120

ها هي ذي تعدو في أثر ذلك الفتى من مماليك الأمير خاير، تناديه وهو ماض في طريقه لا يلتفت ولا ينظر كأن لم يسمع نداءها، والناس ينظرون إليها ساخرين أو منكرين! هل فيهم من يعرف حقا من تكون تلك الجركسية الملثمة التي تعترض الفتيان بكل سبيل، وتقعد لهم في كل مرصد؟

وغاب المملوك الشاب عن عينيها في زحمة الطريق، فأمسكت عن العدو ووقفت لاهثة وهي تدير في وجوه الناس نظرات حائرة فيها القلق والحيرة، وفيها الحنين واللهفة.

ذلك مملوك من بطانة الأمير خاير بك كانت تأمل أن يهديها إلى طريق ولدها طومان باي، أليس مسعود الخاني قد أنبأها منذ بعيد أن أمير حلب كان في يوم ما رفيقا لولدها طومان؛ فإن الأمير أو غلاما من بطانته يستطيع أن يكشف لها عن شيء من خبر ولدها الذي تفتقده منذ سنين، لقد كان مسعود يستطيع أن يصحبها إلى دار الإمارة ويجمع بينها وبين الأمير نفسه فتتحدث إليه وتسمع منه، ولكن مسعودا قد أبى عليها أن تسلك هذا السبيل حين خيل إليه أن ولدها طومان يعيش في حلب؛ لأنه لم يفارق حلب يوم فارقها خاير في ركب تاجر المماليك جاني باي، وإذن فلا بد أن تلقاه أمه يوما ما في سوق من أسواق هذه المدينة على غير ميعاد. وفسح لها مسعود في ذلك الأمل حتى اعتقدته حقا، وعاشت منذ ذلك اليوم في حلب، تجوس خلال الأسواق وتتفرس في وجوه الرجال، وتعترض سبيل كل شاب؛ حتى ليخيل إليها أن تستوقف كل عابر في الطريق، وكل جالس على دكانه لتتحدث إليه وتسأل عن ولدها طومان باي.

وأيقنت بعد لأي أن طومان باي ليس في حلب، لقد فارق هذه المدينة في يوم ما قبل أن تهبط إليها أمه، فإنها لتكاد تعرف كل شاب في هذه المدينة وكل رجل، وما منهم واحد إلا لقيته مرة أو مرات، فما وقعت عينها منذ بعيد على وجه جديد، إلا وجوه هؤلاء الجند الذين وفدوا إلى حلب منذ قريب، يتهيئون للدفاع عن حدود الدولة حين يدعوهم قائدهم إلى الدفاع!

ولكن أين ذهب طومان حين ذهب من حلب؟! إنها لتحس إحساس الأمومة الملهمة أنه لم يزل حيا يعيش في مكان ما، فمن ذا يدلها على مكانه ذاك؟ لا أحد إلا الأمير خاير نفسه، أليس قد كان في يوم ما رفيقا لولدها طومان كما حدثها مسعود؟ فمن ذا يصحبها إلى دار الإمارة ويجمع بينها وبين الأمير خاير لتتحدث إليه وتسمع منه، فلعله قد لقي طومان باي ثانية بعد ذلك الفراق، ولعله يعرف أين تلقاه!

وهذا مملوك من مماليك الأمير خاير قد فر من بين يديها قبل أن تسمع منه، وإنه ليعرف من تكون، هكذا سمعته يقول قبل أن يولي وجهه، وإذن فهو يعرف أنها أم طومان، ويعرف طومان نفسه وأين يكون.

لماذا فر من بين يديها ذلك المملوك مغضبا عجلان وأبى أن يتحدث إليها؟ ولكنها لا بد أن تلقاه ثانية وتتحدث إليه وتسمع منه، وتعرف أين تلقى ولدها طومان باي.

ومر بها مملوك آخر وهي في موقفها ذاك تتحدث إلى نفسها ذلك الحديث، فأتبعته عينين فيهما لهفة وحنين، وانطبعت على شفتيها ابتسامتها، ونظر إليها الفتى وابتسم، فخطت إليه خطوة تهم أن تستوقفه، فقال الفتى ساخرا: ابعدي أيتها العجوز! قد عرفتك!

وضحك، وجاوبته ضحكات طائفة من أصحابه على مقربة، وقال له واحد منهم: أرأيت؟ كذلك تستوقف كل شاب يعبر الطريق، وإنها لعجوز في خريف العمر!

قال فتى آخر: لست أشك أنها مجنونة!

অজানা পৃষ্ঠা