فبغتت العجوز وقد أيقنت أن المريضة في حالة النزع وبخاصة حين رأت كتفها يختلج وتنفسها يسرع، فامتقع لون العجوز وظهر الخوف عليها، فأدركت أسماء خوفها فصاحت بها: «ما بالك خائفة، لعل أمي في خطر؟!»
فقالت: «عسى ألا يكون خطر يا ابنتي، والاتكال على الله.» وخرجت مسرعة.
فاضطربت الفتاة وأمسكت بيد والدتها فجستها فإذا هي باردة جافة، ونظرت إلى عينيها وقد غارتا في تجويفهما وذهب لمعانهما، فارتعدت فرائصها وخافت خوفا شديدا وأسرعت إلى باب الخيمة لتستقدم العجوز.
وفيما هي تتحول شهقت أمها شهقة عنيفة، فأجفلت وعادت إلى السرير وهي تحسبها تتكلم فانحنت عليها وقبلتها في جبينها فإذا هو بارد جاف، فاقشعر جسمها وازداد خفقان قلبها واصطكت ركبتاها، ولم تكن رأت ميتا قبل ذلك الحين، فنادت العجوز فأتت، فجعلت أسماء تنظر إليها وتتبين عواطفها فرأتها في وجل فازداد خوفها. فأعادت النظر إلى وجه والدتها فإذا هي فاتحة فاها وقد برز فكاها واتسع شدقها وسكن اختلاج صدرها وبرز أنفها واستطال واصفر لونها، فنظرت أسماء إلى العجوز فرأتها قد خرجت من الخيمة فتبعتها فإذا هي تنادي يزيد وصوتها مختنق، فتحققت وقوع القدر.
فعادت إلى السرير وصاحت: «أماه! أماه!» ولا من مجيب، فدقت يدا بيد ولطمت فإذا بالعجوز عائدة وهي تلطم وتقول: «حلي شعرك يا ابنتي إن أمك ماتت! وا حسرتاه!»
فحلت أسماء شعرها وأخذت تصيح وتلطم وجاءتها العجوز برماد لطخت به رأسها، وكان يزيد قد أفاق فجاء وأخذوا في العويل والنوح، فتجمع أهل القرية على صياحهم وعلا البكاء. ولم يفعل أحد منهم فعل أسماء فإنها كادت تقتل نفسها لفرط البكاء والندب واللطم، وعبثا كانوا يخففون عنها فكم ألقت نفسها فوق والدتها وتوسدت جثتها وأخذت في تقبيلها وهي تقول: «لمن تركتني يا أماه؟! ولمن أشكو همي بعدك؟! ومن يخبر عليا عن السر؟! ومن يحمينا من غدر الخائنين؟! آه من الزمان! لعل أجلك قد ساقنا إلى هذه الصحراء لتدفني فيها، ما النفع من بقائي بعدك وقد أصبحت وحيدة يتيمة لا سند لي ولا معين؟!»
وأما يزيد فكان يتظاهر بالبكاء ولا تذرف له دمعة.
وفيما هم في ذلك سمعتهم أسماء يقولون: «جاء علي»، فصاحت صيحة ارتج لها المكان وقالت: «لقد أبطأت يا أبا الحسن، إن أمي ماتت ومات سرها معها!» ثم نظرت إلى أمها وكانوا قد غطوها بالملاءة وقالت لها: «قومي يا أماه احسري نقابك فقد جاء علي، قومي إليه وأطلعيه على سرك، وقومي وأشفقي على ابنتك!»
أما علي فترجل وقد شغله أمر الفتاة عن الالتفات إلى الميتة، وكانت أسماء قد توردت وجنتاها وذبلت عيناها وتكسرت أهدابهما لما انسكب منهما من الدموع. ومما زادها هيبة ووقارا استرسال شعرها الأسود على ظهرها وصدرها وحول كتفيها وقد غطى معظم وجهها، ناهيك بانكسارها وذلها من الحزن واليأس فإنهما يزيدان الجمال جاذبية. وكان أكثر الناس تأثرا من منظرها محمد بن أبي بكر، فإنه لم يتمالك نفسه عن البكاء لما لقيه من الفشل في مهمته، وقد أنهك جواده سوقا واستحث عليا على القدوم رغم ما كان فيه من المشاغل ووعده بالاطلاع على سر عظيم، وظن نفسه قد عاد ظافرا فرأى الفشل ينتظره.
وحالما وقع نظر علي على أسماء شعر بانعطاف نحوها وتوسم في طلعتها ملامح ارتاح إلى التفرس فيها، فحمل ذلك الانعطاف على محمل الشفقة لما رآه من تعاسة تلك الفتاة، وندم ندما شديدا لتقاعده عن المجيء معها وأحس بأن عليه مواساتها جهد طاقته، فوقف وقفة معتبر لمصير الإنسان ثم أجال بصره في الناس وهم سكوت يسمعون وقال: «ما أصف من دار أولها عناء وآخرها فناء، في حلالها حساب وفي حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، ومن ساعاها فاتته، ومن قعد عنها واتته، ومن بصر بها بصرته، ومن أبصر إليها أعمته. انظروا إلى هذا الميت فقد قبض بصره كما قبض سمعه وخرجت الروح من جسده فصار جيفة بين أهله لا يسعد باكيا ولا يجيب داعيا. اعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قضى قبلكم ممن كانوا أطول أعمارا وأبعد آثارا، فأصبحت أصواتهم هامدة ورياحهم راكدة وديارهم خالية وآثارهم فانية، وأقاموا بمنازل شيدت بالتراب، أهلها لا يستأنسون بالأوطان، ولا يتواصلون تواصل الجيران على ما بينهم من قرب الجوار، وكيف يكون بينهم تزاور وقد طحنهم بكلكله البلى وأكلتهم الجنادل والثرى؟!»
অজানা পৃষ্ঠা