهلية للإمارة من مثل غلامك هذا، الذي لا يعرف له أبا غير النخاس الذي أدمى أذنيه، يقوده منهما على طول الطريق كما يقاد الحمار!
وكان طومان الصغير جالسا يستمع إلى حديث أستاذه وجواب خاير بن ملباي، فما كاد يرى إشارته إليه ويسمع حديثه عنه حتى غلى دمه وثارت كبرياؤه، كأن لطمة أليمة قد نالته، فصاح مغضبا: صه يا فتى، إنني لأرفع نفسا منك ومن أبيك هذا الذي يدفعك إلى الرق مختارا؛ ليزهو بأن ولده عبد من عبيد السلطان!
ثم اندفع نحوه وعيناه تقدحان الشرر، فلولا أن قبض أستاذه على ذراعه لوثب إلى خاير بن ملباي فمزق وجهه وأدماه؛ ليثأر منه لتلك الإهانة البالغة!
وغرق الجميع في الصمت مذهولين، فما كان ليدور بخاطر واحد منهم أن يجرؤ ذلك الصبي القابع في هدوء خلف أستاذه، على أن يرفع صوته ويده في وقت معا في وجه شاب أيد مثل خاير بن ملباي، ونالت المفاجأة من خاير بن ملباي نفسه، فلم يتحرك ولم تنبس شفتاه بصوت، وأحس - على صلابته وقوة ساعده - أنه ضئيل صغير، لا يكاد يملك دفاعا عن نفسه، فتمتم في صوت خافت : ماذا قلت؟
أجاب جقمق: لا شيء! لا شيء!
قال طومان وهو يحاول أن يفلت من قبضة أستاذه، ولم يزل في سورة غضبه: سيدي! دعني أنبئ هذا الفتى بما يريد أن يعرف ...
অজানা পৃষ্ঠা