وأصبحت نوركلدي باكية قد ذهب بها الحزن كل مذهب، تنادي فتاها، وتنادي زوجها، ولا مجيب، ومن حولها نساء يحاولن أن يجرعنها الصبر والسلوان ...
قالت واحدة منهن: الصبر يا نوركلدي! إن الأمر لأهون مما تقدرين، فماذا تظنين أن يصيب ولدك؟ إنه لذو عقل وجمال، وإن فيه مخايل من أبيه، فماذا تكون عاقبة أمره إلا أن يصير أميرا من أمراء السلطان في مصر أو في بلاد الروم، ينعم بالغنى والمجد والسعادة!
قالت نوركلدي: خلي عنك يا صديقتي! لقد كنت في غنى عن كل ذلك به، وكان في غنى بي، ومن لي غيره وقد ذهب أركماس!
قالت صاحبتها: يا أخية! إنك لتنظرين إلى حظ نفسك، فكيف لو رأيته غدا فارسا على سرجه يقود فرقة من المماليك، والعيون ترمقه من حيث اتجه؟ فما أرى النخاس الذي خطفه وخطف معه مصرباي إلا ذاهبا بهما إلى مصر، تلك البلاد التي تصنع السلاطين، ولعلهما غدا أن يصيرا سلطانا وسلطانة على عرش فرعون!
فتأوهت نوركلدي وقالت: يا ليت كل ذلك لم يكن ... لقد كنت أدخر طومان ليقفو آثار أبيه حتى يلقاه حيا أو يدرك ثأره!
ثم أطبقت راحتيها على وجهها واسترسلت في البكاء!
قالت عجوز في المجلس: هوني على نفسك يا ابنتي، أفلست تعلمين أن طومان اليوم أدنى إلى إدراك الثأر، وقد وضع قدمه على أولى درجات المجد؟ سيثأر لك ولأبيه من هذه العيشة الضنك التي تعيشين؛ فليس الثأر هو إدراك الدم، ولكنه إدراك المجد. أم لم يبلغك نبأ جاهنشاه التي باعت ولدها جانبلاط راضية لنخاس خوارزمي، ولم تقبض منه الثمن مالا تنفقه، ولكنها قبضت وعدا منه بألا يبيعه إلا لسلطان مصر؟ وقد بر النخاس بما وعد؛ فإن جانبلاط ابن جاهنشاه هو اليوم أمير ألف من مماليك السلطان قايتباي ملك مصر والشام وسيد البحرين، ومن يدري! فقد يكون جانبلاط غدا هو سلطان مصر والشام وسيد البحرين؟
كانت العجوز تتحدث وقد أرهف النساء آذانهن يستمعن إلى ما تقول في لهفة وشوق، والأحلام تحلق بهن في أودية بعيدة، وقد غفلن عن نوركلدي وأحزانها، فما كادت العجوز تنتهي من حديثها حتى ابتدرتها فتاة من عرض المجلس تسألها في لهفة: ماذا قلت يا أماه؟ جانبلاط ابن جاهنشاه أمير ألف ...؟
وغصت الفتاة بريقها فلم تتم، وتعاقبت على وجهها ألوان شتى، وعرف النساء ما بها؛ فرفت ابتسامة على كل شفة، لقد كن جميعا يعرفن ما كان بينها وبين جانبلاط، ذلك الذي كان يطمع أن يتخذها زوجة له، فصعرت خدها وردت يده كبرياء وأنفة، فأين هو اليوم منها وأين هي!
ثم استردت الفتاة أنفاسها وأردفت كأنما تعزي نفسها: ومن أين لك هذه الأخبار وأنت هنا وهو هنالك يا أماه؟
অজানা পৃষ্ঠা